إعـــــــلان

تقليص
1 من 3 < >

تحميل التطبيق الرسمي لموسوعة الآجري

2 من 3 < >

الإبلاغ عن مشكلة في المنتدى

تساعدنا البلاغات الواردة من الأعضاء على منتدى الآجري في تحديد المشكلات وإصلاحها في حالة توقف شيء ما عن العمل بشكل صحيح.
ونحن نقدّر الوقت الذي تستغرقه لتزويدنا بالمعلومات عبر مراسلتنا على بريد الموقع ajurryadmin@gmail.com
3 من 3 < >

فهرسة جميع الشروح المتوفرة على شبكة الإمام الآجري [مبوبة على حسب الفنون] أدخل يا طالب العلم وانهل من مكتبتك العلمية

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه - وعلى آله ومن ولاه وبعد :

فرغبة منا في تيسير العلم واشاعته بين طلابه سعينا لتوفير جميع المتون وشروحها المهمة لتكوين طلبة العلم ، وقد قطعنا شوطا لابأس به في ذلك ولله الحمد والمنة وحده ، إلا أنه إلى الآن يعاني بعض الأعضاء والزوار من بعض الصعوبات في الوصول للشروح والمتون المرادة لتداخل الشروح أو لقلة الخبرة التقنية .

من أجل هذا وذاك جاء هذا الموضوع ليكون موضوعا مرجعا جامعا مرتبا بإذن الله لكل المواد العلمية الموضوعة حاليا في شبكتنا ومرتبا على حسب أبواب الفنون العلمية (العقيدة، الفقه، الحديث،...)وسنحاول أيضا ترتيبها على مستويات الطلب (المبتدئ ، المتوسط ، المنتهي) سيتم تحديثه تبعا بعد إضافة أي شرح جديد .

من هـــــــــــنا
شاهد أكثر
شاهد أقل

من كُتُب علوم القرآن : " من كلّ سورة فائدة " للشيخ عبد الملك رمضاني حفظه الله [ موضوع متجدّد ]

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • من كُتُب علوم القرآن : " من كلّ سورة فائدة " للشيخ عبد الملك رمضاني حفظه الله [ موضوع متجدّد ]

    إخواني أعضاء منتديات الإمام الآجري ، إخواني القرّاء ؛
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    كنتُ منذ فترة شرعتُ في رفع كتاب : " من كلّ سورة فائدة " على شبكة سحاب الشّقيقة ، و الكتاب لصاحبه المؤلّف البارع عبد الملك بن أحمد رمضاني الجزائري حفظه الله ، وهو كتابٌ جدّ نافع في باب علوم القرآن ، بل فيه فوائد تندرجُ في علوم شتّى ، و لستُ بصدد تقديمه الآن ، فسيأتيك ذلك أخي القارئ بقلم مؤلّفه .
    إنّما أردتُ أن أبشّركم أنّي عزمتُ على رفعه على هذه المنتديات المباركة كذلك ، بدءًا من اليوم إن شاء الله .
    و ما منعني من ذلك من قبل إلا كثرةُ الشّواغل مع قلّة وقتٍ صادفت فتورا في الهمّة ، و الله المستعان .
    و لتتّضح للقارئ الطّريقة المعتمدة في الرّفع ، رأيتُ من المناسب أن أكرّر هنا المقدّمة التي كنتُ كتبتها للموضوع في شبكة سحاب .
    فإليكم إخواني تلك المقدّمة ، تليها فصول الكتاب ، أسأل الله العون و التّوفيق .

  • #2
    مقدّمة النّاسخ



    الحمد لله و الصّلاة و السّلام على رسول الله و على آله و صحبه ومن اتّبع هداه ، و بعد :
    إخواني أعضاء سحاب ، إخواني القرّاء ، سعياً في نشر العلم النّافع عبر منابر سحاب الخير ، وتقريب الفوائد العلمية بين أيدي القرّاء ، خطرت لي فكرُة رفعِ مجموعةٍ من كتب أهل العلم على صفحات المنبر الإسلامي ، و ذلك بتقسيم الكتب المختارة للنّقل إلى فقراتٍ ترفعُ تباعا بصفة متجدّدة حتى يكتمل كلّ كتاب في موضوع على حدة ، فممّا اخترته الآن كتاب في علوم القرآن ، و هو كتاب : " من كلّ سورة فائدة " للشيخ عبد الملك رمضاني الجزائري حفظه الله ، و أرجو من نقلي لهذا الكتاب حصول فوائد عدّة منها :
    1 - تيسير الإطّلاع عليه في الشّبكة لمن لم يتيسّر له الحصول على المطبوع (1) .
    2 – تسهيل المطالعة و الاستفادة على جميع القرّاء ، باعتماد طريقة التّقسيم ، برفع كلّ فقرة في مشاركة مفردة ، و يتأتّى من هذا التّقسيم - إن شاء الله - فائدتان ؛ الأولى تجدّد رفع الكتاب من حين لآخر فتكثر فرص مشاهدته من أكبر عدد ممكن من القرّاء ، و الثّانية أنّ هذه الطريقة تتيح للقارئ تنظيم قراءته فلا تأخذ منه كلّ فقرة إلا دقائقَ معدودة من وقته ، و هذا أراه مُهمّا لعزوف الكثير من عامّة النّاس في هذا العصر عن قراءة المطوّلات .
    و هذه الطّريقة التي سأعتمدها في نقل هذا الكتاب المبارك إن شاء الله ، لا أخرج فيها عن تقسيم المؤلف حفظه الله فقد فعل ذلك بنفسه ، إذ أفرد كلّ سورة من القرآن الكريم بفائدة - أو أكثر أحيانا - و جعل لكلّ فائدة عنوانا مستقلاّ ، و فصل كلّ فائدة عن التي تليها ، فلا يجد القارئ نفسه مضطرّا إلى قراءة الكتاب كلِّه . فجزاه الله خيرا .
    و ليس لي من العمل إلاّ النّقل و التنسيق ، ليظهرَ النّص في حلّةٍ مُرغّبةٍ في القراءة ، في زمن فتور الهمم .
    و قد يستقلُّ بعض النّاس أن يُتعب المرءُ نفسه في النّقل و النّسخ و المقابلة ؛ فأقول لهم ما قال الإمام أحمدُ لتلميذه إبراهيم بن هانئ حين سأله : أيّ شيء أحبّ إليك ، أجلس بالليل أنسخُ ، أو أصلّي تطوّعا ؟ فقال رحمه الله : " إذا كنتَ تنسخُ ، فأنت تعلمُ به أمرَ دينك ، فهو أحبّ إليّ " . رواه الخطيب في " الفقيه و المتفقه (1/104) [ طبعة دار ابن الجوزي 1428 بتحقيق عادل العزّازي ] ، و إسناده صحيح كما قال محقّق الكتاب .
    وهذه بالذات هي الفائدة الكبرى التي أرجوها لنفسي بهذا العمل ، مع احتساب الأجر في نشر ما أنسخُ .

    __________________

    (1) : نشرته منار السّبيل و الدّار الأثريّة ، الجزائريتان ، سنة 1427 .


    و الآن إخواني القرّاء ؛ مع فصول الكتاب :

    تعليق


    • #3
      تمهيد



      إنّ الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيّئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ، و من يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله .
      أمّا بعد ، فهذه فوائدُ قرآنيّة كنت استفدت أكثرها قديما ممّا كتبه بعض أهل العلم ، فلمّا تقادم الزّمن و بدأ الذّهن في الكلال رأيت تدوينها كي لا يطويَها النسيانُ ، و قد أحببت أن أشرِك القارئ في الاستفادة منها ، وهي متنوّعة ، فمنها في العقيدة ، و منها في التفسير ، و منها في التجويد ، و منها في الحديث ، و منها في الفقه ، و منها في الخُلق ، ومنها في اللّغة و البلاغة ، ومنها ما كان من علم المناسبات ، سواءً كانت من المناسبات الموضوعيّة ، أو مناسبة سورةٍ لسورة ، أو آية لآية ، أو مناسبة أوّل السورة لآخرها ، أو لفظةٍ للفظة كالمشاكلات اللّفظيّة ، أو ما كان من علم التّقاسيم و الأشباه و النّظائر ، أو ما كان من مطابقةٍ بين القرآن و الحديث النّبويّ و غيرها .
      و قد جعلتُ عنوانَ الكتاب : " من كلّ سورةٍ فائدةٌ " ، و أعني : على الأقلّ ، و لذلك فقد أزيد على الفائدة الواحدة ، بحيث أذكر تحت السورة الواحدة أكثر من آية ، و قد أذكر تحت الآية الواحدة عدّة فوائدَ ، فتتعدّد الفوائد حينئذٍ ، و قد كنت عزمت في الأوّل أن أستوعب ما اجتمع في الذهن من فوائد ، فلمّا رأيت ذلك يطول جدّا ، اكتفيت في الأغلب بآية واحدة من كلّ سورة ، و هي بحوث شريفة تدلّ على إعجاز الكتاب الكريم ، و هو الغرض الأسمى الذي من أجله جمعتها هنا .
      و قد كتب كثيرٌ من أهل العلم في هذا الباب ، و كثُرت استنباطاتهم و تنوّعت ، ومن اطّلع عليها رأى التفاوت الكبير بينهم ، فمنهم من يكون استنباطه في الإعجاز شبه يقين لموافقته الأصول ، ومنهم من يكون محتملا ، ومنهم من يكون بعيدا متكلّفا ، كما نبّه على ذلك الشوكانيّ في " فتح القدير " (1/73) ، و ردّ على من يتكلّف إيجادَ مناسبة لكلّ آيتين أو سياقين ، وضرب مثالا ببعض من رأى أنّه جازف في هذا الباب و تجاوز المطلوب أو المرغوب فيه .
      و قد يلاحظ القارئ أنّني أُكثرُ من النّقل عن الشيخين الجليلين ابن تيمية و ابن القيّم رحمهما الله ، و السبب في ذلك راجع في جملته إلى أمرين :
      أحدهما : أنّ تبحّرهما في علم الكتاب و السنّة أورثهما حسّا صادقا في غالب ما يستنبطان (1) .
      الثّاني : أنّ تشبّعهما بعلم السّلف جعل استنباطاتهما لا تخرج عن علم السّلف ، و لا ريب أنّ من لزم غرز السّلف فقد آوى إلى ركنٍ شديد ، وقد كان من طريقتهما أنّهما لا يستنبطان شيئا إلّا دعّماه بمأثور من أقوال السلف ، و هكذا شأن الموفّق في علمه ، فإنّه قبل أن يستسلم لخطرات نفسه و استنتاجات قريحته يعرض ذلك على علم السّابقين الأوّلين الذين جاء مدحُهم بحقٍّ في الكتاب و السنّة ، و ما مُدح مَن مُدح مِن بعدهم إلا ببركة متابعته لهم ، والله وليّ التوفيق .

      ________________
      (1) : في الأصل المطبوع : يستنبطون . [ أبو حاتم ]

      تعليق


      • #4
        حِفظُ الله للقرآن

        ممّا يدلُّ على صدقِ نُبوّة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم حفظ الكتاب الذي أُرسل به إلى النّاس ، ألا و هو القرآن الكريم ، فقد حُفظ هذا الكتاب حفظًا لم يُعرف له نظير من قبلُ في الكتب السّماويّة الأخرى ؛ لأنّ الله هو الذي تولّى حفظه ، وسخّر لذلك ما شاء من الأسباب ، فحفظه الأئمّة في المحاريب ، و الصّبيان في الكتاتيب ، لا تسأل عن نقطه و شكله ، و لا عن نسخه و رسمه ، فقد تفنّن المسلمون في ذلك أيّما تفنّن ، فجلس القرّاء يقرئونه في المساجد ، والعلماء يفسّرونه في المعاهدِ ، و يجيزون طلّابهم فيه بأنقى الإجازات ذات السّلاسل المتّصلة ، لا يحاول أحدٌ تحريف حرفِ منه إلا افتضح من توِّهِ ، قال الباجي رحمه الله : " كتابنا المحفوظ يحفظه الصّغير و الكبير ، لا يمكن لأحد الزّيادة فيه و لا النّقصان ، و الذي يقرأ به مَن في أبعد المشرق هو الذي يقرأ به مَن في أبعد المغرب ، دون زيادة حرفٍ و لا لفظةٍ و لا اختلاف في حركةٍ و لا نقطةٍ " من مقدّمة محقّق كتاب الباجي " فصول الأحكام " (ص62) ، و في " تفسير القرطبيّ " (10/5-6) عن يحي بن أكثمَ قال : " كان للمأمون - و هو أميرٌ إذّاك - مجلس نظر ، فدخل في جملة النّاس رجل يهوديٌّ حسنُ الثّوب حسنُ الوجه طيّب الرّائحة ، قال فتكلّم فأحسن الكلام و العبارة ، قال : فلمّا تقوَّضَ المجلس دعاه المأمونُ ، فقال له : إسرائيليٌّ ؟ قال : نعم ! قال له : أسلم حتى أفعل بك و أصنع ، و وعده ، فقال : ديني و دين آبائي ! ! و انصرف ، قال : فلمّا كان بعد سنة جاءنا مسلمًا ، قال : فتكلّم على الفقه ، فأحسن الكلام ، فلما تقوّض المجلس دعاه المأمون ، و قال : ألستَ صاحبَنا بالأمس ؟ قال له : بلى ! قال : فما كان سبب إسلامك ؟ قال : انصرفت من حضرتك ، فأحببت أن أمتحن هذه الأديان و أنت تراني حسن الخطّ ، فعمَدتُ إلى التّوراة فكتبت ثلاث نسخ ، فزِدت فيها و نقَصتُ ، و أدخلتها الكنيسة فاشتُريت منّي ، و عمدت إلى الإنجيل فكتبتُ ثلاث نسخ ، فزدت فيها و نقصت ، وأدخلتها البِيعة فاشتُريت منّي ، و عمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ و زدت فيها و نقصت ، وأدخلتها الورّاقين فتصفّحوها ، فلمّا أن وجدوا فيها الزّيادة والنّقصان رموا بها فلم يشتروها ، فعلمت أنّ هذا كتابٌ محفوظٌ ، فكان هذا سبب إسلامي ، قال يحيـى بن أكثم : فحججتُ تلك السّنة فلقِيتُ سفيانَ بنِ عُيينة فذكرت له الخبر فقال لي : مصداق هذا في كتاب الله عز وجل ، قال قلت : في أيّ موضعٍ ؟ قال : في قول الله تبارك و تعالى في التوراة و الإنجيل: ﴿ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ ﴾ ( المائدة : 44 ) ، فجعل حفظه إليهم فضاع ، وقال عزّ و جلّ : ﴿إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لحَافِظُونَ﴾ ( الحجر : 9 ) ، فحفظه الله عزّ وجلّ علينا فلم يضِع " .

        تعليق


        • #5
          تدبُّرُ القُرْآنِ



          أنزل الله كتابَه الكريمَ ليُتلى و يُعمل به ؛ قال الله تعالى : ﴿ وَ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ ( الكهف : 27 ) ، و قال : ﴿ وَ هَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَ اتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( الأنعام : 155 ) ، و قال : ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ( الأعراف : 3 ) .
          و لا يتمّ العملُ بالكتاب الكريم إلا بعد تدبُّرِ معانيهِ ، قال الله عزّ و جلّ : ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا اْلأَلْبَابِ ( ص : 29 ) ، و قد حصل لكثير من المسلمين في هذا الزّمان ضَعفٌ ملحوظٌ ؛ لأنّهم تركوا العمل بكثيرٍ منه ، و قنعوا منه بما يجلبُ لهم بعض منافعهِ ، فاتّخذوه جُنّةً من الجِنّةِ ، واستولدوا به الأجنّة ، بل جمعوا به الأقوات ، وقَصَروا نفعه للأموات ، و ابتدعوا قراءته إذا رجلٌ مات ، و الله يقول : ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ . لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ( يس : 69 - 70 ) ، فأين تفهّمُه و تنويرُ البصائر به و إحياءُ القلوب به ؟! و أين العمل به و التأدّب بآدابه ؟! فكيف بتبليغه و الدّعوة إليه ؟ ! قال الله عزّ و جلّ : ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ ءابَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ ( المؤمنون : 68 ) ، و ينبغي للمسلمين الحذر من هجر تدبّره ؛ فإنّ هذا سبيلُ من أُقفل على قلوبهم ، قال الله عزّ و جلّ : ﴿ أَفَلاَ يتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ( محمّد : 24 ) ، فإنّ ترك تدبّره أوّل حاجبٍ عن العمل به ، مع أنّ الله قد يسّره للذّكرِ ؛ كما قال : ﴿ وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهْلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( القمر : 17 ) ، و كذلك فإنّ الله أحكمَ آياته فلا ترى فيه تناقضًا و لا انحرافًا ، وقد مضى عليه أربعة عشر قرنا فلم يضع منه حرفٌ و لم يُستنكر منه لفظٌ ؛ قال الله عزّ و جلّ : ﴿ أَفَلَا يَتَدبَّرُونَ القُرْآنَ وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيرًا ( النّساء : 82 ) ، و أخرج عبدُ الرّزّاق ( 5984 ) بسندٍ صحيحٍ عن الحسن أنّه قال في قوله تعالى : ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَ لِيَتَذَكََّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ ( ص : 29 ) : " و ما تدبّرُ آياته إلا اتّباعُه بعمله ، و الله ! ما هو بحفظ حروفه و إضاعة حدوده ، حتّى إنّ أحدَهم ليقولُ : و الله ! لقد قرأت القرآن كلّه و ما أُسقطُ منه حرفا واحدا ، و قد أَسقطَه كلّه ! ما ترى له في القرآن من خُلُق و لا عملٍ ، و حتّى إنّ أحدهم ليقول : و الله ! لأقرأُ السّورةَ في نَفَسٍ واحدٍ ! و الله ! ما هؤلاء بالقرّاء و لا العلماء و لا الحكماء و لا الورعة ! و متى كان القرّاء يقولون مثل هذا ؟! لا كثّر الله في المسلمين من هؤلاء !! " .
          و قد جعل الله آياته باهرةً ، و حُجَجه قاهرةً ، كلّما مرّ عليه زمن ازدادت حجّته في الظّهور ، و أيقنت الخليقة معه بالقصور ، و لقد تحدّى الله به أفصح العرب إنسهم و جنّهم على أن يأتوا بمثله فعجزوا و لو كانوا مجتمعين ، قال الله عزّ و جلّ : ﴿ قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتِ الِإنْسُ وَ الجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ( الإسراء : 88 ) ، بل تحدّاهم على أن يأتوا بعشر سورٍ مثله فقط فعجزوا ؛ قال الله عزّ وجلّ : ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بَعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَ ادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُم مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( هود : 13 ) ، بل تنزّل معهم إلى أن تحدّاهم بسورة واحدة ، فقال : ﴿ وَ إِنْ كُنْتُم فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( البقرة : 23 ) ، وهذا تحدٍّ ما بعده تحدٍّ ! و لو لم يكن سواه لكفى إعجازًا للبشريّة ودلالةً لهم على صدق الرّسالة المحمّديّة ، وقد كان من فضل الله على النّاس أنّه ما يُرسِل رسولاً إلّا يظهر حجّته بإظهار معجزته ، وجعل لرسوله محمّد صلّى الله عليه وسلّم معجزاتٍ كثيرة ، أظهرها القرآن الكريم ؛ و لذلك روى البخاريُّ ( 4981 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبيّ صلّى الله عليه و سلّم : " ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، و إنّما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " ، قال ابنُ حجرٍ في " الفتح " ( 6/582 ) : " و أشهر معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلّم : القرآن ، لأنّه صلى الله عليه وسلّم تحدّى به العرب و هم أفصح النّاس لسانا ، وأشدّهم اقتدارا على الكلام بأن يأتوا بسورة مثله فعجزوا ، مع شدّة عداوتهم له و صدّهم عنه ! حتّى قال بعض العلماء : أقصر سورة في القرآن : ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ ( الكوثر : 1 ) ، فكلّ قرآن من سورة أخرى كان قدر ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ سواء كان آيةً أو أكثرَ أو بعضَ آيةٍ فهو داخلٌ فيما تحدّاهم به ، وعلى هذا فتصل من هذه الحيثيّة إلى عدد كثير جدّا ، و وجوه إعجاز القرآن من جهة حسن تأليفه و التئام كلماته و فصاحته و إيجازه في مقام الإيجاز ، وبلاغته ظاهرة جدّا ، مع ما انظمّ إلى ذلك من حسن نظمه و غرابة أسلوبه ، مع كونه على خلاف قواعد النّظم و النّثر ، هذا إلى ما اشتمل عليه من الإخبار بالمغيّبات ممّا وقع من أخبار الأمم الماضية ممّا كان لا يعلمه إلا أفراد من أهل الكتاب ، و لم يُعلم أنّ النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم اجتمع بأحد منهم و لا أخذ عنهم ، و بما سيقع فوقع على وفقِ ما أخبر به في زمنه صلّى الله عليه و سلّم و بعدَه ، هذا مع الهَيْبَة التي تقع عند تلاوته ، و الخشية التي تلحق سامعَه ، و عدم دخول الملال و السّآمة على قارئه و سامعه مع تيسُّر حفظه لمتعلّميه ، و تسهيل سرده لتاليهِ ، و لا ينكر شيئا من ذلك إلا جاهلٌ أو معاندٌ ، و لهذا أطلق الأئمّة أنّ معظم معجزات النّبيّ صلّى الله عليه وسلم القرآن ، و من أظهر معجزات القرآن إبقاؤه مع استمرار الإعجاز " .
          و لا يزال التّحدي قائما إلى اليوم ، فعلى النّصارى و اليهود و المشركين أن يجمعوا بلاغيّيهم و شعراءهم و أدباءهم العرب ليأتوا بمثل سورة واحدة إن كانوا صادقين في تكذيب هذا الكتاب ! و هل يُعقل أن يأتي أُمّيٌّ من جزيرة العرب بكتاب يتحدّى به جموع قومه و فيهم الخطباء و البلغاء ، ثمّ يتحدّى أحفادهم و أحفاد أحفادهم إلى آخر زمن البشريّة ؟! و هل يُعقل أن يغلب رجلٌ واحدٌ ملايينَ الرّجال على مدى التّاريخ البشريّ ؟! قال ابنُ القيّم في " بدائع الفوائد " ( 4 /1547 - العمران ) : " إن حصل لكم ريب في القرآن و صدق من جاء به و قلتم : إنّه مفتعلٌ ، فأتوا و لو بسورة واحدة تُشبهه ، وهذا خطاب لأهل الأرض أجمعهم ، ومن المحال أن يأتي واحد منهم بكلام يفتعله و يختلقه من تلقاء نفسه ، ثمّ يطالب أهل الأرض بأجمعهم أن يعارضوه في أيسر جزء منه ، يكون مقداره ثلاث آيات من عدّة ألوف ، ثمّ تعجز الخلائق كلّهم عن ذلك ، حتّى إنّ الذين راموا معارضته كان ما عارضوه من أقوى الأدلّة على صدقه ، فإنّهم أتوا بشيء يستحي العقلاء من سماعه ، ويحكمون بسماجته و قبح ركاكته و خسّته ، فهو كمن أظهر طيبًا لم يَشمَّ أحد مثل ريحه قطّ ، وتحدّى الخلائق ملوكهم وسوقتهم بأن يأتوا بذرّةِ طيبٍ مثله ، فاستحى العقلاء و عرفوا عجزهم ، وجاء الحُمقانُ بعذرة منتنةٍ خبيثةٍ ، و قالوا : قد جئنا بمثل ما جئت به ، فهل يزيد هذا ما جاء به إلا قُوّةً و برهاناً و عَظَمةً و جلالةً ؟! "

          تعليق


          • #6
            استنباطُ الأحكامِ و الفوائدِ من القُرْآنِ


            مباحثُ القرآن مباحثُ شريفةٌ ، لا سيما ما كان منها في علم التّفسير ؛ فإنّ القرآن كلام الله ، و كلّما تبيّن لطالب العلم وجوه إعجاز الكلام ازداد تعظيماً للمتكلّم و عرفاناً بحقّه ، و أيقن أنّ هذا لا يقوله إلا حكيمٌ عليمٌ ، كما قال الله عزّ وجلّ : ﴿ وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى القُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ( النّمل : 6 ) ، و إحكامُ الكلام يدلّ على حكمة المتكلّم و مَحْمَدته ؛ كما قال سبحانه : ﴿ وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِِيزٌ . لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ( فصّلت : 41 - 42 ) ، و هذا يتأتّى أكثرَ لمن آتاه الله قوّةَ الاستنباطِ و الفهمَ في كتاب الله ، أو هداه الله لمطالعة كتب الرّاسخين من أهل العلم في هذا الباب ؛ فإنّ كتاب الله مليئ بالدّرر ، بل كلّه دررٌ لا تقدّرُ بثمن ، و كلّ من أطلعه الله على شيء منها ازداد إيماناً ؛ قال الله عزّ و جلّ : ﴿ وَ إِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فأمَّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( التّوبة : 124 ) ، و أوفرُ نصيبٍ من هذه الزّيادة يكون لمن كان أسدّ اجتهادًا و أحسنَ استنباطاً ، قال ابنُ مسعودٍ : " من أراد العلم فليثوّر القرآن ؛ فإنّ فيه علم الأوّلين و الآخرين " أخرجه ابن المبارك في " الزّهد " (814 ) و ابن أبي شيبة ( 10067 - ط الهنديّة ) بإسناد صحيح ، على الرّغم من أنّ فيه أبا إسحاق السّبيعي و هو ثقة اختلط بآخره ، إلا أنّ الرّاوي عنه هنا هو سفيان الثّوريّ ، وهو أثبت النّاس فيه كما قال المزّيّ في " تهذيب الكمال " ( 22/109 ) ، و قالابن القيّم في " إعلام الموّقعين " ( 1/173 ) : " و قد مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه ، و أخبر أنّهم أهل العلم ؛ و معلومٌ أنّ الاستنباط إنّما هو استنباط المعاني و العلل ، و نسبة بعضها إلى بعضٍ ، فيُعتبر ما يصحّ منها بصحّة مثله و مُشبِهِه و نظيره ، ويُلغى ما لا يصحّ ، هذا الذي يَعقله النّاس من الاستنباط ، قال الجوهريّ : الاستنباط كالاستخراج ، و معلوم أنّ ذلك قدر زائد على مجرّد فهم اللّفظ ، فإنّ ذلك ليس طريقةَ الاستنباط ؛ إذ موضوعات الألفاظ لا تُنال بالاستنباط ، وإنّما تُنال به العلل و المعاني و الأشباه و النّظائر و مقاصد المتكلّم ، والله سبحانه ذمّ من سمع ظاهرا مجرّدا فأذاعه و أفشاه ، و حمد من استنبط من أوّلِ العلم حقيقتَه و معناه (1) ، و يوضّحه أنّ الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفى على غير مستنبطه ، و منه استنباط الماء من أرض البئر و العين ، و من هذا قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه و قد سُئل : ( هل خصّكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشيء دون النّاس ؟ فقال : لا ! و الذي فلق الحبّة و برأ النّسمة ! إلا فهماً يؤتيه الله عبدا في كتابه ) (2) ، و معلوم أنّ هذا الفهمَ قدر زائد على معرفة موضوع اللّفظ و عمومه أو خصوصه ؛ فإنّ هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب ، و إنّما هذا فهم لوازم المعنى و نظائره و مراد المتكلّم بكلامه و معرفة حدود كلامه ، بحيث لا يَدخل فيها غير المراد ، و لا يَخرج منها شيء من المراد " ، ثمّ ضرب بعض الأمثلة لذلك ، ثمّ قال : " و فهم هذا القدر زائد على فهم مجرّد اللّفظ و وضعه في أصل اللّسان ، و الله المستعانُ ، و عليه التّكلانُ و لا حول و لا قوّة إلا بالله " .


            _______________________
            (1) : يريدُ قولَ الله عزّ و جلّ : { وَ إِذَا جَاَءَهُمْ أَْمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا } ( النّساء : 83 ) .
            (2) : أخرجه البخاريّ ( 3047 ) .
            التعديل الأخير تم بواسطة أبو حاتم سفيان الورقلي; الساعة 30-Nov-2008, 01:10 PM.

            تعليق


            • #7
              أنواعُ التّفسيرِ


              اختلفت مناهجُ المفسّرين للقرآن الكريم ، فمنهم من عُمدته الرّأيُ ، و منهم من عُمدته اللّغة العربية ، و منهم من عمدته الإشاراتُ الخفيّة و المعاني الباطنيّة ، و أسعدُهم بالحقّ من عمدته الأثرُ ، فيفسّر القرآن بالقرآن ، ويفسّره بالسّنّة ، ويفسّره بآثار السّلف ، مع ما آتاه الله عزّ وجلّ من معرفة واسعةٍ باللّسان العربي ، فمن جمع الله له علم هذه المناحي الأربعة فقد جمع له أسباب التّوفيق إلى إصابة المعنى الصّحيح من كلام الله إن شاء الله ، مع ما يكون عليه من سلامة معتقدٍ و فقهٍ في الدّين وتقوًى لله ربّ العالمين ، و قد يكون ضليعًا في اللّغة ضعيفًا في الاطّلاع على الأثر فيفوته خيرٌ كثير ، فإنّ اللّغة واسعةٌ ذات مفرداتٍ متشعّبة المعاني ، و قد يوجد في القرآن أو في السنّة ما يُعيِّن إحدى مفردات اللّفظ القرآنيّ و هو لا يدري ، أو يكونُ للصحّابيّ علمٌ بالقرائن الحاليّة للتّنزيل المعِينة على صحيح التّأويل فيخفى ذلك على غيره ، أو يكون قد انطلق من بعض القواعد القرآنيّة الجامعة ، ويكون اللّغويُّ غيرَ مطّلعٍ عليها ، فيخالف السّلف ظنّاً منه أنّ الوضعَ اللّغويَّ وحده كافٍ لأن يقول في كتاب الله ما قال .
              و قد يكون المنتصبُ للتّفسير متخصّصاً في العلوم الكونيّة لكنَّ بضاعته الشّرعيّةَ مزجاةٌ ، فيتخيَّلُ في كلّ آية ما يسمّى اليومَ ب ( الإعجازِ العلميِّ ) ، حتّى الصّلاة فقد يفسّرها برياضةٍ بدنيّةٍ !! فتضيعُ حلاوةُ العبادة وهَيْبَةُ الخشوع و القرب من الله بين أحضان مثل هذا التّفسير المادّيّ ، و قد رأينا من فسّر القرآن كلَّه على هذا النّمط ، فحوّل هذا الكتاب الهادي إلى كتاب مادّي ، و حرّف معانيَ آياته بحسَب تأثّره بأوهام المدنيّة الحديثة .
              و قد يكون المنتصب للتّفسير خرافيَّ المعتقد ، فيلحد في آيات الكتاب ، و يلصق بها من الخرافات العجبَ العُجاب !!
              و الموفّقُ من راعى تلك الأصول التي بدأنا بها هذا الفصل ، فجعل اللّغة بين يديه ، وتفاسير السّلف نصب عينيه ، مع معرفته بصحيحها من سقيمها ؛ فإنّ القوم قد عرفوا عن الله و رسوله ما لم يعرفه غيرهم إلا من كان من مشربهم ينهلُ ، و قد أيّدهم الله بالتّوفيق و إصابة الحقّ لما كانوا عليه من أسباب التقوى و حسن الدّيانة .
              و كلامنا هنا مرتبط بالاستنباط أكثر منه بالتّفسير، وهما – و إن كانا قريبين – إلا أنّ الاستنباط أخصُّ ، وأهله أخصّ ، و لذلك فإنّ باب الاستنباط من الكتاب و السّنة غير مُشرَعٍ للجميع ؛ فإنّ من دخل فيما لا يحسنُ أفسد أكثر ممّا يتوهّم أنّه يصلح ، كما أنّ من دخل في غير فنّه أتى بالعجائب ، و قد رأيتُ لابن القيّم رحمه الله كلمةً جامعةً بيّن فيها اختلاف النّاس في أصول تفاسيرهم ، وبيّن أيضا الاحترازات التي ينبغي أن يراعيَها من لاح له معنى في كتاب الله ، فقال في " التّبيان في أقسام القرآن " ( 1/50 ) : " و تفسير النّاس يدور على ثلاثة أصول :
              1 - تفسير على اللّفظ ، و هو الذي ينحو إليه المتأخّرون .
              2 - و تفسير على المعنى ، وهو الذي يذكره السّلف .
              3 - و تفسير على الإشارة و القياس ، و هو الذي ينحو إليه كثير من الصّوفية و غيرهم ، و هذا لا بأس به بأربعة شرائط :
              - أن لا يناقض معنى الآية .
              - و أن يكون معنًى صحيحا في نفسه .
              - و أن يكون في اللّفظ إشعار به .
              - و أن يكون بينه و بين معنى الآية ارتباطٌ وتلازمٌ .
              فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان استنباطاً حسناً " و انظر " الموافقات " للشاطبيّ ( 3/394 ) .
              و هذا الذي قوّاه ابن القيّم في حسن الاستنباط في تأويل كلام الله يقوم على دِعامة الفقه [ في ] الدّين ، وقد جمعهما الرّسول صلى الله عليه و سلّم لحبر هذه الأمّة عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما في دعائه له بقوله : " اللهمّ فقّهه في الدّين وعلّمه التأويل " رواه أحمد ( 1/266 ) بإسناد صحيح ، فكان ابن عبّاس من المحلّ المعروف في التّفسير خاصّة .
              ثمّ إنّ للاستنباط طُرقًا شتّى .
              فقد يعتمد صاحبه على التّقاسيم و النّظائر ، كأن يقول : جمعت هذه الآية بين العلم والعمل ، أو يقال : جمعت بين أصول الإيمان الستّة ، أو يقول : جمعت هذه الآية بين حقوق الله وحقوق العباد ، أو يقول : هي على قاعدة التّحذير من مرض الشّبهة ومرض الشّهوة ، إلى غير ذلك ممّا يعرفه المطّلع على القواعد الشّرعيّة و الأصول الجامعة .
              و قد يعتمد المستنبط على قرائن الأحوال جمعا بينها و بين الأهداف الكلّية ، كما في تفسير ابن عبّاس لسورة النّصر ، فقد روىالبخاريُّ ( 4294 ) عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : " كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فقال بعضهم : لِمَ تدخل هذا الفتى معنا و لنا أبناء مثله ؟ ! فقال : إنّه ممّن قد علمتم ! قال : فدعاهم ذات يوم و دعاني معهم ، قال : و ما أُريتُه دعاني يومئذٍ إلا ليُريَِهم منّي ، فقال : ما تقولون في ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَ الفَتْحُ . وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا ( النّصر 1 – 2 ) حتّى ختم السّورةَ ، فقال بعضهم : أُمرنا أن نحمد الله و نستغفره إذا نصَرَنا و فَتَح علينا ، و قال بعضهم : لا ندري ، أو لم يقل بعضهم شيئا ، فقال لي : يا ابن عبّاس ! أَكذاكَ تقول ؟ قلت : لا ! قال : فما تقولُ ؟ قلت : هو أجلُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلمه الله له ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَ الفَتْحُ : فتحُ مكَّةَ ، فذاك علامة أجلك ، ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ، قال عمر : ما أعلمُ منها إلا ما تعلمُ " .
              فأين يجد المرء في هذه السّورة ذكرًا للأجل لولا توفيقُ الله لمن شاء من عباده ؟! فنقول كما قال ابن القيّم في " بدائع الفوائد " ( 1/338 – العمران ) في مناسبة أخرى : " فهل خطر ببالك قطُّ أنّ هذه الآية تتضمّن هذه العلوم و المعارف مع كثرة قراءتك لها و سماعك إيّاها ، و هكذا سائر آيات القرآن فما أشدّها من حسرة و أعظمها من غَبنة على من أفنى أوقاتَه في طلب العلم ، ثمّ يخرج من الدّنيا و ما فهمَ حقائق القرآن و لا باشر قلبُه أسراره و معانيَه ، فالله المستعان " ، و قال في " مدارج السالكين " ( 1/43 ) : " فالفهم عن الله ورسوله عنوان الصّديقيّة و منشور الولاية النّبويّة ، و فيه تفاوتت مراتب العلماء حتّى عُدّ ألفٌ بواحدٍ ! فانظر إلى فهم ابن عبّاس و قد سأله عمر و من حضر من أهل بدر عن سورة ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَ الفَتْحُ و ما خُصّ به ابن عبّاس من فهمه منها أنّها نعي الله سبحانه نبيَّه إلى نفسه و إعلامه بحضور أجله ، و موافقة عمر له على ذلك ، و خفائه عن غيرهما من الصّحابة ، و ابن عبّاس إذ ذاك أحدثُهم سِنًّا ! و أين تجد في هذه السّورة الإعلامَ بأجله لولا الفهمُ الخاصّ ؟! و يدِقّ هذا حتّى يصل إلى مراتبَ تتقاصر عنها أفهام أكثر النّاس ، فيحتاج مع النّص إلى غيره ، و لا يقع الاستغناء بالنّصوص في حقّه ، وأمّا في حقّ صاحب الفهم فلا يحتاج مع النّصوص إلى غيرها " .
              و قد بيّن ابن تيمية أنّ وجه ذلك كامنٌ في لفظ الاستغفار في قوله : ﴿ وَ اسْتَغْفِرْهُ الّذي عُلم باستقراء نصوص الشّريعة أنّه يجيء في خاتمة الأعمال ، مع مناسبة إنهاء النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم وظيفتَه التي أُرسل لتحقيقها ، فقال في " مجموع الفتاوى " ( 16/418 ) : " و هذا باطن الآية الموافق لظاهرها ؛ فإنّه لمّا أُمر بالاستغفار عند ظهور الدّين – والاستغفار يِؤمر به عند ختام الأعمال ، و بظهور الدّين حصل مقصود الرّسالة – علموا أنّه إعلامٌ بقرب الأجل مع أمور أُخَر ، و فوق كلّ ذي علمٍ عليمٌ ، و الاستدلال على الشّيء بملزوماته ، والشّيء قد يكون له لازمٌ ، وللازمِه لازمٌ ، و هلمّ جرّا ، فمن النّاس من يكون أفطنَ بمعرفة اللّوازم من غيره يستدلّ بالملزوم على اللاّزم ... " .
              ومنهم من يعتمد على جمع الآيات في الموضوع الواحد ليستنبط منها حكما خفيّا لو أخذت كلّ آية على حدة ، كما في قوله تعالى : ﴿ وَ حَمْلُهُ وَ فِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ( الأحقاف : 15 ) ، فقد جعل الله هذه المدّة للحمل و الفصال ، والفصالُ هو فطام الولد عن لبن أمّه ، و هذا يكون بعد أربعٍ و عشرينَ شهرا ؛ لقول الله عزّ وجلّ : ﴿ وَ الوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ( البقرة : 233 ) ، فإذا طرحنا مدّة الفصال من مجموع ثلاثين شهرا نتج لنا مدّة الحمل التي هي ستّة أشهر ، فقال العلماء : هذه أقلّ مدّة الحمل ، وقد رواه ابن جرير في " تفسيره " ( 2/491 ) و ابن أبي حاتم أيضا ( 18567 ) و الحاكم ( 2/308 ) و البيهقيّ ( 7/442 ) عن ابن عبّاس بإسناد صحيح ، وهذا استدلال بدلالة مجموع أدلّة القرآن ، كما ذكر الآمديّ في " الإحكام في أصول الأحكام " ( 3/73 ) ، وقال ابن كثير في تفسير آية الأحقاف السّابقة بعد أن نسب ذاك الاستنباط لعليّ رضي الله عنه : " وهواستنباط قويٌّ صحيح ، و وافقه عليه عثمان و جماعة من الصّحابة رضي الله عنهم " ، و قال ابن عبد البرّ في " الاستذكار " ( 7/493 ) : " لا أعلم خلافا بين أهل العلم فيما قاله عليّ و ابن عبّاس في هذا الباب في أقلّ الحمل ، وهو أصل و إجماع ، و في الخبر بذلك فضيلة كبيرة و شهادة عادلة لعليّ و ابن عبّاس في موضعهما من الفقه في دين الله عزّ و جلّ و المعرفة بكتاب الله عزّ و جلّ " .
              و فيه قصّة رواها عبد الرّزّاق ( 13449 ) و ابن شبّة في "أخبار المدينة " ( 1691 ) ) بإسناد صحيح عن نافع بن جبير أنّ ابن عبّاس أخبره قال : " إنّي لصاحب المرأة التي أُتي بها عمرُ وضعت لستّة أشهر ، فأنكر النّاس ذلك ، فقلت لعمر : لم تظلم ؟ فقال : كيف ؟ قال : قلت له : اقرأ : ﴿ وَ حَمْلُهُ وَ فِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ، و قال :﴿ وَ الوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ، كم الحولُ ؟ قال : سنة ، قال : قلت : كم السّنة ؟ قال : اثني عشر شهرا ، قال : قلت : فأربعة و عشرون شهرا حولان كاملان ، ويؤخَّر من الحمل ما شاء الله و يقدَّم ، فاستراح عمر إلى قولي " .
              و قد وقعت أيضا بين ابن عبّاس و عثمان رضي الله عنهما ، فقد روى عبد الرّزّاق ( 13446 ) و ابن شبّة في " أخبار المدينة " (1688 ) و ( 1690 ) و ابن جرير في " تفسيره ( 2/491 ) و ابن وهب و إسماعيل القاضي في " أحكام القرآن " كما في " التّلخيص الحبير " لابن حجر ( 3/ 219 ) بإسناد صحيح عن أبي عبيد مولى عبد الرّحمن ابن عوف قال : " رفعت إلى عثمان امرأةٌ ولدت لستّة أشهر ، فقال : إنّها رفعت إليّ امرأة – لا أُراه إلا قال - : و قد جاءت بشرٍّ أو نحو هذا ، ولدت لستّة أشهر ، فقال ابن عبّاس : إذا أتمّت الرَّضاع كان الحمل ستّة أشهر ، قال وتلا ابن عبّاس : ﴿ وَ حَمْلُهُ وَ فِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ، فإذا أتمّت الرّضاع كان الحمل ستّة أشهر " ، وصحّحها ابن حجر في المصدر المذكور .
              و في لفظ رواه عبد الرّزّاق ( 13447 ) و سعيد بن منصور في " سننه " ( 2705 ) و ابن شبّة ( 1689 ) عن قائد ابن عبّاس قال : " أتي عثمان بامرأة ولدت في ستّة أشهر ، فأمر برجمها ، فقال ابن عبّاس : ادنوني منه ، فلمّا أَدْنَوه منه : قال : إنّها إن تخاصِمْك بكتاب الله تَخْصِمك ؛ يقول الله تعالى ﴿ وَ الوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ، ويقول الله في آية أخرى : ﴿ وَ حَمْلُهُ وَ فِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ، فقد حملته ستّة أشهر ، فهي ترضعه لكم حولين كاملين ، قال : فدعا بها عثمان فخلّى سبيلها " .
              و وردت رواياتٌ أخرى فيها أنّ ذلك وقع بين عليّ و عمر رضي الله عنهما ، أخرجها عبد الرّزّاق ( 13443 - 13444 ) و ( 13448 ) و سعيد بن منصور ( 2074 ) و ابن شبَّة ( 1692 ) و البيهقي ( 7/442 ) .
              و في أخرى أنّ ذلك كان بين عليّ و عثمان رضي الله عنهما ، أخرجها ابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 18566 ) و ابن شبّة ( 1693 ) و البيهقي ( 7/442 ) ، والله أعلم .
              و قد يعتمد المستنبط على النّظر في السّياق و السّباق ، وكان هذا النّوع أيضا معروفا عند السّلف ؛ فقد روى عبد الرّزاق ( 5988 ) عن إبراهيمَ النّخعي قال : قال ابن مسعود : " إذا سأل أحدكم صاحبَه كيف يقرأ آية كذا و كذا ، فليسأله عمّا قبلها " ، و هو صحيح ؛ لأنّه من رواية إبراهيم عن ابن مسعود ، و قد صحّحوها كما في " شرح علل التّرمذي " لابن رجبٍ ( 1/556 ) ، و روى أبو عبيدٍ القاسمُ بن سلاَّم في " فضائل القرآن " ( ص 377 ) و ابن أبي شيبة ( 35588 ) و أبو نعيمٍ ( 2/292 ) عن مسلم بن يسار رحمه الله قال : " إذا حدَّثتَ حديثًا ، فقف حتّى تنظر ما قبله و ما بعده "
              ومن لم يفعل ذلك يوشكُ أن يضرب القرآنَ بعضه ببعض و يفهمه فهمًا غلطًا ، بل جلُّ البدع ظهر بسبب الأخذ ببعض الآيات و إغفال البعض الآخر ، ومثاله ما في قصّة جابر رضي الله عنه مع الخوارج الذين فارقوا الصحابة رضي الله عنهم و ظنّوا أنّهم أفهمُ لكتاب الله منهم ، فأخذوا ببعض الآيات التي ظاهرها التّكفير بالكبيرة وعزلوها عن أخواتها الأخرى ، ومن ذلك أنّهم فسّروا خطأً قوله تعالى : ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ مَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَ لَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ( المائدة 37 ) على أنّ ذلك في حقّ كلّ من دخل النّار مسلما كان أو غير مسلم ، ففي " تفسير ابن كثير " أنّه قال عند هذه الآية : " روى ابن مردويه من طريق المسعودي عن يزيد بن صهيب الفقير عن جابر بن عبد الله أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( يخرجُ من النّار قومٌ فيدخلون الجنّة ) ، قال : فقلت لجابر بن عبد الله : يقول الله :﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ مَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا ! قال : اتلُ أوّل الآية :﴿ إِنَّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ الآية ( المائدة 36 ) ، ألا إنّهم الّذين كفروا " ، أي إنّ أوّل الآية يدلّ على أنّ ما بعدها – الّذي هو الخلود في النّار – خاصّ بالكفّار .

              تعليق


              • #8
                أمثلةٌ منَ التّفسير الإشاريّ المنحرف


                أمّا التّفسيرُ الإشاريُّ الذي جاء في كلام ابن القيّم السّابق ، فقد اشتهر به الصّوفيّة ، و منه ما هو صحيحٌ ، و هو ما اشتمل على ما ذكَره رحمه الله ، و منه ما هو تحريفٌ محضٌ لكتاب الله و لعبٌ بألفاظ الدّين و تقوُّلٌ على الله بغير علم ، كاستنباط بعضهم من قصّة موسى مع الخضر عليهما السّلام أنّه يسع الأولياء الصّالحين الخروج عن دين الأنبياء عليهم السّلام !! أو القول بأنّ للقرآن ظهرًا و بطنًا ، و يمثّل أهل هذا الاتّجاه لهذه الضّلالة بقوله تعالى :﴿ وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ( الحجّ : 26 ) ؛ فقد قالوا : ظاهرُ الآية دالٌّ على الكعبة ، وباطنها دالّ على قلب المؤمن الذي أكرمه الله و جعله محلَّ معرفته !! قالأبو بكر بن العربي رحمه الله في " قانون التّأويل " ( ص 539-540 ) بعد أن بيّن المراد بالبيت في الآية و ردّ على من قال : لا حظّ للكعبة في تفسير البيت ، قال : " و لو هُديت لهذا الفرقةُ الضّالّة من الشّيعة و الباطنيّة لما كانت عن سبيل الحقّ ناكبةً و قالت : إنّ المراد بقوله : ﴿ وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ القلبَ و لا حظّ للكعبة فيه !! و لكنّه كما أخبر تعالى عنه : ﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إَلاَّ الفَاسِقِينَ ( البقرة : 26 ) " .
                و قالالشّاطبيّ رحمه الله في " الموافقات " ( 3/401 ) فيما انتقده على بعضهم : " و مِن ذلك أنّه قال في قوله تعالى : ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ( آل عمران : 96 ) الآية : باطنُ البيت قلب محمّدٍ صلّى الله عليه و سلّم يؤمنُ به من أثبتَ الله في قلبه التّوحيدَ و اقتدى بهدايته !! و هذا التّفسير يحتاج إلى بيانٍ ؛ فإنّ هذا المعنى لا تعرفه العربُ ، ولا فيه من جهتها وضعٌ مجازيٌّ مناسبٌ ، و لا يلائمه مساقُ الحال ، فكيف هذا ؟! و العذر عنه أنّه لم يقع فيه ما يدلّ على أنّه تفسير للقرآن ، فزال الإشكال إذًا ، و بقي النّظر في هذه الدّعوى ، و لا بدّ – إن شاء الله – من بيانها " ، و قال أيضا ( 3/402-403 ) : " و نُقل في قوله تعالى : ﴿ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ( طه : 12 ) أنّ باطن النّعلين هو الكونان : الدّنيا و الآخرة ، فذُكر عن الشّبلي أنّ معنى ﴿ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ اخلع الكلّ منك تصل إلينا بالكلّيّة ، و عن ابن عطاء : ﴿ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ عن الكون فلا تنظر إليه بعد هذا الخطاب ، وقال : النّعلُ : النّفس ، والوادي المقدّس : دينُ المرء ، أي حان وقت خُلوّك من نفسك و القيام معنا بدينك ، وقيل غير ذلك ممّا يرجع إلى معنىً لا يوجد في النّقل عن السّلف ، و هذا كلّه إن صحّ نقله خارج عمّا تفهمه العرب ، ودعوى ما لا دليل عليه في مراد الله بكلامه ، ولقد قال الصّدّيقُ : أيّ سماء تظلّني و أيّ أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ؟! و في الخبر : ( من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ) (1) ، و ما أشبهَ ذلك من التّحذيرات " .
                و قال ابن حجر رحمه الله في " فتح الباري " ( 6/412 ) في تفسير قول الله تعالى :﴿ وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَ لَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ( البقرة : 260 ) قال : " و حكى ابنُ التّين عن بعض من لا تحصيل عنده أنّه أراد بقوله : ﴿ قَلْبِي رجلا صالحا كان يصحبه سأله عن ذلك !! و أبعدَ منه ما حكاه القرطبيّ المفسّر عن بعض الصّوفيّة أنّه سأل مِن ربّه أن يُريه كيف يحيي القلوبَ !!! " .
                و أضلّ منهم سعيًا و أسوأ منهم هديًا من زعم أن محمّدا صلّى الله عليه و سلّم ليس آخرَ الأنبياء ، فلمّا تُلي عليه قوله تعالى : ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَ لَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَ خَاتَمَ النَّبِيَّينَ وَ كَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( الأحزاب : 40 ) ، ذهب يفسّر كلمة ( خَاتَم ) هنا بخَاتَم الزِّينة ، أي إنّه صلّى الله عليه و سلّم زينة الأنبياء ، كما أنّ الخاتم الّذي يُلبس هو زينة أصابع اليد !!
                و كذا من فسّر بقرة بني إسرائيل بعائشةَ رضي الله عنها ، وذلك في قول الله عزّ و جلّ : ﴿ وَ إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ( البقرة : 67 ) !! فأيّ عقل يقبل هذه السّخافةَ الرّافضيّة ؟! و أين كانت عائشةُ رضي الله عنها يوم خاطب موسى صلّى الله عليه و سلّم قومه بهذا ؟! و مَن فسَّر قولَه عزّ وجلّ : ﴿ مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ( الرّحمن : 19 ) بعليٍّ وفاطمةَ رضي الله عنهما !! و قولَه عزّ وجلّ ﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ المَرْجَانُ ( الرّحمن : 22 ) بالحسن والحسين رضي الله عنهما !! و مَن فسّر قولَه عزّ وجلّ : ﴿ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ بفاطمةَ رضي الله عنها !! و قولَه : ﴿ فِيهَا مِصْبَاحٌ بالحسن رضي الله عنه !! و قولَه : ﴿ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ بالحسين رضي الله عنه !! ومن فسّر النّورَ الذي في قوله عزّ وجلّ : ﴿ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ( النور : 35 ) بأئمّة الشّيعة الرّوافض ، فقال : " يهدي الله للأئمّة من يشاء " !!! و انظر لهذه العجائبِ كتابَ " الأصول من الكافي " للكُلَيني ( 1/194 ) الذي قيل عنه : إنّه للشّيعة الرّوافض كصحيح البخاريّ لأهل السّنّة ، وقارن بينهما كما تقارن بين الهدى و الضّلال لتعرف نعمة السّنّة عليك ! بل قارن بينهما كما تقارن بين العقل و الجنون لتعرف نعمة العقل عليك ! و حينما تقرأ هذه التّرّهات ، فإنّك لا تدري : أَأَنتَ تقرأ القرآن العربيّ المبينَ بلغته ، أم تقرؤه بلغةٍ لم تدرَّس لا عند الجنّ و لا عند الإنس !! قال الشاطبيّ في " الموافقات " ( 3/391-392 ): " كلّ معنىً مستنبطٍ من القرآن غير جارٍ على اللّسان العربيّ فليس من علوم القرآن في شيء ، لا ممّا يستفاد منه ، و لا ممّا يستفاد به ، ومن ادّعى فيه ذلك فهو في دعواه مبطلٌ ... و من أمثلة هذا الفصل ما ادّعاه من لا خلاق له من أنه مسمًّى في القرآن " ، وكان ممّا مثلّ له أن قال رحمه الله : " و حكى بعض العلماء أنّ عبيد الله الشّيعيّ المسمّى بالمهدي حين ملك إفريقية و استولى عليها ، كان له صاحبان من كتامة ينتصر بهما على أمره ، وكان أحدهما يسمّى بنصر الله ، والآخر بالفتح ، فكان يقول لهما : أنتما اللّذان ذكركما الله في كتابه ، فقال : ﴿ إِذَا َجَاءَ نَصْرُ اللهِ وَ الفَتْحُ !!! قالوا : و قد كان عمل ذلك في آياتٍ من كتاب الله تعالى ، فبدّل قوله : ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ( آل عمران : 110 ) بقوله : ( كتامَةُ خير أمّة أخرجت للنّاس ) !!! ومن كان في عقله لا يقول مثل هذا ؛ لأنّ المتسمِّيَّينِ بنصر الله و الفتح المذكورين إنّما وُجدا بعد مئين من السّنين من وفاة رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ، فيصيرُ المعنى : إذا مِتَّ يا محمّد ! ثمّ خُلق هذان ، و رأيت النّاس يدخلون في دين الله أفواجا فسبّح ، الآية ! فأيّ تناقضٍ وراء هذا الإفك الّذي افتراه الشيعيّ ؟! قاتله الله ! " .
                و ما تركته أكثرُ ممّا مثّلتُ به ، وكلّ من يطّلع على هذه السّخافات من أيّ دين كان ، يحمد الله على سلامته من الدّخول في دين كهذا ، بل لن تحدّثه نفسُه أبدا بالالتفات إلى كتابٍ مشتمل على هذه المعاني التي لن تكون إلى هداية النّاس بسبيلٍ .

                ____________________
                (1) : أخرجه أبو داود ( 3652 ) و التّرمذيّ (2952 ) بإسناد ضعفّه فيهما الألبانيّ .

                تعليق


                • #9
                  سورةُ الفاتحة

                  اشتمالهُا على شفاءِ القلوبِ و شفاءِ الأبدانِ



                  قال الله تعالى : ﴿بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ (1) ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ (2) ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ (3) مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ و إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَ لاَ ٱلضَّآلينَ (7)

                  خلقَ اللهُ الإنسان ضعيفاً لتقوى صلته بالقويّ المتين سبحانه ، فيطلبُه عند الضّعف ، و يستعين به عند العجز ، و يستبينُ به الطّريقَ عند التّيهِ ، بل يذكره في رخائه كما يذكره في شدّته و حاجته ، وكان من ضعف الإنسان انزعاجُ قلبه واضطرابُه و وحشتُه ، فجعل الله في ذكره سبحانه الطُّمأنينة و السّكينة و راحة النّفس ، كما قال : ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ ( الرّعد : 28 ) ، والقرآن من ذكر الله ، قال الله عزّ و جلّ : ﴿ وَ هَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ( الأنبياء : 50 ) ، بل هو أصل الذّكر ، ولذلك ذكره الله معرّفا بالألف و اللام في قوله : ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر : 9 ) .
                  و لمّا كان ذكر الله شفاءً للقلوب ، ولمّا كان القرآن أصلَ الذّكر و أفضلَه ، جعل الله عزّ وجلّ القرآن كلّه شفاءً للمؤمنين ، فقال : ﴿ وَ نُنَزّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَ رَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ( الإسراء 82 ) ( مِن ) هنا للجنس و ليست للتّبعيض ، قاله ابن الجوزي في " منتخب قرّة العيون النّواظر في الوجوه والنّظائر " عند كلامه على كلمة ( مِن ) ، و قال ابن القيّم في " زاد المعاد " ( 4/177 ): " و من المعلوم أنّ بعض الكلام له خوّاص و منافع مجرّبة ، فما الظنّ بكلام ربّ العالمين الذي فضلُه على كلّ كلام كفضل الله على خلقه ، الذي هو الشفاء التّامُّ و العصمة النّافعة و النّور الهادي و الرّحمةُ العامَّة ، الذي لو أُنزل على جبل لتصدّع من عظمته و جلالته ، قال تعالى : ﴿ وَنُنَزلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَ رَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ( الإسراء : 82 ) ، و ( مِن ) ههنا لبيان الجنس لا للتّبعيض ، هذا أصحّ القولين " ؛ لأنّ القرآن كلَّه شفاءٌ ، بدليل قول الله عزّ وجلّ : ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ ( فصلت : 44 ) ، و قوله :﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ من رَّبكُمْ وَ شِفَآءٌ لمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَ هُدًى وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ ( يونس : 57 ) .

                  أنواع الأمراض :
                  قال ابن القيّم في " زاد المعاد " ( 4/5-7 ) : " المرض نوعان : مرض القلوب ، ومرض الأبدان ، وهما مذكوران في القرآن .
                  و مرض القلوب نوعان : مرض شبهة و شكّ ، ومرض شهوة وغيّ ، وكلاهما في القرآن ، قال تعالى في مرض الشبهة :﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً ( البقرة : 10 ) ، وقال تعالى :﴿ وَ لِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَ ٱلْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً ( المدّثّر : 31 ) ، و قال تعالى في حقّ من دُعي إلى تحكيم القرآن والسّنّة فأبى و أعرض :﴿ وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ منْهُمْ مُّعْرِضُونَ (4 وَ إِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ( النور : 48 - 50 ) ، فهذا مرض الشّبهات و الشّكوك .
                  و أمّا مرضُ الشهوات ، فقال تعالى : ﴿ يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ منَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ( الأحزاب : 32 ) ...
                  فأمّا طبُّ القلوب فمسلَّمٌ إلى الرّسل صلوات الله وسلامه عليهم ، ولا سبيل إلى حصوله إلاّ من جهتهم و على أيديهم ؛ فإنّ صلاحَ القلوب أن تكون عارفةً بربّها و فاطرها ، وبأسمائه و صفاته و أفعاله و أحكامه ، و أن تكون مُؤْثِرَةً لمرضاته و محابِّه ، متجنّبة لمناهيه و مساخطه ، و لا صحّة لها و لا حياة البتَّةَ إلاّ بذلك ، و لا سبيل إلى تلقّيه إلاّ من جهة الرّسل ، و ما يُظنُّ من حصول صحّة القلب بدون اتّباعهم فغلطٌ ممّن يظنُّ ذلك ، و إنّما ذلك حياةُ نفسه البهيمية الشّهوانيّة و صحّتُها و قوّتها ، و حياة قلبه و صحّته و قوّته عن ذلك بمعزلٍ ، و من لم يميّز بين هذا و هذا فليَبْكِ على حياة قلبه ؛ فإنّه من الأموات ، وعلى نوره ؛ فإنّه منغمس في بحار الظّلمات " .

                  شفاءُ سورةِ الفاتحة للقلوب :
                  بعد أن عرفنا أنّ الله عزّ وجلّ جعل الشّفاء في كتابه الكريم كلّه ، فليُعلم أنّ الله عزّ وجلّ خصّ سورًا و آياتٍ من كتابه بزيادةٍ في خاصّيّة الشّفاء و التأثير ، منها سورة الفاتحة ، فقد ذكر الله فيها المنعمَ عليهم أصحابَ الصراط المستقيم الذين عرفوا الحقّ وعملوا به ، و قابلهم بمن انحرف عن ذلك ، وهم أمّتان : اليهودُ الذين عرفوا الحقّ و تركوا العمل به بسبب مرض الشهوات خاصّةً ،و إن كانوا لا يسلَمون من الشّبهات، و النّصارى الذين ضلّوا عن معرفة الحقّ بسبب الشّبهات خاصّةً ، و إن كانوا لا يسلَمون من الشّهوات ، قال ابن القيّم رحمه الله في " مدارج السّالكين " ( 1/52-55 ) : " فأمّا اشتمالها على شفاء القلوب ، فإنّها اشتملت عليه أتمّ اشتمال ؛ فإنّ مدارَ اعتلال القلوب و أسقامها على أصلين ، فسادُ العلم ، و فسادُ القصد ، و يترتّب عليهما داءان قاتلان و هما الضّلالُ و الغضبُ ، فالضّلال نتيجة فساد العلم ، و الغضب نتيجة فساد القصد ، و هذان المرضان هما مِلاك أمراض القلوب جميعها ، فهداية الصّراط المستقيم تتضمّن الشّفاء من الضّلال ، و لذلك كان سؤالُ هذه الهداية أفرضَ دعاءٍ على كلّ عبد و أوجبَه عليه كلّ يوم و ليلة في كلّ صلاة ؛ لشدّة ضرورته و فاقته إلى الهداية المطلوبة ، و لا يقوم غير هذا السّؤال مقامَه ... " .
                  و قال في " زاد المعاد " ( 4/178 ) : " و بالجملة فما تضمّنتهُ الفاتحة من إخلاص العبودية و الثناء على الله ، و تفويض الأمر كلّه إليه و الاستعانة به و التّوكّل عليه ، و سؤالِه مجامعَ النّعم كلّها ، وهي الهداية التي تجلب النّعمَ و تدفعُ النّقمَ ، من أعظم الأدوية الشّافية الكافية ، و قد قيل إنّ موضع الرّقية منها :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، و لا ريب أنّ هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدّواء ؛ فإنّ فيهما من عمومِ التّفويضِ و التوكّلِ و الالتجاءِ و الاستعانةِ و الافتقارِ و الطّلبِ " .
                  ثم أجمل هذا في كلمة جامعة نافعة ، فبيّن أنّ هذه الآية اشتملت على : " الجمع بين أعلى الغايات و هي عبادة الرّبّ وحده ، و أشرف الوسائل و هي الاستعانةُ به على عبادته ... " ، و قد فصّل رحمه الله في الموضع السّابق من كتابه " مدارج السالكين " فقال : " و لا شفاء من هذا المرض إلا بدواء ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . . . فإذا ركَّبَها الطّبيبُ اللطيف العالم بالمرض و استعملها المريض حصل بها الشّفاء التّامّ ، وما نقص من الشّفاء فهو لفوات جزء من أجزائها أو اثنين أو أكثر ، ثمّ إنَّ القلب يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبدُ تراميا به إلى التّلف و لا بدّ ، و هما الرّياءُ و الكبرُ ، فدواء الرّياء ب ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، ودواء الكبرِ ب ﴿ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ تدفع الرّياء ،﴿ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ تدفع الكبرياء ، فإذا عوفي من مرض الرياء ب ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، ومن مرض الكبرياء و العجب ب ﴿ و إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، ومن مرض الضّلال و الجهل ب ﴿ ٱهْدِنَا ٱلصرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ ﴾ ، عُوفي من أمراضه و أسقامه و رفَلَ في أثواب العافية و تمّت عليه النّعمة ، و كان من المنعم عليهم غير المغضوب عليهم و هم أهل فساد القصد الذين عرفوا الحقّ و عدلوا عنه ، و الضّالّين و هم أهل فساد العلم الذين جهلوا الحقّ و لم يعرفوه ، و حُقّ لسورة تشتمل على هذين الشّفائين أن يسشفى بها من كلّ مرض ، و لهذا لمَّا اشتملت على هذا الشفاء الذي هو أعظم الشفائين كان حصول الشفاء الأدنى بها أولى ، كما سنبيّنه ، فلا شيء أشفى للقلوب التي عقلت عن الله و كلامه ، و فهمت عنه فهمًا خاصّا اختصّها به من معاني هذه السورة " .

                  شفاءُ سورةِ الفاتحة للأبدانِ :
                  جرى كثيرٌ من المتأثّرين بالتمدّن المُقلّين من مطالعة كتب السّلف على إنكار معالجة البدن بالقرآن و الأذكار المسنونة ؛ توهمًّا أنّ ذلك ضربٌ من الخرافة ، و أنّ فيه تشجيعًا على الخمول و الرّكون إلى الكهنة و أشكالهم من الانتهازيين ، و نظرًا لقلّة عنايتهم بالسنّة و جُرأتهم على الشّريعة باستعمال عقولهم في كلّ شيءٍ ظنّوا أنّ الأمراض الحسّيّة لا تُداوى إلا بالأدوية الحسّيّة ، وقد تكلّم ابن القيّم على الاستشفاء الحسّي بالفاتحة ، فذكر حكمه و دليله بما لا مردّ له فقال في " مدارج السّالكين " ( 1/55 ) : " و أمّا تضمُّنها لشفاء الأبدان فنذكر منه ما جاءت به السنّة وما شهدت به قواعدُ الطّبّ و دلّت عليه التّجربة ، فأمّا ما دلّت عليه السنّة ، ففي الصّحيح (1) من حديث أبي المتوكّل النّاجي عن أبي سعيدٍ الخدريّ " أنّ ناسًا من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم مرّوا بحيٍّ من العرب ، فلم يَقرُوهم و لم يُضيّفوهم ، فلُدغ سيّد الحيّ ، فأتوهم فقالوا : هل عندكم من رقيةٍ أو هل فيكم من راقٍ ؟ فقالوا : نعم ! و لكنّكم لم تَقرُونا ، فلا نفعلُ حتى تجعلوا لنا جُعلا ، فجعلوا لهم على ذلك قطيعًا من الغنم ، فجعل رجلٌ منّا يقرأ عليه بفاتحة الكتاب ، فقام كأن لم يكن به قَلَبةٌ (2) ، فقلنا : لا تعجلوا حتى نأتيَ النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم ، فأتيناه فذكرنا له ذلك ، فقال : ما يُدريك أنّها رُقيةٌ ؟ ! كلوا و اضربوا لي معكم بسهمٍ " ، فقد تضمّن هذا الحديث حصول شفاء هذا اللّديغ بقراءة الفاتحة عليه ، فأغنَته عن الدّواء ، وربّما بلغت من شفائه ما لم يبلغه الدّواء ، هذا مع كون المحلّ غيرَ قابلٍ ؛ إمّا لكون هؤلاء الحيّ غير مسلمين أو أهل بخلٍ و لؤمٍ ، فكيف إذا كان المحلُّ قابلا ؟! " .
                  فهذا صريحٌ في التّداوي بالقرآن لداء حسّيٍّ بحتٍ ، ألا و هو لدغة العقرب ، كما أن التّجارب شهدت بصدقه ، قال ابن القيّم أيضا ( 1/ 57 - 58 ) : " و أمّا شهادة التّجارب بذلك ، فهي أكثر من أن تُذكر ، و ذلك في كلّ زمان ، و قد جرّبتُ أنا ذلك في نفسي و في غيري أمورًا عجيبةً ، ولا سيّما مدّة المقام بمكّةَ ، فإنّه كان يَعرِض لي آلامٌ مزعجة بحيث تكاد تقطع الحركة مني ، و ذلك في أثناء الطّواف و غيره ، فأبادر إلى قراءة الفاتحة و أمسح بها على محلّ الألم ، فكأنّه حصاة تسقط ! جرّبت ذلك مرارًا عديدةً " .


                  ___________________________
                  (1) : أخرجه البخاري ( 2276 ) و مسلم ( 2201 ) .
                  (2) : قال ابنُ حجرٍ في " الفتح " ( 10/210 ) : " ما به قلبة : بفتح اللام بعدها موحّدة ، أي ما به ألم يقلّب لأجله على الفراش ، وقيل : أصله من القُلاب بضمّ القاف ، وهو داءٌ يأخذ البعير فيمسك على قلبه فيموت من يومه " .

                  تعليق


                  • #10
                    سورةُ البَقَرَة

                    مناسبةُ مطلعِها لخاتمَتِها



                    قال الله تعالى في مطلعها : ﴿ الۤمۤ . ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَرَيْبَ فِيهِ هُدًى للْمُتَّقِينَ ﴾ ( البقرة : 1-2 ) ، و قال في خاتمتها حاكيًا دعاءَ المؤمنين : ﴿ أَنتَ مَوْلاَنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ ( البقرة : 286 ) .
                    مطلعُ سورةِ البقرة حديثٌ عن المتّقين ، و خاتمتُها حديثٌ عن النّصر المبين ، و بين التّقوى و النّصر كما بين السّبب و المسبَّب ؛ لأنّ المتّقين هم أهل النّصر ، فكأنّه قيل : بتقوى الله تنصروا أيّها المؤمنون !
                    و لهذا الحكمِ نظائرُ كثيرةٌ في كتاب الله ، منها قوله تعالى : ﴿ وَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَ ٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِين َ﴾ ( البقرة : 194 ) ، و قوله : ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّ ٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ﴾ ( النّحل : 128 ) ، و قوله : ﴿ وَ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ ( الجاثية : 19 ) ، و قوله : ﴿ وَ نَجَّيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَ كَانُواْ يتَّقُونَ ﴾ ( فصّلت 18 ) ، و قوله : ﴿ فَٱصْبِرْ إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ ( هود : 49 ) ، و قوله : ﴿ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ وَ ٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱلأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ ٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ ( الأعراف : 128 ) ، و قوله : ﴿ وَ ٱلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ ﴾ (طه : 132 ) ، كلُّ هذه الآيات تنصُّ صراحةً على أنّ النّصرَ مقرونٌ بالتّقوى ، مع ذلك يأتي المتعجّلون مُغمَضي الأعين عنها باحثينَ عن النّصر في غير سبيلها ، و هم يعلمون أنّه لا يجوز التّحاكمُ لغير الله في كلّ صغيرةٍ و كبيرةٍ ، كما لا يجوز إلغاء ما شرَطَه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلّى الله عليه و سلّم ، فكيف إذا اجتمعت هذه النّصوص كلّها عند من حبّب الله إليهم طاعته و طاعة رسوله صلّى الله عليه و سلّم و ملأ قلوبهم اليقينُ بأنّ الله يعلمُ و هم لايعلمون ؟! كم من عاجزٍ عن تربية النّاس على التّقوى مستعجلٍ بالحديث الطّويل و العريض عن الجهادِ و النّصرِ ، كانت نهايتُه هي نهايةُ من قيل فيه : من استعجل الشّيءَ قبل أوانه ، عُوقب بحرمانه .
                    ثمّ فصّل اللهُ الكلام عن التّقوى فيما بين المطلَع والمنتهى من سورة البقرة ؛ فقد اشتملت على جميع الأحكام الشّرعيّة الّتي بها تُنالُ درجةُ التّقوى : من المعتقدِ السّليمِ ، و أركان الإسلام الخمسةِ ، و أحكام المعاملات من أخلاقٍ و بيوعٍ و أحكامِ نكاحٍ و جهادٍ في سبيل الله و غيرها ، و قد جمعها الله في آيةٍ واحدةٍ جامعةٍ منها و نصّ في آخرها على أنّها صفاتُ المتّقين ، فقال : ﴿ لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَ ٱلْمَغْرِبِ وَ لَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَ ٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ وَ ٱلْكِتَابِ وَ ٱلنَّبِيينَ وَ آتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَ ٱلْيَتَامَىٰ وَ ٱلْمَسَاكِينَ وَ ٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَ ٱلسَّآئِلِينَ وَ فِي ٱلرِّقَابِ وَ أَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَ آتَى ٱلزَّكَاةَ وَ ٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَ ٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ و ٱلضَّرَّاءِ وَ حِينَ ٱلْبَأْسِ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُوآ وَ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ ﴾ (البقرة : 177 ) ، و إذا تدبّرتَ كلّ مقطعٍ من مقاطع السّورة وجدت الله يختمه غالباً بالتّنويه بالتّقوى ، و قد ينوّه بها على رأسه ، و قد يجمع بين ذلك كما هو الشّأنُ في أكثرها ، فأوّل آية فيها – بل في المصحفِ كلّه على ترتيبه – أمر الله فيها بالتّوحيد نجدُ الله ختمها بالتّقوى ، فقال : ﴿ يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ (البقرة : 21 ) ، و قد وصف في بداية السّورة المتّقين بإقامِ الصّلاة و إيتاءِ الزّكاة ، كما قال : ﴿ هُدًى للْمُتَّقِينَ . ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَ ممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ (البقرة : 2-3 ) ، و ختم آيات الصّيام بالتّقوى فقال : ﴿ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ ( البقرة : 187 ) ، و ختم آياتِ الحجّ بها فقالَ : ﴿ وَ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ وَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ ( البقرة : 203 ) ، و ختم آيات القصاصِ بها فقال :﴿ وَ لَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ يا أُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ ( البقرة :179 ) ، و ختم آية الأهلّة بها فقال : ﴿ وَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ ( البقرة : 189 ) ، و ختم آيةَ الجهاد بها فقال : ﴿ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ ( البقرة : 194 ) ، و ختم آياتِ الطّلاق بها فقال : ﴿ وَ لِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ ( البقرة : 241 ) ، وختم آياتِ الرّبا بها فقال : ﴿ وَ ٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ﴾ (البقرة : 281 ) ، و ختم آية الدَّيْن بها فقال : ﴿ وَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَ يُعَلمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُل شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ( البقرة : 282 ) و كذا الآيةَ التي بعدها .
                    هذا ، و قد قصَّ الله علينا في السّورة قصصاً كثيراً بيّن فيه أثرَ التّقصير في تقوى الله في حرمانِ النّصر ، كما هو شأنُ بني إسرائيل الّذين أخذت قصّتُهم حيّزاً كبيراً من هذه السّورة ، فكان ممّا قصّه الله علينا في هذه السّورة أنّه كَبتَ عدوَّهم و يسّر لهم العودةَ إلى قريتهم بعد التّيهِ ، فقال : ﴿ وَ إِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَ قُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَ سَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِين ﴾ ( البقرة : 58 ) ، أي أمرَهم مقابلَ ذلك بدخول القرية سجّداً لله شكراً له سبحانه ، و بأن يقولوا حِطّة : أي احطُطْ عنّا خطايانا ، و في هذا إصلاحٌ للفعل و للقول ، قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله في " تفسيره " : " و حاصل الأمرأنّهم أُمِروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل و القول ، و أن يعترفوا بذنوبهم و يستغفروا منها و الشّكر على النّعمةِ عندها ، و المبادرة إلى ذلك من المحبوب عند الله تعالى ، كما قال تعالى : ﴿ إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَ ٱلْفَتْحُ . وَ رَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجاً . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبكَ وَ ٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا ﴾ ( النّصر : 1-3 ) ، فسّره بعض الصّحابة بكثرة الذّكر و الاستغفار عند الفتح و النّصر ، و فسّرهُ ابن عبّاسٍ بأنّه نُعي إلى رسول الله صلّى الله عليه و سلّم أجله فيها و أقرّه على ذلك عمرُ رضي الله عنه ، و لا منافاةَ بين أن يكون قد أُمِر بذلك عند ذلك و نُعي إليه روحه الكريمة أيضا ، ولهذا كان عليه الصّلاة والسّلام يظهر عليه الخضوع جدّا عند النّصر ، كما روي أنّه كان يوم الفتح – فتح مكّةداخلاً إليها من الثنّية العُليا و إنّه خاضعٌ لربّه حتّى إنّ عُثْنُونَه لَيَمَسُّ مَوركَ رَحْلِه شكرا لله على ذلك (1) ، ثمّ لمّا دخل البلد اغتسل و صلّى ثمانيَ ركعاتٍ و ذلك ضُحىً (2) ، فقال بعضُهم : هذه صلاةُ الضّحى ، و قال آخرون : بل هي صلاةُ الفتح ، فاستحبّوا للإمام و للأمير إذا فتح بلداً أن يصلّيَ فيه ثمانيَ ركعات عند أوّل دخوله كما فعل سعدُ بن أبي وقّاصٍّ رضي الله عنه لمّا دخل إيوانَ كسرى صلّى فيه ثمانيَ ركعاتٍ " ، و يريدُ أنّ الله أمر عند النِّعم بالتّسبيح ، و أوّل ما يدخل فيه الصّلاة ؛ لأنّ الصّلاة يطلق عليها التّسبيح كما نقله المفسّرون عن بعض السّلف أنّه فسّر به قولَه تعالى : ﴿ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبّحِينَ ﴾ ( الصّافات : 143 ) ، و في السنّة قولُ الرّسول صلّى الله عليه و سلّم : " إ نّه ستكون عليكم أمراءٌ يؤخّرون الصّلاة عن ميقاتها و يخنقونها إلى شَرََق الموتى فإذا رأيتموهم قد فعلوا ذلك فصلّوا الصّلاة لميقاتها و اجعلوا صلاتكم معهم سُبحةً " رواه مسلم ، و الغرض من هذا أنّه كما أُمِر بنو إسرائيل هنا بالسّجود ، أُمِر النّبيُّ صلّى الله عليه و سلّم في سورة النّصر بالتّسبيح الّذي منه الصّلاة ، وكما أُمر بنو إسرائيل هنا بسؤال حطّ الخطايا ، أُمر النّبيُّ صلّى الله عليه و سلّم في سورة النّصر بالاستغفار ، و المناسبة واحدةٌ و هي فتحُ البلاد من يد العدوّ و التّمكّنُ من دخولها ، و هذا من عجيب النّظائر التي اهتدى إليها ابن كثيرٍ رحمه الله ، و المقصودُ أنّ بني إسرائيل أُمروا بالشّكر بالفعل و القول ، لكن بدّلوا الفعل بغير الفعل ، و القول بغير القول ، كما نبّه عليه أيضا ابنُ حجرٍ في " الفتح" ( 8/304 ) و المباركفوري في " تحفة الأحوذي " ( 7/234 ) ، فأمّا الفعل فبدلا من أن يدخلوا ساجدين دخلوا زاحفين على مؤخّرتهم ، و أمّا القول فبدلا من أن يسألوا ربّهم أن يحطّ عنهم خطاياهم فقد قالوا باستهزاء : حِنطة ، روى البخاريّ و مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : " قيل لبني إسرائيل : ﴿ وَ ٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَ قُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ، فبدّلوا فدخلوا يزحفون على أَسْتاهِهِم و قالوا : حبّةٌ في شعرةٍ !! "، قال الله تعالى : ﴿ فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾ ( البقرة : 59 ) .
                    و الحاصل أنّ الله أخبرنا في هذه السّورة – سورةِ البقرةأنّه أَمَر بني إسرائيلَ بتقواه فقال : ﴿ وَ إِيَّايَ فَٱتَّقُونِ ﴾ ( البقرة : 41 ) ، و كان من ذلك الشّكر بالقول و الفعل فخالفوا فجَنَوا الخذلانَ و العذابَ ، كما قصّ الله علينا قصّةَ طالوت و جالوت لما فيها من عبرةٍ لكلّ من استعجل النّصر ولم يكن من أهل التّقوى ، لأنّهم طلبوا القتال فنهاهُم نبيُّهم عنه بسبب ضَعفهم ، فلما أصرُّوا على ذلك أراهم الله من أنفسهم المخالفةَ للأوامر و عدمَ الثّباتِ عند اللّقاء إلاّ لفئةٍ قليلةٍ منهم و هم المؤمنونَ المتّقونَ ،كما قال سبحانه : ﴿ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً منْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَ جُنودِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَ ٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ ﴾ ( البقرة : 249 ) ، و لمّا كان موضوعُ الطّلاق مما تشحُّ فيه النّفوس و تنزعُ إلى الانتقام والاعتداء فإنّ الحديث عن الّتقوى قد تخلّله خمس مرّاتٍ .
                    و المعنى الّذي من أجله بسطتُ الكلامَ على هذه السّورة الكريمة بيانُ أنّها حين ابتُدئت بذكر أوصاف المتّقين و خُتمت بالدّعاء بالنّصر أنّ المستحقّين للنّصر هم أهل التّقوى ، و تخلّل ذلك كلّه تفصيلٌ أحوال المتّقين و تعريفٌ بطريقهم لتُسلكَ على بصيرةٍ ، و لعلّه من أجل هذا بدأ الله السّورة بالتّنويه بكتابه ، فقال : ﴿ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى للْمُتَّقِينَ ؛ لأنّه حوى بيانَ أسبابِ التّقوى ، لا سيما و أنّ الله إنّما يرفع المؤمنين على غيرهم به ،كما روى مسلمٌ عن عامرِ بنِ واثلةَ " أنّ نافعَ بنَ عبد الحارثِ لقيَ عمرَ بعُسْفانَ ، وكان عمرُ يستعمله على مكّةَ ، فقال : من استعملتَ على أهل الوادي ؟ فقال : ابنَ أبزى ، قال : و من ابنُ أبزى ؟ قال : مولىً من موالينا ، قال : فاستخلفتَ عليهم مولىً ؟! قال : إنّه قارئٌ لكتاب الله عزّ وجلّ ، و إنّه عالمٌ بالفرائض ، قال عمرُ : أما إنّ نبيَّكُم صلّى الله عليه وسلّم قد قال : إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً و يضعُ به آخرينَ " .
                    و لعلّه من أجل هذا أشار الله إلى كتابه هنا بلفظ الإشارة الدّالِ على البُعدِ ، و هو : ﴿ ذلك ، قال أبو السّعود في " تفسيره " ( 1/24 ) : " و معنى البعد ما ذُكر من الإشعار بعلوّ شأنه ، والمعنى ذلك الكتاب العجيب الشّأن البالغُ أقصى مراتبِ الكمال " ، و لمّا كان أهلُ القرآن إنّما رَفَعَهم الله بتقواهم جاء التّنصيصُ على رفعتهم على غيرهم بذلك في السّورة نفسها ، فقال : ﴿ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ( البقرة : 212 ) ، و في المبحثِ الذي يلي هذا بيانُ الطّريقةِ الّتي يُنصر بها الكتاب الكريم لنيل التّأييد و النّصر من الله تعالى .


                    _________________________________

                    (1) : ضعّفه الشّيخُ الألبانيّ في تعليقه على " فقه السّيرة " ( ص 412 ) و الشّيخُ مقبلٌ الوادعيّ في تعليقه على " تفسير ابن كثير " ( 1/187 ) .
                    (2) : متّفقٌ عليه .

                    تعليق


                    • #11
                      مُجَاهدةُ مُخالِفِي القُرآن على تَنْزِيله و علَى تَأْوِيلهِ



                      أريدُ أن أُنبّهَ في هذه السّورة على بعض الفوائدِ المتعلّقة بكتابِ الله عزّ و جلّ :
                      الفائدةُ الأولى :
                      نوَّهَ الله بشأنِ كتابهِ في هذه السّورة مرّاتٍ عديدة ، و بيَّن ما فيه من هداية للبشريّة و إسعادٍ لحياتهم في الحال ، و ما يؤول إليه أمرُهم في الآخرة من كرامةٍ و حُسنِ مآل ، و من ذلك أنّ الله افتتح السّورة بذكر كتابه المُنزَّل ، فقال : ﴿ الۤمۤ . ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى للْمُتَّقِينَ ( البقرة : 1-2 ) ، و أعاد ذكره مرّةً ثانيةً في وسط السّورة ، فقال : ﴿ قُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ و َمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا و َمَآ أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ و َإِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ ٱلأَسْبَاطِ و َمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَ عِيسَىٰ وَ مَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ منْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( البقرة : 136 ) ، و أعاد ذكره مرّةً ثالثةً ، فقال : ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقّ ( البقرة : 176 ) ، و غيرها من الآيات .
                      الفائدةُ الثّانيةُ :
                      يُلاحَظُ في هذه السّورة أنّه كثيرًا ما يُقرَن الحديثُ عن كتاب الله بالحديث عن الاختلافِ فيه ، و أنّ ذلك ينتج الشِّقاقَ بين النّاس ، من ذلك ما جاء في الموضع الأوّل ، فقد ذكر الله انقسامَ النّاس في الإيمان بكتابه إلى ثلاثةِ أقسامٍ :
                      القسمُ الأوّلُ : هم أهل الهدى المفلحونَ ، الّذين التزموا بالكتاب ظاهراً و باطناً ، قال الله فيهم : ﴿ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى من رَّبهِمْ وَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ( البقرة : 5 ) .
                      القسمُ الثّاني : هم أهلُ الكفر ، الّذين نبذوا الكتاب ظاهراً و باطناً ، قال الله فيهم : ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة : 6 ) .
                      القسمُ الثّالث : هم أهل النّفاق ، الّذين التزموا بالكتاب ظاهراً و كفروا به باطناً ، و هم الّذين يتظاهرون مع أهل الإيمان بالإيمان و قُلُوبهم مع أهلِ الكفران ، قال الله فيهم : ﴿ وَ مِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَ مَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ( البقرة : 8 ) ، و انظر " الرّحلة إلى إفريقيا " للعلاّمة محمّد الأمين الشّنقيطيّ رحمه الله ص ( 18-19 ) .
                      و أمّا الموضعُ الثّاني ، فقد حذّرَ الله من الاختلاف في الإيمان بكلامه المُنزّل ، و بيّن أنّ الشِّقَاقَ هو نتيجتُه الأولى ، فقال : ﴿ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَ إِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ( البقرة : 137 ) .
                      و أكّده في الموضع الثّالث ، فقال : ﴿ وَ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِي ٱلْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( البقرة : 176 ) .
                      و اعلم أن الشّقاق المقرونَ بكلام الله في هذه الآيات يحصلُ لسبَبَين مَذْمُوميْنِ :
                      الأوّلُ : اختلافٌ في تنزيله ، كالّذي وقع من المِلَلِ ، و هو الكفر الصِّرفُ ؛ لأنّه يتمثّلُ في الإيمان ببعض الحقّ المنزّل و الكفر بالبعض الآخر ، و لم ينْجُ من هذا الكفر إلا هذه الملّةُ الإسلاميّةُ ؛ فإنّ اليهودَ آمنوا بكتابهم و كفروا بما أُنزل على محمّدٍ صلّى الله عليه و سلّم ، و النّصارى آمنوا بكتابهم و كفروا بما أُنزل على محمّدٍ صلّى الله عليه و سلّم ، و أمّا أمّةُ محمّدٍ صلّى الله عليه و سلّم فإنّهم – مع إيمانهم بما أُنزل على محمّد صلّى الله عليه و سلّم – قد آمنوا بالكتاب المنزّل على موسى صلّى الله عليه و سلّم و الكتاب المنزّل على عيسى صلّى الله عليه و سلّم ، و لعلّه من أجل هذا افتُتِحت السّورةُ بضرورة الإيمان بالكلّ ، قال الله عزّ وجلّ في مطلَع هذه السّورة : ﴿ و ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ ( البقرة : 4 ) ، كما خُتِمت به ، حيث قال الله عزّ وجلّ في آخرها : ﴿ آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبهِ وَ ٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَ مَلاۤئِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ من رُّسُلِهِ ( البقرة : 285 ) ، فجمعَ الكتب ؛ لأنّ الواجبَ الإيمانُ بجميع الحقّ المنزّل الّذي لم تَنَلْهُ يدُ التّحريف ، و أمّا الإيمان ببعضٍ دون بعضٍ فهو الاختلافُ المذمومُ ، كما قال تعالى في السّورة نفسها : ﴿ كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيينَ مُبَشرِينَ وَ مُنذِرِينَ وَ أَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَ مَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلْحَقّ بِإِذْنِهِ وَ ٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( البقرة : 213 ) ، فقد بيّن الله ههنا أنّ الّذين آمنوا ببعض ما أَنزل و كفروا ببعضٍ هم المتَسَبِّبون في افتراقِ البشريّة ، و هؤلاء هم أهل الكتاب ، و لذلك دعاهم إلى الاتّحاد على الحقّ فأبَوْا إلاّ كُفوراً ، كما قال : ﴿ قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ الآية ( آل عمران : 64 ) ، و قد روى عبدُ الرّزّاق ( 15946 ) بسندٍ صحيحٍ عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال : " من كفر بحرف من القرآن ، فقد كفر به أَجْمَعْ " .
                      و الثّاني : اختلافٌ في تأويله ، و هذا الّذي حصل للفرق المسلمة الّتي خرجت عن جماعة المسلمين ببدعةٍ ما ، و كلّ من انحرف عن الصّدر الأوّل انحرف بسبب تأويل كلام الله على غير مراد الله .
                      و إذا كانت مجاهدةُ من كفر بالقرآن المنزّل معلومةً ، فليُعلم أنّ مجاهدةَ المبتدعة على تأويل القرآن مطلوبةٌ لحفظ وِحْدة هذه الأمّة ، و قد جاءت الرّوايةُ بذلك ، قال أبو سعيدٍ الخدريّ : " كنّا جلوساً ننتظرُ رسولَ الله صلّى الله عليه و سلّم ، فخرج علينا من بعض بيوت نسائه ، قال : فقمنا معه ، فانقطعت نَعْلُه ، فتخلّف عليها عليٌّ يخصفها ، فمضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم و مضينا معه ، ثمّ قام ينتظره و قمنا معه ، فقال : إنّ منكم من يُقاتِلُ على تأويل هذا القرآن كما قاتلتُ على تنزيله ، فاستَشْرَفْنا و فينا أبو بكرٍ و عمرُ ، فقال : لا ! و لكنّه خاصفُ النّعل ، فجئنا نبشّره ، قال : و كأنّه قد سمعه " رواه أحمد ( 3/82 ) و ابن حبّان ( 6937 ) و الحاكم ( 3/122-123 ) ، و صحّحه هو و الذّهبيّ ، و انظره في " السّلسلة الصّحيحة " للألبانيّ ( 2487 ) ، و هذا في قتال أهل البدع و الأهواء ؛ فإنّ الله أكرم عليًّا رضي الله عنه بقتال أوّل فِرْقَةٍ خرجت عن جماعة المسلمين بسبب سوء تأويلها لكتاب الله ، و هي فرقة الخوارج ، و شرحه ابنُ حبّان في " صحيحه " بأن بوّب له بعده بقوله : " ذكرُ وصفِ القوم الّذين قاتلهم عليٌّ رضي الله عنه على تأويل القرآن " ، ثمّ ذكرَ قتالَه الخوارج ، و لذلك قال يوسفُ المَلْطِيّ في " المُعتصر من المُختصر " ( 1/221 ) عقبَ هذا الحديث : " و مما حقّق الوعدَ ما كان من قتال عليٍّ للخوارج " .
                      و الخلاصةُ أن الله قرََنَ بين التّنويه بكتابه و بين التّحذير من الفُرقة و الشّقاق ؛ لأنّ ذلك يقع عند الاختلاف في الإيمان بكلامه ، حتّى ينكرَ المخالفُ الحقّ الّذي عند غيره ، كما قال الله عزّ وجلّ : ﴿ وَ قَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَ قَالَتِ ٱلنَّصَارَىٰ لَيْسَتِ ٱلْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( البقرة : 113 ) ، كما يقع عند الاختلاف في تأويل كلام الله ، قال ابنُ تيمية في " تفسير آيات أَشْكَلت " ( 2/704 ) : " فإنّ الأمّة اضطربت في هذا اضطراباً عظيماً و تفرّقوا و اختلفوا بالأهواء و الظّنون بعد مُضيّ القرون الثّلاثة ، لمّا حدثت فيهم الجهميّة المشتقّة من الصّابئة " ، ثمّ ساق بعض الآيات السّابقة ، و قال متحدّثاً عن القرآن : " و الاختلافُ فيه نوعان : اختلافٌ في تنزيله ، و اختلافٌ في تأويله ، و المختلفون الّذين ذمّهم الله هم المختلفون في الحقّ ، بأن ينكرَ هؤلاء الحقّ الّذي مع أولئك و بالعكس ؛ فإنّ الواجبَ الإيمان بجميع الحقّ المنزّل ، فأمّا من آمن بذلك و كفر به غيرُه ، فهو اختلافٌ يُذمُّ فيه أحدُ الصِّنفينِ : كما قال تعالى : ﴿ تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ( البقرة : 253 ) ، إلى قوله : ﴿و َلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَّن كَفَرَ ( البقرة : 253 ) ، و الاختلاف في تنزيله أعظمُ ؛ فإنّه الّذي قصدناه هنا ، فنقول : الاختلاف في تنزيله هو بين المؤمنين و الكافرين ؛ فإنّ المؤمنين يؤمنون بما أَنْزَل ، و الكافرون كفروا بالكتاب و بما أَرسلَ الله به رسُلَه ، فسوف يعلمون ، فالمؤمنون بجنس الرّسل و الكتب من المسلمين و اليهود و النّصارى و الصّابئين يؤمنون بذلك ، و الكافرون بجنس الكتب و الرّسل من المشركين و المجوس و الصّابئين يكفرون بذلك " ، ثمّ ذكربعض آيات البقرة المذكورة آنفاً ، و قال : " و قال في السّورة الّتي تليها : ﴿ الۤمۤ . ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ . نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدقّاً لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَ ٱلإِنْجِيلَ . مِن قَبْلُ هُدًى للنَّاسِ وَ أَنْزَلَ ٱلْفُرْقَانَ ( آل عمران : 1-4 ) ، و ذكر في أثناء السّورة الإيمان بما أنزلَه (1) ، و كذلك في آخرها : ﴿ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبكُمْ فَآمَنَّا ( آل عمران : 193 ) ، إلى قوله : ﴿وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ الآية ( آل عمران : 199 ) ، و لهذا عَظُمَ تقريرُ هذا الأصل في القرآن ، فتارةً يفتَتِحُ به السّوَرَ ..." .
                      و المقصودُ من هذا بيانُ عِظَمُ شأن الكتاب الكريم في وحدة الأمّة و هدايتها ، و التّحذيرُ من غَضِّ الطَّرْفِ عن اجتماع عَقْد القلوب على ما كان عليه السّلف الأوّل ، و أنّ الّذين انتَدَبوا أنفسهم لتبليغ النّاس معنى ما أنزل الله في القرآن صافياً نقيًّا من تفاسير أهل البدع هم في جهادٍ عظيمٍ ، كما حصلت هذه الكرامة لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقد أكرمه الله بمجاهدة الخوارج على تأويل القرآن ، كما جاهد المشركين من قبلُ على تنزيله ، و لذلك قال شيخُ البخاريّ و مسلم : يحي بن يحي رحمه الله : " الذَّبُّ عن السّنّة أفضل من الجهاد في سبيل الله ، قال محمّدُ بنُ يحي الذُّهلي : قلتُ ليحي : الرّجلُ ينفق ماله و يتعب نفسه و يجاهد ، فهذا أفضل منه ؟!! قال : نعم ، بكثير ! " رواه الهروي في " ذمّ الكلام " ( 1089 ) .
                      و إنّك لتتصفّحُ المكتبةَ الإسلاميّة من أوّل ما بدأ علماءُ هذه الأمّة في التّأليف ، فيَبْهَرُك العدد الهائل من الكتب الّتي ألّفها الصّدر الأوّل في الرّد على أهل البدع ، و هذه الرّدود تمثّل جهادَ الأمّة على تأويل الكتاب الكريم ، و لولا جهادُهم ذلك ما وَصَلَنا هذا الدّين إلا مُحرّفاً ، و ربّما بلغ تحريفُه إلى حدٍّ لا يُفرَّق فيه بينه و بين أيّ دين وثنيّ كما حصل لأهل الكتاب ، و لكنَّ الله كتب بفضله حفظَ هذا الدّين ، و اختار لهذا الحفظ رجالاً انتدبهم لهذه الوظيفة العظيمة ؛ لمّا علم طهارة قلوبهم الّتي لم تتدنّس بفكرة مجاملة أهل البدع ، أو محاولة جمع الكلمة و لو على التّأويل المنكَر لمعاني كلام الله ، و المسلمُ الموفّقُ يتّسعُ صدره للجهادَيْنِ ، و لا يترك جهاد أهل البدع من أجل وجود كفّار معاندين لدين الله ، كما هو معروفٌ من أصول بعض النّاس المشتغلين بالدّعوة ، أولئك الّذين ضاقت صدورهم بمجاهدة أهل البدع المشوِّهين لجمال الشّريعة و المكدِّرين لصَفْوِها و المتسبّبين في شقّ صفّها ، فقالوا : نعمل فيما اتّفقنا عليه ، و يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ، فاجتمعوا بالحاقدين على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ، و بالمعتدين على حقّ الله في أن يُفرد بالألوهيّة ، و بالمنتقصين اللهَ في أسمائه و صفاته ، و بالمستهزئين بسنّة رسولِ الله صلّى الله عليه و سلّم ، و بغيرهم من المنحرفين عن شريعة ربّ العالمين إلى بدعةٍ من البدع ، ولم تتحرّك لهم شعرةٌ غَيْرَةً على دين الله عزّ وجلّ ، و الله المستعان .

                      __________________
                      (1) : يريد قوله تعالى : ﴿ رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ ( آل عمران : 53 ) .

                      تعليق


                      • #12
                        سورةُ آل عِمرَانَ

                        المحافظةُ على الأدعيةِ المأثُورَةِ




                        قال الله تعالى مخبرًا عن أولي الألباب أنّهم يدعونه قائلين : ﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ . رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ . رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ ( آل عمران : 192-194 ) .
                        أدعيةُ القرآن و السّنّة جامعةٌ مانعةٌ ، لا يتأتّى للبشر أن ينسُجوا على مِنوالها ؛ لأنّها وحيٌ ، و مهما تأمّلتَ في أدعية البشر من رونقٍ و جمالٍ و حسن أداءٍ و تأثيرٍ ، فإن الخلل مصاحبُها مصاحبة النّقص للبشر ، و من أطلعه الله على ما أودع من حِكمٍ وقواعدَ في أدعية القرآن والسّنّة أدرك لأوّل وهلةٍ أنّ هذا من تنزيل حكيمٍ عليمٍ ، و هذه الآيات من سورة آل عمران مثالٌ قرآنيٌّ على ذلك ، قال ابن القيّم في " بدائع الفوائد " ( 2/434-435 ) :
                        " و الشّرُّ المستعاذ منه نوعان :
                        أحدهما : موجودٌ يطلب رفعه .
                        والثّاني : معدومٌ يطلب بقاؤُه على العدم و أن لا يوجد .
                        كما أنّ الخيرَ المطلقَ نوعان :
                        أحدهما : موجودٌ فيطلب دوامه و ثباته و أن لا يُسْلَبَه .
                        والثّاني : معدومٌ فيطلب وجوده و حصوله .
                        فهذه أربعةٌ هي أمّهات مطالب السّائلين من ربّ العالمين ، وعليها مدارُ طلباتهم ، وقد جاءت هذه المطالب الأربعةُ في قوله تعالى حكايةً عن دعاء عباده في آخر آل عمران في قولهم : ﴿ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيئَاتِنَا ( آل عمران : 193 ) ، فهذا الطّلبُ لدفع الشّرّ الموجود ؛ فإنّ الذّنوبَ و السّيِّئاتِ شرٌّ كما تقدّم بيانه ، ثمّ قال : ﴿ وَ تَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ ، فهذا طلبٌ لدوام الخير الموجود ، و هو الإيمان حتّى يتوفّاهم عليه ، فهذان قسمان ، ثمّ قال : ﴿ رَبَّنَا وَ آتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ ( آل عمران : 194 ) فهذا طلبٌ للخير المعدوم أن يؤتيهم إيّاه ، ثمّ قال : ﴿ وَ لاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ، فهذا طلب أن لا يوقع بهم الشّرَّ المعدوم ، و هو خِزي يوم القيامة ، فانتظمت الآيتان للمطالب الأربعة أحسنَ انتظامٍ ، مرتَّبةً أحسنَ ترتيبٍ ، قُدِّم فيها النّوعان اللّذان في الدّنيا ، و هما المغفرة و دوام الإسلام إلى الموت ، ثمّ أُتبعا بالنّوعين اللّذين في الآخرة ، و هما أن يُعطَوا ما وُعدوه على ألسنة رسله ، و أن لا يخزيهم يوم القيامة ، فإذا عُرِف هذا ، فقوله في تشهّد الخُطبة : ( و نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا ) (1) يتناول الاستعاذةَ من شرّ النّفس الّذي هو معدومٌ ، لكنّه فيها بالقوّة ، فيسأل دفعَه و أن لا يوجدَ ، و أمّا قوله :( من سيّئات أعمالنا ) ، ففيه قولان : أحدُهما أنّه استعاذة من الأعمال السّيِّئة الّتي قد وُجدت ، فيكون الحديث قد تناول نوعي الاستعاذة من الشّرِّ المعدوم الّذي لم يوجد ، و من الشّرّ الموجود ، فطلبَ دفعَ الأوّل و رفعَ الثّاني ، و القولُ الثّاني أنّ سيّئات الأعمال هي عقوباتها و موجباتها السّيّئة الّتي تسوءُ صاحبَها ، و على هذا يكون من استعاذة الدّفع أيضًا دفعُ المسبّب ، و الأوّلُ دفعُ السّبب ، فيكون قد استعاذ من حصول الألم و أسبابه ، و على الأوّل يكون إضافة السّيّئات إلى الأعمال من باب إضافة النّوع إلى جنسه ؛ فإنّ الأعمال جنسٌ و سيّئاتها نوعٌ منها ، و على الثّاني يكونُ من باب إضافة المسبّب إلى سببه ، و المعلول إلى علّته ، كأنّه قال : من عقوبة عملي ، و القولان محتملان ، فتأمّل أيّهما أليقُ بالحديث و أولى به ؛ فإنّ مع كلّ واحدٍ منهما نوعًا من التّرجيح ، فيترجّح الأوّلُ بأنّ منشأَ الأعمال السّيّئة من شرّ النّفس ، فشرُّ النّفس يولِّد الأعمالَ السّيّئة ، فاستعاذ من صفة النّفس و من الأعمال التي تحدثُ عن تلك الصّفة ، و هذان جماع الشّرِّ وأسبابُ كلّ ألمٍ ، فمتى عوفي منها عوفي من الشّرّ بحذافيره ، و يترجّح الثّاني بأنّ سيّئات الأعمال هي العقوباتُ الّتي تسوء العاملَ ، و أسبابها شرُّ النّفس ، فاستعاذ من العقوباتِ والآلامِ و أسبابها ، والقولان في الحقيقة متلازمان والاستعاذةُ من أحدهما تستلزم الاستعاذةَ من الآخر " . ثمّ قال : " و لمّا كان الشّرّ له سببٌ هو مصدرُه ، و له موردٌ و منتهى ، و كان السّبب إمّا من ذات العبد ، و إمّا من خارجه ، و موردُه و منتهاهُ إمّا نفسه ، و إمّا غيرُه ، كان هنا أربعةُ أمورٍ:
                        شرٌّ مصدره من نفسه ، و يعود على نفسه تارةً ، و على غيره أخرى ، و شرٌّ مصدره من غيره ، و هو السّببُ فيه و يعود على نفسه تارة ، و على غيره أخرى ، جمع النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم هذه المقامات الأربعة في الدّعاء الّذي علّمه الصّديقَ أن يقوله إذا أصبح و إذا أمسى و إذا أخذ مضجعه : ( اللهمّ فاطرَ السّموات و الأرض ، عالمَ الغيب و الشّهادة ، ربَّ كلِّ شيءٍ و مليكَه أشهد أن لا إله إلاّ أنتَ ، أعوذ بك من شرّ نفسي و شرّ الشّيطان و شِركه ، و أن أقترف على نفسي سوءًا أو أجرّه إلى مسلم ) (2) ، فذكر مصدري الشّرّ و هما النّفس و الشّيطان ، و ذكر مورديه و نهايتيه ، و هما عَودُه على النّفس أو على أخيه المسلم ، فجمع الحديثُ مصادر الشّرّ و موارده في أوجز لفظٍ و أخصره و أجمعه و أبينه " .
                        و أمّا من السّنّة فقد كان النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم حريصًا على ألاّ يستبدل أصحابه رضي الله عنهم حرفًا من أدعيتهم بحرف من أدعيته ، و هم من هم ، ففي الصّحيحين عن البراء رضي الله عنه قال : قال النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم : " إِذا أتيتَ مَضجَعَكَ فتَوَضَّأْ وُضوءَكَ للصّلاةِ، ثمَّ اضْطَجِع على شِقِّكَ الأيْمَنِ، ثمَّ قُلْ : اللّهمَّ أَسْلمتُ وَجهي إِليكَ ، و فَوَّضْتُ أمري إِليكَ ، و أَلجَأتُ ظَهرِي إِليكَ ، رَغبةً و رهبةً إِليكَ ، لا مَلْجَأ و لا مَنْجى منكَ إِلاّ إِليكَ ، اللّهمَّ آمنتُ بكِتابكَ الذي أنْزَلتَ ، و بِنَبِيِّكَ الّذي أَرسلتَ ، فإِنْ متَّ مِن لَيلَتِكَ فأنتَ على الفِطْرةِ ، و اجعلهنَّ آخِرَ ما تتكلّمُ به ، قال : فردَّدْتُها على النبيِّ صلّى الله عليه و سلّم ، فلمّا بَلغتُ : اللّهمَّ آمنتُ بكتابِكَ الّذي أنزلتَ ، قلتُ : وَ رسولِكَ ، قال : لا ! و نبيِّكَ الذي أرسلتَ " .
                        و ما دمنا في باب بيان ما في الأدعية المأثورة من كمالٍ ، فإنّني أحببت أن أتحف القارئ بما في هذا الدّعاء النّبويّ من المعاني العالية و القواعد الغالية ، فقد حاول بعض أهل العلم استنباطَها ، كلٌّ بما فتح الله عليه ، منهم الحافظُ ابنُ حجرٍ في " فتح الباري " ( 11/110-112 ) ، و الكِرماني في " الكواكب الدّراري شرح صحيح البخاري " ( 3/106-109 ) ، و ابن بطّال في " شرح صحيح البخاري " ( 1/365 ) ، و أبو العبّاس أحمد القرطبي في " المفهِم لما أشكلَ من تلخيص كتاب مسلم " ( 7/37 ) ، و قد تلخّص من أقوالهم من الفوائد ما يأتي :
                        1 - في الجمع بين الوُضوء و هذا الدّعاء إشارةٌ إلى الجمع بين الطّهارتين : البدنيّة و القلبيّة ؛ فالوضوء للطّهارة البدنيّة ، و الذّكر للطّهارة القلبيّة ، بل هو خير ما تُطهَّرُ به القلوب ، قال الله تعالى : ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ ( الرّعد : 28 ) ، قال التّرمذي عقب روايته الحديث برقم ( 3574 ) : " و لا نعلم في شيءٍ من الرّوايات ذكرَ الوضوء إلاّ في هذا الحديث " ، قلت : لعلّ ذلك راجعٌ إلى هذه المناسبة اللّطيفة ، و قد أشار إلى ذلك ابنُ حجر .
                        2 – لمّا كان التّوحيدُ أفضل الذّكر فقد جمع هذا الدّعاء أصول الإيمان السّتّة ، كما نبّه عليه الكِرماني ، و هي الإيمان بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و القدر خيره و شرّه ، وهذا تفصيله المختصر :
                        - فالإيمان بالله واضحٌ من النّداء : " اللهمّ " .
                        - و الإيمان بالكتب في قوله : " آمنتُ بكتابك " .
                        - و الإيمان بالملائكة في قوله : " الّذي أنزلتَ " ؛ لأنّ الملَك هو الّذي ينزل بكلام الله كما هو معلومٌ ، قال تعالى : ﴿ وَ إِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ ( الشّعراء : 192-193 ) .
                        - و الإيمان بالرّسل في قوله : " و نبيّك الّذي أرسلتَ " ، و يظهرُ هنا فائدة عدم تبديل لفظة ( نبيّك ) بلفظة ( رسولك ) كما وقع للبراء ؛ لأنّه – زيادةً على ما قيل في التّفريق بين النّبيّ و الرّسول – فإنّ الملَك لا يدخل تحت اسم النّبيّ ، لكنّه يدخل تحت اسم الرّسول ، كما جاء في التّنزيل كثيرًا ، منه قوله تعالى : ﴿ ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( الحجّ : 75 ) ، قاله ابنُ بطّال .
                        - و الإيمان باليوم الآخر في قوله : " رغبةً و رهبةً إليك " ، فالرّغبة إلى الجنّة و الثّواب ، و الرّهبة من النّار و العقاب .
                        - و الإيمان بالقدر في قوله : " لا ملجأَ و لا منجى منك إلاّ إليك " ، نبّه على هذين الكِرماني .
                        3 – في الحديث إسلام الظّاهر والباطن لله ، أي الخلوص من الكفر و النّفاق ؛ و ذلك في قوله : " اللّهمّ أسلمتُ وجهي إليكَ " ، و في روايةٍ عند البخاري : ( 7488 ) : " اللّهمّ أسلمتُ نفسي إليك ، و وجّهتُ وجهي إليك " ، فهما على هذا جملتان ، وقد جعل بعض أهل العلم النّفس هنا على معنى الذّات ، و الوجه على معنى القصد والنيّة ؛ كما قيل :

                        أستغفرُ الله ذنبًا لستُ محصيه ..... ربَّ العباد إليه الوجهُ و العملُ

                        يقال : أيَّ وجهٍ تريد ؟ أي أيَّ وِجهةٍ تقصد ؟ و عَكَسَه بعضهم فجعل إسلام النّفس لانقياد الباطن ، وتوجيه الوجه لانقياد الظّاهر ، انظر " الفتح " في الموضع المشار إليه و " أضواء البيان " للشّيخ محمّد الأمين الشّنقيطي ( 1/420 ) ، و إن كان الخلاف هنا سهلاً ، فلعلّ القولَ الأخير هو الأقرب و قد مال إليه الكِرماني ؛ لأنّ الجملتين وردتا على سبيل التّقابل و الاقتران كما أشار إليه القرطبي ، بخلاف لو تفرّقتا ، فإنّه يأخذ كلٌّ منهما معنى الآخر ؛ على قاعدة : إذا اجتمعا افترقا ، و إذا افترقا اجتمعا و الله أعلم ، لكن يستخلص من هذه الفائدة أنّ في الدّعاء بهذين اللّفظين إيذانًا بتسليم المرء نفسَه كلّها لله ، و هذا هو معنى ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، فقد قال ابنُ تيمية في " مجموع الفتاوى " ( 10/149 ) : " العبادة اسمٌ جامعٌ لكلّ ما يحبّه الله و يرضاه من الأقوال و الأعمال الباطنة و الظّاهرة " .
                        4 – في الحديث إشارة إلى التوكّل على الله ، و للتوكّل ركنان : الحسّ و المعنى ، فتفويض الأمر المعنويّ لله في قوله : " و فوّضتُ أمري إليكَ " ، و تفويض الحسّي في قوله : " و ألجأتُ ظهري إليك " ، و خصّه بالظّهر ؛ لأنّ العادة جرت أنّ الإنسان يعتمد بظهره إلى ما يستند إليه ، ففيه معنى : اعتمدت عليك في أموري كلّها ، كما في " الفتح " ، وهذا هو معنى قوله سبحانه :﴿ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .
                        5- في الحديث أركان العبادة الثّلاثة : الرّجاء و الخوف و الحبّ ، فأمّا الرّجاء ففي قوله : "رغبةً " ، و أمّا الخوف ففي قوله : " رهبةً " ، و أمّا الحبّ ففي قوله : " لا ملجأ ولا منجى منك إلاّ إليك " ؛ فإنّه لا يُلجأ إلاّ إلى محبوبٍ ، لا سيما و أنّه لا يفرُّ مؤمنٌ من الله إلاّ إليه .
                        6 – في اشتمال هذا الذّكر على كلّ ما يجب الإيمان به ، و على إسلام الظّاهر و الباطن لله ، و تفويض الأمر الحسّّي و المعنويّ له ، تفسيرٌ لقوله صلّى الله عليه و سلّم فيه : " فإن متّ من ليلتك فأنت على الفطرة " ؛ فإنّ الفطرة هي الدّين الإسلاميّ .
                        هذا نموذجٌ حديثيٌّ من الأذكار المأثورة ، و ذاك نموذجٌ قرآنيٌّ ، فانظر إلى معانيها الشّريفة الّتي اشتملت عليها ، و لئن اجتمعت الإنس و الجنُّ على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرًا ، مع أنّ ما خفي علينا من المعاني المستنبطة و الأصول الجامعة أكثر! ولذلك أحبّ أن أنقل هنا و في هذا المعنى كلمةً للمهلّب نقلها عنه ابن بطّال في " شرح صحيح البخاري " ( 1/365 ) أنّه قال : " إنّما لم تُبدّل ألفاظه عليه السّلام ؛ لأنّها ينابيع الحكمة و جوامع الكلم ، فلو جُوِّز أن يُعبّر عن كلامه بكلام غيره سقطت فائدة النّهاية في البلاغة الّتي أُعطيها عليه السّلام " ، و قال ابنُ تيمية في " مجموع الفتاوى " ( 22/525 ) : " و من أشدّ الناس عيبًا من يتّخذ حزبًا ليس بمأثورٍ عن النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم ، و إن كان حزبًا لبعض المشايخ ، و يدع الأحزاب النّبويّة الّتي كان يقولها سيّد بني آدم و إمام الخلق و حجّة الله على عباده ! " .
                        و من أعظم فوائد هذا الحديث أنّ النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم منع البراء من أن يغيّر لفظًا واحدًا من ألفاظ دعائه هذا ، مع أنّ التّغيير كان بين لفظتين قريبتي المعنى ، فقد قال البراء : قلت : و رسولك الّذي أرسلت ، فاعترض عليه الرّسول صلّى الله عليه و سلّم و قال له : " لا ! و نبيّك الّذي أرسلت " ، فكيف يجترئ أحدٌ بعد هذا ليخترع للنّاس الأذكار ؟!!
                        و كذلك الشّأن فيما رَتَّب الشّارع الحكيم ثوابًا ما على عددٍ مخصوصٍ من الذّكر ، قال ابنُ حجَر في " الفتح " ( 2/330 ) و هو يتحدّث عن التّسبيح بعد الصّلاة : " و استُنبِط من هذا أن مراعاة العدد المخصوص في الأذكار معتبرةٌ ، و إلاّ لكان يمكن أن يُقال لهم : أضيفوا لها التّهليل ثلاثًا و ثلاثين ، وقد كان بعض العلماء يقول : إنّ الأعداد الواردة كالذّكر عقب الصّلوات إذا رُتّب عليها ثوابٌ مخصوصٌ فزاد الآتي بها على العدد المذكور لا يحصل له ذلك الثّواب المخصوص ؛ لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمةٌ وخاصّيّةٌ تفوت بمجاوزة ذلك العدد ... و قد مثّله بعض العلماء بالدّواء يكون مثلا فيه أوقِيَّة سكّر ، فلو زيد فيه أوقيّةٌ أخرى لتخلّف الانتفاع به ، فلو اقتصر على الأوقيّة في الدّواء ، ثمّ استعمل من السّكّر بعد ذلك ما شاء لم يتخلّف الانتفاع ، و يؤيّد ذلك أنّ الأذكار المتغايرة إذا ورد لكلٍّ منها عددٌ مخصوصٌ مع طلب الإتيان بجميعها متواليةً لم تحسن الزّيادة على العدد المخصوص لما في ذلك من قطع الموالاة ؛ لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حكمةٌ خاصّة تفوت بفواتها ، و الله أعلم " .
                        و قد نبّه أهل العلم على ضرورة القناعة بالألفاظ النّبويّة الواردة في الأذكار ؛ لأنّها شريعةٌ لنا و استدلّوا زيادةً على ما مضى بما رواه مسلم (2137 ) عن سمرةَ بن جُندب قال : قال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم : " أحبّ الكلام إلى الله أربعٌ : سبحان الله ، و الحمد لله ، و لا إله إلا الله ، و الله أكبر ، لا يضرّك بأيّهنَ بدأتَ " ، و موضع الشّاهد من الحديث هو قوله صلّى الله عليه وسلّم : " لا يضرّك بأيّهنَ بدأتَ " ، فدلّ بمنطوقه على التّقيّد بالكلام الّذي يحبّه الله من غير زيادةِ لفظةٍ عليه و لا نقصانٍ إلاّ ما ورد به الدّليل ؛ لأنّ الرّسول صلّى الله عليه و سلّم أخبر أنّ الله يحبّ هذه الكلمات بعينها ، و المؤمن لا يختار لنفسه غير ما اختار الله له و رسوله ؛ لأنّ الله يقول : ﴿ وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ( الأحزاب : 36 ) ، قال ابنُ كثير في تفسيرها : " فهذه الآية عامّةٌ في جميع الأمور ، و ذلك أنّه إذا حكم الله و رسوله بشيءٍ فليس لأحدٍ مخالفته ، و لا اختيارَ لأحدٍ هنا ، و لا رأيَ و لا قولَ " ، كما دلّ بمنطوقه أيضًا على أن التّقيّد بترتيب هذه الكلمات خاصّةً غيرُ مطلوب ، و دلّ بمفهومه على أن التّقيّد بترتيب الأذكار الأخرى هو الأصل الّذي جرى عليه أصحاب رسول الله صلّى الله عيه و سلّم ، و قد مرّ عنهم شيءٌ من ذلك ، و لمّا علم رسول الله صلّى الله عليه و سلّم منهم ذلك لشدّة اتّباعهم للسّنّة و وقوفهم عند حرفية اللّفظ النّبويّ ، بيّن لهم أنّ ترتيب جمل هذه الألفاظ الخاصّة بعضِها على بعضٍ ليس أمرًا مطلوبًا فاستثناه و نفى الضّرر عمّن لا يرتّبها ، الأمر الّذي يدلّ على أنّ التّقيّد بالألفاظ النّبويّة و أعدادها و ترتيبها كما جاءت هو جادّة أهل الاتّباع الّذين يرجون القبول عند الله .
                        و أمّا دعاء المرء لنفسه بما شاء من حاجاته الّتي لا تكاد تنحصر فلا شكّ في جوازه ما لم يصحبه محظورٌ شرعيٌّ ؛ لأنّ الله قال : ﴿ وَ قَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر : 60 ) ، و بشرط أن لا يجعل ما جرّبه من أدعيةٍ مخترعة سنّةً لنفسه و لا لغيره ، و لو وجد فيها صاحبُها نوعَ استجابةٍ و تأثيرٍ ؛ لأنّ التّجربة ليست من مصادر الشّريعة ، و لا يجوز أن يقال : هذا دعاءٌ مجرّبٌ بُغيةَ ترتيبه للنّاس ؛ لأنّ الله لم يأذن لأحدٍ أن يشرَع لأحدٍ بعد رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ، و قد قال : ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ منَ ٱلدينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ ( الشورى : 21 ) ، و للقاضي عياض كلمةٌ عظيمةٌ في هذا المعنى ، نقلها عنه ابنُ علاّن في " شرح الأذكار " ( 1/17 ) أنّه قال : " أذن الله في دعائه ، و علّم الدّعاء في كتابه لخليقته ، وعلّم النّبيُّ صلّى الله عليه و سلّم الدّعاء لأمّته ، و اجتمعت فيه ثلاثةُ أشياء : العلم بالتّوحيد ، و العلم باللّغة ، و النّصيحة للأمّة ، فلا ينبغي لأحدٍ أن يعدل عن دعائه صلّى الله عليه و سلّم ، و قد احتال الشّيطان للنّاس من هذا المقام ، فقيّض لهم قوم سوءٍ يخترعون لهم الأدعية ، يشتغلون بها عن الاقتداء بالنّبيّ صلّى الله عليه و سلّم ، و أشدّ ما في الإحالة أنّهم ينسبونها إلى الأنبياء و الصّالحين ، فيقولون : دعاء نوح ! دعاء يونس ! دعاء أبي بكر ! فاتّقوا الله في أنفسكم ، لا تشتغلوا من الحديث إلاّ الصّحيح " .
                        و بعدُ ، فهذه عبرةٌ للمعرضين عن الألفاظ النّبويّة ، المتوسّعين في ابتداع الأذكار و الأدعية ، المفتونين بالألفاظ البشريّة ، لا سيما ما ثُرثِرَ فيه بزخرفٍ من السّجع ، كما أنّها تحذيرٌ شديدٌ لأولئك الّذين يستغلّون جهل العوامّ وحبّهم للذّكر ليبيعوا لهم الأدعية ؛ كي تملأ لهم الأوعية ، والسّعيد من اتّبع السّنّة ، وأيقنَ أنّها خير ما تُعبّد به الإنسُ و الجِنّة ، و قد كان خيرة هذه الأمة أيقظ النّاس لاتّباع الأذكار النّبويّة كما نطق بها المصطفى صلّى الله عليه و سلّم ، فعن نافع أنّ رجلاً عطس إلى جنب ابن عمرَ ، فقال : الحمد لله و السّلام على رسول الله ، قال ابن عمر : و أنا أقول : الحمد لله و السّلام على رسول الله ، و ليس هكذا علّمَنا رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ، علّمَنا أن نقول : الحمد لله على كلّ حالٍ " رواه التّرمذيُّ ( 2738 ) ، وصحّحه الألبانيُّ فيه .
                        و أمّا كون أدعية البشر لا تسلم من النّقص ، فإنّني أمثّل له بمثالٍ ماتعٍ و مُقنعٍ ، رواه مسلم ( 2688 ) عن أنسٍ رضي الله عنه " أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عاد رجلاً من المسلمين قد خَفَتَ فصار مثل الفَرْخِ ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه و سلّم : هل كنتَ تدعو بشيءٍ أو تسألُه إيّاه ؟ قال : نعم ! كنتُ أقول : اللّهمّ ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجّله لي في الدّنيا ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه ! أفلا قلتَ : اللّهمّ آتنا في الدّنيا حسنةً و في الآخرة حسنةً ، وقِنا عذاب النّار ، قال : فدعا الله له فشفاه " .
                        فهذا صحابيٌّ كاد يُهلك نفسَه في الدّنيا حين اختار هذا الدّعاء الّذي ظاهره خيرٌ ؛ لأنّه يدلّ على الخشية من الله ، لكن من ذا الّذي يُطيق عذاب الله ؟ !فإذا كان الصّحابيّ – الذي كان مع رسول الله صلّى الله عليه و سلّم – عُرضةً للخطأ في اختيار الأدعية من عند نفسه ، فكيف بمن دونه ؟! و الله العاصم .

                        ____________________
                        (1) : أخرجه أهل السّنن ، وصحّحه الألباني في " خطبة الحاجة " .
                        (2) : أخرجه التّرمذي ( 3529 ) و الحاكم ( 1/513 ) و صحّحاه ، وانظر " السّلسلة الصّحيحة " للألباني ( 2763 ) .

                        تعليق


                        • #13
                          سورةُ النِّسَاء

                          دليلُ قولِهم : إنَّما العفوُ ما كان عن مَقدِرَةٍ




                          قال الله تعالى : ﴿ لاَ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَ كَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً . إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوۤءٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً ( النّساء : 148-149 ) .
                          في هاتين الآيتين فائدتان :
                          الأولى : أنّ الله أباح للمظلوم أن يعامل الظّالم بالعدل فينتصر منه ، لكنّه لو عفا عنه لكان هو الفضل الّذي ندب الله عباده إليه ، وهذان الأمران كثيراً ما يجتمعان في آي القرآن ، كما في قوله تعالى :﴿ وَ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ ( الشّورى : 40 ) ، و قوله : ﴿ وَ لَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ من سَبِيلٍ . إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَق أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَ لَمَن صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ ( الشّورى : 41-43 ) ، و قوله : ﴿ وَ إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصَّابِرينَ ( النّحل : 126 ) ، و هما العدل و الإحسان المذكوران في قوله تعالى في سورة النّحل ( 90 ) : ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَ ٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ ، و هما الحقّ الجائز استيفاؤه من الصّداق و العفو المندوب إليه فيه في سورة البقرة ( 237 ) في حقّ المطلّقة غير الممسوسة و المفروض لها في قوله :﴿ وَ إِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ ٱلنكَاحِ وَ أَن تَعْفُوۤاْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ، و هما الإنظار و التّصدّق المذكوران في حقّ المَدين في سورة البقرة أيضًا ( 280 ) في قوله : ﴿ وَ إِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَ أَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، و هما القصاص و التّصدّق المذكوران في سورة المائدة ( 45 ) في قوله : ﴿ وَ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَ ٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَ ٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ وَ ٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ وَ ٱلسّنَّ بِٱلسّنّ وَ ٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ .
                          الفائدة الثانية : الله ممدوحٌ بكلّ اسمِ تسمّى به ، و بكلّ صفةٍ اتّصف بها ، و ذلك على سبيل الانفراد ، فإذا قرن اسمٌ من أسمائه بآخر أو بصفةٍ من صفاته كان كمالاً في كمالٍ ، قال ابن القيّم في " تهذيب السّنن " ( 5/179 ) : " و هذا نوعٌ آخر من الثّناء عليه غير الثّناء بمفردات تلك الأوصاف العليّة ، فله سبحانه من أوصافه العلى نوعا ثناءٍ : نوعٌ متعلِّقٌ بكلّ صفةٍ على انفرادها ، و نوعٌ متعلِّقٌ باجتماعها ، و هو كمالٌ مع كمالٍ ، وهو عامَّة الكمال " ، ثمّ مَثَّل لذلك ببعض الآيات ، منها هذه الآية الّتي اخترناها من سورة النّساء ، ثمّ قال : " و هذا يُطلع ذا اللُّبِّ على رياضٍ من العلم أنيقاتٍ ، و يَفتحُ له باب محبّة الله و معرفته ، والله المستعان و عليه التُّكلان " و بيَّن رحمه الله في " جلاء الأفهام " ( 1/318 ) أنّ اجتماع هذين الاسمين : ( العفُوّ و القَدير ) من اجتماع معنى الإكرام بمعنى العظمة ؛ و ذلك لأنّ العفوَ من معاني الإكرام و الإحسان إلى الخلق ، و أمّا القدرةُ فمن معاني العظمة كما هو ظاهرٌ ، و انظر أيضاً " مدارج السّالكين " ( 1/36-37 ) .
                          و قد قرن الله هنا بين اسمه العفوّ و اسمه القدير لحكمةٍ بالغةٍ ، و هي أنّ عفو المجني عليه عن الجاني محبّبٌ شرعًا إذا كان عن مقدرةٍ ، و لم أرَ من نبّه على هذه الفائدة القرآنيّة البديعة قبل الإمام البخاري رحمه الله ، و ذلك فيما نقله عن إبراهيمَ النّخعي رحمه الله ، فقد قال في " صحيحه " ( 5/99 – مع الفتح ) : " باب الانتصار من الظّالم ؛ لقوله جلّ ذكره : ﴿ لاَ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَ كَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً ( النّساء ( 148 ) ﴿ وَ ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ( الشّورى : 39 ) ، قال إبراهيم : كانوا يكرهون أن يُستذلّوا ، فإذا قدروا عفَوْا " ، و هذا الأثر وصله سفيان في " تفسيره " ( 1/168 ) و ابن أبي حاتم في " تفسيره " كما في " تفسير ابن كثير " بسندٍ صحيح ، و انظر " تغليق التّعليق " لابن حجر ( 3/332-333 ) ، ثمّ أتبعه البخاري بقوله : " باب عفو المظلوم ؛ لقوله تعالى : ﴿ إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوۤءٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً ، ﴿ وَ جَزَآءُ سَيئَةٍ سَيئَةٌ ( الشورى : 40 ) قال ابن حجر في " الفتح " ( 5/100 ) : " أي و قوله تعالى :﴿ وَ جَزَآءُ سَيئَةٍ سَيئَةٌ مثْلُهَا إلخ ، وكأنّه يشير إلى ما أخرجه الطّبري عن السُّدِّي في قوله :﴿ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوۤءٍ : أي عن ظلمٍ ، وروى ابن أبي حاتم عن السُّدِّي في قوله : ﴿ وَ جَزَآءُ سَيئَةٍ سَيئَةٌ مثْلُهَا ، قال : إذا شتمك شتمته بمثلها من غير أن تعتدي ، ﴿ وَ جَزَآءُ سَيئَةٍ سَيئَةٌ مثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ ، وعن الحسن : رُخّص له إذا سبّه أحدٌ أن يَسُبَّه ، وفي الباب حديثٌ أخرجه أحمد و أبو داود من طريق ابن عجلانَ (1) عن سعيدٍ المقبُري عن أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه و سلّم قال لأبي بكر : ما من عبدٍ ظُلم مظلمةً فعفا عنها إلاّ أعزّ الله بها نَصْرَه (2) " .
                          و من السّنّة الصّحيحة التي جاء التّصريح فيها بما دلّت عليه آيةُ الباب ما رواه ابن حبّانَ في " صحيحه " ( 6217 ) و حسّنه الألبانيّ في " السّلسلة الصّحيحة " ( 3350 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه و سلّم أنّه قال : " سأل موسى ربّه عن ستّ خصالٍ كان يظنّ أنّها له خالصة ، و السّابعة لم يكن موسى يحبّها ، قال يا ربّ ! أيّ عبادك أتقى ؟ قال : الّذي يذكر و لا ينسى ، قال : فأيّ عبادك أهدى ؟ قال : الَّذي يتّبع الهدَى ، قال : فأيّ عبادك أحكم ؟ قال : الَّذي يحكم للنَّاس كما يحكمُ لنفسه ، قال : فأيُّ عبادك أعلم ؟ قال : عالم لا يشبع من العلم ، يجمع علم النَّاس إلى علمه ، قال : فأيُّ عبادك أعزُّ ؟ قال : الَّذي إذا قدر غفر ، قال : فأيُّ عبادك أغنى ؟ قال : الَّذي يرضى بما يؤتى ، قال : فأيُّ عبادك أفقر ؟ قال :صاحبٌ منقوصٌ ، قال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم : ليس الغنىَ عن ظهر ، إنمَّا الغنى غنى النَّفس ، و إذا أراد اللهُ بعبدٍ خيراً جعل غناه في نفسه و تُقاه في قلبه ، و إذا أراد الله بعبد شرًّا جعل فقره بين عينيه " ، و معنى " صاحبٌ منقوص " أي جشع ، مهما أعطيَ من خير لم يقنَع به ، فسّره ابن حبّان بهذا في الحديث نفسه بقوله : " يستقلُّ ما أوتيَ ، و يطلب الفضل " .
                          فإن قلتَ : كيف مدح الله الّذين ينتصرون من البغاة ، فقال : ﴿ وَ ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ، مع أنّه مدح العافين التّاركين للانتصار في غير ما آيةٍ ؟ كان توجيه ذلك بأربعة أجوبة :
                          الأوَّل : أن يكون الانتصارُ بقدر البغي لا يزيد عليه ، و قليلٌ من النَّاس من يصبر على ترك المجاوزة ، فمن أجل صبره على العدل في مبادلة الجاني جنايتَه كان المدحُ ، و لئلاََّ يحصلَ الظُّلم عند دفع المظلمة أتبعه الله ببيانه ، فقال بعد الآية : ﴿ وَ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ، أشار إليه ابن حجر في " الفتح " ( 5/99 و 100 ) و القاري في " عمدة القاري " ( 12/291 ) .
                          الثَّاني : أنّ مدحَ العفو مقرونٌ بالقدرة ، فإذا انعدمت كان الانتصار أولى ؛ لئلاَّ يجترئَ الفسَّاقُ على الصَّالحين ، كما ذكره أبو عبيدٍ في " غريب الحديث " (3 /59-60 ) ، و لأنَّ الانتصار يكون حينئذ من النَّهي عن المنكر ، فإن عفا ولم ينتصر فقد أعان على منكر ، و نقله الثَّعالبي في " الجواهر الحسان في تفسير القرآن " (4 /114 ) عن بعض العلماء .
                          الثَّالث : أنّ الانتصار المحمودُ هو ما كان من الّذين إذا أصابهم بغيُ المشركين في الدّين انتصروا عليهم بالسَّيف ، قاله القاري في " عمدة القاري "( 12/291 ) .
                          الرَّابع : أنّ الانتصار غيرُ العقوبة ؛ لأنَّه مجرَّد القدرة عليها ، فإذا أمكن الله المظلومَ من ظالمه و قدر عليه عفا عنه ، قاله ابن القيّم في " الرُّوح "( ص241-243 ) ، و ابن رجبٍ في " جامع العلوم و الحكم " (275 - 276) .
                          و الحقّ أنّه لا منافاة بين هذه الأجوبة ، و لذلك جمعها كلَّها ابن القيّم بقوله في المصدر السّابق : " و الفرق بين العفو و الذُّلّ أنّ العفو إسقاط حقّك جُوداً وكرما و إحساناً مع قدرتك على الانتقام ، فتؤثر التّرك رغبة في الإحسان و مكارم الأخلاق ، بخلاف الذُّلّ فإنّ صاحبه يترك الانتقام عجزاً و خوفاً و مهانة نفس ، فهذا مذمومٌ غير محمودٍ ، و لعلَّ المنتقمَ بالحقّ أحسنُ حالاً منه ، قال تعالى : ﴿ وَ ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (الشّورى 39) ، فمدحهم بقوّتهم على الانتصار لنفوسهم و تقاضيهم منها ذلك ، حتىَّ إذا قدروا على من بغى عليهم و تمكّنوا من استيفاء ما لهم عليه ندبهم إلى الخلق الشَّريف من العفو و الصَّفح ، فقال : ﴿ وَ جَزَآءُ سَيئَةٍ سَيئَةٌ مثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ ( الشّورى : 40 ) ، فذكر المقامات الثَّلاثة : العدلَ و أباحه ، و الفضلَ و ندب إليه ، و الظُّلمَ و حرَّمه ، فإن قيل : فكيف مدحهم على الانتصار و العفو و هما متنافيان ؟ قيل : لم يمدحهم على الاستيفاء و الانتقام ، و إنّما مدَحهم على الانتصار ، و هو القدرة و القوّة على استيفاء حقّهم ، فلمّا قدروا ندبهم إلى العفو، قال بعض السّلف في هذه الآية : كانوا يكرهون أن يستذلُّوا ، فإذا قدروا عفوا ، فمدحهم على عفو بعد قدرة ، لا على عفو ذلّ و عجز و مهانة ، وهذا هو الكمال الَّذي مدح سبحانه به نفسه في قوله : وكان الله عفوًّا قديراً (3) ، ﴿ وَ ٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( البقرة : 218 ) ، و في أثرٍ معروفٍ : حملةُ العرش أربعة : اثنان يقولان : سبحانك اللَّهمَّ ربَّنا و بحمدك ، و لك الحمد على حلمك بعد علمك ، و اثنان يقولان : سبحانك اللَّهمَّ ربَّنا و بحمدك ، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ، و لهذا قال المسيح صلوات الله و سلامه عليه : ﴿إِن تُعَذبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَ إِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ( المائدة : 118 ) أي إن غفرت لهم غفرت عن عزَّةٍ : و هي كمال القدرة ، و حكمةٍ : و هي كمال العلم ، فغفرتَ بعد أن علمت ما عملوا و أحاطت بهم قدرتك ؛ إذ المخلوق قد يغفر لعجزه عن الانتقام وجهله بحقيقة ما صدر من المسيء ، و العفو من المخلوق ظاهره ضيمٌ و ذلٌّ ، و باطنه عزٌّ و مهابةٌ ، وانتقامٌ ظاهره عزّ و باطنه ذلّ ، فما زاد الله بعفوٍ إلا عزًّا ، و لا انتقم أحدٌ لنفسه إلاَّ ذلَّ و لو لم يكن إلا بفوات عزّ العفو ، و لهذا ما انتقم رسول الله لنفسه قطُّ ، و تأمّل قوله سبحانه : ﴿ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ( الشّورى : 39 ) ، كيف يُفهَمُ منه أنَّ فيهم من القوّة ما يكونون هم بها المنتصرين لأنفسهم ، لا أنّ غيرهم هو الّذي ينصرهم ، و لمّا كان الانتصار لا تقف النّفوس فيه على حدّ العدل غالباً – بل لا بدّ من المجاوزة - شرع فيه سبحانه المماثلة و المساواة ، و حرّم الزّيادة و ندب إلى العفو ، و المقصود أنّ العفو من أخلاق النّفس المطمئنّة ، و الذلَّ من أخلاق الأمّارة ، و نكتة المسألة أنّ الانتقام شيءٌ و الانتصار شيءٌ ، فالانتصار أن ينتصر لحقّ الله و من أجله ، ولا يقوى على ذلك إلاّ من تخلّص من ذلّ حظّه و رِقِّّ هواه ، فإنّه حينئذٍ ينال حظًّا من العزّ الّذي قسم الله للمؤمنين ، فإذا بُغيَ عليه انتصر من الباغي من أجل عزّ الله الّذي أعزّه به ؛ غيرةً على ذلك العزّ أن يُستضام و يُقهر ، و حميّةً للعبد المنسوب إلى العزيز الحميد أن يُستذلّ ، فهو يقول للباغي عليه : أنا مملوكٌ من لا يُذَلّ مملوكه و لا يُحِبّ أن يُذلّه أحدٌ ، و إذا كانت نفسه الأمّارة قائمةً على أصولها لم تحبّ بعد طلبه إلاّ الانتقام و الانتصار لحظّها و ظفرها بالباغي تشفيًّا فيه و إذلالاً له ، و أمّا النّفس الّتي خرجت من ذلّ حظّها و رقّ هواها إلى عزّ توحيدها و إنابتها إلى ربّها ، فإذا نالها البغي قامت بالانتصار حميّةً و نصرةً للعزّ الّذي أعزّها الله به و نالته منه ، و هو في الحقيقة حميّةٌ لربّها و مولاها ، و قد ضُرب لذلك مثلٌ بعبدين من عبيد الغَلَّة حرّاثين ، ضرب أحدهما صاحبَه ، فعفا المضروب عن الضّارب نصحًا منه لسيّده و شفقةً على الضّارب أن يعاقبه السيّد ، فلم يجشم سيّده خلقه عقوبته و إفساده بالضّرب ، فشكر العافي على عفوه ، و وقع منه بموقعٍ ، و عبدٌ آخر قد أقامه بين يديه ، و جمّله و ألبسه ثيابًا يقف بها بين يديه ، فعمد بعض سُوَّاس الدّوابّ و أضرابهم و لطّخ تلك الثّياب بالعَذرَة أو مزّقها ، فلو عفا عمّن فعل به ذلك لم يوافق عفوُه رأيَ سيّده و لا محبّته ، وكان الانتصار أحبّ إليه و أوفق لمرضاته ؛ كأنّه يقول : إنّما فعل هذا بك جُرأةً عليّ و استخفافاً بسلطاني ، فإذا أمكنه من عقوبته فأذلّه و قهره و لم يبق إلاّ أن يَبطش به ، فذلّ و انكسر قلبه ، فإنّ سيّده يحبّ منه أن لا يعاقبه لحظةً ، و أن يأخذ منه حقّ السيّد ، فيكون انتصاره حينئذٍ لمحض حقّ سيده لا لنفسه ، كما رُوي عن عليٍّ رضي الله عنه أنّه مرّ برجلٍ فاستغاث به ، و قال : هذا منعني حقّي و لم يعطني إيّاه ، فقال : أعطه حقّه ، فلمّا جاوزهما لَجَّ الظّالم و لطَمَ صاحب الحقّ ، فاستغاث بعليٍّ ، فرجع و قال : أتاك الغوث ، فقال له : استقدمته ، فقال : قد عفوت يا أمير المؤمنين ، فضربه عليٌّ تسع دِرَر و قال : قد عفا عنك من لطمته ، و هذا حقّ السّلطان ، فعاقبه عليٌّ لمّا اجترأ على سلطان الله و لم يدعه ، و يشبه هذا قصّة الرّجل الّذي جاء إلى أبي بكرٍ رضي الله عنه ، فقال : احملني ؛ فوالله ! لأنا أفرسُ منك و من ابنك ، و عنده المغيرةُ بن شعبة ، فحسر عن ذراعه و صَكَّ بها أنفَ الرّجل فسال الدّمُ ، فجاء قومه إلى أبي بكرٍ رضي الله عنه ، فقالوا : أَقِدنا من المغيرة ، فقال : أنا أُقيدكم من وزَعَة الله (4) ؟! لا أُقيدكم منه ، فرأى أبو بكر أنّ ذلك انتصارٌ من المغيرة و حميّةٌ لله و للعزّ الّذي أعزّ به خليفةَ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ؛ ليتمكّن بذلك العزّ من حسن خلافته و إقامة دينه ، فترك قَودَه لاجترائه على عزّ الله و سلطانه الّذي أعزّ به رسوله ودينه و خليفته ، فهذا لونٌ ، والضّرب حميّةً للنّفس الأمّارة لونٌ " .
                          فيتلخّص من هذه الأجوبة أنّ العفو هو الجادّة المسلوكة الفضلى عند القدرة ، و لذلك جاء في " تفسير البغوي " ( 4/129-130 ) : " قال ابنُ زيدٍ : جعل الله المؤمنين صِنفين : صِنفٌ يعفونَ عن ظالميهم فبدأ بذكرهم ، و هو قوله : ﴿ وَ إِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ ( الشّورى : 37 ) ، و صنفٌ ينتصرون من ظالميهم ، و هم الّذين ذكروا في هذه الآية " ، ثمّ ذكر كلام إبراهيمَ النّخعي .
                          قلتُ : و كذلك ختَمَ آية الانتصار بآية العفو ، فقال : ﴿ فَمَنْ عَفَا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ ( الشّورى : 40 ) ، لكن على حدّ قول القائل :
                          إذا قيل حلمٌ قُلْ للحلم موضعٌ ..... و حلمُ الفتى في غير موضِعِه جهلُ

                          و قول الآخر :
                          كلُّ حلمٍ أتى بغير اقتدارٍ ..... حجّةٌ لاجئٌ إليها اللِّّئامُ


                          ______________________
                          (1) : في الأصل : من طريق عجلان ، وهو خطأٌ واضح من النّاسخ أو الطّابع .
                          (2) : رواه أحمد ( 2/436 ) و أبو داود ( 4896-4897 ) ، وصحّحه الألبانيّ في " السّلسلة الصّحيحة " ( 2231 ) .
                          (3) : الآية بلفظ : ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً ﴾ .
                          (4) : جمع وازع : و هو الّذي يتقدّم الصّف فيصلحه ، كما في " مختار الصّحاح " .

                          تعليق


                          • #14
                            سورةُ المائدة

                            سرُّ التّعبيرِ بالرّكوعِ وَ إرادةِ الصّلاةِ كلِّها



                            قال الله تعالى : ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُونَ ( المائدة : 55 ) .
                            معلوم ٌ أنّ الله كثيراً ما يحثّ عباده على أداء الصّلاة بذكر جزءٍ منها ، و غالباً ما ينوّه بالسّجود ، مثل قوله تعالى : ﴿ منْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ ٱللَّهِ ءانَآءَ ٱللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ ( آل عمران : 113 ) ، و قوله : ﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ منْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ( الفتح : 29 ) ، و قوله : ﴿ وَ مِنَ ٱللَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ( الإنسان : 26 ) ، و قد ذكر أهل العلم أنّ الحكمة في ذلك أنّ السّجود أقربُ حالةٍ يكون فيها العبد من ربّه ؛ لما رواه مسلم ( 482 ) عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم قال : " أقرب ما يكون العبد من ربّه و هو ساجدٌ ، فأكثروا الدّعاء " ، و قد دلّ على هذا من القرآن قوله تعالى : ﴿ كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَ ٱسْجُدْ وَ ٱقْتَرِب ( العلق : 19 ) ، فتأمّل كيف جمع بين السّبب و المسبّب ، أي بين السّجود و الاقتراب ! لكن جاء التّنويه في آية المائدة هذه بالصّلاة بذكر الرّكوع لا السّجود ، حيث قال عزّ و جلّ : ﴿ وَ هُمْ رَاكِعُونَ ، فما وجهه ؟
                            الجواب : لعلّ الحكمة في ذلك أنّ الله أراد مدح هؤلاء لا بمجرّد أداء الصّلاة ، و لكن بما يدلّ على معنىً زائدٍ على الأداء ، و هذا المعنى مضمّنٌ في كلمة الرّكوع و يكون ممّا اختصّت به هذه الكلمة ، و ممّا لا يخفى على القارئ – إن شاء الله – أنّ في الرّكوع ميزةَ إدراك الجماعة ، فمن أدرك الرّكوع مع الإمام فقد أدرك الرّكعة بخلاف السّجود ؛ فعن ابن مُغفّل قال : قال النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم : " إذا وجدتم الإمام ساجداً فاسجدوا ، أو راكعاً فاركعوا ، أو قائماً فقوموا ، و لا تعتدّوا بالسّجود إذا لم تدركوا الرّكعة " أخرجه إسحاق بن منصور المروَزي في " مسائل أحمد و إسحاق " – كما في " السّلسلة الصّحيحة " للألباني ( 1188 ) – و البيهقي ( 2/89 ) ، و صحّحه الشّيخ الألباني هناك ، فدلّ هذا السّياق القرآنيّ الكريم على التّنويه بشأن الجماعة زيادةً على التّنويه بالمحافظة على الصّلاة نفسها .
                            و آية المائدة هذه شبيهة بآية البقرة ( 43 ) الّتي يقول الله فيها : ﴿ وَ أَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَ آتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَ ٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ ، وقد نبّه عليه ابنُ تيمية في " منهاج السّنّة " ( 7/273 ) ، فقال في آية البقرة : " قيل : المرادُ به الصّلاة في الجماعة ؛ لأنّ الرّكعة لا تدرك إلاّ بإدراك الرّكوع " .
                            و تتميماً للفائدة أقول : فقد اخترع الحاقدون على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و سلّم حديثاً كذباً على رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يستنتجون منه أنّ عليًّا رضي الله عنه أحقّ بالخلافة من غيره ؛ لأنّ آية المائدة نزلت فيه زعموا ، فروَوْا أنّ سائلاً أتى يسألُ النّاسَ و هم في الصّلاة ، و كان عليٌّ رضي الله عنه راكعاً و في أصبعه خاتَمٌ ، فمدّ يده إليه ليسحبَ الخاتم من يده ، و على الرَّغم من أنّ هذه القصّة لا تحتاج إلى بيان كذبها لسخافتها و سخافة عقول مصدّقيها فضلاً عن واضعيها ، فإنّني أحببتُ أن أنقل ردّ ابنِ تيمية رحمه الله على من استدلّ بها من أولئك ؛ بُغية أن يميّز القارئُ الّذي هداه الله إلى السّنّة الفرقَ الكبير بين أهل النّور و البصيرة و أهل الظّلام و العمى ، قال ابنُ تيمية رحمه الله في " منهاج السّنة " ( 32-30/2 ) :
                            " و قد وضع بعض الكذّابين حديثاً مفترًى : أنّ هذه الآية نزلت في عليٍّ لمّا تصدّق بخاتمه في الصّلاة ، و هذا كذبٌ بإجماع أهل العلم بالنّقل وكذبه بيّنٌ من وجوهٍ كثيرةٍ :
                            - منها أنّ قوله ﴿ الّذين صيغة جمع ، و عليٌّ واحد .
                            - و منها أنّ الواو ليست واو الحال (1) ؛ إذ لو كان كذلك لكان لا يسوغ أن يُتولّى إلاّ من أعطى الزّكاة في حال الرّكوع ، فلا يُتولّى سائر الصّحابة و القرابة .
                            - و منها أنّ المدح إنّما يكون بعمل واجبٍ أو مستحبٍّ ، و إيتاء الزّكاة في نفس الصّلاة ليس واجباً و لا مستحبًّا باتّفاق علماء الملّة ؛ فإنّ في الصّلاة شُغلاً (2) .
                            - و منها أنّه لو كان إيتاؤها في الصّلاة حسناً لم يكن فرقٌ بين حال الرّكوع و غير حال الرّكوع ، بل إيتاؤها في القيام و القعود أمكَن .
                            - و منها أنّ عليًّا لم يكن عليه زكاةٌ على عهد النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم (3) .
                            - و منها أنّه لم يكن له أيضًا خاتمٌ و لا كانوا يلبسون الخواتم ، حتّى كتب النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم كتاباً إلى كسرى ، فقيل له : إنّهم لا يقبلون كتاباً إلاّ مختوماً ، فاتّخذ خاتماً من وَرِقٍ و نقش فيها : محمّدٌ رسولُ الله (4) .
                            - و منها أنّ إيتاء غير الخاتم في الّزكاة خيرٌ من إيتاء الخاتم ، فإنّ أكثر الفقهاء يقولون لا يجزئ إخراج الخاتم في الزّكاة .
                            - و منها أنّ هذا الحديث فيه أنّه أعطاه السّائل ، و المدح في الزّكاة أن يخرجها ابتداءً ويخرجَها على الفور لا ينتظر أن يسأله سائلٌ .
                            - و منها أنّ الكلام في سياق النّهي عن موالاة الكفّار والأمر بموالاة المؤمنين ،كما يدلّ عليه سياقُ الكلام ، و سيجيء - إن شاء الله - تمام الكلام على هذه الآية ؛ فإنّ الرّافضة لا يكادون يحتجّون بحجّة إلاّ كانت حجّة عليهم لا لهم ، كاحتجاجهم بهذه الآية على الوِلاية الّتي هي الإمارة ، و إنّما هي في الوَلاية التي هي ضدّ العداوة ، و الرّافضة مخالفون لها ، و الإسماعيليّة و النُّصَيريّة و نحوُهم يوالون الكفّار من اليهود و النّصارى و المشركين و المنافقين ، و يعادون المؤمنين من المهاجرين و الأنصار و الّذين اتّبعوهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين ، و هذا أمرٌ مشهورٌ فيهم ، يعادون خِيارَ عباد الله المؤمنين و يوالون اليهود و النّصارى و المشركين من التّرك و غيرهم ، و قال تعالى : ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ (
                            الأنفال : 64 ) ، أي اللهُ كافيك وكافي من اتّبعك من المؤمنين ، و الصّحابة أفضلُ من اتّبعه من المؤمنين و أوّلهُم " .
                            فانظر - أخي السّنّيّ ! – إلى ما هداك الله إليه من الحقّ المبين ، و ما في كتاب الله من بلاغةٍ تجعل العقول المتدبّرة و اقفةً أمام إعجازه متحيّرةً ، و قابلها بتلك السّخافة الّتي نجّاك الله منها ، و احمد الهادي عزّ و جلّ .

                            _____________________
                            (1) : أي في قوله تعالى : ﴿ وَ هُمْ رَاكِعُونَ﴾ .
                            (2) : عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :" كنّا نسلّم على النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم و هو في الصّلاة فيردّ علينا ، فلمّا رجعنا من عند النّجاشيّ سلّمنا عليه فلم يردّ علينا ، و قال : إنّ في الصّلاة شغلا " متّفقٌ عليه .
                            (3) : لأنّه كان فقيراً ؛ فقد قال ابن عبّاس : " لمّا تزوّج عليٌّ فاطمة قال له رسول الله صلّى الله عليه و سلّم : أعطها شيئاً ، قال : ما عندي شيءٌ ! قال : أين دِرعك الحُطميَّة ؟ " رواه أبو داود ( 2125 ) ، و صحّحه الألبانيّ فيه ، قال في " عون المعبود " ( 6/114 ) شارحاً كلمة ( الحطميّة ) : " بضمّ الحاء المهملة و فتح الطّاء المهملة منسوبة إلى الحطم ، سميّت بذلك ؛ لأنّها تحطّم السّيوف ، و قيل : منسوبة إلى بطنٍ من عبد القيس يقال له : حُطمة ابن مُحارب ، كانوا يعملون الدّروع ، كذا في النّهاية " .
                            (4) : الحديث أخرجه البخاري ( 65 ) و مسلم ( 2092 ) عن أنس بن مالكٍ قال : " لمّا أراد رسول الله صلّى الله عليه و سلّم أن يكتب إلى الرّوم ، قال : قالوا : إنّهم لا يقرؤون كتاباً إلاّ مختوماً ، قال : فاتّخذ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم خاتماً من فضّة ، كأنّي أنظر إلى بياضه في يد رسول الله صلّى الله عليه و سلّم نقشُه : ( محمّدٌ رسول الله ) " .

                            تعليق


                            • #15
                              هل جاءَ في القُرآن حكمُ الحوتِ الطَّافي ؟


                              قالَ اللهُ تعالى : ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَ طَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ ( المائدة : 96 ) .
                              جاءت السّنّة القوليّة و الفعليّة صريحةً بإباحة الحوت الّذي قذف به البحر ، أمّا القوليّة ففيما رواه أحمد ( 2/97 ) و ابن ماجه ( 3218 ) و صحّحه الألبانيّ في " السّلسلة الصّحيحة " ( 1118 ) عن ابن عمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم قال : " أُحِلَّت لنا مَيْتَتَان : الحُوتُ و الجرادُ " ، وأمّا الفعليّة ففيما رواه البخاري و مسلم عن جابر قال : " قالَ : بَعَثَنَا رَسُولُ اللّهِ صلَّى اللهُ عليه و سلَّمَ وَ أَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ نَتَلَقَّى عِيراً لِقُرَيْشٍ ، وَ زَوَّدَنَا جِرَاباً مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً ، قَالَ فَقُلْتُ (1) : كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا ؟ قَالَ : نَمَصُّهَا كَمَا يَمصُّ الصَّبِيُّ ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إلَى اللَّيْلِ ، وَ كُنَّا نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الْخَبَطَ (2) ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالْمَاءِ فَنَأْكُلُهُ ، قَالَ : وَ انْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ ، فَرُفِعَ لَنَا علَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ ، فَأَتَيْنَاهُ فَإذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَر، قَالَ : قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : مَيْتَةٌ ، ثُمَّ قَالَ : لاَ ! بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وَ سَلَّمَ وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ قَدِ اضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا ، قَالَ : فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْراً وَ نَحْنُ ثَلاَثُ مِائَةٍ حَتَّى سَمِنَّا... وَ تَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ (3) ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللّهِ صلَّى اللهُ علَيْهِ و سلَّمَ فَذَكَرْنَا ذلِكَ لَهُ ، فَقَالَ : هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللّهُ لَكُمْ ، فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا ؟ قَالَ : فَأَرْسَلْنَا إلَى رَسُولِ اللّهِ مِنْهُ فَأَكَلَهُ " ، و قد دلّ الحديث على حُكمين :
                              الأوّل : إباحة ما رمى به البحر من حيوانه .
                              الثّاني : إباحته مطلقاً دون تقييدٍ بحالة الضّرورة ؛ لأنّ الصّحابة لم يكتفوا بسدّ الرّمق منه ، بل ذكر جابرٌ أنّهم تزوّدوا منه ، كما أنّ الرّسول صلّى الله عليه و سلّم سألهم أن يطعموه منه و هو بالمدينة ، وهذا ليس طعام ضرورةٍ كما لا يخفى .
                              هذا من السّنة ، و أمّا من القرآن ، فقد استنبط ذلك من آية الباب عمر بن الخطّاب و أبو هريرة و غيرهما ، روى ابن جريرٍ في " جامع البيان في تأويل آي القرآن " ( 8/726- هجر ) بسندٍ حسنٍ عن أبي هريرة قال : " كنتُ بالبحرين ، فسألوني عمّا قَذَفَ البحرُ ، قال فأفتيتُهُم أن يأكلوا ، فلمّا قدمتُ على عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ذكرت ذلك له ، فقال لي : بما أفتيتَهُم ؟ قال : قلت : أفتيتُهُم أن يأكلوا ، قال : لو أفتيتَهُم بغير ذلك لعلوْتُكَ بالدِّرَّة ، قال : ثمّ قال : إنّ الله تعالى قال في كتابه : ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَ طَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ ، فصيده ما صِيد منه ، و طعامه ما قذف " .
                              و قد ذهب بعض أهل العلم إلى أنّ الطّعام المنصوص عليه في الآية هو الصّيد البحريّ المُمَلَّح ، و ردّه ابن جرير و اختار القول الأوّل ، و علّله بتعليلٍ بلاغيٍّ قويّ ، فقال ( 8/734 ) : " و أولى هذه الأقوال بالصّواب عندنا قول من قال ﴿ طَعَامُهُ : ما قذفه البحر أو حَسَر عنه فوُجد ميتا على ساحله ؛ و ذلك أنّ الله تعالى ذكره ذكر قبله صيد البحرالّذي يصاد ، فقال : ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ ، فالّذي يجب أن يُعطف عليه في المفهوم ما لم يُصد منه ، فيقال : أُحلّ لكم ما صدتموه من البحر و ما لم تصيدوه منه ، وأمّا المليح فإنّه ما كان منه مُلِّح بعد الاصطياد فقد دخل في جملة قوله : ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ ، فلا وجه لتكريره ؛ إذ لا فائدة فيه ، و قد أعلمَ عبادَه تعالى ذكره إحلاله ما صِيد من البحر بقوله : ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ ، فلا فائدة أن يقال لهم بعد ذلك : و مليحه الّذي صيد حلالٌ لكم ؛ لأنّ ما صيد منه ، فقد بيّن تحليله طريًّا كان أو مليحاً بقوله : ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ ، و الله يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم فائدةً " .
                              و أمّا الحكم الثّاني الّذي هو الإباحة مطلقاً ، فإنّه مستخلصٌ من قوله تعالى : ﴿ مَتَاعاً لَّكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ ، و المقصود من السّيّارة : السّائرون في أسفارهم ، فقد جعل الله صيد البحر بشِقَّيه السّابقَيْن حلالاً للجميع : الحاضرين منهم و المسافرين ، فلم يقيّده بأهل الضّرورة كما هو ظاهر الآية ، و هذا هو مذهب جمهور الفقهاء ، و الله أعلم .

                              _____________________
                              (1) : السّائل هنا هو أبو الزّبير ، الرّاوي عن جابر .
                              (2) : الخبْطُ هو ضرب الشّجر بالعصا ليتناثر ورقها ، و اسم الورق السّاقطِ الخَبَطُ ، بالتّحريك ، فَعَلٌ بمعنى مَفْعول ( اللّسان : مادّة خبط )
                              (3) : مفرده وَشيقُ و وَشِيقة : وهو لحمٌ يُغْلى في ماءٍ ثمّ يُرْفع ، و قيل: هو أَن يُغلى إغْلاءةً ثمّ يرفع ، وقيل: يُقَدَّدُ و يحُمل في الأسفار و هي أَبْقَى قديدٍ يكون . ( اللّسان : مادّة : وشق ) . [ الهوامش كلّها منّي ؛ أبو حاتم ] .

                              تعليق

                              يعمل...
                              X