إعـــــــلان

تقليص
1 من 4 < >

تحميل التطبيق الرسمي لموسوعة الآجري

2 من 4 < >

الإبلاغ عن مشكلة في المنتدى

تساعدنا البلاغات الواردة من الأعضاء على منتدى الآجري في تحديد المشكلات وإصلاحها في حالة توقف شيء ما عن العمل بشكل صحيح.
ونحن نقدّر الوقت الذي تستغرقه لتزويدنا بالمعلومات عبر مراسلتنا على بريد الموقع ajurryadmin@gmail.com
3 من 4 < >

فهرسة جميع الشروح المتوفرة على شبكة الإمام الآجري [مبوبة على حسب الفنون] أدخل يا طالب العلم وانهل من مكتبتك العلمية

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه - وعلى آله ومن ولاه وبعد :

فرغبة منا في تيسير العلم واشاعته بين طلابه سعينا لتوفير جميع المتون وشروحها المهمة لتكوين طلبة العلم ، وقد قطعنا شوطا لابأس به في ذلك ولله الحمد والمنة وحده ، إلا أنه إلى الآن يعاني بعض الأعضاء والزوار من بعض الصعوبات في الوصول للشروح والمتون المرادة لتداخل الشروح أو لقلة الخبرة التقنية .

من أجل هذا وذاك جاء هذا الموضوع ليكون موضوعا مرجعا جامعا مرتبا بإذن الله لكل المواد العلمية الموضوعة حاليا في شبكتنا ومرتبا على حسب أبواب الفنون العلمية (العقيدة، الفقه، الحديث،...)وسنحاول أيضا ترتيبها على مستويات الطلب (المبتدئ ، المتوسط ، المنتهي) سيتم تحديثه تبعا بعد إضافة أي شرح جديد .

من هـــــــــــنا
4 من 4 < >

تم مراقبة منبر المسائل المنهجية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

تعلم إدارة شبكة الإمام الآجري جميع الأعضاء الكرام أنه قد تمت مراقبة منبر المسائل المنهجية - أي أن المواضيع الخاصة بهذا المنبر لن تظهر إلا بعد موافقة الإدارة عليها - بخلاف بقية المنابر ، وهذا حتى إشعار آخر .

وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه .

عن إدارة شبكة الإمام الآجري
15 رمضان 1432 هـ
شاهد أكثر
شاهد أقل

مهام و واجبات شرعية منوطة بأهل الحق حال الفتن

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مهام و واجبات شرعية منوطة بأهل الحق حال الفتن

    بسم الله الرحمن الرحيم

    مهام و واجبات شرعية منوطة بأهل الحق حال الفتن

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد ,

    يقول الأزهري رحمه الله في تهذيب اللغة :
    (فتن) وأصلها مأخوذ من قولك فَتَنْتُ الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار ليتميز الرديء من الجيد .
    وقال ابن الأنباري: قولهم فَتَنَتْ فلانة فلانا، قال بعضهم: أمالته عن القصد والفتينة معناها في كلامهم المميلة عن الحق والقضاء .
    وقد جعل الله جل وعز امتحان عبيده المؤمنين ليبلو صبرهم فيُثيبهم، أو جزعهم على ما ابتلاهم فيجزيهم جزاءهم فتنة، قال الله جل وعز { الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ }.اهـ

    ويقول ابن فارس رحمه الله في مقاييس اللغة :
    (فتن) الفاء والتاء والنون أصلٌ صحيح يدلُّ على ابتلاء واختبار. من ذلك الفِتْنة.
    والفَتَّان: الشَّيطان.
    وقال الخليل: الفَتْن: الإحراق. وشيءٌ فتين: أي مُحْرَق.اهـ

    فمما تقدم يُعلم أن الفتنة تأتي بعدة معاني بعضها تؤول إلى الخير كابتلاء الصالحين واختبار إيمانهم وتمحيص صبرهم عند الفتن رفعاً لدرجاتهم في الآخرة , وأخرى تؤول إلى معاني شريرة ومآلها حسرة وندامة كالفتينة والفتان والفتين أعاذنا الله من شر هذه الثلاث وأمثالها ما ظهر منها وما بطن.

    والفتن عاقبتها التفرق والاختلاف , وأهم أسبابها الظلم والجهل والذنوب كما يصف لنا شيخ الإسلام في وصف دقيق ذلك ,
    فيقول رحمه الله [1] : " فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت آخرون عن الأمر والنهي, فيكون ذلك من ذنوبهم, وينكر عليهم آخرون انكاراً منهياً عنه فيكون ذلك من ذنوبهم, فيحصل التفرق والاختلاف والشر وهذا من أعظم الفتن والشرور قديماً وحديثاً, إذ الإنسان ظلومٌ جهولٌ والظلم والجهل أنواع, فيكون ظلم الأول وجهله من نوع وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من نوع آخر وآخر , ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك, ورأى أن ما وقع بين أُمراء الأمة وعلمائها ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشايخها ومن تبعهم من العامة من الفتن : هذا أصلها ".اهـ

    والفتن بين من يُظهر نصرة الحق من أهل الدين لا تكون فتناً إلا إذا كانت مشتبهة , لا يعرف غالب الخَلق فيها المحق من المبطل, بل يلتبس فيها الحق بالباطل عند كلا الطائفتين المتنازعتين كل بحسبها .

    فأولى الطائفتين بالحق غالباً ما يشوب الحق الذي معها شيئاً من الباطل وإن قل , وكذلك الطائفة الباغية غالباً ما يختلط باطلها بشيءٍ من الحق دون أن يطغى على الباطل الذي معها.

    ولولا ذلك لما ساغ إطلاق اسم الفتنة عليها , لأن الباطل المحض مردود عند عقلاء الناس فضلاً عن علمائهم وعُبّادهم المتجردين عن إتباع الهوى والخالين من الأغراض الدنيوية .

    لذلك فأكثر الفتن تشتبه على عامة الناس, بل وعلى كثير من الخاصة فتجد العاقل المتحرز لدينه يتوقف حتى يتبين له الحق , وأما الجاهل فهو من يستشرفها فتجرفه إلى وداي سحيق ولا ينجيه إلا اللطيف الخبير , ففي هذه الحالة يكون التوقف هو الواجب على من اشتبه عليه أمر الفتنة لاسيما إذا ضَعُفَ إدراكه عن معرفة المحق من المبطل منهما , أو كان له نوع هوى لأحد الطائفتين.

    وما أحسن ما خرجه الدينوري[2] في المجالسة وجواهر العلم بإسناده عن الأصمعي قال : قال بزرجمهر الحكيم : إذا اشتبه عليك أمران فلم تدر في أيهما الصواب فانظر أقربهما إلى هواك فاجتنبه.

    يقول الطبري رحمه الله مبيناً إحدى الحالات التي يجب فيها اعتزال الفتنة[3]:
    " أن يكون أحد الفريقين مخطئًا والآخر مصيبًا، وأمرهما مشكل على كثير من الناس لا يعرفون المحق فيها من المبطل، فمن أشكل عليه أمرهما فواجب عليه اعتزال الفريقين ولزوم المنازل حتى يتضح له الحق ويتبين المحق منهما، وتنكشف عنه الشبهة فيلزمه من معونة أهل الحق ما لزم أهل البصائر ".اهـ

    ولا يعني ذلك خذلان صاحب الحق , فالحق منصور وعاقبة أهله الظهور على المفتنين وأهل الفتين والفتينة , إن صبر أصحابه وعذروا غيرهم من إخوانهم المتوقفين أو المتأولين بالحق وللحق.

    ومن هنا يغلط بعض المتحمسين ممن وقفوا على حقيقة الفتنة وأسبابها وعرفوا أولى الطائفتين بالحق وقاموا بنصرتها , فيصفون إخوانهم المتوقفين والمتأولين بالتخاذل وعدم النصرة للحق وأهله وهذا من البغي والظن السيئ في إخوانهم.

    فلا يلزم من وضوح الحق لك أن يتضح لغيرك وإن كان في ظنك أنه من المعلوم من الدين بالضرورة.

    يقول شيخ الإسلام في الإستقامة[4]:
    " وقول القائل إن الضروريات يجب اشتراك العقلاء فيها خطأ بل الضروريات كالنظريات تارة يشتركون فيها وتارة يختص بها من جعل له قوة على إدراكها ".اهـ

    فصاحب الحق يجب عليه الصبر على مخالفة إخوانه له وتحمل الأذى في ذلك , ولا يجوز له الاعتقاد فيهم بخذلان أو مخالفة متعمدة , أو أنهم يعلمون الحق وهم عنه ساكتون , ما لم يكونوا مدانين بذلك يقيناً لا ظناً .

    فالفتنة قُدرّت في حقه لهذا الأمر والذي هو امتحان صبره وجلده في السير على ما توجبه الشريعة , فإن قابل البغي ببغي مضاد فيصبح وغيره سواء بل ربما يأثم وغيره يُعذر بالتأويل والتحرز.

    ولا يعني ذلك السكوت عن الباطل والتوقف في كل فتنة , والتزام موقف محايد لا إلى هولاء ولا إلى هولاء خصوصاً من أهل النظر والبصيرة القادرين على وأد الفتنة في مهدها وإلا لفسدت الدنيا.

    قال الطبري رحمه الله [5]: " الفتنة فى كلام العرب الابتلاء والاختبار ، فقد يكون ذلك بالشدّة والرخاء والطاعة والمعصية، وكان حقًا على المسلمين إقامة الحق ونصرة أهله ، وإنكار المنكر والأخذ على أيدي أهله .... ولو كان الواجب فى كل اختلاف يكون بين الفريقين من المسلمين الهرب منه ولزوم المنازل وكسر السيوف ؛ لما أقيم لله تعالى حق ولا أبطل باطل ، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلاً إلى استحلال كل ما حرّم الله عليهم من أموال المسلمين ونسائهم ، وسفك دمائهم بأن يتحزبوا عليهم ويكف المسلمون أيديهم عنهم بأن يقولوا هذه فتنة قد نهينا عن القتال فيها ، وأمرنا بكفّ الأيدى والهرب منها ".اهـ مع الاختصار

    وهذا موضع دقيق ولا يحسنه إلا أهل البصيرة من أهل العلم والفضل الذين يعرفون الفتنة وهي مقبلة ويضعونها في موضعها اللائق بها, إما بدفعها من بدايتها أو بتخفيف آثارها عند استفحالها " فالناس حازمان وعاجز , فأحد الحازمين الذي إذا نزل به البلاء لم يبطر وتلقاه بحيلته ورأيه حتى يخرج منه , وأحزم منه العارف بالأمر إذا أقبل فيدفعه قبل وقوعه , لأن العاقل يرى الفتنة وهي مقبلة والأحمق يراها وهي مدبرة , والعاجز في تردد وتثنٍ حائر بائر لا يعرف رشداً ولا يطيع مرشداً " [6] .

    ولصاحب الحق الحازم الذي يزن الأمور بميزان الكتاب والسنة أكبر العبرة والعظة في قصة أبي جندل رضي الله عنه وحال النبي صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه الكرام من جهة صبر صاحب الحق على الإبتلاء والإمتحان وإدارة الأمور بما فيه خير للإسلام والمسلمين وإن كان في ظاهر ذلك شر وبلاء لا تحتمله النفوس الأبيّة إلا بالصبر.

    قال الإمام البخاري في جامعه الصحيح :
    58- كتاب الجزية والموادعة :
    18- باب[7] :
    (3181) : حدّثنا عَبدانُ أخبرنا أبو حمزةَ قال: سمعتُ الأعمشَ قال: «سألت أبا وائل: شهدتَ صِفِّين؟ قال: نعم، فسمعتُ سهلَ بنَ حُنَيفٍ يقول: اتَّهِموا رأيَكم، رأيتُني يومَ أبي جَنْدَلَ ولو أستَطيعُ أن أردَّ أمرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لرَدَدْتهُ، وما وَضَعنا أسيافَنا على عواتقنا لأمرٍ يُفظِعُنا إلا أسهَلْنَ بنا إلى أمرٍ نَعرِفهُ غيرِ أمرِنا هذا».

    (3182) : حدّثنا عبدُ اللهِ بن محمدٍ حدَّثَنا يحيى بن آدمَ حدَّثنا يزيدُ بن عبدِ العزيز عن أبيهِ حدَّثنا حبيبُ بن أبي ثابتٍ قال: حدَّثني أبو وائلٍ قال: «كنا بصفِّين، فقام سهلُ بنُ حُنَيفٍ فقال: أيها الناس اتهموا أنفُسَكم، فإنا كنا معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يومَ الحدَيبيةِ ولو نرَى قِتالاً لقاتَلْنا، فجاءَ عمرُ بن الخطابِ فقال: يا رسولَ اللهِ ألَسْنا على الحقِّ وهم على الباطل؟ فقال: بَلى. فقال: أليس قَتلانا في الجنة وقَتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: فعلام نُعطي الدَّنيةَ في ديننا؟ أنرجعُ لما يَحكم اللهُ بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابنَ الخطابِ إني رسولُ اللهِ، ولن يُضيعني الله أبداً. فانطلق عمرُ إلى أبي بكر فقال له مثلَ ما قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه رسولُ الله، ولن يُضيعَه اللهُ أبداً. فنزلَت سورة الفتح، فقرأها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على عمرَ إلى آخرها، فقال عمرُ: يا رسولَ اللهِ أوَفتحٌ هو؟ قال: نعم».

    (3183) : حدّثنا قُتَيبةُ بن سعيدٍ حدَّثنا حاتمُ بن إسماعيلَ عن هشامِ بنِ عُروةَ عن أبيه عن أسماءَ بنت أبي بكر رضيَ اللهُ عنهما قالت: « قَدمتْ عليَّ أمي وهي مُشركةٌ في عهد قريشٍ إذ عاهدُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومُدَّتهم مع أبيها، فاستفْتَت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسولَ اللهِ إنَّ أمي قدِمَتْ عليَّ وهيَ راغبة، أفأصِلُها؟ قال: " نعم، صليها "».

    وقد بيّن ابن بطال رحمه الله مقصود البخاري من ايراده لأحاديث هذا الباب أحسن بيان.

    فقال ابن بطال رحمه الله [8]:
    وغرض البخارى فى هذا الباب: أن يعرفك أن الصبر على المفاتن، والصلة للمقاطع أقطع للفتنة وأحمد عاقبة، فكأنه قال: باب الصبر على أذى المفاتنين وعاقبة الصابرين.اهـ

    وبيان ذلك أن البخاري رحمه الله أورد حديثي الأعمش وحبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل عن سهل بن حنيف رضي الله عنه وفيهما الحث على ترك الآراء والصبر على أذى الفتنة والمفاتنين وأن عاقبة ذلك خيرٌ كثير, ثم أورد رحمه الله حديث أسماء رضي الله عنها وقدوم أمها عليها وهي رافضة للإسلام وما في ذلك من الفتنة لها رضي الله عنها فأمرت بالصبر والصلة .

    قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقاً على قول سهل رضي الله عنه[9] :
    " وإنما قال سهل بن حنيف لأهل صفين ما قال لما ظهر من أصحاب علي كراهية التحكيم فأعلمهم بما جرى يوم الحديبية من كراهة أكثر الناس للصلح ، ومع ذلك فأعقب خيراً كثيراً وظهر أن رأي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلح أتم وأحمد من رأيهم في المناجزة ".اهـ

    وهذه الحادثة وأمثالها من أعظم العظات والعبر لأولى الطائفتين بالحق في الفتن , لما فيها من حث على التريث والصبر والرضا بما يقدره الله , مما في ظاهره مخالفة خاصة الخاصة لصاحب الحق وإرغامه على الخضوع , لما يراه خنوع ورضا بالدنية في الدين وهو يرى نفسه على الحق المستبين!!

    ومن فوائد قصة الحديبية أن يعلم صاحب الحق في أي فتنة تقوم بين المسلمين , بأن ليس له أن يعلن النكير على كل عالم أو طائفة لم يأخذوا بقوله أو يسيروا في نصرته بمجرد وقوع البغي عليه من المبطل الباغي , بل الواجب في حقه الصبر والكف عن دفع البغي الواقع عليه إن كان في دفعه حصول فتنة أكبر بين المسلمين.

    يقول شيخ الإسلام رحمه الله[10]: " وكل ما أوجب فتنة وفُرْقَة فليس من الدين سواء كان قولاً أو فعلاً , ولكن المُصيب العادل عليه أن يصبر عن الفتنة , ويصبر على جهل الجَهُول وظلمه إن كان غير متأول , وأما إن كان ذاك أيضاً متأولاً فخطؤه مغفور له , وهو فيما يصيب به من أذى بقوله أو فعله له أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور له , وذلك محنة وابتلاء في حق ذلك المظلوم , فإذا صبر على ذلك واتقى الله كانت العاقبة له كما قال تعالى { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } ".اهـ

    فالشريعة مبناها على دفع المفاسد أو تقليلها وذلك بالتزام أدناهما ثم تحصيل المصالح وتكميلها , مع الحذر والحيطة من اعتبار المصالح الملغاة والمفاسد المتوهمة , لذلك فكل ما يحصل به ضرر عام على الدين كحصول الفتن بين أهل الدعوة الواحدة وافتتان الجهال بها وحصول الشقاق والإختلاف فيها, فالمشروع فيه الصبر على كل ضرر يقع ببعض أفراد الدعوة وإن كانوا محقين لتحصيل المنفعة العامة للمسلمين والعاقبة حتماً للمتقين.

    وهذا الإبتلاء والإمتحان الواقع على أولى الطائفتين بالحق في الفتنة , إنما وقع بسبب بعض ذنوبها ولا ريب , إما من جهة صاحب الحق أو من بعض أنصاره قال تعالى { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى: 30]

    يقول شيخ الإسلام رحمه الله[11]: " ولا تقع فتنة إلا من ترك ما أمر الله به , فإنه سبحانه أمر بالحق وأمر بالصبر , فالفتنة إما من ترك الحق وإما من ترك الصبر .
    [فالمظلوم المحق الذي لا يَقصُر في علمه يؤمر بالصبر فإذا لم يصبر فقد ترك المأمور][12], وإن كان مجتهداً في معرفة الحق ولم يصبر فليس هذا بوجه الحق مطلقاً, لكن هذا وجه نوع حق فيما أصابه فينبغي أن يصبر عليه , وإن كان مقصراً في معرفة الحق فصارت ثلاثة ذنوب أنه لم يجتهد في معرفة الحق وأنه لم يصبه وأنه لم يصبر ".اهـ

    وقال رحمه الله في موضع آخر[13]: " عامة الفتن التي وقعت من أعظم أسبابها قلةُ الصبر إذ الفتنة لها سببان : إمّا ضعف العلم ، وإمّا ضعف الصبر ، فإنّ الجهل والظلم أصل الشر ، وفاعل الشر إنما يفعله لجهله بأنّه شر ، ولكون نفسه تريده ، فبالعلم يزول الجهل ، وبالصبر يُحبسُ الهوى والشهوة ، فتزول الفتنة ".اهـ

    نعلم من هذا بأن المحق لا يؤتى إلا من قبل نفسه أو أنصاره , وذلك بأن المحق العادل لم يدخل هذه الفتنة إلا طلباً لنصرة الدين وتقديم المنافع للمسلمين ببيان الفساد والبغاة المفسدين للدين والدنيا , فإن سار في هذا هو وأنصاره على ما توجبه الشريعة , ولم يقابلوا البغي ببغي مثله أو أكثر منه , وجبت لهم الكرامة واندحار أهل العناد والملامة , وتحلق حولهم محبو الحق في كل مكان.

    ولا يكون ذلك إلا بمجاهدة النفس وإنتفاء الحظوظ الشخصية لها , والتي تلبس لباس التأويل في الغالب عند المحق العادل وأنصاره , فإن معهم نفوس وشياطين كما مع غيرهم , ولا تُدفع إلا بإرغامها على الحق , وذلك بإظهار العدل والرغبة في الإجتماع ونبذ الإفتراق ظاهراً وباطناً , وبالتغاضي عن الحقوق الخاصة , والعمل على هدم كل ما يحول بين الطائفة المنصورة وإجتماع كلمتها.

    يقول شيخ الإسلام رحمه الله [14]: " والشجاعة ليست هي قوة البدن , وقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب , وانما هي قوة القلب وثباته..... , ولهذا كان القوي الشديد , هو الذي يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يصلح دون ما لا يصلح , فأما المغلوب حين غضبه فليس هو بشجاع ولا شديد , وقد تقدم أن جماع ذلك هو الصبر فإنه لا بد منه.
    والصبر صبران صبر عند الغضب وصبر عند المصيبة , كما قال الحسن رحمه الله " ما تجرع عبد جرعة أعظم من جرعة حلم عند الغضب وجرعة صبر عند المصيبة " , وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم وهذا هو الشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم ".اهـ باختصار

    ويتبين شيء من هذا المعنى في قوله تعالى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الحجرات:9]
    فأمر سبحانه بالإصلاح أولاً ثم مقاتلة الباغية حتى تفيء ثم مصالحتها , فدل ذلك بأن قتال الفئة الباغية إنما شُرع لفتح طريق العودة لها وإرجاعها للصلح بل وبالعدل والقسط وإن كانت باغية ومعتدية على غيرها من المؤمنين.

    وفي هذه الآية عبرة للمتجردين للحق المعرضين عن حظوظ النفس ونزغات الشياطين , كيف لا وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما[15] أنها نزلت بعد أن قال عبد الله بن أبي المنافق لرسول الله عليه الصلاة والسلام : " إليك عني فوالله لقد آذاني ريح حمارك , فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك , قال : فغضب لعبد الله رجل من قومه , قال: فغضب لكل واحد منهما أصحابه , قال : وكان بينهم ضرب بالجريد وبالأيدي والنعال فبلغنا أنها نزلت فيهم { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } ".

    فهذا نبينا عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي وهو صاحب الحق المطلق والمعتدَى عليه من ذاك المنافق ومع ذلك أُمر بالإصلاح والحكم بالقسط والعدل لمن هو في الدرك الأسفل من النار ولكنه كان يظهر الإسلام واغتر بعض المؤمنين بفتنته تلك ؟!

    فالهدف من الفتنة - والقتال من أعظم الفتن - إقامة الحق وفتح الطريق لإرجاع البغاة له , وليس التشفي والإنتصار للنفس وحظوظها , وهذا معلوم لأهل العلم والفضل , وإن كان يخفى على بعض أنصارهم والذكرى تنفع المؤمنين.

    فكثير ممن ضحك عليهم الشيطان وأوقعهم في الفتن , تبقى عندهم نابتة خير لأن الإيمان يزيد وينقص , فإن وجد إعانة وطريقاً للرجوع للجادة رجع , وإن وجد التعيير والصد والمحاربة تأبى نفسه الأمّارة بالسوء الخضوع فتظل في غيها , إلا شديدي الإيمان فهم في سيبل العودة للجادة وللجماعة يتحملون الضيم ويشربون العلقم وكأنه عذبٌ زلال ، ولا يصغون بأسماعهم لجهالات بعض المنتسبين لأهل الحق الصادّين لأمثال هولاء عن الرجوع للجماعة , بعدم قبولهم الأسباب والمعاذير , فكم من مفتون باغي تأتيه سويعات ندمٍ وتوبةٍ صادقة وتوبخه نفسه اللوّامة للرجوع عن غيه , ولكنه لا يجد طريقاً يرجع منه , والله المستعان .

    ومن أعظم الأسباب التي تؤدي إلى استفحال الفتنة واشتباه أمرها على الصادقين من أهل العلم والفضل , مما يؤدى بهم ربما إلى نصرة المبطل الباغي في أول الأمر , وجود بعض البغي أو التأويل أو قلة العلم من بعض أفراد أولى الطائفتين بالحق .

    ويظهر ذلك منهم في عدم التفريق بين الباغي صاحب الهوى , والباغي المتأول , ومن يُعذر , ومن لا يُعذر , ومن يُهجر , ومن لا يُهجر , وكل ذلك بسبب التأويل المؤدي لضعف الرأي أو الجزع المؤدي لترك الصبر.

    يقول شيخ الإسلام في وصف دقيق لهذا الحال[16]:
    " وقد يكون – المحق - مصيباً فيما عرفه من الحق فيما يتعلق بنفسه , ولم يكن مصيباً في معرفة حكم الله في غيره , وذلك بأن يكون قد علم الحق في أصل يختلف فيه بسماع وخبر أو بقياس ونظر أو بمعرفة وبصر , ويظن مع ذلك أن ذلك الغير التارك للإقرار بذلك الحق عاص أو فاسق أو كافر , ولا يكون الأمر كذلك لأن ذلك الغير يكون مجتهداً قد استفرغ وسعه ولا يقدر على معرفة الأول لعدم المقتضي ووجود المانع.
    وأمور القلوب لها أسباب كثيرة ولا يعرف كل أحد حال غيره المؤذِي له بقول أو فعل , فقد يحسب المؤذَي إذا كان مظلوماً لا ريب فيه أن ذلك المؤذِي محض باغ عليه , ويحسب أنه يدفع ظلمه بكل ممكن ويكون مخطئاً في هذين الأصلين , إذ قد يكون المؤذِي متأولاً مخطئاً, وإن كان ظالماً لا تأويل له فلا يحل دفع ظلمه بما فيه فتنة بين الأمة , وبما فيه شر أعظم من ظلمه , بل يؤمر المظلوم ها هنا بالصبر فإن ذلك في حقه محنة وفتنة .
    وإنما يقع المظلوم في هذا لجزعه وضعف صبره أو لقلة علمه وضعف رأيه , فإنه قد يحسب أن القتال ونحوه من الفتن يدفع الظلم عنه , ولا يعلم أنه يضاعف الشر كما هو الواقع , وقد يكون جزعه يمنعه من الصبر والله سبحانه وصف الأئمة بالصبر واليقين فقال { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } ".اهـ

    لذلك فالإمامة في الدين ومقتضاها من لزوم الحق والتمسك به مقرونة بالصبر واليقين , وصاحب الحق المظلوم في الفتن لن يصفو له ذلك الحق ولن يتعبد الله بالدفاع عنه على وجهٍ صحيح , إلا بالصبر على الأذى واليقين بوعد الله والخطام بشريعة الرحمن , فإن الشيطان الفتّان لن يزال ولا يزال يزين الأفعال والأقوال للمظلوم في الفتنة حتى يجتاله عن الحق الذي هو عليه , ليخلطه ببعض الباطل فتصبح الموالاة والمعادة على حقٍ مشوب بباطل , فتفسد العبادة ويغدو الحق باطلاً والباطل حقاً ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    يقول شيخ الإسلام رحمه الله[17]: " إن العبادات التي يتعبد العباد بها اذا كانت مما شرعة الله وأمر الله به ورسوله كانت حقاً صواباً موافقاً لما بعث الله به رسله , وما لم يكن كذلك من القسمين كان من الباطل والبدع المضلة والجهل , وان كان يسمِّيه من يسمِّيه علوماً ومعقولات وعبادات ومجاهدات وأذواقاً ومقامات..... , ومن هنا يتبيَّن لك ما وقع فيه كثير من أهل العلم والمقال , وأهل العبادة والحال , وأهل الحرب والقتال , من لبس الحق بالباطل في كثير من الأصول , فكثيراً ما يقول هؤلاء من الأقوال , ما هو خلاف الكتاب والسنة أو ما يتضمن خلاف السنة ووفاقها , وكثيراً ما يتعبد هؤلاء بعبادات لم يأمر الله بها , بل قد نهى عنها أو ما يتضمن مشروعاً ومحظوراً , وكثيراً ما يقاتل هؤلاء قتالاً مخالفاً للقتال المأمور به أو متضمناً لمأمورٍ به ومحظور , ثم كل من الأقسام الثلاثة المأمور به والمحظور والمشتمل على الأمرين , قد يكون لصاحبه نية حسنة وقد يكون متبعاً لهواه وقد يجتمع له هذا وهذا ".اهـ باختصار

    ومما تقدم يُعلم خطر الفتن ودقة أمرها وتشابك مسالكها على من رام السلامة من آثامها , فلا يسلم من آثامها إلا النزر اليسير السائرون على القواعد والأصول التي لا يقف عندها الكثير بل ربما أنكروها فضلاً عن أن يعملوا بها , وإن عملوا بها أنزلوها غير منزلتها , إلا المتقين أهل الديانة والتقى العالمين العاملين .

    يقول شيخ الإسلام رحمه الله[18]: " وكثير من الناس قد يرى تعارض الشريعة في ذلك , فيرى أن الأمر والنهي لا يقوم إلا بفتنة , فإما أن يؤمر بهما جميعاً أو ينهى عنهما جميعاً وليس كذلك , بل يؤمر وينهى ويصبر عن الفتنة كما قال تعالى { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } وقال عبادة : " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ", فأمرهم بالطاعة ونهاهم عن منازعة الأمر أهله وأمرهم بالقيام بالحق , ولأجل ما يظن من تعارض هذين تعرض الحيرة في ذلك لطوائف من الناس , والحائر الذي لا يدري - ما يفعل إما - لعدم ظهور الحق وتمييز المفعول من المتروك , وإما لخفاء الحق عليه أو لخفاء ما يناسب هواه عليه ".اهـ مختصراً

    وقال رحمه الله في موطن آخر[19]: " وليُعلم أن اشتراط هذه الخصال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يوجب صعوبته على كثير من النفوس , فيظن أنه بذلك يسقط عنه , فيدعه وذلك قد يضره أكثر مما يضره الأمر بدون هذه الخصال أو أقل.

    فإن ترك الأمر الواجب معصية , وفعل ما نُهي عنه في الأمر معصية , فالمنتقل من معصية الى معصية أكبر منها كالمستجير من الرمضاء بالنار , والمنتقل من معصية إلى معصية كالمتنقل من دين باطل الى دين باطل , قد يكون الثاني شراً من الاول , وقد يكون دونه وقد يكونان سواء , فهكذا تجد المقصر في الأمر والنهي والمعتدي فيه قد يكون ذنب هذا أعظم , وقد يكون ذنب ذاك أعظم وقد يكونان سواء ".اهـ

    وقد يقول قائل إن الله جل وعز قد أباح للمظلوم أن ينتصر لنفسه ويرفع الظلم عنها ؟

    يجيب شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا بقوله[20]:
    " إن المظلوم وإن كان مأذوناً له في دفع الظلم عنه بقوله تعالى { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } [الشورى:41].
    فذلك مشروط بشرطين :
    أحدهما : القدرة على ذلك.
    والثاني : ألا يعتدي.
    فإذا كان عاجزاً, أو كان الانتصار يفضى إلى عدوان زائد, لم يجز.
    وهذا هو أصل النهي عن الفتنة, فكان إنما إذا كان المنتصر عاجزاً, وانتصاره فيه عدوان, فهذا هذا ".اهـ

    ولهذا استثنى الشارع الحكيم بعض الصور التي ليس للمظلوم أن ينتصر لنفسه فيها , كانتصار من ينشأ عن انتصاره ظلم أكبر من الظلم الواقع عليه , فلا يجوز حينئذٍ تغيير ذلك الظلم إلى ما هو أكبر منه , ومثاله ظلم ولاة الأمور , و ظلم ذوي الأرحام , وكل ظلم تنشأ عند دفعه فتن ومحن بين أهل الدين , لاسيما إن كانت مفسدته الأولى قاصرة على بعض الأفراد دون كل الجماعة.

    يقول ابن القيم رحمه الله[21]:
    " إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله , فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله , فإنه لا يسوغ إنكاره , وان كان الله يبغضه ويمقت أهله , وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم , فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر..... , ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار , رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطُلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه , فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها , فإنكار المنكر أربع درجات :
    الأولى : أن يزول ويخلفه ضده .
    الثانية : أن يقل وإن لم يزل بجملته .
    الثالثة : أن يخلفه ما هو مثله .
    الرابعة : أن يخلفه ما هو شر منه .
    فالدرجتان الأوليان مشروعتان والثالثة موضع اجتهاد والرابعة محرمة ".اهـ مختصراً

    ولما تقدم يجب على صاحب الحق المظلوم أن يتبصر بأحوال مناصريه , فهو إن عُرف بالعلم والحلم فلن يؤتى إلا من قِبْلِهم , فهو يجب أن يكون على يقين بأن لهم أحوال ثلاثة : فمنهم المشارك لموافقة الفتنة لما يهواه , ومنهم القائم بالحق والقسط , ومنهم من يخلط الحق بالباطل .

    قال شيخ الإسلام رحمه الله[22]: " والناس هنا ثلاثة أقسام :
    1- قوم لا يقومون إلا في أهواء نفوسهم فلا يرضون إلا بما يعطونه , ولا يغضبون إلا لما يُحرَمُونه , فإذا أُعطى أحدهم ما يشتهيه من الشهوات الحلال أو الحرام زال غضبه وحصل رضاه , وصار الأمر الذي كان عنده منكراً - ينهى عنه ويعاقب عليه ويذم صاحبه ويغضب عليه - مرضياً عنده , وصار فاعلاً له وشريكاً فيه ومعاوناً عليه ومعادياً لمن ينهى عنه وينكر عليه , وهذا غالب في بني آدم , يرى الإنسان ويسمع من ذلك ما لا يحصيه إلا الله , وسببه أن الإنسان ظلوم جهول فلذلك لا يعدل.

    2- وقوم يقومون [قومة][23] ديانة صحيحة , يكونون في ذلك مخلصين لله , مصلحين فيما عملوه , ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما أوذوا , فهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات , وهم من خير أُمة أُخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله.

    3- وقوم يجتمع فيهم هذا وهذا , وهم غالب المؤمنين , فمن فيه دين وله شهوة تجتمع في قلوبهم إرادة الطاعة وإرادة المعصية , وربما غلب هذا تارة وهذا تارة ".اهـ مع الاختصار.

    تأمل رحمك الله هذا التقسيم من شيخ الإسلام , ودقّق في وصفه للفئات الثلاث , فالأولى نسبها إلى غالب بني آدم , والثالثة سماها غالب المؤمنين , والثانية هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم العلماء العاملون ومن في حكمهم , وهم أقل من القليل في هذا الزمان وخصوصاً في الفتن , وهم الذين يُعوّل على خبرهم في هذا الباب.

    ولهذا التباين في حال المشاركين في الفتن , فلا تخلو فيها الأحكام من شائبة لكثرة الكذب وقلة الصدق , فإن وجد الصادق فلا نأمن عليه الضعف من جهة التحمل , إما بوهم أو غلط فيما يرويه , فإن سَلِمَ منهما فلا يسلم من جهة الراوية بالمعنى , وكثيراً ما يحيل رواة الفتن معاني منقولاتهم فتصل للحاكم بغير الصورة الحقيقية لها بل ربما حُرفت.

    والتثبت من المنقول سنة سنها الراشدان أبوبكر وعمر رضي الله عنهما , وهي في حال الفتن أوكد لأمور تقدم بعضها , ومنها قلة مشاركة أهل الورع والدين الضابطين لمنقولاتهم في الفتن , مع العكس بمشاركة أضدادهم من الأحداث والجهال المتهورين , وكذلك تربص الفتّان اللعين وأعوانه الشياطين بالمنقول لتحريفه أو الزيادة فيه أو النقصان ليشعل بها النيران.

    قال الغزالي رحمه الله في المستصفى[24] :
    " وأما خبر أبي موسى في الاستئذان فقد كان محتاجا إليه ليدفع به – أبو موسى رضي الله عنه - سياسة عمر عن نفسه , لما انصرف عن بابه بعد أن قرع ثلاثاً كالمترفع عن المثول ببابه , فخاف – عمر رضي الله عنه - أن يصير ذلك طريقاً لغيره إلى أن يروي الحديث على حسب غرضه , بدليل أنه – يعني أبو موسى رضي الله عنه - لما رجع مع أبي سعيد الخدري وشهد له , قال عمر : إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه و سلم , فيجوز للإمام التوقف مع انتفاء التهمة لمثل هذه المصلحة " .اهـ

    ولا تعارض بين التثبت وقبول خبر الثقة فكلاهما دين جاءت به الشريعة , ولا عبرة بمن يستخفي في أحدهما لضرب الأصل الآخر , والمحك هو في ثبوت الوصف بالثقة , فإن شاب ذلك الوصف شائبة لزم التثبت , وإن ثبت الوصف بيقين كان التثبت مستحباً إذا احتيج إليه , فقد تثبت الفاروق من أبي موسى المرضي عنه من فوق سبع سماوات فكيف بغيره ممن يعيش في عصرنا عصر الفتن , لاسيما وقد حُرف معنى الثقة اليوم فأصبح يطلق على كل من ظاهره السلفية دون التحقق من عدالته وضبطه.

    أخرج الخطيب حديثين في الكفاية[25] أحدهما بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه قال : " أما بعد فانى أريد أن أقول مقالة قد قدر أن أقولها لا أدرى لعلها بين يدي أجلي فمن وعاها وعقلها وحفظها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته ومن خشي أن لا يعيها فإني لا أحل لأحد أن يكذب عليَّ " .

    قال السخاوي رحمه الله [26]:
    " ولذا استدل بهما الخطيب في الكفاية على وجوب التثبت في الرواية حال الأداء وأن يروي ما لا يرتاب في حفظه ويتوقف عما عارضه الشك فيه ".اهـ

    انظر رحمك الله عظيم استنباط الائمة حتى أوجبوا التثبت في الرواية وذلك من قول الفاروق رضي الله عنه الذي سمى من لا يعي ولا يحفظ ولا يعقل عنه مقالته كاذباً حال تأديته لها على هذا الوصف !!

    واعلم أن التثبت فرع عن الأناة والتي هي صفة يُغبط عليها كل مؤمن , لمحبة الله جل وعز لها كما جاء به الخبر أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم- قال للأشج أشج عبد القيس : " إن فيك لخلتين يحبهما الله الحلم والأناة " .[27]

    قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله [28]:
    " ومن أهم الآداب التي يجب أن يتحلى بها طالب العلم التثبت فيما ينقل من الأخبار , والتثبت فيما يصدر من الأحكام ، فالأخبار إذا نقلت فلابد أن تتثبت أولاً هل صحت عمن نقلت إليه أو لا ؟ ثم إذا صحت فتثبت في الحكم , ربما يكون الحكم الذي سمعته مبنياً على أصل تجهله أنت ، فتحكم أنه خطأ ، والواقع أنه ليس بخطأ .
    أيضاً التثبت أمر مهم ؛ لأن الناقلين تارة تكون لهم نوايا سيئة ، ينقلون ما يشوه سمعة المنقول عنه قصداً وعمداً ، وتارة لا يكون عندهم نوايا سيئة , ولكنهم يفهمون الشيء على خلاف معناه الذي أريد به ، ولهذا يجب التثبت ". اهـ مختصراً

    ومن المعلوم أن الله جل وعز قد أمر بالتثبت من خبر الفاسق كما في قوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }[الحجرات:6] , ولكن لا يعني ذلك حصر التثبت في خبر الفاسق فقط , حيث أن رواية ما يختص بالدين لا تقبل إلا من طريق ثقة عدل ضابط , والسلامة من الفسق لا تستلزم ثبوت العدالة فضلا عن الضبط , فإن كان الأصل في المسلمين السلامة , فالأصل في نقلة الأخبار التي تخص الدين الجهالة حتى تثُبت عدالتهم , ومن تدبر هذه الآية ذاتها وجد فيها دليلاً بدلالة الإشارة , على أن كل مخبر يؤدي خبره إلى وقوع التعدي والظلم بجهالة على بعض الأفراد , أوجب ذلك القدح في عدالة ذلكم المخبر إن لم تسقط , ولا يستبعد من أن يكون فاسقاً !!

    قال شيخ الإسلام رحمه الله[29]:
    " وقوله : { أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } فجعل المحذور هو الإصابة لقوم بلا علم، فمتى أصيبوا بعلم زال المحذور، وهذا هو المناط الذى دل عليه القرآن، كما قال : { إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }[الزخرف:86] وقال { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ }[الإسراء:36]. وأيضًا، فإنه علل ذلك بخوف الندم، والندم إنما يحصل على عقوبة البرىء من الذنب ، كما فى سنن أبى داود ( ادرؤوا الحدود بالشبهات ، فإن الإمام أن يخطئ فى العفو خير من أن يخطئ فى العقوبة ) ، فإذا دار الأمر بين أن يخطئ فيعاقب بريئًا ، أو يخطئ فيعفو عن مذنب ،كان هذا الخطأ خير الخطأين , أما إذا حصل عنده علم أنه لم يعاقب إلا مذنبًا فإنه لا يندم ، ولا يكون فيه خطأ،والله أعلم ".اهـ

    قال العلامة المعلمي رحمه الله مبيناً أهمية الرواية وخطرها[30]:
    " إن الضرر الذي يترتب على الكذب في الرواية , أشد جداً من الضرر الذي يترتب على شهادة الزور فينبغي أن يكون الاحتياط للرواية آكد.
    إن الرواية يختص لها قوم ، محصورون ينشأون على العلم والدين والتحرز عن الكذب ".اهـ

    وقال رحمه الله [31]: " فأما الكذب في رواية ما يتعلق بالدين ولو غير الحديث فلا خفاء في سقوط صاحبه , وهكذا الإخبار عن الرجل بما يقتضي جرحه , وهكذا الكذب في الجرح والتعديل كقوله (( هو ثقة )) (( هو ضعيف )) , فالكذب في هذه الأبواب في معنى الكذب في الحديث النبوي أو قريب منه , وتترتب عليه مضار شديدة ومفاسد عظيمة , فلا يتوهم محل للتسامح فيه على فرض أن بعضهم تسامح في بعض ما يقع في حديث الناس ".اهـ

    ولا يلزم من ذلك رد كل خبر يأتي به من نظن صدقه , ولكن يتحرى عن ذلكم الخبر بحسب عواقبه , ولا يقال بوجوب الوقوف على حقيقة قطعية لما يُخبر عنه , فينفذ من هذا القول المفتونون فيردون أخبار الثقات لئلا تسقطهم وتكشف زيغهم وانحرافهم.

    لكن قد عُلم بالنقل والعقل بأن الثقة لا يُسلَم من وهمه وغلطه , والعصمة محصورة في الأنبياء والرسل , فما جاء به الثقة مقبول , إلا أن تدل قرينة على غلطه أو وهمه , فإن دلت القرينة على ذلك رددنا الخبر وبقي المُخبِر على عدالته , إلا أن يتكرر منه ذلك فيُقدح في عدالته.

    قال العلامة المعلمي رحمه الله[32]: " ليس من الكذب ما يكون الخبر ظاهراً في خلاف الواقع , محتملاً للواقع احتمالاً قريباً , وهناك قرينة تدافع ذاك الظهور , بحيث إذا تدبر السامع , صار الخبر عنده محتملاً للمعنيين على السواء , كالمجمل الذي له ظاهر ووقت العمل به لم يجيء ".اهـ

    إذن هذا النوع من الأخبار لا يوجب قبولاً ولا رداً , ولذلك لا يجوز بناء الأحكام العظام على أمثال هذه الأخبار المحتملة والمشكوك في موافقتها للواقع , وإن كان الخبر قريباً من الحقيقة أو أن النفس تقطع به لقرائن أخرى.

    فقد جاء في الصحيحين عن نبينا صلى الله عليه وسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنه قال: " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وأقضي له على نحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ فإنما أقطع له قطعة من النار " .

    قال النووي رحمه الله[33]:
    " قوله ( إنما أنا بشر ) معناه التنبيه على حالة البشرية وأن البشر لا يعلمون من الغيب وبواطن الأمور شيئا إلا أن يطلعهم الله تعالى على شيء من ذلك وأنه يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز عليهم وأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر والله يتولى السرائر فيحكم بالبينة وباليمين ونحو ذلك من أحكام الظاهر مع إمكان كونه في الباطن خلاف ذلك ولكنه إنما كلف الحكم بالظاهر ".اهـ

    ففي هذا الحديث دليل على أن الحكم يكون للظاهر وإن خالف الباطن الظاهر , ولا يكفي أن يقال أنا أخبر بما يدل على باطنه أو عندي من العلم ما أقطع به , إلا أن يستطيع إثباته بالحجة والبرهان لا بالتخرص والأوهام , فهذه الشريعة المحمدية ربما حكمت للظالم على المظلوم لبيان هذا الأصل العظيم.

    فمن توهم أن الالتزام بهذه الأحكام سيؤدي لظهور الباطل على الحق والبغي على العدل , فإيمانه مدخول ولازم كلامه فيه الويل والثبور ونعوذ بالله الحكيم الغفور.

    فاعلم يا هذا أن الباطل مآله إلى السفور , وما يلبث إلا أن يثور فيبور , أو يبقى في الصدور مكبوتاً مدحوراً , ولله عاقبة الأمور .

    وأخيراً أقول لأهل الحق حال الفتن مهلاً مهلاً ....
    فإنكم لم تقوموا فيها إلا للحق وبالحق , فلا تجتالكم النفس الأمّارة بالسوء وأعوانها , وقليلو البضاعة في العلم والتقى , وبعض الجهال , عما أنتم عليه من حقٍ صراح وليكن لسان حالكم :

    إن المَلا قد بَغوا علينا *** إِذا أَرادوا فتنةً أبينا أبيْنا.

    وختاماً يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , بحسب إظهار السنة والشريعة , والنهي عن البدعة والضلالة , بحسب الإمكان , كما دل على وجوب ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة , وبما توجبه شريعة الرحمن , والله أعلم .وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .

    انتهت الرسالة
    وجمعها : أبو طارق علي بن عمر النهدي
    فرغ منها في السادس والعشرين من شهر ربيع الثاني لعام تسعة وعشرين واربعمائه والف للهجرة .



    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] مجموع الفتاوى(28/142-143).

    [2]المجالسة وجواهر العلم (2/5 برقم (1406) ط دار الكتب العلمية.

    [3] انظر شرح ابن بطال – كتاب الفتن – باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم.

    [4] الاستقامة (ص51 ط دار الفضيلة).

    [5] انظر شرح ابن بطال – كتاب الفتن – باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم.

    [6] ما بين " فالناس حازمان.......مرشداً " كلام لبعض الحكماء خرّجه الدينوري في المجالسة وجواهر العلم برقم (1405).

    [7] لم يترجم البخاري لهذا الباب ولكن انظر غير مأمور بيان ابن بطال السديد الآتي في مراد البخاري من هذا الباب فقد أجاد رحمه الله البيان.

    [8] شرح ابن بطال - كتاب الجزية والموداعة – باب 18.

    [9] فتح الباري (6/33 ط دار السلام.

    [10] الاستقامة (ص56 ط دار الفضيلة).

    [11] الاستقامة (ص57 ط دار الفضيلة).

    [12] العبارة التي بين المعترضتين سقطت من ط دار الفضيلة وهي مثبته في الطبعة القديمة التي طبعت عام1403هـ.

    [13] الفروع لابن مفلح (10/181) .

    [14] مجموع الفتاوى(28/158-159)

    [15] صحيح البخاري(2691) وصحيح مسلم(1799) وخرجه الإمام أحمد في المسند (12607) و(13292) ط الرسالة.

    [16] الاستقامة (ص57 ط دار الفضيلة).

    [17] مجموع الفتاوى(28/172-173).

    [18] الاستقامة (ص58 ط دار الفضيلة).

    [19] الاستقامة (ص466 ط دار الفضيلة).

    [20] الاستقامة (ص58 ط دار الفضيلة).

    [21] إعلام الموقعين (4/38-39) ط دار ابن الجوزي.

    [22] مجموع الفتاوى(28/147-14.

    [23] سقط ...انظر الاستقامة (ص476).

    [24] المستصفى في علم الأصول ص123 ط دار الكتب العلمية.

    [25] الكفاية (1/486-489) ط مكتبة ابن عباس.

    [26] فتح المغيث (2/19 ط دار الكتب العلمية.

    [27] أخرجه الإمام أحمد في (المسند 11191) والبُخَارِي في (الأدب المفرد 975) و(خلق أفعال العباد 2 و(أبو داود 5225) وانظر (صحيح سنن أبوداود 5225) للشيخ الألباني رحمه الله.

    [28] كتاب العلم ص50-52.

    [29] مجموع الفتاوى (15/307-30.

    [30] انظر التنكيل (1/33-35) ط المعارف بتحقيق العلامة الألباني رحمه الله.

    [31] المصدر السابق .

    [32] التنكيل (1/35) .

    [33] المنهاج شرح صحيح مسلم – كتاب الأقضية – باب وجوب الحكم بشاهد ويمين.






    التعديل الأخير تم بواسطة أبو عبيدة أحمد الحمال; الساعة 06-Mar-2010, 01:01 PM.

  • #2
    حمل من هنا بصيغة pdf

    تعليق

    يعمل...
    X