إعـــــــلان

تقليص
1 من 3 < >

تحميل التطبيق الرسمي لموسوعة الآجري

2 من 3 < >

الإبلاغ عن مشكلة في المنتدى

تساعدنا البلاغات الواردة من الأعضاء على منتدى الآجري في تحديد المشكلات وإصلاحها في حالة توقف شيء ما عن العمل بشكل صحيح.
ونحن نقدّر الوقت الذي تستغرقه لتزويدنا بالمعلومات عبر مراسلتنا على بريد الموقع ajurryadmin@gmail.com
3 من 3 < >

فهرسة جميع الشروح المتوفرة على شبكة الإمام الآجري [مبوبة على حسب الفنون] أدخل يا طالب العلم وانهل من مكتبتك العلمية

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه - وعلى آله ومن ولاه وبعد :

فرغبة منا في تيسير العلم واشاعته بين طلابه سعينا لتوفير جميع المتون وشروحها المهمة لتكوين طلبة العلم ، وقد قطعنا شوطا لابأس به في ذلك ولله الحمد والمنة وحده ، إلا أنه إلى الآن يعاني بعض الأعضاء والزوار من بعض الصعوبات في الوصول للشروح والمتون المرادة لتداخل الشروح أو لقلة الخبرة التقنية .

من أجل هذا وذاك جاء هذا الموضوع ليكون موضوعا مرجعا جامعا مرتبا بإذن الله لكل المواد العلمية الموضوعة حاليا في شبكتنا ومرتبا على حسب أبواب الفنون العلمية (العقيدة، الفقه، الحديث،...)وسنحاول أيضا ترتيبها على مستويات الطلب (المبتدئ ، المتوسط ، المنتهي) سيتم تحديثه تبعا بعد إضافة أي شرح جديد .

من هـــــــــــنا
شاهد أكثر
شاهد أقل

إرشادُ العابدِ السَّاجِد إلى بعضِ أحكامِ وآدابِ المساجِد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • [سلسلة] إرشادُ العابدِ السَّاجِد إلى بعضِ أحكامِ وآدابِ المساجِد

    بسم الله الرحمن الرحيم


    إرشادُ العابدِ السَّاجِد إلى بعضِ أحكامِ وآدابِ المساجِد






    بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه:
    أما بعد:

    فلا يخفى على كلِّ عاقلٍ لبيب، ما لبيوتِ الله من الفضلِ والمزية، التي خصَّها بها ربُّ البريَّة، و لا يجهل كل مسلم أمين ما ينبغي لها من التعظيم والتشريف والتكريم.

    فتعظيم المساجد من تعظيم الله، ومن تعظيم شعائره، وقد رغَّب الله-سبحانه- وحث على تعظيم شعائره فقال: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، وقد ذمّ الله-عزّ وجلّ- ولام من لم يُعظّمه حقّ تعظيمه فقال: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13]، أي: لا تخافون لله عظمةً، أو لا تعظِّمون الله حقَّ عظمته 1.
    هذه المساجدُ التي أهملت-في الأزمنة المتأخرة- ماديا ومعنويا إلا قليلا، بيوتُ الله أصبحت-في الغالب- خاليةً من عُمَّارها، في حين أنَّ لها دورا كبيرا في إخراج الأمة الإسلامية مما تعانيه، ولا أدلَّ على هذا من أنَّ أوَّل عمل قام به نبيُّنا-صلى الله عليه وسلم- حين وصوله المدينة هو بناء المسجد، لتكونَ الانطلاقةُ منه، ويكونَ الخروجُ من الغربة بوساطته، ونحن اليوم في زمن الغربة الثانية التي أخبرنا عنها الصادق المصدوق-صلى الله عليه وسلم-، فقد روى مسلم(145) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم-: (( بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ))، فإذا أردنا الخلاص والنجاة مما حلَّ بنا، علينا أن نعيد للمساجد هيبتها، وأن نرجع لبيوت الله أدوارها.
    وقد اختصت بيوت الله بأحكامٍ كثيرةٍ تميِّزُها عن سائر البيوت، وبآدابٍ عديدةٍ تخصُّها عن غيرها من الأماكن، فلا بدّ حينها أن يعلم العابدُ السّاجدُ آدابَ وأحكامَ الْمساجد، فهي مواطن العبادة، ومواضع الذّكر، لأنَّ معرفة هذه الأحكام والآداب، تزيدُ المؤمنَ تعظيماً لحرمتها، ومعرفةً بمكانتها، ولعلَّ الأحكام كلّها يمكن أن تدرج تحت حكم عظيم ألا وهو: ( وجوبُ عمارتِها ورفعِها )
    يقول العلامة السعدي-رحمه الله- في تفسيره(63): (فلا أعظم إيمانا ممن سعى في عمارة المساجد بالعمارة الحسية والمعنوية، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}[التوبة:18]. بل قد أمر الله تعالى برفع بيوته وتعظيمها وتكريمها، فقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}[النور: 36] وللمساجد أحكام كثيرة، يرجع حاصلها إلى مضمون هذه الآيات الكريمة).
    قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن(
    4/27): (عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ تَكُونُ بِمَعْنَيَيْنِ:
    أَحَدُهُمَا: زِيَارَتُهُ، وَالْكَوْنُ فِيهِ.
    وَالْآخَرُ: بِبِنَائِهِ وَتَجْدِيدِ مَا اسْتَرَمَّ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ: اعْتَمَرَ إذَا زَارَ، وَمِنْهُ الْعُمْرَةُ لِأَنَّهَا زِيَارَةُ الْبَيْتِ، وَفُلَانٌ مِنْ عَمَّارِ الْمَسَاجِدِ إذَا كَانَ كَثِيرَ الْمُضِيِّ إلَيْهَا وَالسُّكُونِ فِيهَا، وَفُلَانٌ يَعْمُرُ مَجْلِسَ فُلَانٍ إذَا أَكْثَرَ غَشَيَانَهُ لَهُ، فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ مَنْعَ الْكُفَّارِ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ، وَمِنْ بِنَائِهَا وَتُوَلِّي مَصَالِحِهَا وَالْقِيَامِ بِهَا لِانْتِظَامِ اللَّفْظِ لِلْأَمْرَيْنِ).
    وكما أن عمارة المسجد نوعان-كما مر-، فقد ذكر أهل العلم أن رفعها كذلك على نوعين:
    قال العلامة السّعدي-رحمه الله- في تفسيره(569) عند قوله تعالى: {أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}: (هذان مجموع أحكام المساجد، فيدخل في رفعها، بناؤها، وكنسها، وتنظيفها من النجاسة والأذى، وصونها من المجانين والصبيان الذين لا يتحرزون عن النجاسة، وعن الكافر، وأن تصان عن اللغو فيها، ورفع الأصوات بغير ذكر الله.
    {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} يدخل في ذلك الصلاة كلها، فرضها، ونفلها، وقراءة القرآن، والتسبيح، والتهليل، وغيره من أنواع الذكر، وتعلم العلم وتعليمه، والمذاكرة فيها، والاعتكاف، وغير ذلك من العبادات التي تفعل في المساجد، ولهذا كانت عمارة المساجد على قسمين:
    - عمارة بنيان، وصيانة لها.
    - وعمارة بذكر اسم الله، من الصلاة وغيرها، وهذا أشرف القسمين).
    فمن هذا المنطلق أردت أن أشرع ابتداءً في بيان أهمِّ أحكام المساجد المتعلقة بالنَّوع الأول سواء ما يتعلق:
    أولا: ببنائها وترميمها.
    ثانيا: بتنظيفها وتنزيهها.
    ففي الأول أتكلم عن ما ورد في السنة الصحيحة من فضائل عظيمة لمن بنى المساجد، أو شارك في ذلك، وكذا عن المخالفات التي تفعل أثناء بناء المساجد، كبنائها على القبور، أو زخرفتها، وغير ذلك.
    وفي الثاني أتكلم عن ما ثبت في السنة من الترغيب في تنظيف المساجد وتطهيرها، وكذا عن المنهيات التي يرتكبها مرتادوا وزوار بيوت الله فيها، كدخولها برائحة البصل أو الثوم، أو نشد الضالة فيها، وغير ذلك.
    ولكن قبل الشروع في المذكور يحسن أن أقدم بمقدمتين مهمتين وهما:
    - المقدمة الأولَى: تعريف المسجد لغة وشرعا.
    - المقدمة الثانية: مكانة المسجد في الإسلام ووجوه تعظيمه عند ربّ الأنام.
    مع العلم أن الكلام عن هذه الأمور يطول لذا سيكون عرضنا لهذا المباحث عبر حلقات -يسر الله تمامها- وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول مستعينا بالله العظيم.


    الوقفة الأولَى: تعريف المسجِد


    لغة: المسجِد بالكسر اسم مكان من (سجد، يسجُد) والمصدر منه (سجود)، وكان القياس أن يقال فيه (مسجَد) بالفتح، لأنَّ القاعدة أن اسم المكان من الثلاثي المجرد المضموم العين في المضارع يكون على وزن (مفعَل) بفتح العين، نحو: (مكتَب، ومعبَر) 2، إلاَّ أنه شذ عن القاعدة فقيل فيه (مسجِد) بالكسر 3، أما (مسجَد) بالفتح فيقصدون به-في الغالب -4 اسم لآلة السُّجود، وهي الأعضاء السَّبعة، وقد يقصدون به موضع سجود الأعضاء.

    قال الخليل في كتاب العين(6/49): (و"المسجِدُ" اسمٌ جامِعٌ يجمَعُ المسجِدَ[أي: حيث يُسجَد]5 وحيث لا يُسْجَدُ بعدَ أن يكونَ اتُّخذَ لذلكَ، فأمّا "المَسْجَدُ" من الأرض فموضِعُ السُّجود نفسُه).
    وقال الجوهري في الصحاح(2/47): (والمسجد بالفتح: جبهة الرجل حيث يصيبه أَثر السجود. والآراب السبعة مساجد).
    وقد قيل في تفسير قوله تعالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ}[الجن: 18] أنها تحتمل الأمرين6 ، وذلك إذا علمنا أن لفظ (مساجد) يجوز أن تكون جمعا لـ(مسجِد) بالكسر، كما يجوز أن تكون جمعا لـ(مسجَد) بالفتح.
    هذا والسُّجود في اللُّغة المقصود به الانحناء والخضوع 7، ولا شيءَ أدل على الخضوع من وضع الجبهة على الأرض ولذلك أطلق عليه.
    ولما كان السجود أشرف أفعال الصلاة، لقرب العبد من ربه، اشتق منه اسم المكان للموضع الذي بني للصلاة فيه، فقيل: (مسجد)، ولم يقولوا: (مركع) مثلا أو غيره مما يشتق من أفعال الصلاة 8.
    شرعاً: الأصل فيه كل موضع من الأرض يمكن أن يعبد الله فيه ويسجد له 9، لقوله-صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ))[ البخاري(427)، ومسلم(522)].
    وهذا من خصائص هذه الأمة، فقد روى البخاري(32، ومسلم(521)عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ-رضي الله عنه-أَنَّ النَّبِيَّ-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- قَالَ: ((أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً)).
    وخالف في القول بهذه الخصوصية الداودي، وابن التين، حيث قالا: إن الْمُرَاد جُعِلَتْ لِي الْأَرْض مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَجُعِلَتْ لِغَيْرِي مَسْجِدًا، وَلَمْ تُجْعَل لَهُ طَهُورًا.[فتح الباري (1/437)].
    وفسِّرت هذه الخصوصية بتفسيرين متقاربين:
    التفسير الأول: قالوا: إِنَّمَا أُبِيحَتْ الصلاة لغير هذه الأمة فِي مَوْضِع يَتَيَقَّنُونَ طَهَارَته، بِخِلَافِ هَذِهِ الْأُمَّة فَأُبِيحَ لَهَا فِي جَمِيع الْأَرْض إِلَّا فِيمَا تَيَقَّنُوا نَجَاسَته.
    قال القاضي عياض في إكمال المعلم(2/437): (إن من كان قبله من الأنبياء كانوا لا يصلون إلا فيما أيقنوا طهارته من الأرض، وخص نبينا وأمته بجواز الصلاة على الأرض إلا ما تيقنت نجاسته منها).
    التفسير الثانِي: قالوا: إنَّ مَنْ قَبْله إِنَّمَا أُبِيحَتْ لَهُمْ الصَّلَوَات فِي أَمَاكِن مَخْصُوصَة كَالْبِيَعِ وَالصَّوَامِع، إلا عند الخوف فيصلون في بيوتهم، بخلاف هذه الأمة.
    قال البغوي في شرح السنة (13/197): (أراد أن أهل الكتاب ما أبيحت لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، وأباح الله -عز وجل- لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا، تخفيفا عليهم وتيسيرا).
    قال القرطبي: (وهذا مما خص به دون الأنبياء، فنحن بحمد الله نصلي في المساجد والبيوت، وحيث أدركتنا الصلاة، وكان من دينهم أنهم لا يصلون إلا في البيع والكنائس ما داموا على أمن، فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا في بيوتهم)
    [ تفسير القرطبي(8/372). بتصرف].
    قال الحافظ ابن حجر في الفتح(1/437)-بعد ذكره للخلاف-: (وَالْأَظْهَر مَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ: وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَبْله إِنَّمَا أُبِيحَتْ لَهُمْ الصَّلَوَات فِي أَمَاكِن مَخْصُوصَة كَالْبِيَعِ وَالصَّوَامِع، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة عَمْرو بْن شُعَيْب بِلَفْظِ: ((وَكَانَ مَنْ قَبْلِي إِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ فِي كَنَائِسهمْ))، وَهَذَا نَصٌّ فِي مَوْضِع النِّزَاع فَثَبَتَتْ الْخُصُوصِيَّة، وَيُؤَيِّدهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّار(2366) مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس نَحْو حَدِيث الْبَاب وَفِيهِ: ((وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَنْبِيَاء أَحَدٌ يُصَلِّي حَتَّى يَبْلُغ مِحْرَابه)) .
    قلت: أما رواية عمرو بن شعيب فقد أخرجها أحمد(706). بسند حسن. انظر الإرواء(1/317)، و صحيح الترغيب والترهيب(3634).
    وأما ما أخرجه البزار فقد أخرجه أيضا البيهقي في الكبرى(4064)، ودلائل النبوة له(2217)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد(8/463): (رواه البزار وفيه من لم أعرفهم).
    قال ابن رجب-رحمه الله- في الفتح(2/17-1): (وقد تبين بهذا أن معنى اختصاصه عن الأنبياء بأن الأرض كلها جعلت مسجدا له ولأمته: أن صلاتهم لا تختص بمساجدهم المعدة لصلاتهم، كما كان من قبلهم، بل يصلون حيث أدركتهم الصلاة من الأرض، وهذا لا ينافي أن ينهى عن الصلاة في مواضع مخصوصة من الأرض لمعنى يختص بها، كما نهى عن الصلاة في أعطان الإبل، وفي المقبرة والحمام).

    قال الزركشي في إعلام الساجد (2): (ثم إن العُرف خصص المسجد بالمكان المهيأ للصلوات الخمس، حتى يخرج المصلَّى الْمُجتمَع فيه للأعياد ونحوِها، فلا يعطى حكمَه)اهـ.
    ويدل على هذا قوله-صلَّى الله عليه وسلَّم- للأعرابي الذي بال في المسجد: ((إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ))[مسلم(429)].
    فمن خلال هذا التعريف النبوي يتضح أن المسجد هو:
    (مكان مخصوص، له أحكام مخصوصة، بني لأداء عبادة الصلاة، وقراءة القرآن، وذكر الله)10 .
    ومما يعضد هذا التعريف قول الله تعالى في كتابه الكريم: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}[النور: 36-37].


    الوقفة الثانية
    : مكانة المسجد في الإسلام ووجوه تعظيمه عند ربّ الأنام

    إن للمساجد في دين الله منزلةً رفيعةً، ومكانةً ساميةً، يدل على ذلك عدَّة أدلة في الشرع فمن ذلك:



    يقول العلامة السعدي-رحمه الله-عند تفسيره هذه الآية(539): (فدل هذا، أن الجهاد مشروع، لأجل دفع الصائل والمؤذي، ومقصود لغيره، ودل ذلك على أن البلدان التي حصلت فيها الطمأنينة بعبادة الله، وعمرت مساجدها، وأقيمت فيها شعائر الدين كلها، من فضائل المجاهدين وببركتهم، دفع الله عنها الكافرين).

    3.أن الله سمّاه بأشرف الهيئات والحالات التي يكون عليها العبد وهو السجود.
    4.أنّ الله قد جعله خير البقاع، روى مسلم(671) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم- قَالَ: (( أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا)).
    5.أنّ الله قد جعلها مقام أعظم شعائره، وأفضل العبادات إليه، وهي الصلاة، فقال سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}[النور: 36-37]، وروى مسلم(285) عن أَنَس بْنِ مَالِكٍ-رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ-صلَّى الله عليه وسلَّم- قال عن المساجد: (( إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ)).
    6.رغب سبحانه في بنائها وجعل عمارتها علامة أهل الإيمان قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}[ التوبة:18].
    9.أنّ الله قد جعلها ركيزة من ركائز المجتمع المسلم، وخاصّة في مثل هذه الأيّام، أيّام غربة الإسلام. 10.من أعظم ما يبيّن مكانة المسجد في الإسلام، هو ما أولاه الله تعالى إيّاه من الرّسالة، فهو الذي تقام فيه أعظم العبادات، وأفضل الطّاعات: صلاة وتسبيح وتهليل وتحميد وعلم ودعوة وإصلاح بين الخصوم والقضاء بينهم، وغير ذلك من جلائل الأعمال وفضائلها. 7.أخبر سبحانه بأن منع الناس من ذكر الله فيه ظلم، وتوعد فاعلي ذلك، فقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114]. 8.جعل القرآن الكريم الدفاع عن المساجد وحمايتها مطلبا من مطالب هذا الدين يشرع لأجله القتال في سبيله، قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40]. 1.أن بناء المسجد هو أول عمل قام به النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- عند قدومه المدينة.
    2.أنّ الله نسبه إلى نفسه فقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجـن: 18]، وأضافه إليه فقال: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، وقال:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]،كما سمّاه النبيّ –صلَّى الله عليه وسلَّم- بذلك فقال: ((وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ))[مسلم(2699)].
    أحكام عمارة المسجد المادية:

    يقول أهل العلم: إن عمارة المسجد المادية تكون إما:


    الأول/ بناؤها وإحكامها:

    قد صح في هذا المعنى عدة أحاديث ترغب في هذا العمل الجليل وممَّا دلت عليه:
    أَنَّ الْمُشَارِكَ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ يَبْنِي اللهُ لَهُ بَيْتاً عَظِيماً فِي الْجَنَّةِ:
    وقبل ذكر الأحاديث الدالة على هذا لا بد من التنبه لأمرين:
    الأول: عن ابن عباس-رضي الله عنه- أنه قال: (ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء)[أبو نعيم في صفة الجنة(2/21)، والطبري في تفسيره(534-535) وغيرهما، وهو في الصحيحة(218].
    الثاني: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ-رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا))[البخاري(3250)].
    [1] عن عثمان بن عفان-رضي الله عنه- أَنَّه قال عند قول الناس فيه حين بنى مسجد رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم- إِنَّكُمْ أَكْثَرْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- يَقُولُ:
    ((مَنْ بَنَى مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ)) [البخاري(450)، ومسلم(533)].
    [2] وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ-رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- يَقُولُ:
    ((مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يُذْكَرُ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)) [صحيح ابن ماجه(601)].
    [3] وعن عائشة-رضي الله عنها- عن النَّبِي-صلَّى الله عليه وسلَّم- قال:
    ((مَنْ بَنَى مَسْجِداً لاَ يُريدُ بِهِ رِيَاءً وَلاَ سُمْعَةَ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ)) [الطبراني في الأوسط(7005) وهو في الصحيحة(3399)].
    [4] وعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-:
    ((مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِداً بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتاً أَوْسَعَ مِنْهُ)) [أحمد(27612)، وهو في صحيح الترغيب(273)].
    2. بتنظيفها وتطهيرها، وتطييبها، ويدخل في هذا من باب أولى: عدم تقذيرها وتنجيسها.1. ببنائها وإحكامها.
    فوائد من هذه الأحاديث:
    الأولى: جاء في رواية لمسلم(533): ((أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَرَادَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ فَكَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ فَأَحَبُّوا أَنْ يَدَعَهُ عَلَى هَيْئَتِهِ)).
    قَالَ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: (لَعَلَّ الَّذِي كَرِهَ الصَّحَابَةُ مِنْ عُثْمَان بِنَاؤُهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ لَا مُجَرَّدُ تَوْسِيعِهِ)اهـ. قلت: حديث بناء عثمان للمسجد بالحجارة المنقوشة في البخاري(435) عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أنه قال: ((أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً، وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ)).
    وليس المقصود بالنقش هنا الزخرفة، بل يقصدون أنها نقشت على أشكال للبناء، كالمربع والمستطيل، وإلا فإن أول من زَخْرَفَ الْمَسَاجِد الْوَلِيد بْن عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان، وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر عَصْر الصَّحَابَة. [انظر فتح الباري(1/540)].
    الثانية: لَمْ يَبْنِ عُثْمَان الْمَسْجِدَ إِنْشَاءً وَإِنَّمَا وَسَّعَهُ وَشَيَّدَهُ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ إِطْلَاق الْبِنَاءِ فِي حَقِّ مَنْ جَدَّدَ كَمَا يُطْلَقُ فِي حَقِّ مَنْ أَنْشَأَ، أَوْ الْمُرَاد بِالْمَسْجِدِ هُنَا بَعْض الْمَسْجِدِ مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْـجُزْء. [انظر فتح الباري(1/544)].
    الثالثة: قال ابن حجر في فتح الباري(1/544): (كَانَ بِنَاءَ عُثْمَان لِلْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ سَنَة ثَلَاثِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ فِي آخِر سَنَةٍ مِنْ خِلَافَتِهِ، فَفِي كِتَابِ السِّيَرِ عَنِ الحَارِثِ بنِ مِسْكِين عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي مَالِكٌ أَنَّ كَعْب الْأَحْبَار كَانَ يَقُولُ عِنْدَ بُنْيَان عُثْمَان الْمَسْجِد: لَوَدِدْت أَنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ لَا يُنْجَزُ فَإِنَّهُ إِذَا فَرَغَ مِنْ بُنْيَانِهِ قُتِلَ عُثْمَان، قَالَ مَالِك: فَكَانَ كَذَلِكَ،: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الْأَوَّل كَانَ تَارِيخ اِبْتِدَائِهِ وَالثَّانِي تَارِيخ اِنْتِهَائِهِ).
    الرابعة: زاد أحد رواة الحديث الأول وهو بكير بن عبد الله بن الأشج القرشي: (حَسِبْتُ أَنَّهُ: [أي: شيخه في السند المذكور وهو عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ] قَالَ: يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ).
    قال ابن حجر في فتح الباري(1/544): (وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَجْزِمْ بِهَا بُكَيْرٌ فِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ أَرَهَا إِلَّا مِنْ طَرِيقِهِ هَكَذَا، وَكَأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْحَدِيثِ بِلَفْظِهَا، فَإِنَّ كُلّ مَنْ رَوَى حَدِيثَ عُثْمَان مِنْ جَمِيعِ الطُّرُقِ إِلَيْهِ لَفْظُهُمْ: ((مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا))، فَكَأَنَّ بُكَيْرًا نَسِيَهَا فَذَكَرَهَا بِالْمَعْنَى مُتَرَدِّدًا فِي اللَّفْظِ الَّذِي ظَنَّهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: ((لِلَّهِ))، بِمَعْنَى قَوْلِهِ: يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ).
    الخامسة: قال ابن رجب في الفتح له(2/503): (وهذا يرجع إلى قاعدة الجزاء من جنس العمل، كما أن من اعتق رقبة اعتق الله بكل عضو منه عضوا منها من النار، ومن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما في الدنيا ستره الله في الآخرة، والرَّاحمون يرحمهم الرَّحمن، ومثل هذا كثير، فمن بنى لله مسجدا يذكر فيه اسم الله في الدنيا، بنى الله له في الجنة بيتا).
    [5] عن أبي ذر-رضي الله عنه- قال قال رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-:
    ((مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِداً قَدْرَ مَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ)) [البزار (4017)، وغيره، وهو في صحيح الترغيب(269)].
    فائدتان من الحديث:
    الأولى: الفَحْصُ: هو البحث عن الشيء. ومفحص القطاة: هو الْمَكَانَ الَّذِي تَفْحَصُ الْقَطَاة عَنْهُ لِتَضَع فِيهِ بَيْضَهَا وَتَرْقُد عَلَيْهِ. [انظر لسان العرب(7/63)، وفتح الباري(1/544)].
    الثانية: القطاة مفرد قطا، ويُجْمَع أيضاً على قَطَوَات، وربما قالوا قَطَيَات، وهو ضرب من الطير قريب الشبه من الحمام، وقيل: هو ضَرْبٌ مِنْ الْحَمَامِ، سمي بذلك لثِقَل مَشيْه، لأن القطو هو ثقل المشي، وقيل يسمى قطاً لحكاية صوته، لأنه يصيح قطا قطا، ولذلك تصفها العرب بالصدق قال النَّابغة الذبياني:
    تَدْعُوا القَطَا وَبِهِ تُدْعَى إِذَا نُسِبَتْ ... يَا صِدْقَهَا حِينَ تَدْعُوهَا فَتَنْتَسِبُ
    وتصفها العرب بالهداية كذلك، يقال: أهدى من قطاة، وذلك أنها تبيض في القفر، وتستقي لأولادها من البعد في الليل والنهار، فتجيء في الظلماء، وفي حواصلها الماء، فإذا صارت حيال أولادها صاحت: "قطا" فلم تخطئ بلا علم، ولا شجرة، ولا علامة، ولا دليل .
    وخص القطاة بهذا لأنها لا تبيض في شجرة ولا على رأس جبل إنما تجعل مجثمها على بسيط الأرض دون سائر الطير، فلذلك شبه به المسجد، وقيل: لأنها توصف بالصدق، ففيه إشارة إلى اعتبار إخلاص النية وصدقها فِي البناء.
    [انظر العرف الشدي(1/375)، ولسان العرب(15/189) والمصباح المنير(7/441)، وصبح الأعشى(1/222)].
    أن بناء المساجد من الصدقات الجارية:
    فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم-:
    ((إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، أوْ وَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، أوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ)) [ابن ماجه(242)، وابن خزيمة(2490)، وغيرهما، وهو في صحيح الترغيب(77)].
    فائدة من الحديث:
    قال السيوطي في الديباج(4/227): (وقد تحصل من هذه الأحاديث[وقد ذكر روايات أخرى] أحد عشر أمرا وقد نظمتها:
    إِذَا مَــــاتَ ابــنُ آدَمَ لَيْـــسَ يَـجْــــرِي *** عَلَيْهِ مِنْ فِعَالٍ غَيْرَ عَشْرِ
    عُلُومٌ بَثَّهَا وَدُعَاءُ نَجْلِ *** وَغَرْسُ النَّخْلِ وَالصَّدَقَاتُ تَـجْرِي
    وِرَاثَـــةُ مُصْــحَـفٍ وَرِبَــــاطُ ثَغْـــــــــرِ *** وَحَــــفْــــــرُ البِـــئْـرِ أَوْ إِجْــرَاءُ نـَـهْـــــرِ
    وَبَــيْـتٌ لِلـــغَـــــــرِيـــبِ بَنَــاهُ يـَـأْوِي *** إِلَيْهِ أَوْ بِنَاءُ مَحَلِ ذِكْرِ
    وَتَعْلِيمٌ لِقُرْآنٍ كَـرِيمٍ *** فَخُذْهَا مِنْ أَحَادِيثٍ بـــِحَصْرِ)
    ثبوته من فعل النبي-صلى الله عليه وسلم- كما ثبت من قوله:
    فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه- يَحْكِي لَنَا يَوْمَ بَنَوا الْمَسْجِدَ قَالَ: وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ وَالنَّبِيُّ-صلَّى الله عليه وسلَّم- مَعَهُمْ وَهُوَ يَقُولُ:
    ((اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ))
    فائدتان من الحديث:
    الأولى: قال ابن حجر في الفتح(7/394) بتصرف يسير: (فِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ: ((فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ))، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مَوْزُونٍ وَلَعَلَّهُ-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- تَعَمَّدَ ذَلِكَ، وَقَالَ اِبْنُ بَطَّالٍ: هُوَ قَوْلُ اِبْنِ رَوَاحَةَ، يَعْنِي تَمَثَّلَ بِهِ النَّبِيُّ-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- وَلَوْ كان من لفظ النبي-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ النَّبِيُّ-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- شَاعِرًا، قَالَ وَإِنَّمَا يُسَمَّى شَاعِرًا مَنْ قَصَدَهُ وَعَلِمَ السَّبَبَ وَالْوَتَدَ وَجَمِيعَ مَعَانِيهِ مِنْ الزِّحَافِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. اهـ كَذَا قَالَ، وَعِلْمُ السَّبَبِ وَالْوَتَدِ إِلَى آخِرِهِ إِنَّمَا تَلَقَّوْهُ مِنْ الْعُرُوضِ الَّتِي اِخْتَرَعَ تَرْتِيبُهَا الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، وَقَدْ كَانَ شِعْرُ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُخَضْرَمِينَ وَالطَّبَقَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مِنْ شُعَرَاءِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُصَنِّفَهُ الْخَلِيلُ، كَمَا قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: أَنَا أَقْدَمُ مِنْ الْعُرُوضِ، يَعْنِي أَنَّهُ نَظَمَ الشِّعْرَ قَبْلَ وَضْعِهِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ الْكَاتِبُ: قَدْ كَانَ شِعْرُ الْوَرَى قَدِيمًا مِنْ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ الْخَلِيلُ).
    الثانية: قال ابن رجب الحنبلي: (وفي هذا الارتجاز عند بناء المسجد فائدتان:
    إحداهما: ما في هذا الكلام من الموعظة الحسنة، والحث على العمل، فيوجب ذلك للسامعين النشاط في العمل، وزوال ما يعرض للنفس من الفتور والكسل عند سماع ثواب العمل وفضله، أو الدعاء لعامله بالمغفرة).
    والثانية: أن المتعاونين على معالجة الأعمال الشاقة كالحمل والبناء ونحوها قد جرت عادتهم بالاسترواح إلى استماع بعضهم إلى ما ينشده بعضهم، ويجيبه الأخر عنه، فإن كل واحد منهم يتعلق فكره بما يقول صاحبه، ويطرب بذلك، ويجيل فكره في الجواب عنه بمثله، فيخف بذلك على النفوس معالجة تلك الأثقال، وربما نسي ثقل المحمول بالاشتغال بسماع الارتجاز، والمجاوبة عنه، ويؤخذ من هذا أنواع من الاعتبار:
    - منها: حاجة النفس إلى التلطف بها في حمل أثقال التكليف، حتى تنشط للقيام بها، ويهون بذلك عليها الأعمال الشاقة على النفس، من الطاعات.
    - ومنها : احتياج الإنسان في حمل ثقل التكليف إلى من يعونه على طاعة الله، وينشط لها بالمواعظ وغيرها كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة:2]، وقال: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر:3]).
    تنبيه ضروري:
    لا يَنَالُ هذَا الفضلَ، وهذَا البيتَ في الجنَّة أحدٌ إلاّ بشرطين اثنين:
    -الأوّل: الإخلاص..لقوله-صلَّى الله عليه وسلَّم- في الحديث السّابق: ((مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ)) لا لغيره.
    -الثّاني: متابعة الرّسول-صلَّى الله عليه وسلَّم- في بنائها،كما في الصّحيحين عَنْ عَائِشَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ)) أي: مردود.
    وهذا ممّا يُحتّم على المسلمين أن يُحسنوا اختيار القائمين والمشرفين على بناء المساجد، وأن يشترطوا فيهم العلم النّافع المثمر للعمل الصّالح، وليس المقصود بالعلم أن يكونوا علماء، ولكن على الأقلّ أن يكونوا رجّاعين إلى أهل العلم، وإلاّ كان ما يفسدونه أكثر ممّا يصلحونه.
    ولكي يكون المسجد مبنيّا على سنّة رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم- ينبغي مراعاة أحكام كثيرة، سنتكلم عنها شيئا فشيئا في هذا المنتدى بإذن الله.

    والحمد لله رب العالمين
    كتبه: أخوكم مصطفى قالية
    ----------------------------------------------
    الهامش :

    قلت-م-: ويظهر ذلك من لفظة القنوت فإنه يقصد بها القيام-أي: الانتصاب- كما في قوله-صلى الله عليه وسلم-: ((أَفْضَلُ الصَّلاَةِ طُولُ القُنُوتِ))[م: 765]، ويتحقق بها الخضوع أيضا كما في قوله تعالَى: {وَقُومُوا لله قَانِتِينَ}[البقرة: 238]، أي: خاشعين ذليلين مستكينين بين يديه، والله أعلم. انظر لسان العرب(3/204)، وتاج العروس(1/2022)، وتفسير القرطبي(2/86)(3/214)، وتفسير ابن كثير(1/654).

    ، والمشروع والممنوع في المسجد(7).
    2- انظر لسان العرب(3/204)، وتاج العروس(1/2022)، وجامع الدروس العربية(1/202). 3- ونحوه ألفاظ أخرى نحو: مطلع ومغرب ومشرق ومنسِك و مجزر ومنبت ومسقط ومفرق ومرفق ومسكن. انظر جامع الدروس العربية(1/202). 6- انظر جمهرة اللغة لابن دريد(1/217)، والمخصص لابن سيده(4/66)، وتفسير القرطبي(19/20)، وتفسير ابن كثير(8/244). 7- هذا خلافا لقبيلة طيء الذين قالوا بأنه الانتصاب، قال الزبيدي في تاج العروس(8/172): (قال شيخنا: وقد يقال لا ضِدِّيَّة بين الخُضوع والانتصاب كما لا يَخْفَى)اهـ. 9- انظر تفسير القرطبي(2/7 10- أحكام حضور المسجد لعبد الله بن محمد العسكر(7). 1- انظر أقوال العلماء في تفسير هذه الآية في تفسير الطبري(23/635). 4- لأنهم قالوا عن هذه الألفاظ الشاذة تكسر سماعا، ويجوز فتحها قياسا. انظر لسان العرب(3/204)، وتاج العروس(1/2023)، وجامع الدروس العربية(1/202). 5- زيادة للإيضاح. 8- انظر تاج العروس(1/2023)، والمشروع والممنوع في المسجد لمحمد بن علي العرفج(7).
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو الحسين عبد الحميد الصفراوي; الساعة 14-May-2011, 08:30 AM.

  • #2
    إِرْشَادُ العَابِدِ السَّاجِدِ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِ وَآدَابِ المَسَاجِدِ [الحَلْقَةُ الثَّانِيَةُ]

    إِرْشَادُ العَابِدِ السَّاجِدِ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِ وَآدَابِ المَسَاجِدِ
    الحَلْقَةُ الثَّانِيَةُ


    منقول للفائدة من منتديات التصفية و التربية



    بِسْمِ اللهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَالَاهُ :

    أما بعد :

    فقد رأينا في المقال الأول ضرورةَ تعظيم المساجد، وفضلَ المشاركةِ في بنائِها وتعميرِها، كما رأينا أنَّ تحصيلَ تلك الفضائلِ العظيمةِ مشروطٌ بموافقةِ السُّنة في ذلك، وهذا الأخيرُ لا يتم إلا إذا راعى القائمون على بناء المساجد الأمور الآتي ذكرها :

    أوّلا : حسنُ اختيارِ البُقعةِ للمسجدِ :


    ينبغي أن يُختار الموقع المناسب لبناء المسجد، فتُبنى المساجد في الأحياء والمواقع المناسبة التي يستفيد منها جميع سكان الحي، لا في أطراف العمران.

    كما ينبغي أن يبتعد كلّ البعد عن بناء المساجد في الأراضي المغصوبة: ومع ذلك نجد أنّ كثيرا من مساجد المسلمين وقع في هذا المحظور، فكم سمعنا من خلافات وقعت بين أهل بيت وأهل المسجد بسبب بناء جزء من المسجد في أرضهم وهكذا.
    ولا ينبغي أن تُبنى المساجد الجوامع بعضُها أمام بعض-كما هو حاصل في أغلب بلاد المسلمين اليوم- إنّما يُبنى بدلَها مساجدُ غيرُ جوامع، ومصلّياتٌ يؤذَّنُ فيها، وتقام فيها الصَّلوات الخمس، وحِلق الذِّكر، أمَّا الجامع الذي تقام فيه صلاة الجمعة، فلا ينبغي أن يكون في البلدة الواحدة، والقرية الواحدة أكثر من مسجدٍ جامعٍ واحد.
    قال الإمام الشّافعي-رحمه الله-: (وَلَا يُجْمَعُ في مِصْرٍ-وَإِنْ عَظُمَ أَهْلُهُ، وَكَثُرَ عَامِلُهُ، وَمَسَاجِدُهُ- إلَّا في مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ، وَإِنْ كانت له مَسَاجِدُ عِظَامٌ، لم يُجْمَعْ فيها إلَّا في وَاحِدٍ) [ الأم (4/485)].
    و قال في موضع آخر: (وإذا اتَّسَعَتْ الْبَلَدُ، وَكَثُرَتْ عِمَارَتُهَا، فَبُنِيَتْ فيها مَسَاجِدُ كَثِيرَةٌ: عِظَامٌ وَصِغَارٌ، لم يَجُزْ عِنْدِي أَنْ يصلى الْجُمُعَةَ فيها إلَّا في مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ إذَا اتَّصَلَتْ بِالْبَلَدِ الْأَعْظَمِ منها قَرَيَات صِغَارٌ، لم أُحِبَّ أَنْ يصلى إلَّا في الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ)[ الأم(4/486)].
    وذلك أنّ النبيَّ-صلَّى الله عليه وسلَّم- والخلفاءَ بعده لم يفعلوا ذلك، وهذا مما تواتر نقله تواترا معنويا كما قال ابن الملقن في البدر المنير(4/594)، وأيَّده الألباني في إرواء الغليل(3/81)، والأدلّة على ذلك كثيرة منها:
    -ما رواه البخاري(860) ومسلم(847) عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- قَالَتْ: ((كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَالْعَوَالِيِّ)).
    و(العوالي): جمع عالية، وهي قرى بقرب المدينة من جهة الشرق، وأقرب العوالي ثلاثة أميال.
    -وما رواه ابن المنذر في الأوسط(1866) عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: (لاَ جُمُعَةَ إِلاَّ فِي المَسْجِدِ الأَكْبَرِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الإِمَامُ).
    قال ابن المنذر في الأوسط(4/116-117): (لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْجُمُعَةَ لَمْ تَكُنْ تُصَلَّى فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَفِي عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، إِلَّا فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَيُعَطَّلُ سَائِرُ الْمَسَاجِدِ، وَفِي تَعْطِيلِ النَّاسِ الصَّلَاةَ فِي مَسَاجِدِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَاجِتِمَاعِهِمْ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ أَبْيَنُ الْبَيَانِ بِأَنَّ الْجُمُعَةَ خِلَافُ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُصَلَّى إِلَّا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ).
    وقد أجاز بعض أهل العلم التجميع في أكثر من مسجد واحد لأهل البلدة الواحدة إذا كان في اجتماعهم في مسجد واحد حرج كبير للمصلين.
    وقد سئلت عن هذا اللجنة الدائمة برئاسة الشيخ ابن باز-رحمه الله- عن هذا فأجابت :
    ( ثبت أنه لم يكن في عهد النبي-صلى الله عليه وسلم- مسجد تقام فيه صلاة الجمعة بالمدينة إلا مسجد واحد هو المسجد النبوي، وكان المسلمون يأتون إليه لصلاة الجمعة به، من أطراف المدينة وضواحيها، كالعوالي، واستمر الحال على ذلك في عهد الخلفاء الراشدين-رضي الله عنهم-، وذلك دليل عملي منه-صلى الله عليه وسلم- على القصد إلى جمع المسلمين في صلاة الجمعة في البلد الواحد على إمام واحد، إشعاراً بوحدة القيادة، وجمعاً للقلوب، وتأليفاً للنفوس، وزيادة في التعارف، وتأكيداً لمعاني الأخوة، ولو كان تعدد الجمع في البلد الواحد من غير مبرر شرعي مباحاً لَأَمَرَ النبي-صلى الله عليه وسلم- أصحابَه-رضي الله عنهم- أن يصلي كل منهم الجمعة في مسجده بأطراف المدينة؛ لأنه-صلَّى الله عليه وسلَّم- ما خيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثما، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وفي ذلك تيسير على أمته وتخفيف عنها، وعمل بعموم قوله تعالى‏:‏ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[‏البقرة: 185‏] ، وعموم قوله‏:‏ {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} النساء: 28‏]‏، فلما لم يأمرهم بالتعدد، ولم يأذن لهم فيه، دل ذلك على قصده-عليه الصلاة والسلام- إلى توحيد الجمعة في البلد الواحد، وجمعهم على إمام واحد فيها؛ لما تقدم بيانه من الحكمة في ذلك‏.‏
    لكن إذا كانت المساجد التي تقام فيها صلاة الجمعة في مدينة المنامة 1 تضيق بمن يصلي فيها الجمعة حتى أن كثيراً منهم يصلي في الشمس الشديدة الحرارة وفي الطرق وفوق السقوف؛ فلا مانع من أن تقام الجمعة في مساجد أخرى زيادة على المساجد الأربعة التي تقام فيها الجمعة حالياً حسب ما تقتضيه الحاجة، تيسيراً على الناس، ودفعاً للحرج عنهم، وعملاً بقوله تعالى‏:‏ {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}‏[‏الحج: 78‏]‏ وقوله‏: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[‏البقرة: 185‏]‏، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ((إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه))‏ [‏البخاري(39)، وقوله‏:‏ ((يسروا ولا تعسروا))‏ [‏البخاري(69)، ومسلم(1734)]
    ولهذا لما كثر المسلمون بعد عهد الخلفاء الراشدين، وازدحمت المساجد بمن يصلي فيها الجمعة- صلوا الجمعة في أكثر من مسجد في المدينة الواحدة، عملاً بأدلة التيسير ورفع الحرج، ولنا فيهم أسوة حسنة‏.‏ وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم)‏.‏[اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء/ الفتوى رقم ‏(‏2212)].
    وذلك كلُّه لأنّ دين الله تعالى يتشوّف ويسعى إلى جمع الكلمة، وهذا من أهمّ مقاصد المسجد، أن يتّحد التّوجيه الطيّب، والتّعليم النّافع، لا أن يأمر مسجد بشيء وآخر بعكسه، وبهذا يحدث الشّقاق والنّزاع الذي نرى ويلاته اليوم بين أظهرنا.
    بل إن النَّاظر في الشَّريعة الإسلامية الغرَّاء، وفي مقاصد التَّشريع لَيَظهرُ له بجلاءٍ أنَّ كثيراً من الأحكامِ سواء المأمور بها أو المنهي عنها، إنَّما شرعت لأجل توحيد الصفِّ وعدم التَّفرق، وهذا مقصد عظيم امتن الله على عباده به فقال سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا }[آل عمران: 103]، وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62 و63] 2.
    فمن الأمور المأمور بها الدَّالة على هذا: إيجاب الجماعات والجمعات، والأمر بالسلام على من تعرف ومن لا تعرف، وصلة الأرحام، وعيادة المرضى، وتسوية الصفوف، وغيرها.
    ومن الأمورِ المنهي عنها الدَّالة على هذا: تحريم الغيبة، والنميمة، وقطيعة الرحم، والبيع على بيع أخيه، وغيرها.
    قال شيخ الإسلام-رحمه الله-: (وَالِاجْتِمَاعُ والائتلاف مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} - إلَى قَوْلِهِ- {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ)[مجموع الفتاوى(22/35)].
    لذلك على كلّ من أراد توحيد الكلمة أن يجعل الانطلاقة من المسجد، وأن يجعلوا أغلب المساجد التي نراها اليوم، يُقتصر فيها على إقامة الصّلوات الخمس، والتّعليم والتّوجيه، وأن يبنوا ويرفعوا مسجدا جامعا كبيرا يضمّ أهل القرية الواحدة، وما ذلك على الله بعزيز، وما هو علينا بشاقّ.
    قال الإمام السعدي-رحمه الله- أثناء تفسيره للآيات التي تكلمت عن مسجد الضرار: (في هذه الآيات فوائد عدة :
    -منها: أن اتخاذ المسجد الذي يقصد به الضرار لمسجد آخر بقربه، أنه محرم، وأنه يجب هدم مسجد الضرار، الذي اطلع على مقصود أصحابه.
    -ومنها: أن العمل وإن كان فاضلا تغيره النية، فينقلب منهيا عنه، كما قلبت نية أصحاب مسجد الضرار عملهم إلى ما ترى.
    -ومنها: أن كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين، فإنها من المعاصي التي يتعين تركها وإزالتها، كما أن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين وائتلافهم، يتعين إتباعها والأمر بها والحث عليها، لأن اللّه علل اتخاذهم لمسجد الضرار بهذا المقصد الموجب للنهي عنه، كما يوجب ذلك الكفر والمحاربة للّه ورسوله.
    -ومنها: النهي عن الصلاة في أماكن المعصية، والبعد عنها، وعن قربها.

    -ومنها: أن المعصية تؤثر في البقاع، كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار، ونهي عن القيام فيه، وكذلك الطاعة تؤثر في الأماكن كما أثرت في مسجد (قباء) حتى قال اللّه فيه: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}، ولهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره، حتى كان-صلى الله عليه وسلم- يزور قباء كل سبت يصلي فيه، وحث على الصلاة فيه.
    -ومنها: أنه يستفاد من هذه التعاليل المذكورة في الآية، أربع قواعد مهمة، وهي:


    1-كل عمل فيه مضارة لمسلم، أو فيه معصية للّه، فإن المعاصي من فروع الكفر، أو فيه تفريق بين المؤمنين، أو فيه معاونة لمن عادى اللّه ورسوله، فإنه محرم مم نوع منه، وعكسه بعكسه.
    2-ومنها: أن الأعمال الحسية الناشئة عن معصية الله لا تزال مبعدة لفاعلها عن الله بمنزلة الإصرار على المعصية حتى يزيلها ويتوب منها توبة تامة بحيث يتقطع قلبه من الندم والحسرات.
    3-ومنها: أنه إذا كان مسجد قباء مسجدا أسس على التقوى، فمسجد النبي-صلى الله عليه وسلم- الذي أسسه بيده المباركة، وعمل فيه، واختاره اللّه له من باب أولى وأحرى.
    4-ومنها: أن العمل المبني على الإخلاص والمتابعة، هو العمل المؤسس على التقوى، الموصل لعامله إلى جنات النعيم، والعمل المبني على سوء القصد، وعلى البدع والضلال، هو العمل المؤسس على شفا جرف هار، فانهار به في نار جهنم، واللّه لا يهدي القوم الظالمين) [تفسير السعدي(351)].


    ثانيا: تحريم بنائها على القبور.

    قال شيخ الإسلام-رحمه الله-: (اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ لَا يُبْنَى مَسْجِدٌ عَلَى قَبْرٍ)

    [مجموع الفتاوى(22/194)].
    وذلك لأنّه يحرم أن يُصلّي المؤمن في المقبرة، أو بين القبور، أو في مسجد مبنيّ على قبر، أو بداخله قبر، لأنّ ذلك ممّا يؤدّي-شئنا أو أبينا-إلى الشّرك في يوم ما، فهاهم النّصارى الذين عثروا على أصحاب الكهف أنساهم الشّيطان توحيد الله فقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21].
    قال ابن كثير-رحمه الله- في تفسيره (5/147): (حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما: إنهم المسلمون منهم. والثاني: أهل الشرك منهم، فالله أعلم، والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر، لأن النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد)) يحذر ما فعلوا. وقد روِّينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق، أمر أن يخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده، فيها شيء من الملاحم وغيرها).
    قال ابن تيمية-رحمه الله-: في الرد على البكري (2/56): (فهؤلاء الذين اتخذوا مسجدا على أهل الكهف كانوا من النصارى الذين لعنهم النَّبِي-صلَّى الله عليه وسلَّم- حيث قال: "لعن الله اليهود و النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد").
    وقال ابن رجب-رحمه الله- في الفتح له (3/194): (فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بأن مستند القهر والغلبة وإتباع الهوى، وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المتبعين لما أنزل الله على رسله من الهدى).
    والنبيُّ-صلَّى الله عليه وسلَّم- عندما بنى المسجد بالمدينة كانت أرض المسجد فيها قبور للمشركين، فأمر بنبشها، روى البخاري(41) ومسلم(524) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ-رضي الله عنه- قَالَ: (قَدِمَ النَّبِيُّ-صلَّى الله عليه وسلَّم- الْمَدِينَةَ فَأَرْسَلَ إِلَى مَلَإٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ فَقَالَ: ((يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا)) قَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ! فَقَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ: قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ خَرِبٌ، وَفِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ).

    فائدتان من الحديث :


    الأولى: ظَاهِر الْحَدِيث أَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا مِنْهُ ثَمَنًا، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَهْل السِّيَر، قال ابن حجر في فتح الباري(7/266): (وَقَعَ عِنْد مُوسَى بْن عُقْبَة عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ اِشْتَرَاهُ مِنْهُمَا بِعَشَرَةِ دَنَانِير، وَزَادَ الْوَاقِدِيّ أَنَّ أَبَا بَكْر دَفَعَهَا لَهُمَا عَنْهُ)اهـ.

    قال ابن رجب الحنبلي في فتح الباري(3/19): (وحديث أنس أصح من رواية يرويها الواقدي عن معمر وغيره، عن الزهري مرسلة، فإنَّ مراسيل الزهري لو صحت عنه من أضعف المراسيل، فكيف إذا تفرد بها الواقدي؟).
    الثانية: قال ابن رجب الحنبلي في فتح الباري له(3/201): (وهذا يدل على أن المقبرة إذا نبشت وأخرج ما فيها من عظام الموتى لم تبق مقبرة، وجازت الصلاة فيها، ويدل على كراهة الصلاة في المقبرة ولو كانت قبور المشركين، لما فيه من سد الذريعة إلى اتخاذ القبور مساجد، فإنه إذا تطاول العهد، ولم تعرف الحال، خشي من ذلك الفتنة).
    وجاءت الأحاديث الكثيرة تبيّن هذا الحكم الشّرعيّ:
    -فَعَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ-رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم- يَقُولُ: ((لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ، وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا))[مسلم(972)].
    والمراد: لا تعظموها بالصلاة إليها، لأنه يشبه العبادة لها، ولا تهينوها بالجلوس عليها، فإنها محترمة.
    -وَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ-رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الْحَمَّامَ وَالْمَقْبَرَةَ))[أحمد(1193)وأبو داود(463) وغيرهما وإسناده صحيح انظر الإرواء(1/320)].
    -و عن عَائِشَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ-رضي الله عنه-قَالَا: (لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم- طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: ((لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى! اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)) يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا) [البخاري(425) ومسلم(531)].
    فما كان النبيّ-صلَّى الله عليه وسلَّم- ليجعل آخر عهده بالمؤمنين إلاّ أن ينبّههم على أمر عظيم ألا وهو تحريم بناء المساجد على القبور.
    -و عَنْ عَائِشَةَ-رضي الله عنه- أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سلَّمةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً[يقال لها: مارية] رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ-صلَّى الله عليه وسلَّم- فَقَالَ: ((إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))[البخاري(417) ومسلم(52)].
    وقد اتّفق العلماء على تحريم بناء المساجد على القبور، وإلى تحريم الصّلاة في المساجد التي فيها قبر.
    لذلك يحرم الإسهام والمشاركة في بناء مسجد سيتمّ بناؤه على قبر، فالله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب}[المائدة:2]، وهل هناك عدوان أعظم وأفظع من الشّرك بالله.

    يقول العلامة عبد الحميد بن باديس-رحمه الله- في الآثار(2/153) بعد ما أورد الآيات القرآنية التي تأمر باتّباع الرسول-صلَّى الله عليه وسلَّم- والنَّهي عن مخالفته: (نسأل كلّ مؤمن بهذه الآيات أن يعمل بنهي النَّبِيّ-صلَّى الله عليه وسلَّم- عن البناء على القبر، فلا يبني على القبر، ولا يعين بانياً، ويعلن هذا الحديث في الناس، ويذكرهم به، ولا يفتأ يقرع به أسماع الغافلين، ويفتح به أعين الجاهلين {وَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت 69]).
    وقال-رحمه الله- في موضع آخر: (فيا أيُّها المؤمنون بمحمد-صلَّى الله عليه وسلَّم-، المصدقون لحديثه، إيَّاكم والبناء على القبور، إيَّاكم واتَّخاذ المساجد عليها إن كنتم مؤمنين، وعليكم بتبليغ هذا الحديث والتذكير به، والتكرير لذكره يكن لكم أجر المجاهدين في سبيل ربِّ العالمين لإحياء سنَّة سيِّد المرسلين، عليه وعليهم الصلاة أجمعين).

    ما هي الحكمة في منع اتخاذ القبور مساجد؟


    ذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ علة النَّهي هي مخالفةُ المشركينَ فقط، كما هو ظاهرٌ من بعض النصوص المتقدمة، و لا شك أن مخالفةَ المشركين مقصدٌ شرعي مطلوب، ولكن لا يعلَّل به وحدَه، وإنَّما لكون عملهم هذا ذريعة موصلة إلى الشِّرك.
    قال الشافعي: (أكره أن يعظَّم مخلوقٌ حتَّى يُجعل قبرُه مسجدا مخافةَ الفتنةِ عليه وعلى من بعده من النَّاس) [الأم(1/27)، والمجموع للنووي (5/269)، واقتضاء الصراط المستقيم(333)].
    وقال ابن قدامة-رحمه الله-: (تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روِّينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات، باتخاذ صورهم، ومسحها، والصلاة عندها، وكذلك فعل الناس بقبور الصالحين)[المغني(2/382)، وقد نقله عنه ابن القيم في إغاثة اللهفان(1/197)].
    وقال النووي-رحمه الله-: (إنما نهى النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن اتخاذ قبرِه وقبرِ غيرِه مسجدا خوفاً من المبالغة في تعظيمِه والافتتانِ به، فربَّما أدى ذلك إلى الكفر، كما جرى لكثير من الأمم الخالية)[شرح مسلم (2/162)].
    قال العلامة ابن باز -حفظه الله- في قول ابن حجر-رحمه الله-: (وقد يقول بالمنع –أي: من الصلاة في المقبرة- مطلقا من يرى سد الذريعة، وهو متجه قوي)، قال-حفظه الله-: (وهذا هو الحق لعموم الأحاديث الواردة بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن من فعل ذلك، ولأن بناء المساجد على القبور من أعظم وسائل الشرك بالمقبور فيها) [فتح الباري (الهامش)(3/30)].

    تنبيه:


    نص الشافعي-رحمه الله- في الأم(1/92) بأن النجاسة علة من علل الحكم، لكون المقبرة اختلطت بلحم وعظام الأموات، فصارت نجسة، وهذا القول منه-رحمه الله- ليس بصحيح، فقد ثبت أن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- صلَّى على قبر- صلاة جنازة- وهي صلاة يشترط لها الطهارة.

    قال شيخ الإسلام-رحمه الله- في مجموع الفتاوى(27/159): (وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ نُهِيَ عَنْهَا مِنْ أَجْلِ النَّجَاسَةِ؛ لِاخْتِلَاطِ تُرْبَتِهَا بِصَدِيدِ الْمَوْتَى وَلُحُومِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَقْبَرَةِ الْجَدِيدَةِ وَالْقَدِيمَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَائِلٌ، أَوْ لَا يَكُونَ. وَالتَّعْلِيلُ بِهَذَا لَيْسَ مَذْكُورًا فِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا، وَإِنَّمَا هِيَ عِلَّةٌ ظَنُّوهَا، وَالْعِلَّةُ الصَّحِيحَةُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي زَمَنِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ: إنَّمَا هُوَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ، وَأَنْ تَصِيرَ ذَرِيعَةً إلَى الشِّرْكِ؛ وَلِهَذَا نَهَى عَنْ اتِّخَاذِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ مَسَاجِدَ) .

    وقال ابن القيم-رحمه الله-: (وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن الرسول- صلَّى الله عليه وسلَّم- مقاصده جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه باللعن والنهي بصيغتيه: صيغة (لا تفعلوا) وصيغة (إني أنهاكم) ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه أو عدم في تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، فإنَّ هذا وأمثالَه من النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- صيانةٌ لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه، فأبى المشركون إلا معصية لأمره، وارتكابا لنهيه، وغرهم الشيطان فقال: بل هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشد لها تعظيما، وأشد فيهم غلوا، كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد...)[إغاثة اللهفان(1/191)].

    قال الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-: (هذا تعليل عليل، بل ميِّت لم تَحُلَّ فيه الرّوحُ.
    قالوا: لأنها ربما تُنبش وفيها صديد من الأموات ينجِّسُ التُّراب، فيُجابُ عنه بما يلي:

    أولاً: أنَّ نبش المقبرة الأصل عدمُه.
    ثانياً: من يقول إنك ستُصلِّي على تُراب فيه صديد؟
    ثالثاً: مَنْ يقول: إنَّ صديد ميتة الآدمي نجس؟
    رابعاً: أنه لا فرق عند هؤلاء بين المقبرة القديمة؛ والمقبرة الحديثة التي يُعلم أنها لم تُنبش؛ فكلُّ هذه المقدمات لا يستطيعون الجواب عنها؛ فيبطُل التَّعليل بها).[الشرح الممتع(2/239)]

    ما العمل عند اجتماع المسجد والقبر في محل واحد ؟


    تقدم معنا أنه يحرم اتخاذ القبور مساجد، وحينئذ فإدخال القبر بالمسجد حرام، وإذا اجتمع القبـر والْمسجد فله ثلاث حالات:
    الحالة الأولى: أن يكون القبر قد وضع أولا، ثم بني عليه مسجد.
    وهذه الحالة هي التي نص الرسول-صلَّى الله عليه وسلَّم- على لعن من يفعلها، وقد حدثت إقامة المشاهد على القبور في وسط المساجد، وحصل فيها بلاء وكفر بالله، وما تزال في بعض مساجد المسلمين اليوم، وأغلبها لأناس يزعم القائمون عليها أنهم من الصحابة أو التابعين، كالحسين بن علي، وزينب، وغيرهما، وهي في الحقيقة ليست لهم3 ، وقد أنكر المحققون للتوحيد هذه الأعمال، وبينوا حكمها للناس.[ انظر: الفتاوى لابن تيمية (22/195) (27/4، وحاشية الروض المربع لابن قاسم (3/ 131)].
    والصلاة في هذه المساجد محرمة، لأنَّ المسجد ذاته محرم، ويجب هدمه، لما في هذا العمل من مشابهة المشركين، ولأنه ذريعة إلى الشرك.
    الحالة الثانية: أن يبنى المسجد أولا ثم يُدخَل فيه القبر، وهنا لا يخلو هذا القبر من أمرين:
    أحدهما: أن يكون جديدا، فيجب نبشه وإزالته عن المسجد تماما، وتسقط حرمته إن كان مسلما، باعتدائه أو اعتداء من أدخله المسجد، لقوله-صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ))[ جزء من حديث رواه أبو داود(3073)، والترمذي (137)، وهو صحيح انظر الإرواء(1520).].
    وثانيهما: أن يكون القبر قديما، لكنه بعد المسجد، فذكر ابن تيمية: أن هذا القبر يسوى، حيث قال في المجموع (22/195): (اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ لَا يُبْنَى مَسْجِدٌ عَلَى قَبْرٍ... وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْنُ مَيِّتٍ فِي مَسْجِدٍ. فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ قَبْلَ الدَّفْنِ غُيِّرَ: إمَّا بِتَسْوِيَةِ الْقَبْرِ وَإِمَّا بِنَبْشِهِ إنْ كَانَ جَدِيدًا...).
    و لا شك أن نبش القبر، وإخراج عظامه ولحمه، وما خالطه من تراب، مطلقا أولى سدًا للذَّريعة، حتى لا يبقى للمفتونين مستند، وكذا لما سبق ذكره من الأدلة آنفًا، ولاتفاق العلماء على تحريم دفن الميت بالمسجد، وهذا الذي يذكره علماؤنا في فتاويهم من غير تفصيل بين القبر الجديد والقبر القديم.
    -يقول ابن القيم-رحمه الله-: (يُهدم المسجد إذا بُنى على قبر، كما يُنبش الميتُ إذا دُفِنَ في المسجد، نص على ذلك الإمام أحمد وغيرُه، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجدٌ وقبر، بل أيُّهما طرأ على الآخر. منع منه، وكان الحكم لِلسابق...ولا تَصِحُّ الصلاة في هذا المسجد لنهى رسولِ الله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك، ولعنه مَن اتخذ القبر مسجداً أو أوقد عليه سراجاً، فهذا دينُ الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيه، وغربتُه بينَ الناس كما ترى)
    [زاد المعاد(3/572)].
    -يقول الشيخ ابن باز-رحمه الله-: (وضع القبور في المسجد لا يجوز، فبعض الناس إذا مات يدفن في المسجد، فهذا لا يجوز، وليس لأحد أن يدفن في المسجد بل يجب أن ينبش القبر، وينقل إلى المقبرة، فإذا دفن الميت بالمسجد فإنه ينبش وينقل إلى المقبرة، ولا يجوز بقاؤه في المساجد أبدا والواجب على أهل الإسلام أن لا يدفنوا في المساجد)[ فتاوى نور على الدرب(259)].
    -يقول الشيخ الألباني-رحمه الله-: (هل يزال القبر أو يزال المسجد؟ لا بد من القضاء على الظالم وعلى الباغي، فإذا كان هناك أرض دفن فيها ميت، فجاء أحد البغاة وبنى عليه مسجدا، فيزال هذا المسجد لأنه هو الباغي، وعلى العكس من ذلك، إذا كان هناك مسجد بني على تقوى من الله-عز وجل-، فجاء أحد البغاة، وأوصى إنه إن مات دفن فيه، وفعلا دفن فيه، فيقذف بجثته خارج المسجد، لأنه هو الباغي على المسجد)[سلسلة الهدى والنور الشريط(647)].
    يقول الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-: (لا بد أن ننظر هل القبر سابقٌ على المسجد أو المسجد سابقٌ على القبر؟ فإن كان القبر سابقاً على المسجد، بمعنى: أن القبر كان متقدماً فبنوا عليه مسجداً، فالمسجد هنا لا تصح فيه الصلاة على كل حال؛ لأنه مسجد يجب هدمه، فقد نهى النبي-صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أن يبنى على القبور، لا سيما إذا كان المبني مسجداً، وإنما قلنا: يجب هدمه؛ لأنه يشبه مسجد الضرار الذي يجب هدمه، ومسجد الضرار هو المسجد يبنى بقرب مسجدٍ آخر فيؤثر على أهل المسجد الأول ويفرقهم، فهذا مسجد ضرار فيهدم على كل حال. وأما إذا كان المسجد سابقاً ودفن فيه الميت فإنه يجب أن ينبش الميت ويدفن مع الناس.)[ فتاوى نور على الدرب: الشريط(35) الوجه: أ ].
    الحالة الثالثة: أن يوضع القبر والمسجد في آن واحد، فهذا نادر جدًا ولا يتأتى، إلا إذا كان المسجد من مادة يمكن صنعها بسرعة، قال ابن القيم: (فلو وضعا معا لَم يجز ولا يصح هذا الوقف، ولا يجوز، ولا تصح الصلاة فِي هذا المسجد) [زاد المعاد(3/572)]، وهذا من باب تغليب الحظر على الإباحة، ولأن الأحاديث تشمل هذه الصورة كغيرها مما تقدم ذكره.

    وللحديث بقية في الحلقات المقبلة بإذن الله



    والله أعلى وأعلم
    والحمد لله رب العالمين
    كتبه: مصطفى قالية







    .................................................. .................................................. ...


    هامش:



    1- بلدة أصحاب السؤال.
    2- انظر تفسير ابن كثير(8/89).
    3- قال شيخ الإسلام في المجموع(27/272-273): (فَالْأَنْبِيَاءُ كَثِيرُونَ جِدًّا وَمَا يُضَافُ إلَيْهِمْ مِنْ الْقُبُورِ قَلِيلٌ جِدًّا، وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ ثَابِتٌ عُرْفًا، فَالْقُبُورُ الْمُضَافَةُ إلَيْهِمْ مِنْهَا مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ: مِثْلُ: "قَبْرِ نُوحٍ" الَّذِي فِي أَسْفَلِ جَبَلِ لُبْنَانَ، وَمِنْهَا مَا لَا يُعْلَمُ ثُبُوتُهُ بِالْإِجْمَاعِ-إلَّا قَبْرَ نَبِيِّنَا وَالْخَلِيلِ وَمُوسَى- فَإِنَّ هَذَا مِنْ كَرَامَةِ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ صَانَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَسَاجِدَ صِيَانَةً لَمْ يَحْصُلْ مِثْلُهَا فِي الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا وَأُمَّتَهُ أَظْهَرُوا التَّوْحِيدَ إظْهَارًا لَمْ يُظْهِرْهُ غَيْرُهُمْ، فَقَهَرُوا عُبَّادَ الْأَوْثَانِ وَعُبَّادَ الصُّلْبَانِ وَعُبَّادَ النِّيرَانِ).
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو الحسين عبد الحميد الصفراوي; الساعة 08-Dec-2010, 09:48 AM.

    تعليق


    • #3
      إرشادُ العابدِ السَّاجِد إلى بعضِ أحكامِ وآدابِ المساجِد ( الحلقة الثالثة )

      بسم الله الرحمن الرحيم




      إرشادُ العابدِ السَّاجِد إلى بعضِ أحكامِ وآدابِ المساجِد

      الحلقة الثالثة







      بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه:
      أما بعد:


      فلا يزال حديثنا موصولا بذكر ما ينبغي على القائمينَ على المساجدِ مراعاتُه أثناءَ بنائِها، فمن تلك الأمور:



      ثالثا: اجتناب زخرفة (1) المساجد



      كثيرا ما نجد أن الحقَّ ضائع بين طرفين: طرف غال وآخر جاف، والحال كذلك هنا، إذ إننا نجد أنَّ من النَّاس من أراد أن يجعل من المساجد سوقا أو مكانا للَّهو، فلم يعرف له حقَّه، ولم يحفظ له قدرَه، وطائفةٌ -بزعمها تعظِّم المساجد-فراحت تزخرف بيوتَ الله بما لم يأذن به الله، ألاَ فليعلمِ المؤمنونَ أنَّ الله -تعالى- أمرَ بعمارةِ المساجدِ بالعلمِ النّافعِ والعملِ الصّالح، لا بالزّخارفِ والألوانِ والثريَّات وغير ذلك.

      حكم زخرفة المساجد


      لقد اختلف العلماء-رحمهم الله تعالى- في زخرفة المساجد على أربعة أقوال (2):
      القول الأول: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ زَخْرَفَةُ الْمَسْجِدِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ نَقْشٍ، أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
      القول الثاني: وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمُ الْحَنَابِلَةُ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ إِلَى تَحْرِيمِ زَخْرَفَةِ الْمَسْجِدِ، وَتَجِبُ إِزَالَتُهُ كَسَائِرِ الْمُنْكَرَاتِ وقال بعضهم: إنها تكره كراهة تحريم.
      القول الثالث: وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أن زخرفة المساجد جائزة بشرط ألا تكون في القبلة أو الميمنة أو الميسرة.
      القول الرابع: وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِلَى اسْتِحْبَابِ زَخْرَفَةِ الْمَسْجِدِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ وَإِحْيَاءِ الشَّعَائِرِ الإْسْلاَمِيَّةِ.

      ولا شك أن القول الذي تؤيده الأدلة الشرعية هو قول من ذهب إلى تحريم الزخرفة مطلقا، قَال الزَّرْكَشِيُّ في إعلام الساجد(33: (فِي تَحْلِيَةِ الْمَسَاجِدِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَتَعْلِيقِ قَنَادِيلِهَا وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: التَّحْرِيمُ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنِ السَّلَفِ، وَالثَّانِي: الْجَوَازُ...).
      ومما يدلنا على تحريم زخرفة المساجد عدة أمور:
      أولا: أَنّه لم يكن من عمل النبيّ-صلَّى الله عليه وسلَّم- ولا أصحابِه.
      فالنبيّ-صلَّى الله عليه وسلَّم- لم يؤمر بذلك، ولم يعلّمه أصحابه-رضي الله عنهم-.
      قال البخاري في صحيحه(1/96): (بَاب بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: (كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ)، وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ: (أَكِنَّ النَّاسَ مِنْ الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ)، وَقَالَ أَنَسٌ: (يَتَبَاهَوْنَ بِهَا، ثُمَّ لَا يَعْمُرُونَهَا إِلَّا قَلِيلًا)، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ).
      ثم ساق بسنده-رحمه الله- عن نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ، وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ، وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ، فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً، وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ).
      قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله- في الفتح(1/540): (قال ابن بطال وغيره: هذا يدل على أن السُّنة في بنيان المسجد القصدُ وتركُ الغلوِّ في تحسينه، فقد كان عمر مع كثرةِ الفتوحِ في أيَّامِه وسعةِ المالِ عندَه لم يغير المسجد عما كان عليه، وإنما احتاج إلى تجديده لأنَّ جريد النَّخل كان قد نخر في أيامه، ثم كان عثمان -والمالُ في زمانه أكثر- فحسنه بما لايقتضي الزَّخرفة، ومع ذلك فقد أنكر بعض الصحابة عليه- كما سيأتي بعد قليل- (3) وأوَّل من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك بن مروان، وذلك في أواخر عصر الصحابة، وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفا من الفتنة (4) ).
      وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ-رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم-: (مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ) [ أبو داود(44. وهو في صحيح الجامع (5550)].
      تنبيه: المشيَّد في اللغة يأتي على ثلاثة معان (5):
      •المبني بالشِّيد، والشيد بخفض الشين كل ما طلي به الحائط من جص وملاط-أي طين-.
      •ما أُحكِم بناؤُه. وهو يرجع إلَى المعنى الأول.
      •الْمُطوَّل والْمرفوع، وهو الأصل في هذه اللفظة والمعنى الأول يرجع إليه، قال ابن فارس: (الشين والياء والدال أصلٌ واحدٌ يدلُّ على رفعِ الشّيء. يقال: شِدْت القَصر أَشِيدُهُ شَيْداً. وهو قصرٌ مَشِيدٌ، أي معمولٌ بالشِّيد. وسمِّي شِيداً: لأنَّ به يُرفَعُ البناء. يقال: قَصرٌ مَشِيدٌ أي: مُطَوّل. والإشادة: رفْع الصَّوت والتنويه)[مقاييس اللغة(3/234)].
      قال البغوي-رحمه الله- في شرح السنة (2/349): (والمراد من التشييد: رفع البناء وتطويله).
      وأيد ابن رسلان قول البغوي فقال: (وَالْمَشْهُورُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ هُنَا رَفْعُ الْبِنَاءِ وَتَطْوِيلُهُ كَمَا قَالَ الْبَغَوِيّ) [مرعاة المفاتيح(2/427)].
      وقال ابن حزم الظاهري في المحلى(4/44): (التَّشْيِيدُ: الْبِنَاءُ بِالشِّيْدِ)، ورجَّح هذا القول صاحب كتاب (أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية)، وحمله على الزخرفة.
      والذي يظهر أنَّ القولين يصبان في مصب واحد، قال صديق حسن خان في الروضة الندية(1/476-477): (والتشييد رفع البناء، وتزيينه بالشِّيد وهو: الجص، والحديث ظاهر في الكراهة أو التحريم لقول ابن عباس: (كما زخرفت اليهود والنصارى) فإن التشبه بهم محرم).
      فالمقصود من الحديث إذن هو رفع بنائها لتجعل ذريعة إلى الزخرفةِ والتزيينِ الذي هو فعل أهل الكتاب، أو تزيينُها وزخرفتُها ولو من غير تطويل.
      وأما تطويل بناء المساجد: فإن كان لمصلحة ولا إسراف فيه فيجوز، وإلا فإنَّه يكره، لما فيه من الإسراف، ولأنه نوع من الفنِّ الزخرفي إذا اتخذ شكلا فنيا، لما يستلزم له من أعمدة وجسور ونوافذ، كلُّها تزخرف غالبا.[ أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية(1/45)].
      ويدل على هذا الحكم كذلك ما ورد عنه-صلَّى الله عليه وسلَّم- مسندا ومرسلا (6): أنه لما بنى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- المسجد أعانه عليه أصحابه،وهو معهم: يتناول اللَّبن حتى اغبرَّ صدره، فقال:(ابْنُوهُ عَرِيشًا(7) كَعَرِيشِ مُوسَى)) قيل للحسن: ما عريش موسى؟ قال: (إذا رفع يده بلغ العريش يعني السقف).
      قال صديق حسن خان في الروضة(1/477): (وفي قوله-صلَّى الله تعالى عليه وآله وسلَّم-: "ما أمرت" إشعار بأنه لا يَحْسُن، فإنه لو كان حسنا لأمره الله تعالى به-صلى الله تعالى عليه وآله وسلم-).
      ثانيا: أنّ ذلك من عمل الجاهلين الذين يحرصون على الظّاهر ويُهملون الباطن.
      فكم رأينا من يحرص على أن يزيّن المسجد وهو لا يصلّي في المسجد، المهمّ عنده أن يكون مسجد حيِّه أجمل من مساجد غيرِه، لذلك جاء في الحديث عن أنس-رضي الله عنه-: أن النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ) [ أحمد(12402)، أبو داود (449)، والنّسائي(689) وابن ماجه(739). وهو في صحيح الجامع (5895)].
      وفي رواية لابن أبي شيبة(2/309): ((لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَبْنُونَ الْمَسَاجِدَ يَتَبَاهَوْنَ بِهَا، وَلَا يَعْمُرُونَهَا إِلَّا قَلِيلًا)).
      ففي هذه الأحاديث أن التباهي بالمساجد وزخرفتها- وهو الحاصل في زمننا هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله- من علامات الساعة، إذ لا يفعله إلا الجاهلون أو أهل الرياء، ولو كان خيرا لسبقنا إليه السلف الصالح.
      ثالثا: أنّ ذلك من عملِ المغضوبِ عليهم والضَّالين: اليهودِ والنَّصارى الذين يعتنون بِبِيَعِهِم وكنَائِسِهِم.
      قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ-رضي الله عنه-: (لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى)[البخاري تعليقا(1/171)، ورواه أبو داود(44 بإسناد صحيح، انظر صحيح أبي داود(2/347)] وهذا الأثر عن ابن عباس وإن كان موقوفا عليه إلا أن له حكم الرفع إذ إن مثله لا يقال بالرأي (.
      قَالَ عَلِيّ الْقَارِي في مرقاة المفاتيح(3/181): (وَهَذَا بِدْعَة لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلهُ عَلَيْهِ السَّلَام، وَفِيهِ مُوَافَقَة أَهْل الْكِتَاب).
      قال صديق حسن خان في الروضة(1/477): (والحديث ظاهر في الكراهة أو التحريم لقول ابن عباس: (كما زخرفت اليهود والنصارى) فإن التشبه بهم محرم، وذلك أنه ليس المقصود من بناء المساجد إلا أن تُكِنَّ الناس من الحر والبرد، وتزيينه يشغل القلوب عن الإقبال على الطاعة، ويذهب الخشوع الذي هو روح جسم العبادة، والقول بأنه يجوز تزيين المحراب باطل).
      رابعا: ما جاء في فعله من الوعيد الشديد.
      فعن أبي الدّرداء-رضي الله عنه-قال: ((إِذَا زَوَّقْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ وَحَلَّيْتُمْ مَصَاحِفَكُمْ فَالدَّمَارُ عَلَيْكُمْ) [ابن أبي شيبة(3166)، وابن المبارك في الزهد (797)، وغيرهما بألفاظ متقاربة، وهو في الصحيحة(1351)].
      أي: إذا صرفتم اهتمامكم إلى المظاهر فكان همكم من المصاحف جمالها وزخرفتها لا قراءتها، وتجميلُ المساجد لا إعمارُها بالصلاة، فبئس المصير.
      تنبيه: حرم ابن حزم تحلية المساجد بالذهب والفضة، لما فيه من الإسراف، واستثنى المسجد الحرام، حيث قال في المحلى(4/247): (وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يبنى مَسْجِدٌ بِذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ إلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ خَاصَّةً)اهـ، ولم يذكر لاستثنائه هذا دليلا.[أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية(1/43)].
      خامسا : أن هذه الزخرفة تلهي وتشغل المصلي عن صلاته وخشوعه:
      وهذا أمر واضح لا خفاء فيه. وفي المدونة(1/197): (قلت: أكان مالك يكره أن يكون في القبلة مثل هذا الكتاب الذي كتب في مسجدكم بالفسطاط؟ قال: سمعت مالكا وذكر مسجد المدينة وما عمل فيه من التزويق في قبلته وغيره، فقال: كره ذلك الناس حين فعلوه وذلك لأنه يشغل الناس في صلاتهم ينظرون إليه فيلهيهم).
      وفي (1/425): (قلت لابن القاسم: أكان مالك يكره التزويق في القبلة؟ قال: نعم كان يكرهه، ويقول يشغل المصلين).
      وقال النووي في المجموع(2/180): (يكره زخرفة المسجد ونقشه وتزيينه للأحاديث المشهورة، ولئلا تشغل قلب المصلى).
      و في الحديث عن صَفِيَّةَ بنت شيبة قالت: سمعت الأسلَمِيَّةَ تقول: قلت لعثمان: ما قال لك رسول الله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين دعاك؟ قال: ((إنيِ نسيت أن آمرَكَ أن تُخَمِّرَ القَرْنَيْنِ؛ فإنه ليس ينبغي أن يكون في البيتِ شيءٌ يَشغَلُ المُصَلِّيَ )[صحيح أبي داود(6/269)].
      و عن عائشة: ((أَنَّ النَّبِيَّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ فَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: (اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي)[البخاري(373) ومسلم (556)].
      وفي روايةٍ للبخاري(373): ((كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عَلَمِهَا وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ فَأَخَافُ أَنْ تَفْتِنَنِي)).
      وعَنْ أَنَسٍ –رضي الله عنه- قال: كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا فَقَالَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ فِي صَلَاتِي)) [ البخاري(374)].
      وقد سئلت اللجنة الدائمة برئاسة الشيخ ابن باز-رحمه الله- عن زخرفة المساجد وكتابة الآيات على جدرانها فأجابت:
      (لا يجوز زخرفة المساجد، ولا كتابة الآيات القرآنية على جدرانها، لما في ذلك من تعريض القرآن للامتهان، ولما فيه من زخرفة المساجد المنهي عنها، وإشغال المصلين عن صلاتهم بالنظر في تلك الكتابات والنقوش).
      [فتاوى اللجنة الدائمة المجموعة الثانية (5 / 190)].
      وفي جواب لهم عن سؤال حول مشروع يتبنى زخرفة المساجد؟ قالوا:
      (هذا العمل غير مشروع، للأحاديث الصحيحة في النهي عن زخرفة المساجد، ولأن في ذلك إشغالاً للمصلين عن صلاتهم بالنظر، والتفكر في تلك الزخارف والنقوش).[فتاوى اللجنة الدائمة المجموعة الثانية (5 / 191)].



      رابعا: وجوب الاعتناء بأمر القبلة عند بنائها


      استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة، فلو صلى المرءُ إلى غير القبلة مع قدرتِه على استقبالها فإن صلاته باطلة، إلا لعذر شرعي، والدليل على اشتراط ذلك: الكتاب والسنة والإجماع.
      أما الكتاب: فلقول الله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150].
      ومن السنة: قول النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- للمسيءِ صلاتَه: ((إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ) [البخاري(6251)، ومسلم(397)].
      والإجماع منعقد على ذلك. فقد أجمع المسلمون على وجوب استقبال القبلة في الصلاة.
      قال ابن حزم-رحمه الله-: (وَاتَّفَقُوا أَن اسْتِقْبَال الْقبْلَة لَهَا فرض لمن يعاينها أَو عَرَفَ دلائلها مَا لم يكن مُحَاربًا وَلَا خَائفًا).[ مراتب الإجماع لابن حزم (26)].
      وقال شيخ الإسلام-رحمه الله-: (استقبال الكعبة البيت الحرام شرط لجواز الصلاة وصحتها وهذا مما أجمعت الأمة عليه). [شرح العمدة (521)].
      قال الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-: (والحكمة من ذلك هي: أن يتَّجه الإنسان ببدنه إلى مُعَظَّمٍ بأمر الله وهو البيت، كما يتَّجه بقلبه إلى ربِّه في السَّماء، فهنا اتجاهان: اتجاهٌ قلبي، واتجاهٌ بدني، الاتجاه القلبي إلى الله-عزّ وجل-، والاتجاه البدني إلى بيته الذي أُمِرَ بالاتِّجاه إليه وتعظيمه، ولا ريب أنَّ في إيجاب استقبال القِبْلة من مظهر اجتماع الأمَّة الإسلامية ما لا يخفى على الناس، لولا هذا لكان النَّاس يُصلُّون في مسجد واحد، أحدهم يُصلِّي إلى الجنوب، والثاني إلى الشمال، والثالث إلى الشرق، والرابع إلى الغرب، وقد تتعذَّر الصفوف في الجماعة، لكن إذا كانوا إلى اتجاه واحد صار ذلك من أكبر أسباب الائتلاف) [الشرح الممتع (2/261)].
      وإذا علم هذا كان من الواجب حينها تحديد القبلة بدقة عند بناء المساجد، بل لو بني المسجد، وتبين بعد ذلك أن هنالك خطأً كبيراً في قبلة المسجد فيجب تصحيح ذلك الخطأ والتوجه إلى القبلة (والخطأ الكبير أن يكون الانحراف أكثر من 45 درجة) (9) ، لأن العلماء اتفقوا على أنّ الفرض في حق من يشاهد الكعبة هو استقبال عينها، وأمّا من كان بعيدا عنها لا يراها فقال جمهور العلماء: يجب عليه أن يستقبل جهة الكعبة، ولا يجب عليه أن يستقبل عينها (10).
      وهذا القول هو الأقرب، لأنه يتفق مع مقصد الشرع الحنيف من رفع الحرج قال تعالى: {ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]،أي: جهته (11)، وهو صريح قول النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((ما بين المشرق والمغرب قبلة)) [الترمذي(342) وابن ماجه(826) وهو صحيح لغيره كما في الإرواء(1/324)].
      وقد سئل الشيخ ابن باز-رحمه الله- عن مسجد فيه انحراف عن القبلة فأجاب-رحمه الله تعالى-: (إذا كان الانحراف يسيراً فلا يضر، الانحراف اليسير يُعفى عنه عند أهل العلم، لقول النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ))، يقوله في حق أهل المدينة ونحوهم، فهكذا في الشرق ما بين الشمال والجنوب قبلة، وهكذا في الغرب ما بين الجنوب والشمال قبلة، فالمقصود أن الانحراف اليسير، والميل اليسير الذي لا يخرجه عن الجهة هذا يعفى عنه، أما إذا انحرف إلى الجهة الأخرى فهذا هو الذي لا يعفى عنه، وأما الانحراف اليسير فيعفى عنه) [فتاوى نور على الدرب (2/737)].
      وكان جواب الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله- عن مثل هذا السؤال كالتالي: (إذا كان الانحراف لا يخرج الإنسان عن الجهة فإن ذلك لا يضر، والاستقامة أولى بلا ريب، أما إذا كان هذا الانحراف يخرج الإنسان عن جهة القبلة، مثل أن يكون متجهاً إلى الجنوب والقبلة شرقاً، أو إلى الشمال والقبلة شرقاً، أو إلى الشرق والقبلة جنوباً، فلا ريب أن هذا يجب فيه تعديل المسجد، أو يجب الاتجاه إلى جهة القبلة، وإن خالفت جهة المسجد) [مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين(12/414)].



      خامسا: فصل بيوت الخلاء عن المسجد



      الأصل أن يقوم من يُشرف على المساجد بالفصل بين مكان الصّلاة ومكان قضاء الحاجة، حيث يصبح لكلّ منهما مدخل يخصّه، ويفرق بينهما بطريق أو ممر أو جدار حيث لا يمكن الدخول إلى أحدهما إلا بعد الخروج من الآخر، وذلك لكي تخرج المراحيض عن مكان الصّلاة ولو في الصّورة، ولكي لا تؤذي الرّائحة الكريهة المصلّين كما هو حادث في بعض المساجد.
      ولابدّ أن نعلم أنّ العلماء قد اختلفوا فيما هو أهون من ذلك، فقد اختلفوا في حكم الوضوء في المسجد (12) ، فقد كرهه بعضهم، وإن كان الصواب هو جوازه 13، فكيف بقضاء الحاجة في بقعة يقال عنها: بيت الله.
      قال ابن قدامة-رحمه الله-: (إذا أراد أن يبول في المسجد في طست، لم يبح له ذلك، لأن المساجد لم تبن لهذا، وهو مما يقبح ويفحش ويستخف به، فوجب صيانة المسجد عنه) [الشرح الكبير(3/152)].
      وقال ابن مفلح-رحمه الله-: (وَيَحْرُمُ بَوْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ فِي إنَاءٍ، وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ((إنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا إنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ))اهـ) [الفروع(5/163-164)].
      وجاء في الموسوعة الفقهية (1/12274) ما نصه: (يَحْرُمُ بِالاِتِّفَاقِ الْبَوْل وَالتَّغَوُّطُ فِي الْمَسْجِدِ، صِيَانَةً لَهُ وَتَنْزِيهًا وَتَكْرِيمًا لِمَكَانِ الْعِبَادَةِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النَّهْيُ عَنِ الْبُصَاقِ فِيهِ فَالْبَوْل وَالتَّغَوُّطُ أَوْلَى...
      أَمَّا لَوْ بَال فِي الْمَسْجِدِ فِي إِنَاءٍ وَتَحَفَّظَ مِنْ إِصَابَةِ أَرْضِ الْمَسْجِدِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ أَيْضًا، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالأْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ... وَالْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ ذَلِكَ بِشَرْطِ التَّحَرُّزِ ).
      وقال شيخنا الفاضل محمد علي فركوس-حفظه الله-: (ولَمَّا كانت الْمساجدُ بيوتُ اللهِ مخصَّصةً للعبادة، فالواجبُ صيانتُها من النَّجاسة والأقذارِ والروائحِ الكريهة، ففي روايةِ مسلمٍ أنَّ النَّبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ، وَ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ))...)
      ثُمَّ ذكر الشيخُ-حفظه الله– أحاديثَ النَّهيِ عن البصاق فِي الْمسجد، وكذا أحاديثَ النَّهيِ عن إتيانِ الْمسجدِ برائحةِ الثُّوم والبَصلِ وما فِي معناهُما، ثمَّ قال :
      (فهذه الأحاديثُ وغيرُها تدلُّ دلالةً واضحةً على عدمِ مشروعيَّةِ استعمالِ المراحيضِ بالاستنجاءِ والتَّبولِ لكونِها توابعُ للمسجدِ الْمتصلةِ بهِ اتصالَ قرار.
      علماً أنَّه ورد مرفوعاً النَّهي عن أن يبال بأبوابِ الْمَساجد (14)، فداخلُه من بابِ أولى.
      هذا ولَمْ يعرف فِي العهد الأوَّل وجودُ مراحيضَ داخلَ المساجدِ، بل فِي مدلولِ بعضِ الأحاديثِ وسياقِها ما يدلُّ بالتَّلويحِ على خلوِّ الْمساجدِ عنها مع وجودِ الْمُقتضِي...) [فرائد القواعد لحل معاقد المساجد(15-17)].



      مسألة مهمة متعلقة برحبة المسجد


      تعريف الرحبة لغة واصطلاحا: الرُّحْبُ بالضم السّعة يقال: فلان رحب الصدر، والرَّحْبُ بالفتح الواسع، وقولهم مَرْحَباً وأهلا أي: أتيت سعة وأتيت أهلا فاستأنس ولا تستوحش، والرَّحِيبُ الواسع، ومنه فلان رحيب الصدر، ورَحُبَتِ الدار. و رَحَبَةُ المسجد -بفتح الحاء- ساحته وجمعها رَحَبٌ و رَحَبَاتٌ.
      [لسان العرب لابن منظور(1/413)، ومختار الصحاح(267)].
      وأما الرحبة في مصطلح الفقهاء: فقد عرفت بعدة تعاريف منها ما يلي:
      1. قال ابن الصلاح هي: (صحن المسجد)
      [انظر إعلام الساجد(346)، والفتاوى الفقهية الكبرى للهيتمي(1/220)].
      2. وقال ابن حجر بأنها: (بناء يكون أمام باب المسجد غير منفصل عنه)
      [فتح الباري(13/155)].
      3. وقال البندنيجي (15) هي: (ما بني بجوار المسجد) [انظر إعلام الساجد(346)].
      وقد اختلف الفقهاء في حكمها، هل تأخذ حكم المسجد أو لا ؟ على ثلاثة أقوال:
      القول الأول: ذهب مالك والشافعي وأحمد في رواية إلى أن رحبة المسجد من المسجد مطلقا، متصلة كانت أو منفصلة. [المدونة(1/300)، والمجموع للنووي(6/507)، والشرح الكبير(3/140)].
      القول الثاني: وذهب الأحناف، ومالك في رواية، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة إلى أن الرحبة ليست من المسجد مطلقا متصلة أو منفصلة عنه.
      [حاشية ابن عابدبن(1/657)، وحاشية الدسوقي(1/542)، والإنصاف(3/25].
      القول الثالث: أن الرحبة إن كانت متصلة بالمسجد محوطة، فهي من المسجد وتأخذ حكمه، وإلاَّ فلا. وبهذا قال محمد ابن عبد الحكم المالكي، والقاضي أبو يعلى الحنبلي (16)، ورجحه ابن تيمية، وابن حجر العسقلاني، وابن المنير، وغيرهم.
      [ الشرح الكبير(3/140)، والفروع(5/139)، والإنصاف(3/25، ومجموع الفتاوى(21/304)، وفتح الباري(13/155-156)].
      قال الحافظ في الفتح(2/344): (حُكْم رَحْبَة الْمَسْجِد وَمَا قَرُبَ مِنْهَا حُكْمه، وَلِذَلِكَ كَانَ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا وَجَدَ رِيحهَا فِي الْمَسْجِد أَمَرَ بِإِخْرَاجِ مَنْ وُجِدَتْ مِنْهُ إِلَى الْبَقِيع).
      نقل الشيخ الألباني كلام الحافظ هذا في الثمر المستطاب مقرا له.
      وقد سئل الشيخ عبد العزيز آل الشيخ: هل توابع المسجد كالفناء والساحة والمكتبة وبيوت الوضوء لها حكم المسجد؟ فأجاب-حفظه الله-:
      (ما كان حائط المسجد شاملاً ومُدخِلاً له في المسجد فهو من المسجد، وما كان خارج محيط المسجد فهو خارج المسجد). [مجلة البحوث الإسلامية(59/81)].
      إذا تبيّن لنا هذا أيّها الإخوة الكرام، فلا بدّ أن ننتبه إلى أنّنا بمجرّد دخولنا ساحة المسجد أنّنا في المسجد، فنراعي فيها جميع أحكام المسجد.
      قال شيخنا محمد علي فركوس-حفظه الله-: (فإنَّ رحبةَ الْمَسجدِ وفناءَه وحوالَيهِ وما أضيفَ إليهِ وما اتَّصلَ بهِ خارجَه أو داخلَه يُعَدُّ من حريمِ الْمَسجدِ على الأصحِّ، وحريمُ الْمسجدِ حكمُه حكمُ الْمَسجدِ من حيثُ عدمُ مشروعيةِ البيعِ وإنشادِ الضَّالةِ فيهِ أو تغسيلِ الْموتَى والاستنجاءِ ونحوِ ذلك، ويشرعُ فيه الاقتداءُ بِمَن فِي الْمسجدِ، وتحيةُ الْمسجدِ وغيرُ ذلك من الأحكامِ الْمتعلقةِ بالْمسجدِ) [فرائد القواعد لحل معاقد المساجد(11-12)].



      وللحديث بقية في الحلقات المقبلة بإذن الله
      والله أعلى وأعلم
      والحمد لله رب العالمين
      كتبه: مصطفى قالية





      هامش
      1- الزَّخْرَفَة الزِّينَة، وَأَصْل الزُّخْرُف الذَّهَب ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي كُلّ مَا يُتَزَيَّن بِهِ. انظر فتح الباري(1/540).
      2- انظر هذه الأقوال في: إعلام الساجد للزركشي(335-337)، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه (1/65و255)، وجواهر الإكليل (1/55)، ورد المحتار على الدر المختار (1/442-443)، والإقناع(1/329)، والمجموع للنووي(2/180)، والفروع لابن مفلح(4/63)، وتنبيه الغافلين(324)، والموسوعة الفقهية الكويتية(23/217).
      3- قد مضى الكلام على هذه النقطة في الحلقة الأولى من هذه السلسلة.
      4- في هذا رد على من ادعى أن سكوت بعض السلف عن الإنكار يستفاد منه الإقرار دائما، قال الشوكاني في النيل(2/157): (ودعوى ترك إنكار السلف ممنوعة لأن التزيين بدعة أحدثها أهل الدول الجائرة من غير مؤاذنة لأهل العلم والفضل وأحدثوا من البدع ما لا يأتي عليه الحصر ولا ينكره أحد وسكت العلماء عنهم تقية لا رضا بل قام في وجه باطلهم جماعة من علماء الآخرة وصرخوا بين أظهرهم بنعي ذلك عليهم ).
      5- انظر: لسان العرب (4/2374)، والقاموس المحيط (1/ 306)، والمحيط(2/ 175)، ومختار الصحاح للرازي(352- 353).
      6- أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة"(2/541،542)بالوجهين، ومن طريقه ابن كثير في"البداية"(3/215)، قال الألباني في صحيح الترغيب: حسن لغيره(1876).انظر فتح الباري لابن رجب(1/114)، والسلسلة الصحيحة(616)
      7- الْعَرِيشُ مَا يُسْتَظَلُّ بِهِ من خيمة أو غيرها والجمع عُرُش كقليب وقُلُب.
      8- انظر حكم الشيخ الألباني على هذا الأثر في كتاب إصلاح المساجد من البدع والعوائد للقاسمي(94).
      9- إذا علم هذا أدركنا الخطأ الذي يفعله بعض رواد المسجد من الالتفات يمنة أو يسرة بحجة أن المسجد منحرف عن القبلة يسيرا، وربما أنكروا على من لم يفعل ذلك، فيقال ما دام أن المسجد في جهة القبلة فلا حاجة للالتفات، لأن المقصود هو إصابة جهة الكعبة لا عينها.
      10- قال بهذا القول الجمهور من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشافعية في قول. انظر أقوالهم في: بدائع الصنائع(1/117)، وتبين الحقائق(1/100)، وحاشية الدسوقي(1/229)، ومنح الجليل(1/231)، والأم(1/93)، والمجموع(3/189)، والروض المربع(1/64).
      11- انظر تفسير السعدي (73).
      12- انظر مجموع الفتاوى(22/203).
      13- وذلك لأنه عبادة، ولما ثبت في صحيح البخاري(136) عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ قَالَ: رَقِيتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه- عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ، فَتَوَضَّأَ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ –صلَّى الله عليه وسلَّم- يَقُولُ: ((إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ)).
      14- رواه أبو داود في مراسيله عن مكحول الشامي مرسلا، و رواه فيه أيضا عن أبي مجلز لاحق بن حميد مرسلا كذلك، وحكم الشيخ الألباني بثبوت هذا الحديث لأن المرسلين قوى أحدهما الآخر لاختلاف مخرجهما فمكحول شامي وأبو مجلز بصري. وكلامه في الصحيحة(6/495).
      15- هو الحسن بن عبد الله بن يحيى، أبو علي البندنيجي: قاض، من أعيان الشافعية. من أهل بندنيجين (القريبة من بغداد) سكن بغداد، وأفتى وحكم فيها. وعاد إلى بلده في آخر عمره فتوفي بها. له (الجامع) قال الإسنوي: هو تعليقة جليلة المقدار قليلة الوجود، و(الذخيرة) قال أيضا: كتاب جليل. كلاهما في فقه الشافعية. انظر الأعلام للزركلي(2/196).
      16- جمع القاضي أبو يعلى بين الروايتين عن أحمد وخطَّأ من جعل في المذهب روايتين. انظر الإنصاف (3/259).
      التعديل الأخير تم بواسطة أبو الحسين عبد الحميد الصفراوي; الساعة 29-Dec-2010, 10:21 PM.

      تعليق


      • #4
        إرشادُ العابدِ السَّاجِد إلى بعضِ أحكامِ وآدابِ المساجِد / الحلقة الرابعة

        إرشادُ العابدِ السَّاجِد إلى بعضِ أحكامِ وآدابِ المساجِد
        الحلقة الرابعة


        منقول من منتديات التصفية و التربية السلفية

        بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه و من والاه:
        أما بعد :


        فلا يزال حديثنا موصولا بذكر ما ينبغي على القائمينَ على المساجدِ مراعاتُه أثناءَ بنائِها، فمن تلك الأمور:


        سادسا
        التقليلُ ما أمكنَ منْ عدَدِ السَّوارِي داخلَ المسجدِ، لأنَّها تقطعُ اتِّصالَ الصُّفُوفِ


        السَّواري: جميع سارية، والمراد بها: أعمدة المسجد، وتسمّى أيضا الأسطوانة، وهي ما نسمّيه اليوم بعرصات المسجد، والمصلي عند السارية لا يخلو من حالات هي:

        الحالة الأولى: أن يُصليَ إلى السَّارية، أي: يتخذَها سترةً

        وهنا تصح صلاتُه إليها فرضا، و تُستحب الصلاة إليها نفلا. ويشهد لهذا عدة أدلة:
        الأول : قال البخاري في صحيحه: (بَاب الصَّلَاةِ إِلَى الْأُسْطُوَانَةِ. وَقَالَ عُمَرُ: الْمُصَلُّونَ أَحَقُّ بِالسَّوَارِي مِنْ الْمُتَحَدِّثِينَ إِلَيْهَا، وَرَأَى عُمَرُ رَجُلًا يُصَلِّي بَيْنَ أُسْطُوَانَتَيْنِ فَأَدْنَاهُ إِلَى سَارِيَةٍ فَقَالَ: صَلِّ إِلَيْهَا). [البخاري تعليقا(1/106)، ووصلهما ابن أبي شيبة في المصنف(2/370)، وانظر تغليق التعليق(2/246)].
        الثاني : عن يزيدَ بنِ أبي عبيد قال: كُنْتُ آتِي مَعَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فَيُصَلِّي عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ أَرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ، قَالَ: (فَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا)[ البخاري (502)، ومسلم(509).].
        فائدة من هذا الحديث:
        قال ابن حجر في الفتح (1/577): (هَذَا دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لِلْمُصْحَفِ مَوْضِعٌ خَاصٌّ بِهِ، وَوَقَعَ عِنْد مُسْلِم بِلَفْظ: ((يُصَلِّي وَرَاءَ الصُّنْدُوقِ))، وَكَأَنَّهُ كَانَ لِلْمُصْحَفِ صُنْدُوقٌ يُوضَعُ فِيهِ، وَالْأُسْطُوَانَةُ الْمَذْكُورَةُ حَقَّقَ لَنَا بَعْض مَشَايِخِنَا أَنَّهَا الْمُتَوَسِّطَةُ فِي الرَّوْضَةِ الْمُكَرَّمَةِ، وَأَنَّهَا تُعْرَفُ بِأُسْطُوَانَةِ الْمُهَاجِرِينَ، قال: ثُمَّ وَجَدْت ذَلِكَ فِي تَارِيخِ الْمَدِينَةِ لِابْن النَّجَّار وَزَاد: (أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْش كَانُوا يَجْتَمِعُونَ عِنْدَهَا)، وَذَكَرَهُ قَبْلَهُ مُحَمَّد بْن الْحَسَن فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ).
        قلت: لم أجد رواية مسلم المشار إليها عنده ولا عند غيره، والذي وجدته عند مسلم المطبوع(509) بلفظ: (كان يتحرى موضع مكان المصحف). والله أعلم.
        الثالث : عن أنس بن مالك-رضي الله عنه- قال: (كَانَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا أَذَّنَ قَامَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُمْ كَذَلِكَ، يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ) [ البخاري(625)، ومسلم(837)].


        الحالة الثانية
        : أن يصليَ الإمامُ أو المنفردُ بينهما، أو يكونُ المصلون بين الساريتين فقط دون تتميم الصف عن اليمين والشمال

        صلاة المنفرد أو الإمام بين السواري لا حرج فيها، وكذا الصلاة بين الساريتين دون تتميم الصف عن اليمين والشمال أيضاً لا حرج فيها، لأن التراص وعدم الانقطاع حاصل.
        -قال البخاري في صحيحه(1/107): (بَاب الصَّلَاةِ بَيْنَ السَّوَارِي فِي غَيْرِ جَمَاعَةٍ).
        -قال ابن رجب: (ومقصود البخاري بهذا الباب: أن من صلى بين ساريتين منفردا، كمن يصلي تطوعا، فإنه لا يكره له ذلك كما فعله النبي-صلى الله عليه وسلم- في الكعبة، وكان ابن عمر يفعله.
        وكذا لو صلى جماعة، وكان إمامهم، ووقف بين الساريتين وحده، وقد فعل ذلك سعيد بن جبير وسويد بن غفلة...
        وإنما يكره ذلك لصف تقطعه السواري، فلو صلى اثنان أو ثلاثة جماعة بين ساريتين لم يكره -أيضا-، هذا قول أصحابنا وأصحاب الشافعي وغيرهم من العلماء)
        [فتح الباري له (2/651)].
        -قال ابن قدامة: (فإن كان الصف صغيرا قدر ما بين الساريتين لم يكره، لأنه لا ينقطع بها) [المغني(2/4].
        -قال البيهقي: (وَهَذَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لأَنَّ الأُسْطُوَانَةَ تَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ وَصْلِ الصَّفِّ فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ لَمْ يُجَاوِزُوا مَا بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ لَمْ يُكْرَهْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) [السنن(3/104)].
        -قال العراقي: (إِنَّ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ بَيْنَ الْأَسَاطِينِ إنَّمَا هُوَ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ الْأَسَاطِينَ تَقْطَعُ الصُّفُوفَ فَأَمَّا مَنْ صَلَّى بَيْنَهَا مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ وَكَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْوَاقِفُ بَيْنَهَا أَوْ الْمَأْمُومِينَ وَلَمْ يَكْثُرُوا بِحَيْثُ تَحُولُ الْأُسْطُوَانَةُ بَيْنَهُمْ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَرِهَهُ).
        -وفي الموسوعة الفقهية(4/224): (اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ تَقْطَعِ الأْسْطُوَانَةُ الصَّفَّ فَلاَ كَرَاهَةَ لِعَدَمِ الدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ. أَمَّا إِذَا قَطَعَتْ فَفِيهِ خِلاَفٌ).
        -قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: (لو كان هناك جماعة محدودعددهم ووقفوا بين الساريتين بحيث أنه لا يغلب على الظن أن الصف سيتصل إلى ما بعدالساريتين يميناً أويساراً فلا مانع، لأنَّ العلَّة واضحة وهي أن لا يتعرَّض الصف للتقطُّع) [سلسلة الهدى والنور: الشريط: 137].


        الحالة الثالثة: أن يصليَ بين السَّاريتين مع الجماعة لشدة الزحام وضيق المكان

        فيصح ذلك ولا كراهة فيه. وقد نصَّ على ذلك مالك-رحمه الله- وغيره.
        -قال الإمام مالك-رحمه الله-: (لا بأس بالصفوف بين الأساطين إذا ضاق المسجد)[المدونة(1/195)].
        -وقال ابن العربي المالكي-رحمه الله-: (ولا خلاف في جوازه عند الضيق، وأما مع السعة فهو مكروه للجماعة، فأما الواحد فلا بأس به) [عارضة الأحوذي(2/2].
        -وقال الحافظ ابن حجر-رحمه الله-: (قال المحب الطبري: كره قوم الصف بين السواري للنهي الوارد عن ذلك، ومحل الكراهة عند عدم الضيق) [فتح الباري(1/57].
        -وفي جواب اللجنة الدائمة: (تكره الصلاة بين السواري إذا قطعن الصفوف من غير حاجة، فإن كان هناك حاجة كضيق المسجد زالت الكراهة، وكذا إذا لم يقطعن الصف) [ فتاوى اللجنة الدائمة(6/329)].
        -وقال الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-: (الصف بين السواري جائز إذا ضاق المسجد، حكاه بعض العلماء إجماعاً، وأما عند السعة ففيه خلاف، والصحيح: أنه منهي عنه) [ مجموع فتاوى ورسائل الشيخ(13/34)].
        تنبيه: ينقل عن الحنابلة القول بالكراهة مطلقا، والصواب في مذهبهم التفصيل.
        -قال ابن رجب: (وقد نص أحمد على كراهة الصلاة بين الأساطين مطلقا من غير تفصيل: نقله عنه جماعة، منهم: أبو طالب وابن القاسم، وسوَّى في روايته بين الجمعة وغيرها، ونقل عنه حرب: يكره ذلك، قلوا أو كثروا، وإن كانوا عشرة.
        وصرح أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ( كتاب الشافي) بكراهة قيام الإمام بين السواري.
        وأما القاضي أبو يعلى وأصحابه، فقالوا: إنما يكره ذلك لصف تقطعه السواري، وحملوا كلام أحمد على ذلك.
        ويشهد له: ما نقله ابن منصور عن أحمد وقد سأله: هل يقوم الإمام بين الساريتين، يؤم القوم؟ قال: إنما يكره للصف، إذا كان يستتر بشيء فلا بأس. قال إسحاق بن راهويه كما قال. وكذا نقل حرب عن إسحاق أنه يكره ذلك للصف، ولا يكره لمن صلى وحده) [فتح الباري له(2/653)، وانظر مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه(2/613-614)].

        الحالة الرابعة: أن يصليَ بين السواري مع جماعة في سعة من المسجد

        فهذه الحالة هي الحالة التي وردت بشأنها الأحاديث والآثار الكثيرة في النهي عنها، فمن هذه الأحاديث:
        -عَنْ قُرَّةَ بْنِ إِيَاسٍ-رضي الله عنه- قَالَ: ((كُنَّا نُنْهَى أَنْ نَصُفَّ بَيْنَ السَّوَارِي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه-صلَّى الله عليه وسلَّم- وَنُطْرَدُ عَنْهَا طَرْدًا)) [ابن ماجه(335)، وهو في السلسلة الصحيحة(335).].
        -عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ مَحْمُودٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ أَنَسٍ-رضي الله عنه- فَصَلَّيْنَا مَعَ أَمِيرٍ مِنْ الْأُمَرَاءِ، فَدَفَعُونَا حَتَّى قُمْنَا وَصَلَّيْنَا بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَجَعَلَ أَنَسٌ-رضي الله عنه- يَتَأَخَّرُ، وَقَالَ: ( قَدْ كُنَّا نَتَّقِي هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم-) [أحمد(12339)، وأبو داود(673)، وغيرهما. وهو في السلسلة الصحيحة(1/334)].
        -عن ابن مسعود-رضي الله عنه- قال: ((لاَ تَصْطَفُّوا بَيْنَ السَّوَارِي)) [الطبراني في الكبير(9190)، والبيهقي في السنن الكبرى(3/104)، وهو في السلسلة الصحيحة(1/334)].
        هذا وإن ذهب بعض العلماء إلى حمل هذا النهي على الكراهة فلا شك أن الحق هو حملها على التحريم، بل كما قال الشيخ الألباني-رحمه الله– أن الذي يتسبب بقطع الصف حكمه كحكم الذي يقطع الصف، وأورد حديث: ((من وصل صفا وصله الله ومن قطع صفا قطعه الله)) [سلسلة الهدى والنور: الشريط: 137].
        فالملاحظ أن النبي-صلى الله عليه وسلم- نهى عن تقطيع الصفوف الحسية لكي لا تقع المقاطعة المعنوية، والشحناء والبغضاء.
        -قال الشوكاني: (الحديثان المذكوران في الباب يدلان على كراهة الصلاة بين السواري وظاهر حديث معاوية بن قرة عن أبيه وحديث أنس الذي ذكره الحاكم أن ذلك محرم) [نيل الأوطار(3/235)].
        تنبيه مهم: ينبغي ألا يدفعنا فرارنا من هذا المحظور إلى الوقوع في محظور آخر، ألا وهو المباعدة بين الصفوف، فالصفوف الأصل فيها أن تكون متقاربة، فعن أنس-رضي الله تعالى-عنه قال: قال رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((رُصُّوا صُفُوفَكُمْ وَقَارِبُوا بَيْنَهَا)) [أبو داود(667)، وهو في صحيح الترغيب والترهيب(494)].
        والمقصود المقاربة بين الصفوف حيث لا يسع بين صفين صف آخر)[مرعاة المفاتيح(4/14)].
        فائدة : في الحكمة في النهي عن الصلاة بين السواري :
        ظهر لنا من الأحاديث السابقة وكذا من بعض نصوص أهل العلم السابقة أن الحكمة من هذا النهي هو الحفاظ على اتصال الصفوف وعدم قطعها، وهناك من ذكر حِكَمًا أخرى نذكرها من باب الفائدة :
        أولا : لأنَّ بين الصفوف مَوْضِعُ النِّعَالِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ نَجَاسَةٍ.
        ذكره أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ بعد ذكره الحكمة الأولى، ثم قال: (وَالْأَوَّل أَشْبَه لِأَنَّ الثَّانِي مُحْدَث)[عارضة الأحوذي(2/2].
        أَيْ: لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ السَّلَفِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يجعلون للنعال مكانا مخصصا.
        ثانيا : أَوْ لِأَنَّهُ مُصلَّى الْجِنّ الْمُؤْمِنِينَ، فيترك لهم.
        قَالَهُ أبو العباس الْقُرْطُبِيّ بعد ذكره الحكمة الأولى كذلك. وهو بعيد لا دليل عليه. [انظر المفهم(2/10].
        فإذا تبين لنا من هذا النقل ضرورة وصلِ الصفوفِ وعدمِ قطعِها مطلقاً، بما في ذلك قطعها بالصلاة بين السواري، كان محتما على المصلين اجتناب الصلاة فيها إلا عند الضرورة-كما سبق بيانه-.
        ومن جهة أخرى كان الأولى على القائمين والمشرفين على بناء المساجد أن لا يُكثروا فيها من هذه العرصات والأساطين، وذلك لأنّ في الإكثار منها مفاسد كثيرة.
        قال الشيخ الألباني-رحمه الله-: (إنه ينبغي لمن أراد أن يبني مسجدا أو جامعا أن يأمر المهندس بأن يضع له خارطة تكون فيه السواري قليلة ما أمكن، تقليلا للمفسدة التي تترتب على وجودها في المساجد من قطع الصفوف، وتضييق المكان على المصلين، وإنه لمن الممكن اليوم بناء المسجد بدون أية سارية بواسطة الشمنتو والحديد (الباطون)، إذا لم يكن المسجد واسعا جدا، وقد بنيت في دمشق عدة مساجد على هذه المثال كمسجد (لا لا باشا) في شارع بغداد، وجامع (المرابط) في المهاجرين، وغيرهما فالصفوف فيهما متصلة كلها حاشا الصفوف الأمامية فإنها مقطوعة مع الأسف بسبب هذه البدعة التي عمت جميع المساجد تقريبا وأعني بذلك المنبر العالي الطويل ذا الدرجات الكثيرة...) [الثمر المستطاب(1/413)].

        تنبيه:
        بالكلام على السَّواري في المسجد نكون-بحمد الله- قد أتممنا الحديث عن الجزء الأول من سلسلة أحكام المساجد، وهو الجزء الذي تكلمنا فيه عن أهمِّ ما يجب مراعاته عند إرادة بناء المساجد، وما يتعلق بذلك من أحكام.
        وسنشرع بإذن الله انطلاقا من العدد المقبل في بيان الجزء الثاني من هذه السلسلة، وهو الجزء الذي سنخصصه للحديث عن ما ثبت في السنة من الترغيب في تنظيف المساجد وتطهيرها، وكذا عن الأخطاء التي يرتكبها رواد المساجد فيها، نسأل الله العظيم أن ييسر لنا ذلك ويعيننا عليه، ويرزقنا الإخلاص والسداد في القول والعمل والاعتقاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.


        والحمد لله رب العالمين
        التعديل الأخير تم بواسطة أبو الحسين عبد الحميد الصفراوي; الساعة 22-Feb-2011, 02:15 AM.

        تعليق


        • #5
          بسم الله الرحمن الرحيم


          إِرْشَادُ العَابِدِ السَّاجِدِ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِ وَآدَابِ المَسَاجِدِ
          الحَلْقَةُ الخَامِسَةُ


          بِسْمِ اللهِ وَالصَّلاةُ والسَّلَامُ عَلَى رسولِ اللهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَالَاهُ:
          أمَّا بعدُ:

          فَإنَّ مِمَّا يدخلُ في عمارةِ المساجدِ المحافظةَ على طهارتِها ونظافتِها، قال الله تعالى:{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}[التوبة: 108]
          فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ-صلَّى الله عليه وسلَّم-قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ، قَالَ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ. [أبو داود(44)، والترمذي(3100)، وابن ماجة(357). وهو صحيح انظر الإرواء(45)].
          قال الشيخ السعدي-رحمه الله-: (مَدَحَهُمُ اللَّهُ بقوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} من الذُّنوب، ويتطهروا من الأوساخ، والنَّجاسات والأحداث.
          ومن المعلوم أنَّ من أحبَّ شيئا لا بد أن يسعى له ويجتهد فيما يحب، فلا بد أنَّهم كانوا حريصين على التَّطهر من الذُّنوب والأوساخ والأحداث، ولهذا كانوا ممن سبق إسلامه، وكانوا مقيمين للصلاة، محافظين على الجهاد، مع رسول اللّه -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وإقامة شرائع الدين، وممن كانوا يتحرزون من مخالفة اللّه ورسوله)[تفسير السعدي(351)].
          فإذا كان الله تعالى قد مدح مسجد قُباء لأجل أنّ من يرتاده يحرص على الطّهارة في نفسه، فكيف بمن يحرص على تطهير بيوت الله، ومما يدلنا على فضل تنظيف المساجد وعدم تقذيرها:

          [1]- حِرْصُ النَّبِيِّ عَلَى مُكَافَأَةِ مُنَظِّفِ الْمَسْجِدِ:
          عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه- أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم- فَسَأَلَ عَنْهَا بَعْدَ أَيَّامٍ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا مَاتَتْ، قَالَ: ((فَهَلَّا آذَنْتُمُونِي 1 فَأَتَى قَبْرَهَا فَصلَّى عَلَيْهَا))[البخاري(460)، ومسلم(956)].
          فوائد من الحديث:
          الأولى: هذه المرأة سَمَّاهَا الْبَيْهَقِيُّ اعتمادا على رواية عنده بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ: (أُمَّ مِحْجَنٍ)، وَذَكَرَ ابْنُ مَنْدَهْ فِي الصَّحَابَةِ: (خَرْقَاءَ): اسْمُ امْرَأَةٍ سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اسْمُهَا: (خَرْقَاءَ)، وَكُنْيَتُهَا: (أُمَّ مِحْجَنٍ). قاله الحافظُ ابنُ حجر-رحمه الله-. [انظر فتح الباري(3/261)، ونيل الأوطار(6/187)].
          الثانية:قوله: (تقمُّ المسجد) أَيْ: تكنسه، يقال: قم فلان بيتَه يقمُّه: إذا كنسه، والقمامةُ: الكناسة، والمقمَّة المكنسة، وقد جاء في رواية لابن خزيمة(1300) بإسناد حسن: (إِنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَلْتَقِطُ الْخِرَقَ 2 وَالعِيدَانَ 3 مِنَ الْمَسْجِدِ).
          وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ فِي تَنْظِيفِ الْمَسْجِدِ.
          قال ابن رجب في الفتح(3/261): (وكنسُ المساجد وإزالةُ الأذى عنها فعلٌ شريف، لا يأنفُ منه من يعلمُ آدابَ الشَّريعة، وخصوصاً المساجد الفاضلة).
          الثالثة:ذُكِرَ لفعلِ الصَّحابةِ في عدمِ إعلامِ النَّبِي-صلَّى الله عليه وسلَّم- بِموتِ هذهِ المرأةِ أمرانِ:
          - لأنَّه كان وقتَ نومِ النَّبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- وكرهوا أن يوقظوه: ويدل على هذا القول ما ثبت عند [أحمد(19452)، والنسائي(2022)، وابن ماجة(152] عن يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم- فَلَمَّا وَرَدْنَا الْبَقِيعَ إِذَا هُوَ بِقَبْرٍ جَدِيدٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ: فُلَانَةُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: ((أَلَا آذَنْتُمُونِي بِهَا؟)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتَ قَائِلًا صَائِمًا فَكَرِهْنَا أَنْ نُؤْذِنَكَ، فَقَالَ: ((لَا تَفْعَلُوا، لَا يَمُوتَنَّ فِيكُمْ مَيِّتٌ مَا كُنْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، إلَا آذَنْتُمُونِي بِهِ، فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْهِ لَهُ رَحْمَةٌ))، قَالَ: ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ فَصَفَّنَا خَلْفَهُ وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا).
          - لأنَّهم صغَّروا أمرها: ويدل على هذا ما جاء في رواية للبخاري(1272):عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-أَنَّ أَسْوَدَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً[وقد روي من وجوه أخر أنها كانت امرأة، من غير شك] 4 كَانَ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ، وَلَمْ يَعْلَمْ النَّبِيُّ-صلَّى الله عليه وسلَّم- بِمَوْتِهِ، فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: ((مَا فَعَلَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ؟))، قَالُوا: مَاتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ((أَفَلَا آذَنْتُمُونِي))، فَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا قِصَّتُهُ، قَالَ: فَحَقَرُوا شَأْنَهُ، قَالَ: ((فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ)). فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ.
          قال القسطلاني-رحمه الله-: (لا ينافي ما سبق من التعليل بأنهم كرهوا أن يوقظوه -عليه الصلاة والسلام- في الظلمة خوف المشقة، إذ لا تنافي بين التعليلين)
          [إرشاد الساري(2/433)].
          الرابعة:في الحديث دليل لمن أجاز الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت فِي قَبْره، وهو مذهب الشافعية والحنابلة واختيار ابن وهب وابن القاسم وغيرهما من المالكية، وكذا بعض الحنفية على تفاصيل في مذاهبهم.[بدائع الصنائع(1/315)، والتمهيد(6/27، والمجموع(5/244)، والمغني(2/385)].
          2- أَمْرُ النَّبِيِّ-صلَّى الله عليه وسلَّم- بِهذا العملِ الْجليلِ:
          عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ-رضي الله عنه-قَالَ:((أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم- أَنْ نَتَّخِذَ الْمَسَاجِدَ فِي دِيَارِنَا وَأَمَرَنَا أَنْ نُنَظِّفَهَا)) [أحمد(20183)، وأبو داود(456)، وهو صحيح لغيره. انظر السلسلة الصحيحة(6/223)].
          وَعَنْ عَائِشَةَ-رضي الله عنها- قَالَتْ:((أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم- بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ))[أحمد(26386) وأبو داود(455) والترمذي(594)، وهو صحيح لغيره].
          فائدتان من الحديث:
          الأولى:فَسَّرَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ-راوي الحديث- الدُّورَ بِالْقَبَائِلِ، وقال البيهقي-رحمه الله-: (وَالْمُرَادُ بِالدُّورِ قَبَائِلُهُمْ وَعَشَائِرُهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ)[السنن الكبرى(2/439)].
          وَقَالَ علي القاري-رحمه الله-: (هُوَ جَمْعُ دَارٍ وَهُوَ اِسْمٌ جَامِعٌ لِلْبِنَاءِ وَالْعَرْصَةِ وَالْمَحَلَّةِ، وَالْمُرَادُ الْمَحَلَّاتُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ الْمَحَلَّةَ الَّتِي اِجْتَمَعَتْ فِيهَا قَبِيلَةٌ دَارًا.
          أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى اِتِّخَاذِ بَيْتٍ فِي الدَّارِ لِلصَّلَاةِ كَالْمَسْجِدِ يُصَلِّي فِيهِ أَهْلُ الْبَيْتِ قَالَهُ اِبْنُ الْمَلِكِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعَوَّلُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ...وَحِكْمَةُ أَمْرِهِ لِأَهْلِ كُلِّ مَحَلَّةِ بِبِنَاءِ مَسْجِدٍ فِيهَا أَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَشُقُّ عَلَى أَهْلِ مَحَلَّةٍ الذَّهَابُ لِلْأُخْرَى فَيُحْرَمُونَ أَجْرَ الْمَسْجِدِ، وَفَضْلَ إِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهِ، فَأُمِرُوا بِذَلِكَ لِيَتَيَسَّرَ لِأَهْلِ كُلِّ مَحَلَّةٍ الْعِبَادَةُ فِي مَسْجِدِهِمْ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ تَلْحَقُهُمْ.[مرقاة المفاتيح(2/393)، وتحفة الأحوذي(7/25)].
          والثانية: قوله: (وتُطيَّب) أي: برش العطر، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ التَّطْيِيبُ عَلَى التَّجْمِيرِ بِالْبَخُورِ فِي الْمَسْجِدِ، قَال الزَّرْكَشِيُّ: (يُسْتَحَبُّ تَجْمِيرُ الْمَسْجِدِ بِالْبَخُورِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ (والد نُعيم بن المجمر) 5 يُجَمِّرُ الْمَسْجِدَ إِذَا قَعَدَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَنْكَرَ مَالِكٌ تَجْمِيرَ الْمَسَاجِدِ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ السَّلَفِ تَخْلِيقَ الْمَسَاجِدِ بِالزَّعْفَرَانِ وَالطِّيبِ،...وَقَال الشَّعْبِيُّ: هُوَ سُنَّةٌ).
          [إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي (33،وانظر مرعاة المفاتيح(2/427)،وتحفة الأحوذي(3/16].
          ومما يدخل في عمارة المساجد كذلك عدمُ تقذيرِها وتنجيسِها، وكذا اجتنابُ ارتكابِ المخالفاتِ والمنهياتِ فيها، إذ إن ذلك يخالف الأصل في عمارتها الحسية والمعنوية
          قال العلامة السّعدي-رحمه الله- في تفسيره(569) عند قوله تعالى: {أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}: (هذان مجموع أحكام المساجد، فيدخل في رفعها، بناؤها، وكنسها، وتنظيفها من النجاسة والأذى، وصونها من المجانين والصبيان الذين لا يتحرزون عن النجاسة، وعن الكافر، وأن تصان عن اللغو فيها، ورفع الأصوات بغير ذكر الله...).
          والمنهيات التي يرتكبها مرتادوا وزوار بيوت الله فيها كثيرة ومتنوعة، لا بد من معرفتها لاجتنابها والحذرِ من الوقوع فيها، وهذا من باب قول حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: (كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي...) [البخاري(3606)، ومسلم(1847)]
          وعلى هذا المعنى جاء بيتُ أبي فراس الحمداني:

          عَـرَفْتُ الشَّرَّ لَا لِلشَّرِ ... لَكِـنْ لِتَوَقِّيــهِ


          وَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشّرَّ........... مِنَ النَّاسِ يَقَعْ فِيهِ

          ولأجلِ هذا الْمقصدِ العظيمِ أردتُ بيانَ أهمِّ الْمنهياتِ والمخالفاتِ 6 التي ترتكب في بيوتِ الله مع ذكر شيء من أحكامِها، والمخالفات التي سنتكلم عنها تباعا بإذن الله ابتداء من العدد المقبل هي:
          1. البُصَاقُ فِي المَسْجِدِ أَوْ لِلْقِبْلَةِ.
          2. نَشْدُ الضَّالَّةِ فِي المَسْجِدِ.
          3. البَيْعُ وَالشِّرَاءُ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ.
          4. دُخُولُ المَسْجِدِ بِرَائِحَةِ البَصَلِ أَوِ الثَّوْمِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا.
          5. تَشْبِيكُ الأَصَابِعِ أَثْنَاءَ قَصْدِ الصَّلَاةِ وَانْتِظَارِهَا.
          6. اتِّخَاذُ المَسَاجِدِ طُرُقًا.
          7. دُخُولُ المَسْجِدِ بِالرِّجْلِ اليُسْرَى.
          8. تَرْكُ الذِّكْرِ عِنْدَ دُخُولِ المَسْجِدِ.
          9. التَّهَاوُنُ فِي أَدَاءِ تَحِيَّةِ المْسْجِدِ.
          10. النَّهْيُ عَنِ الخُرُوجِ مِنَ المَسْجِدِ بَعْدَ الأَذَانِ.
          11. حَجْزُ الأَمَاكِنِ لِلصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا.
          12. اتِّخَاذُ الرَّجُلِ مَكَاناً مُعَيَّناً فِي المَسْجِدِ، لَا يُصَلِّي إِلَّا فِيهِ .
          13. مُلَازَمَةُ الحَدِيثِ عَنْ أُمورِ الدُّنْيَا فِي المَسْجِدِ.
          14. عَدَمُ الحِرْصِ عَلَى الصُّفُوفِ الأُولَى
          15. صَوْتُ المُوسِيقَى وَرَنِينُ الجَوَّالَاتِ فِي المَسْجِدِ.


          والحمد لله رب العالمين




          الهامش :

          1- بِالْمَدِّ أَيْ أَعْلَمْتُمُونِي.
          2- جمع خرقة، وهي القطع من القماش ونحوه.
          3- العيدان والأعوادِ جمع عود، وهو ما صغُر من الأخشاب. انظر لسان العرب(3/315).
          4- انظر فتح الباري لابن رجب(2/52.
          5- ما بين قوسين إضافة من عندي، والذي بالأصل: (عبد الله بن المجمر)، وهو خطأ فإن المجمر لقب لعبد الله والد نعيم.
          6- الكلام عن المخالفات هنا سيكون شاملا للمحرمات وما دونها وهي: المكروهات وخلاف الأولى.

          تعليق


          • #6
            إِرْشَادُ العَابِدِ السَّاجِدِ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِ وَآدَابِ المَسَاجِدِ/ الحَلْقَةُ السَّادِسَةُ

            إِرْشَادُ العَابِدِ السَّاجِدِ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِ وَآدَابِ المَسَاجِدِ/ الحَلْقَةُ السَّادِسَةُ

            إِرْشَادُ العَابِدِ السَّاجِدِ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِ وَآدَابِ المَسَاجِدِ
            الحَلْقَةُ السَّادِسَةُ





            بِسْمِ اللهِ وَالصَّلَاةُ والسَّلَامُ عَلَى رسولِ اللهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَالاهُ:
            أمَّا بعدُ:

            فلقد ذكرنا في الأعداد السابقة أنَّ المخالفاتِ التي يرتكبها روادُ المساجد مختلفة ومتنوعة، وقد أشرنا في العدد الأخير إلى أعظمها وأشدِّها، وهذا أوانُ بسط الكلام فيها، وسيكون كلامُنا في هذا العدد عن فعل شنيع وعمل فظيع ألا وهو:

            [البصاق داخل المسجد]

            قال النَّووي-رحمه الله-: (قال أهل اللغة: "البُصاقُ" و"البزاق" و"البساق"، و"بصق" و"بزق" و"بسق" ثلاث لغات بمعنى واحد، ولغة السين قليلة، وقد أنكرها بعض أهل اللغة، وإنكارها باطل فقد نقلها الثقات، وثبتت في الحديث الصحيح) [المجموع(4/100)].
            أولاً لا بُدَّ أن يُعلم بأنَّ لهذا الفعل عدةَ صور: كأنْ يكونَ البصاقُ لجهة القبلة أو لغيرها، وكأنْ يصدرَ من مصلٍّ أو من غيره، وكأن يكونَ في المسجدِ أو في غيرِه، ولكلِّ صورةٍ أحكامٌ تخصُّها، فنذكر-بتوفيق الله- كلَّ صورةٍ مع أحكامِها.

            الصورة الأولى: بُصاقُ المُصلِّي للقبلةِ سواءٌ أكان في المسجد أم في غيره.

            بُصاقُ المصلِّي للقبلة حرام، بل ومن كبائر الأعمال، لأنَّ الله يكون قِبَلَ وجهه، وقد ثبت في السنة ما يدل على هذا الحكم في عدة أحاديث كان مغزاها كالآتي:
            1- الذي يبزق للقبلة-وهو يصلي- كأنما يبزق أَمامَ الله-سبحانه وتعالى-:
            ليس من الأدب أن تبصُق بين يديك، والله تعالى قِبَلَ وجهك، ولو أنك فعلت هذا أمام عامَّة النَّاس-فضلا عن خاصتهم- لعُدَّ هذا من سوء الأدب، فكيف بين ملك الملوك -عَزَّ وجلَّ-؟!
            فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ-رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- نُخَامَةً[1] فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ وَهُوَ يُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْ النَّاسِ فَحَتَّهَا ثُمَّ قَالَ حِينَ انْصَرَفَ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ فَلَا يَتَنَخَّمَنَّ أَحَدٌ قِبَلَ وَجْهِهِ فِي الصَّلَاةِ)). [البخاري(753)-واللفظ له-، ومسلم(550)].
            و في رواية مسلم(550): (أنَّه رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ المَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: ((مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ؟! أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ؟ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ[2]، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا وَوَصَفَ القَاسِمُ فَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ)).
            وفي رواية لأبي داود(479): ((فَدَعَا بِزَعْفَرَانٍ[3] فَلَطَّخَهُ بِهِ وَقَالَ:...)).
            فوائد من الأحاديث:
            الأولى:قد يقول قائل في هذه الأحاديث إشكال، وهو كون الله قِبَلَ وَجْهِ المُصلِّي، كيف يكون ذلك، ونحن نؤمن، ونعلم بأن الله تعالى فوق عرشه؟ فالجواب على ذلك من وجوه:
            الوجه الأول: أنه يجب على الإنسان التَّسليم، وعدم الإتيان بـ«لِمَ» أو «كيف» في صفات الله أبداً، قل: آمنت وصَدَّقت، آمنت بأن الله على عرشه فوق سماواته، وبأنه قِبَلَ وجه المصلِّي، وليس عندي سوى ذلك، هكذا جاءنا عن رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-، وهذه الطريق تزيل إشكالات كثيرة، وتَسْلَم بها من تقديرات يقدِّرها الشيطان، أو جنوده في ذهنك.
            الوجه الثاني: أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لا يُقاس بخلقه، فهبْ أنَّ هذا الأمر ممتنعٌ بالنسبة للمخلوق- أي: ممتنع أن يكون المخلوق على المنارة، وأنت في الأرض، وهو قِبَلَ وجهِكَ- لكن ليس ممتنعاً بالنسبة للخالق، لأن الله ليس كمثله شيء حتى يُقاس بخلقه.
            الوجه الثالث: أنه لا مُنافاة بين العلوِّ وقِبَلَ الوجه، حتى في المخلوق، ألم ترَ إلى الشمس عند غروبها أو شروقها؟ تكون قِبَلَ وَجْهِ مستقبلها وهي في السماء، فإذا كان هذا غير ممتنع في حَقِّ المخلوق فما بالك في حَقِّ الخالق؟
            ذكر هذه الأجوبة كلها الشيخُ ابنُ عثيمين-رحمه الله- ثم قال: (وأهمُّ هذه الأجوبة عندي، وأعظمُها، وأشدُّها قدراً:الجواب الأول، أن نقِفَ في باب الصِّفات موقفَ المُسَلِّم لا المعترض، فنؤمن بأن الله فوق كُلِّ شيء، وبأنه قِبَلَ وَجْهِ المُصلِّي، ولا نقول: «كيف»، ولا «لِمَ»، وهذا يريح المُسلم من كُلِّ ما يورده الشيطان وجنوده على القلب مِن الإشكالات)[الشرح الممتع(3/369-371)].
            الثانية: في قوله-صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((فليتنخع)): رد على الشافعية الذين قالوا بأن التَّنخم إن كان بحرفين أو أكثر أبطل الصلاة، وذلك من عدم تبيين النَّبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- هذا الحكم والتفصيل فيه، وتأخير البيان لا يجوز، كما أن التنخم أو التنحنح ليس بكلام لا في الشرع ولا في العرف، وإن سماه بعضهم كلاما في اللغة، فإن الحقيقة الشرعية مقدمة على العرفية، وهذه مقدمة على اللغوية[4].
            الثالثة:في مسح النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- النخاعة بثوبه دليل على طهارة البزاق والنخاعة وما شابههما، فلا علاقة بين الاستقذار وبين النجاسة، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: (وَلَا أَعْلَمُ كَلَامًا فِي طَهَارَةِ الْبُصَاقِ إِلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ، الْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ، وَالسُّنَنُ الثَّابِتَةُ وَرَدَتْ بِرَدِّهِ)اهـ، وحكى الخطابيُّ الخلافَ في طهارة البصاق عَنْ النَّخَعِيّ أَيْضًا. قلت: وقد شكك النَّووي-رحمه الله- في صحة نسبة هذا القول إليه. والله أعلم
            [الاستذكار(7/182)، ومعالم السنن(1/144)، وشرح مسلم(5/40)].
            2- بصقُ المصلِّي للقبلة سببٌ لإعراض الله عنه:
            فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في مَسْجِدِنَا هَذَا، وَفِى يَدِهِ عُرْجُونُ ابْنِ طَابٍ، فَرَأَى فِى قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ نُخَامَةً فَحَكَّهَا بِالْعُرْجُونِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: ((أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللَّهُ عَنْهُ؟)).
            قَالَ: فَخَشَعْنَا، ثُمَّ قَالَ: ((أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللَّهُ عَنْهُ؟)). قَالَ: فَخَشَعْنَا، ثُمَّ قَالَ: ((أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللَّهُ عَنْهُ؟)). قَالَ: قُلْنَا: لاَ أَيُّنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: ((فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّى فَإِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قِبَلَ وَجْهِهِ فَلاَ يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عن يساره تَحْتَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى فَإِنْ عَجِلَتْ بِهِ بَادِرَةٌ فَلْيَقُلْ هَكَذَا بِثَوْبِهِ[5])). ثُمَّ طَوَى ثَوْبَهُ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ: ((أَرُونِى عَبِيرًا[6])). فَقَامَ فَتًى مِنَ الحَيِّ يَشْتَدُّ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِخَلُوقٍ فِي رَاحَتِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فَجَعَلَهُ في رَأْسِ الْعُرْجُونِ، ثُمَّ لَطَخَ بِهِ عَلَى أَثَرِ النُّخَامَةِ. قَالَ جَابِرٌ: فَمِنْ هُنَاكَ جَعَلْتُمُ الْخَلُوقَ فِي مَسَاجِدِكُمْ))[مسلم(300].
            3- تفلُ المصلِّي للقبلة إذايةٌ للهِ ولملائكتِه ولرسولِه:
            فعَنْ أَبِي سَهْلَةَ السَّائِبِ بْنِ خَلَّادٍ-رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلًا أَمَّ قَوْمًا فَبَصَقَ فِي الْقِبْلَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم- يَنْظُرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم- حِينَ فَرَغَ:((لَا يُصَلِّي لَكُمْ هَذَا))،فَأَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّيَ لَهُمْ، فَمَنَعُوهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم- فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم- فَقَالَ:((نَعَمْ))،-وَحَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ:-((إِنَّكَ آذَيْتَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)).[أبو داود (481)، وهو في صحيح الترغيب(28].
            وعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما- قال: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم- رَجُلاً يُصَلِّي بِالنَّاسِ الظُّهْرَ فَتَفَلَ فِي القِبْلَةِ وَهُوَ يُصَلِّي لِلنَّاسِ، فَلَمَّا كَانَتْ صَلاَةُ العَصْرِ أَرْسَلَ إِلَى آخَرَ، فَأَشْفَقَ الرَّجُلُ الأَوَّلُ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ-صلَّى الله عليه وسلَّم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ: (أَأُنْزِلَ فِيَّ شَيْءٌ؟) قَالَ: ((لاَ، وَلَكِنَّكَ تَفَلْتَ بَيْنَ يَدَيْكَ وَأَنْتَ قَائِمٌ تَؤُمُّ النَّاسَ فَآذَيْتَ اللهَ وَالْمَلاَئِكَةَ))
            [الطبراني في الكبير(13/80)(1468، وهو في الصحيحة(3376)].
            فائدتان من الحديث:
            الأولى: في هذا الحديث إثبات أذية العبد لله، وفي هذا الصدد يقول الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-: (قوله: "يؤذيني ابن آدم" أي: يلحق بي الأذى، فالأذية لله ثابتة ويجب علينا إثباتها، لأن الله أثبتها لنفسه، فلسنا أعلم من الله بالله، ولكنها ليست كأذية المخلوق، بدليل قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}[ الشورى: 11]...)[ مجموع الفتاوى والرسائل(10/827)].
            الثانية:الأذى هو الإضرار الخفيف وأكثر ما يطلق على الضر بالقول والدسائس ومنه قوله تعالَى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى}[ آل عمران: 111]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: (و مما ينبغي أن يتفطن له أن لفظ الأذى فِي اللَّغة هو لِما خف أمره و ضعف أثره من الشر و المكروه، ذكره الخطابِي و غيره-وهو كما قالوا- و استقراءُ موارده يدل على ذلك مثل قوله تعالَى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى}[ آل عمران:111]، وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}[ البقرة: 222]...و لهذا قال: {إِنَّ الذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ}[الأَحزاب: 57]، وقال سبحانه فيما يروي عنه رسوله: ((يُؤْذِينِي ابنُ آدَمَ: يَسُبُّ الدَّهْرَ...))، وَقَال النَّبِي-صلَّى الله عليه و سلَّم-: ((مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسُولَه))، وقال: ((مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَشَرِيكًا وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ))، وقد قال سبحانه فيما يروي عنه رسوله: ((يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي...)) وَقَال سبحانه فِي كتابه: {وَلاَ يَحْزُنْكَ الذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا}[ آل عمران: 176]فبين أن الخلق لا يضرونه سبحانه بكفرهم، ولكن يؤذونه تبارك وتعالَى إذا سبُّوا مقلب الأمور، وجعلوا له سبحانه ولدا أو شريكا، وآذوا رسله و عباده المؤمنين، ثُمَّ إنَّ الأذى لا يضر الْمؤذَى إذا تعلق بحق الرسول فقد رأيتَ عِظم موقعه، و بيانُه أن صاحبه من أعظم الناس كفرا و أشدهم عقوبة، فتبين بذلك أنَّ قليل ما يؤذيه يكفر به صاحبه و يحل دمه، و لا يرد على هذا قوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ- إلَى قوله- إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ}[الأحزاب: 53 ] فإنَّ الْمؤذي له هنا إطالتهم الجلوس فِي الْمنْزل واستئناسهم للحديث، لا أنَّهم آذوا النبِي-صلَّى الله عليه وسلَّم- والفعل إذا آذى النَّبِي من غير أن يعلم صاحبه أنه يؤذيه، ولم يقصد صاحبه أذاه فإنه ينهى عنه ويكون معصية، كرفع الصوت فوق صوته، فأمَّا إذا قصد أذاه و كان مما يؤذيه وصاحبه يعلم أنه يؤذيه و أقدم عليه مع استحضار هذا العلم فهذا الذي يوجب الكفر وحبوط العمل. و الله سبحانه أعلم)[ الصارم المسلول(2/118-120)].
            4- التَّفل للقبلة من كبائر الأعمال:
            فعَنْ حُذَيْفَةَ-رضي الله عنه- قال: قال رَسُولِ اللَّهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم- قَالَ: ((مَنْ تَفَلَ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَفْلُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ...))
            [أبو داود(3826)، وهو في الصحيحة(222)].
            وعن ابن عمر-رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((يُبْعَثُ صَاحِبُ النُّخَامَةِ فِي القِبْلَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهِي فِي وَجْهِهِ))
            [ابن حبان(163، ابن خزيمة(1313)، وهو في الصحيحة(223)].
            فوائد من الحديثين:
            الأولى: "التفل": نفخ معه أدنى ريق، وهو أكثر من "النفث"، لأنه لا ريق فيه، وأدنى من "البزاق"، وقيل غير هذا.[الصحاح(4/330)، ولسان العرب(11/77)].
            الثانية: وردت هذه الرواياتُ مطلقةً من غير تقييد البصاق بالصلاة أو بالمسجد وقد ورد في بعض الروايات ما يقيد ذلك:
            فقد جاء حديث حذيفة عند ابن أبي شيبة في المصنف(7534) مقيدا بالصلاة ولفظه: ((مَنْ صَلَّى فَبَزَقَ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ جَاءَتْ بَزْقَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي وَجْهِهِ)).
            وهذه الرواية موقوفةٌ من كلام حذيفةَ.
            وأما حديث ابن عمر فقد أورده ابن خزيمة في صحيحه(1312) مقيدا بالمسجد كذلك، ولفظه: ((من تنخَّم في قبلة المسجد بُعِثَ وهي في وجهه)).
            وهذه الرواية أوردها ابن خزيمة مبينا الخلاف في رفعها ووقفها، فقد أورد الحديث بسنده عن مروان بن معاوية الفزاري وابن نمير ويعلى بن عبيد الطنافسي ثلاثتهم عن (محمد بن سوقة)، وهؤلاء الثلاثة جعلوا الحديث من لفظ ابن عمر ولم يرفعوه.
            وأورده كذلك بسنده عن عاصم بن محمد عن (محمد بن سوقة)، وعاصم خالفهم ورفع الحديث.
            وقد اختلف أهل العلم في النهي عن البصاق للقبلة: هل هو خاص بالمصلي سواء كان في المسجد أو في غيره، أو غيرُ خاص بالمصلي ولا بالمسجد، وسبب اختلافهم هذا راجع لسببين-والله أعلم-:
            السبب الأول: هو الخلاف الوارد في الروايات السابقة، فمن حمل المطلق على المقيد جعله عاما، ومن لا فلا.
            والسبب الثاني: مراعاة العلة الواردة في الحديث، فمن جعل العلة هي كون الله قبل وجه المصلي جعله خاصا بحال الصلاة، ومن جعل العلة هي تعظيم شأن القبلة وصيانتها عمَّم ذلك.
            وحتى نتصور المسألة جيدا يمكن القول بأنَّ عندنا أربعَ صور للبصاق تجاه القبلة:
            الأولى: أن يكون الفاعل يصلي داخل المسجد.
            الثانية: أن يكون الفاعل في غير الصلاة داخل المسجد
            الثالثة: أن يكون الفاعل يصلي في غير المسجد.
            الرابعة: أن يكون الفاعل في غير الصلاة وفي غير المسجد.
            أما الصورة الأولى فهي الصورة التي لا خلاف بأن الأحاديث وردت بشأنها.
            وأما الصورة الثانية وإن كان فيها خلاف من جهة أن الفاعل في غير الصلاة، إلا أن هناك أحاديث أخرى صرحت بمنع البصاق داخل المسجد وأنه خطيئة فعلى هذا تكون هذه الصورة داخلة فيها.
            وأما الصورة الثالثة: ففيها خلاف لكن رجح كثير من المحققين دخولها في النهي، لأن الله قبل العبد حال صلاته مطلقا.
            وأما الصورة الرابعة: ففيها خلاف قوي ورجَّح كلَّ قول جمعٌ من المحققين، ولا شك بأن الأسلم والأحوط ترك ذلك مطلقا، واجتنابه سواء في داخل المسجد أو خارجه من مصل أو من غيره.
            وسأذكر من أقوال أهل العلم ما يدل على ما ذكرت، وأبدأ بأقوال من عمَّم النَّهي، ثم بأقوال من قيد ذلك بحال الصلاة، سواء كان في المسجد أو في خارجه.

            أولا
            أقوال من عمَّم النَّهي

            -قال النووي-رحمه الله–: (فيه نهي المصلي عن البصاق بين يديه وعن يمينه، وهذا عام في المسجد وغيره)[شرح مسلم(5/39)].
            -وقال ابن حجر-رحمه الله- حيث قال: (وهذا التعليل يدل على أن البزاق في القبلة حرام سواء كان في المسجد أم لا ولا سيما من المصلي)[فتح الباري(1/50].
            -وقال الصنعاني-رحمه الله- حيث قال: (ومثل البصاق إلى القبلة البصاق عن اليمين فإنه منهي عنه مطلقا أيضا، وأخرج عبد الرزاق عن ابن مسعود: "أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في الصلاة"، وعن معاذ بن جبل: "ما بصقت عن يميني منذ أسلمت"، وعن عمر بن عبد العزيز أنه نهى عنه أيضا)[سبل السلام(1/150)].
            -وقال محمد الخطيب الشربيني-رحمه الله-: (ويكره البصاق عن يمينه وأمامه وهو في غير الصلاة أيضا كما قاله المصنف[7]، خلافا لما رجحه الأذرعي تبعا للسبكي من أنه مباح، لكن محل كراهة ذلك أمامه إذا كان متوجها إلى القبلة كما بحثه بعضهم إكراما لها)[ مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج(1/202)].
            -وقال الألباني-رحمه الله-: (وفي الحديث دلالة على تحريم البصاق إلى القبلة مطلقا، سواء ذلك في المسجد أو في غيره، وعلى المصلي و غيره، كما قال الصنعاني في "سبل السلام"(1/230). قال: (وقد جزم النووي بالمنع في كل حالة داخل الصلاة و خارجها و في المسجد أو غيره.
            قلت-الألباني-: وهو الصواب، والأحاديث الواردة في النهي عن البصق في الصلاة تجاه القبلة كثيرة مشهورة في الصحيحين و غيرها، و إنما آثرت هذا دون غيره، لعزته و قلة من أحاط علمه به. ولأن فيه أدبا رفيعا مع الكعبة المشرفة، طالما غفل عنه كثير من الخاصة، فضلا عن العامة، فكم رأيت في أئمة المساجد من يبصق إلى القبلة من نافذة المسجد!)[السلسلة الصحيحة(1/222)].
            -وقال عبد المحسن العباد-حفظه الله–: (هذا يدل على تحريم ومنع التفل إلى القبلة أو باتجاه القبلة، وأن على الإنسان أن يتفل إلى غير تلك الجهة، وهو عام في الصلاة وفي غير الصلاة، وفي المسجد أو في غيره)[شرح سنن أبي داود: الدرس(271)].


            ثانيا
            أقوالُ من خصَّ ذلك بحال الصلاة سواءٌ أكانَ يصلِّي في المسجد أم في غيره


            -قال ابن رجب-رحمه الله-: (وهذا الحديث دالٌ على كراهة أن يبصق المصلي في قبلته التي يصلي إليها، سواء كان في مسجد، أو لا، فإن كان مسجد تأكدت الكراهة بأن البزاق في المسجد خطيئة، كما يأتي الحديث بذلك في بابه، فإن كان في قبلة المسجد كان أشد كراهةً)[فتح الباري(3/106)].
            فهنا جعل-رحمه الله- بصاقَ المصلي للقبلة سواء كان في المسجد أو في غيره منهي عنه، وله كلام بعد كلامه هذا بسطور يصرح فيه بإباحة البصاق للقبلة لغير المصلي في غير المسجد حيث قال: (وإنما يكره البصاق إلى القبلة في الصلاة أو المسجد، فأما من بصق إلى القبلة في غير مسجد فلا يكره له ذلك)[فتح الباري(3/109)].
            و لا تعارض بين القولين كما هو واضح، ومن لم يراقب كلام الحافظ جيدا نسب إليه القول بالجواز خارج المسجد مطلقا، ولو من مصلٍّ، وليس كذلك.
            -قال العراقي-رحمه الله-: (هَذَا النَّهْيُ فِي الْبُصَاقِ أَمَامَهُ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ هَلْ هُوَ يُفِيدُ كَوْنَهُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ عَامٌّ فِي الْمُصَلِّينَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانُوا؟ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْعُمُومُ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مُنَاجٍ لِلَّهِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ صَلَّى وَالْمَلَكُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ مَعَهُ أَيَّ مَوْضِعٍ صَلَّى)[طرح التثريب(2/340)].
            -قال عبد الكريم الخضير-حفظه الله-: (فيه دليل على تحريم البصاق في القبلة إذا كان يصلي، وهذا يشمل المسجد وخارج المسجد، لكنه خاص بجهة القبلة، وسيأتي النهي عن البصاق في المسجد، وما بين النصوص من عمومٍ وخصوص، فالحديث دليلٌ على تحريم البصاق في القبلة سواءٌ كان في المسجد أم لا إذا كان يصلي، هذا خاص فيما إذا كان داخل الصلاة، لكنه عامٌ في كونه في المسجد أو غير المسجد، وسيأتي النهي، أقول: ورد النهي عن البصاق في المسجد وأنه خطيئة في أي جهة كانت في داخل الصلاة وخارجها) [شرح الموطأ: الدرس (36)].
            -وقال -رحمه الله– أيضا: (مفهومه أنه إذا لم يكن في الصلاة فليبزق، لكن دلَّ الدَّليل على أنه لا يجوز أن يبصق في المسجد ولو كان خارج الصلاة، فلا يبصق في حال الصلاة ولو خارج المسجد، ولا يبصق في المسجد ولو كان خارج الصلاة، وهنا ((إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه -عز وجل-)) سواءً كان في المسجد أو خارج المسجد، بل إن بعضهم طرد هذا في الصلاة وخارج الصلاة في المسجد وخارج المسجد كالنووي مثلاً، فلا يبصق بين يديه يعني تلقاء وجهه، ولا عن يمينه يعني لا إلى جهة القبلة ولا عن يمينه في الصلاة وخارج الصلاة في المسجد وخارج المسجد)[شرح المحرر في الحديث: الدرس (23)].


            الصورة الثانية: حكم بصاق المصلي وغيره لليمين.
            بصاق المصلي لجهة اليمين لا يجوز لنهي النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- عن ذلك في عدةِ أحاديثَ منها حديثُ جابر السَّابق الذي رواه مسلم وغيره وفيه: ((فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّى فَإِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قِبَلَ وَجْهِهِ فَلاَ يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عن يساره تَحْتَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى فَإِنْ عَجِلَتْ بِهِ بَادِرَةٌ فَلْيَقُلْ هَكَذَا بِثَوْبِهِ)).
            وعن أبي هريرة-رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قَالَ: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَبْصُقْ أَمَامَهُ فَإِنَّمَا يُنَاجِي اللَّهَ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ فَيَدْفِنُهَا))[البخاري(416)].
            فوائد من الحديث:
            الأولى: قال الحافظُ ابنُ حجر-رحمه الله-: (قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: "النَّهْي عَنْ الْبُصَاق عَنْ الْيَمِين فِي الصَّلَاة إِنَّمَا هُوَ مَعَ إِمْكَان غَيْره، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَلَهُ ذَلِكَ"اهـ، قلت: لَا يَظْهَر وُجُود التَّعَذُّر مَعَ وُجُود الثَّوْب الَّذِي هُوَ لَابِسه، وَقَدْ أَرْشَدَهُ الشَّارِع إِلَى التَّفْل فِيهِ)[فتح الباري(1/510)].
            الثانية: إن قيل إن في قوله: ((إن عن يمينه ملكاً))، إشكالا حيث إنه من المعلوم أن على الشمال أيضا ملكاً، كما قال تعالى :{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}[قّ:17]، فهذا مَلَكٌ وهذا مَلَكٌ، فلماذا نهي عن البصاق جهة اليمين وأبيح جهة الشمال؟ ويجاب عن ذلك بأحد الأجوبة الآتية:
            1. إن البصاق جهة اليسار مقيد بالصفة الآنفة الذكر، وهي البصاق في الرداء، وهذا غير لازم.
            2. إن هذا الملك الذي يكون على اليمين في حال الصلاة، هو غير الملك المعروف كاتب الحسنات والسيئات، وهذا يحتاج إلى دليل صحيح صريح.
            3. إن الملك الذي على اليمين هو نفسه كاتب الحسنات، ولكنه أفضل ممن هو على الشمال، ويدل على هذا:
            تخصيصه له بالذكر في هذا الحديث، قال الشيخ ابن عثيمين: (فإنْ صَحَّ هذا الأثر فهو واضح، وإنْ لم يصحَّ فلا شكَّ أنَّ مَن كان عن اليمين أعلى مرتبةً ممن كان عن اليسار، وكلُّهم ملائكة كِرام[8] كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ}[الانفطار: 10-11])[الشرح الممتع(3/373)].
            قلت: يشير بقوله: (فإنْ صَحَّ هذا الأثر) إلى ما رواه البيهقي في شعبِ الإيمان (664، والطبراني في الكبير(7803) وغيرهما عن أبي أمامة-رضي الله عنه- أن النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: (صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال، فإذا عمل العبد الحسنة كتبها له عشر أمثالها، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: أمسك، فيمسك عنه سبع ساعات من النهار، فإن استغفر، لم تكتب عليه، وإن لم يستغفر، كتبت سيئة واحدة)[9].
            قال الشيخ الألباني-رحمه الله- في سلسلة الأحاديث الضعيفة(5/262) (2237) : (موضوع).
            وقال عبد الكريم الخضير-حفظه الله-: (أوردوا عليه أيضاً أن على اليسار ملك، فقالوا: إن التكريم خاص بملك اليمين الذي يكتب الحسنات، والنص دل على أنه يبصق عن يساره، ولو كان فيه ملك الشمال الذي يكتب السيئات، فهذه من خصوصيات ملك اليمين، لكن ملك اليمين وملك الشمال كلاهما من الملائكة الذين لهم المنزلة عند الله -جل وعلا-، ولا يعني كونه يكتب السيئات أن منزلته أقل، لكن أمامنا نص صحيح صريح، ولا بد من البصاق، يعني ليس الإنسان مخير في البصاق وعدمه، هذه حاجة لا بد من دفعها، وعرفنا أن تلقاء وجهه جهة القبلة، وأيضاً عن يمينه ملك، وجهة اليمين مشرفة، وجهة اليسار لا شك أنها أقل من جهة اليمين في الشرف في نصوص، وفي مواضع كثيرة من الأحكام الشرعية، يعني إذا استنجى بشماله نقول: إن ملك الشمال ممتهن في هذه الحالة؟ هذه أمور لا بد منها، وإذا كان الخيار بين جهتين في أمر لا بد منه فليكن التكريم لجهة اليمين دون جهة الشمال)[شرح المحرر في الحديث: الدرس(23)].
            تنبيه: أما ما يخص بصاق غير المصلي لجهة اليمين فإنه يجري فيه الخلاف السابق ذكره، وفي النصوص المنقولة عن أهل العلم تصريح بذلك، وممن منع البصاق لجهة اليمين مطلقا ولو خارج الصلاة في غير المسجد ولم نذكره مع من سبق الشيخُ ابنُ عثيمين-رحمه الله- حيث سئل عن ذلك فأجاب بأن النهي عام سواء كان الرجل في صلاة أو في غيرها تعظيما لجهة اليمين.[شرح صحيح مسلم: كتاب المساجد: الشريط(3)]

            الصورة الثالثة: حكم بصاق المصلي وغيره لليسار.
            البصاق لجهة اليسار-في غير المسجد[10]- جائز للمصلي فضلا عن غيره، ولكن ذلك مشروط بما إذا لم يكن عن يساره أحد، فقد صح عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((إِذَا قَامَ الرَّجُلُ إِلَى الصَّلَاةِ، أَوْ إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْزُقْ أَمَامَهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ تِلْقَاءِ يَسَارِهِ إِنْ كَانَ فَارِغًا، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى ثُمَّ لِيَقُلْ بِهِ))
            [أبو داود(47، والنسائي(726)، وهو في الصحيحة(1223)].وقد مر معنا في الأحاديث ما يدل على هذا الحكم.
            تنبيه مهم: يستثنى من هذا كذلك إذا كانت القبلة عن يساره، فيتعين هنالك البصاق على الأرض، أو في الثوب.
            الصورة الرابعة: حكم البصاق على أرض المسجد.
            اختلف العلماء في حكم البصاق على أرض المسجد، بعد اتفاقهم على أن كفارتها إزالتها، وسبب اختلافهم هو تعارض عموم الأحاديث السابقة مع عموم الأحاديث الآتية[11]:
            عن أَنَس-رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ-صلَّى الله عليه وسلَّم- قَالَ: ((الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا))[البخاري(415)، ومسلم(552)].
            وعن أبي أُمَامَةَ-رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((التَّفْلُ فِي الْمَسْجِدِ سَيِّئَةٌ، وَدَفْنُهُ حَسَنَةٌ) [أحمد(22243)، وهو في صحيح الترغيب 287].
            فذهب بعض المالكية منهم: أبو الوليد الباجي[12]، والقاضي عياض[13]، وأبو العباس القرطبي[14]، ووَافَقَهم جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ اِبْن مَكِّيّ، وَأبو عبد الله الْقُرْطُبِيّ-صاحبُ التفسير- وَغَيْرُهمَا[15] إلى أن البصاق في المسجد -عند الحاجة طبعا-إِنَّمَا يَكُون خَطِيئَة إِذَا لَمْ يرد دفنه، وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ دَفْنه فَلَا.
            ورجح هذا كثيرون منهم الحافظ العراقي[16] وتلميذه الحافظ ابن حجر[17]، والصنعاني[18]، وهو ترجيح الشيخ الألباني[19].
            قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله-: (وَيَشْهَد لَهُمْ مَا رَوَاهُ أَحْمَد[20] بِإِسْنَادٍ حَسَن مِنْ حَدِيث سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوعًا قَالَ: ((مَنْ تَنَخَّمَ فِي الْمَسْجِد فَلْيُغَيِّبْ نُخَامَته أَنْ تُصِيب جِلْد مُؤْمِن أَوْ ثَوْبه فَتُؤْذِيَه))، وَأَوْضَحُ مِنْهُ فِي الْمَقْصُود مَا رَوَاهُ أَحْمَد أَيْضًا وَالطَّبَرَانِيُّ[21] بِإِسْنَادٍ حَسَن مِنْ حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا قَالَ: ((مَنْ تَنَخَّعَ فِي الْمَسْجِد فَلَمْ يَدْفِنهُ فَسَيِّئَةٌ، وَإِنْ دَفَنَهُ فَحَسَنَةٌ))، فَلَمْ يَجْعَلهُ سَيِّئَة إِلَّا بِقَيْدِ عَدَم الدَّفْن. وَنَحْوه حَدِيث أَبِي ذَرٍّ عِنْد مُسْلِم مَرْفُوعًا قَالَ: ((وَوَجَدْت فِي مَسَاوِئِ أَعْمَال أُمَّتِي النُّخَاعَةَ تَكُون فِي الْمَسْجِد لَا تُدْفَن))[22]، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: فَلَمْ يُثْبِتْ لَهَا حُكْم السَّيِّئَة لِمُجَرَّدِ إِيقَاعهَا فِي الْمَسْجِد بَلْ بِهِ وَبِتَرْكِهَا غَيْر مَدْفُونَة. اِنْتَهَى. وَرَوَى سَعِيد بْن مَنْصُور عَنْ أَبِي عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح: (أَنَّهُ تَنَخَّمَ فِي الْمَسْجِد لَيْلَة فَنَسِيَ أَنْ يَدْفِنهَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَنْزِله، فَأَخَذَ شُعْلَة مِنْ نَار ثُمَّ جَاءَ فَطَلَبهَا حَتَّى دَفَنَهَا، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَكْتُب عَلَيَّ خَطِيئَة اللَّيْلَة)[23] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَطِيئَة تَخْتَصّ بِمَنْ تَرَكَهَا لَا بِمَنْ دَفَنَهَا. وَعِلَّة النَّهْي تُرْشِد إِلَيْهِ، وَهِيَ تَأَذِّي الْمُؤْمِن بِهَا، وَعِنْد أَبِي دَاوُدَ[24] مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن الشِّخِّير: ( أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيّ-صلَّى الله عليه وسلَّم- فَبَصَقَ تَحْت قَدَمه الْيُسْرَى ثُمَّ دَلَكَهُ بِنَعْلِهِ) إِسْنَاده صَحِيح، وَأَصْله فِي مُسْلِم. وَالظَّاهِر أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْمَسْجِد، فَيُؤَيِّد مَا تَقَدَّمَ)[25].
            وقالوا: أيضا يجوز للإنسان أن يتعمد نقض يمينه ثم يكفره.
            وذهب النووي[26] -رحمه الله- ومن وافقه إلى القول بعدم جواز ذلك، وحجتهم قوله-صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ...)). قال والمراد: خطيئة مطلقا سواء قصد توريتها أو لم يقصد، قالوا: فلو كان المراد ما قالوه: لقال النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-: (البصاق كفارته أن يدفن)، دون التنصيص على أنه خطيئة مطلقا.
            كما أن تنظيرهم باليمين-وهو حلال- خطأ، فكان الأولى أن يمثلوا بأشياء محرمة في أصلها كالزنى مع نية التكفير، وكذا تعمد الجماع في رمضان، ونحو هذا.
            ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله- وقال: (ووجه ذلك أن النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-وصفها بأنها خطيئة، ثم ذكر كفارتها، ومن المعلوم أن الإنسان لا يحل له أن يفعل الخطايا ويكفرها[27]، لكن الكفارة تكون إذا وقعت الخطيئة، أما إذا فعلت الخطيئة بنية التكفير فهذا لا يجوز، وهو آثم بذلك، بل أنا في نفسي شك هل يبرأ أو لا يبرأ بهذه الكفارة، لأنه شرع لنفسه ما لم يشرعه الله، فالله لم يجعله مخيرا بين أن يقوم بالواجب وبين أن يكفِّر)
            [فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام(2/589)].
            وقال عبد الكريم الخضير-حفظه الله-: (الراجح أن البصاق في المسجد خطيئة سواءً كان عن يمينه أو عن شماله أو تحت قدمه، أراد دفنه أو لم يرد هو خطيئة، إذا دفنه كَفَّر، لكن الإقدام على الخطايا ولو كان لها كفارات في الأصل لا يجوز، لكن إذا حصلت فندم صاحبها وكفرها محا أثرها) [شرح الموطأ: الدرس(36)].
            ورجح هذا القول كذلك الشيخ صالح الفوزان-حفظه الله-.
            [شرح بلوغ المرام: كتاب الصلاة: الشريط(11)].
            تنبيهات مهمة:
            الأول: قال النووي-رحمه الله-: (والمرادُ بِدَفْنِهَا إذَا كَانَ المَسْجِدُ تُرَاباً أوْ رَمْلاً ونَحْوَهُ، فَيُوَارِيهَا تَحْتَ تُرَابِهِ. قالَ أبُو المحاسِنِ الرُّويَانِي مِنْ أصحابِنا في كِتَابِهِ "البحر" وقِيلَ: المُرَادُ بِدَفْنِهَا إخْراجُهَا مِنَ المَسْجِدِ، أمَّا إِذَا كَانَ المَسْجِدُ مُبَلَّطاً أَوْ مُجَصَّصاً، فَدَلَكَهَا عَلَيْهِ بِمَدَاسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثيرٌ مِنَ الجُهَّالِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِدَفْنٍ، بَلْ زِيَادَةٌ فِي الخَطِيئَةِ وَتَكْثِيرٌ لِلقَذَرِ في المَسْجِدِ، وَعَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أنْ يَمْسَحَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِثَوْبِهِ أَوْ بِيَدِهِ أَوْ غَيرِهِ أَوْ يَغْسِلَهُ) [رياض الصالحين(474)].
            الثاني: يتنبه من يتوضأ داخل بيوت الوضوء التي لم تفصل عن المسجد إلى هذه المسائل، فلا يتنخم لجهة القبلة، وإن احتاج إلى التنخم أو البصاق أتبع ذلك بالماء حتى يغيبه.
            الثالث: الحذر من الغفلة عمّا بيّناه سابقا، ألا وهو رحبة المسجد فهي من المسجد، فمن غلبه مخاط أو بُصاق فليمحه كما أمر النبيّ-صلَّى الله عليه وسلَّم-.


            هذا ما يسر الله جمعه وإعداده
            والله تعالى أعلى وأعلم
            والحمد لله رب العالمين






            [1]قِيلَ: هِيَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الصَّدْرِ، وَقِيلَ النُّخَاعَةُ بِالْعَيْنِ مِنْ الصَّدْر، وَبِالْمِيمِ مِنْ الرَّأْس. انظر فتح الباري(1/50.
            [2] لا خلاف في جواز هذا الفعل خارج المسجد واختلفوا في فعله داخل المسجد، وسيأتي قريبا.
            [3]الزَّعْفَران: صِبْغٌ وهو من الطِّيبِ. انظر كتاب العين(1/157).
            [4]خلافا للأحناف الذين قدموا الحقيقة اللغوية على العرفية
            [5] يقوم مقام الثوب اليوم المناديل الورقية أو غيرها، وفيه دليل على جواز العمل اليسير لأجل إصلاح الصلاة، ومما هو أوجب من هذا في زمننا هذا، الحركة لأجل إطفاء الجوال إذا رنَّ، خاصة بالموسيقى والله المستعان.
            [6]قال النووي: (قال أبو عبيد: العبير بفتح العين وكسر الموحدة عند العرب هو الزعفران وحده، وقال الأصمعي: هو أخلاط من الطيب تجمع بالزعفران، قال ابن قتيبة: ولا أرى القول إلا ما قاله الأصمعي، و الخلوق بفتح الخاء هو طيب من أنواع مختلفة يجمع بالزعفران، وهو العبير على تفسير الأصمعي، وهو ظاهر الحديث، فانه أمر بإحضار عبير فأحضر خلوقا فلو لم يكن هو هو لم يكن ممتثلا)[شرح مسلم(18/137-13].
            [7] يقصد صاحب الأصل النووي.
            [8] وتفضيل بعض الملائكة على بعض ثابت، ومما يدل عليه قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[الحج: 75]، وقوله: {لَن يَستَنكِفَ المَسيحُ أَن يَكونَ عَبداً لِلِه وَلا المَلائِكَة المُقَرَبون}[النساء: 172]، وقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}[القدر: 4]، وكقول عائشة-رضي الله عنها-: ((كَانَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ...))[م(770)]، ولكن أهم شيء عند المفاضلة ألا يشعر السامع القدح في المفضول، ولذلك قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}[الأنبياء: 79].
            [9] وأورده في لوامع الأنوار(1/449-550)، وعزاه للبغوي، وقد أخرج الطبري نحوه في تفسيره عن سفيان(31867)، وإبراهيم التيمي(31860).
            [10] سيأتي قريبا بيان حكم البصاق في المسجد.
            [11] انظر فتح الباري(1/511).
            [12]المنتقى(2/394).
            [13]إكمال المعلم(2/270).
            [14]المفهم(2/160-161).
            [15]انظر فتح الباري(1/512)، والجامع لأحكام القرآن(12/279)، والمفهم(2/160-161).
            [16]طرح التثريب(2/341).
            [17]فتح الباري(1/512).
            [18] سبل السلام(1/157).
            [19]الثمر المستطاب(2/720)
            [20] المسند(1543). وانظر صحيح الجامع(439).
            [21] المعجم الكبير(801
            [22] هذا الحديث في صحيح الترغيب برقم(2967).
            [23] وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه(9144)،عن ابن جريج قال: حدثت أن أبا عبيدة به.
            [24](483)، وإسناده صحيح.
            [25] انظر فتح الباري(1/512).
            [26] شرح مسلم(5/41).
            [27]كالجماع في رمضان، وشرب الخمر، ونحوهما.

            تعليق


            • #7
              إِرْشَادُ العَابِدِ السَّاجِدِ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِ وَآدَابِ المَسَاجِدِ/ الحَلْقَةُ السَّابِعَةُ

              إِرْشَادُ العَابِدِ السَّاجِدِ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِ وَآدَابِ المَسَاجِدِ/ الحَلْقَةُ السَّابِعَةُ

              إِرْشَادُ العَابِدِ السَّاجِدِ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِ وَآدَابِ
              المَسَاجِدِ

              الحَلْقَةُ السَّابِعَةُ








              بِسْمِ اللهِ وَالصَّلَاةُ والسَّلَامُ عَلَى رسولِ اللهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَالاهُ:
              أمَّا بعدُ:


              فقد ذكرْنا في العدَدِ السّابق أوَّلَ خطأ منَ الأخطاءِ التِّي يفعلُها النَّاس في بيوتِ الله، وهو [البُصَاقُ داخِل الْمَسجدِ، أو للقِبلةِ]، وسنَذْكُر في هذا العدَدِ-بإذن الله- الخطأ الثَّاني، وهو:


              [نَشْدُ الضَّالَّةِ فِي الْمَسْجِدِ]


              فمن الْمُخَالفاتِ التي يرتَكبُها روَّادُ الْمَساجِد قديماً وحديثاً، خَطَأ كَبيرٌ يُخرِج الْمَساجِد عمَّا بُنِيَتْ لأَجلِه، أَلَا وَهُوَ: نَشْدُ الضَّالَّةِ فِيها، وقبْلَ البَدْءِ فِي بيانِ ما يدلُّ على هذا النَّهي وما يفيدُه كَذَلِك، يَحْسُن بِنَا أنْ نُعَرِّفَ بِبعضِ الْمُصْطَلحَات، فنقول-مستعينين بالله العظيم-:
              نَشَدَ: يقال (نَشَدَ الضَّالَّةَ نَشْداً)، بِفَتْحٍ فَسُكُون، (و نِشْدَةً ونِشْدَاناً)، بكسرِهما: طَلَبَ وَسَأَلَ مع رفْعِ الصَّوت، ويُطلق على التَّعريف بالشَّيء، ولذلك قال النَّبي-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- عن لُقَطَةِ الْحَرَمِ:
              ((وَلَا يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَهَا إِلَّا مُنْشِدٌ))[خ(6880)، م(1355)]. أيْ: معرِّف، ومن هذا إنشادُ الشِّعر، لرفع الصَّوت به[1].
              والضَّالَّةُ: اسمٌ يقع على الذَّكر والأُنثَى، وهو يطلق على ما ضَلَّ من البهائِم والحيوان، ويقال عن الإِنْسَان: ضائِع أو لقِيط، ولكن النَّهي هنا يشمل الْجَميع-كما سيأتي-، وقد تُطلَق الضَّالَّة على الْمَعاني[2]، ومنه الْمَقولة الْمَشهورة: (الحكمةُ ضالَّةُ الْمُؤمن)[3].
              ومعنى (نشدُ الضَّالَّة) هنا: أنْ يأتِيَ الإنسانُ الذِي ضلَّ وضاعَ له شيءٌ سواءً من الدَّوابِّ أمْ منَ الأمتعةِ إلى الْمَسجدِ فيرفعَ صوتَه سائِلًا النّاسَ عن مكانِه، أَوْ يَفْعَلَ ذلِكَ إمامُ الْمَسجِدِ أو غيرُه، فإنَّ هذا ممَّا نهى عنه نبيُّنا-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- بل دعا على فاعلِه بنقيض مقصودِه.
              فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- يَقُولُ:
              ((مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا))[مسلم(56].
              وعن بُرَيْدَة-رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلًا نَشَدَ فِي الْمَسْجِدِ[4] فَقَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ فَقَالَ النَّبِيُّ-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم-:
              ((لَا وَجَدْتَ إِنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ))[مسلم(569)].


              فَوَائِدُ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ:

              الأُولى: كلمةُ ((رَجُل)) في الحديث خرجَتْ مَخْرَج الغَالب، وإلَّا لو فُرِضَ أنَّه سمِع امرأةً، أو سمعَتْها امرأةٌ فالْحُكم واحدٌ.
              الثّانية: الظَّاهرُ في قوله: ((لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ))أنّ: (لا) نافية، فيكون دعاءً على الطّالب ألّا يجد ضالَّتَه، وهذا قول جمهور العلماء والشُّراح.
              وقيل: أنَّها ناهية: وهنا يكون النَّبي-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- نهاه عن معاودةِ هذه الفِعلة، ودعا له بأنْ يَجِدَ ضالَّتَه، كأنَّه قال له: (لا تفعل كذا. ردَّها الله عليْك).
              ويرجِّح الْمَعنى الأوَّلَ حديثُ بُرَيْدةَ الذِّي ذكرْنَاه هنَا، وكذا يرجِّحه أنَّ عادة العرب في مثل هذه الاستعمالات أن يُضيفُوا (الواو) لإزَالة اللَّبس، فيقولون مثلا: (لا؛ وغفر الله لك).
              قال السِّندي-رحمه الله-: (لَكِنَّ اللَّائِقَ حِينَئِذٍ الْفَصْلُ بِأَنْ يُقَالُ: (لَا؛ وَوَجَدْتَهُ)، لِأَنَّ تَرْكَهُ مُوهِمٌ)[ حاشية السندي على سنن النسائي(2/4].
              قال الْمُناوي-رحمه الله-: (ولَيْس الوَقْفُ علَى قولِه: (لا) كما يتوهَّمُه بعضُ الْجَاهلِينَ- بل الْمُراد الدُّعاءُ عليه بعدَم الرِّبح والوجدان، كما صَرَّحَ به-مع وضوحِه- بعضُ الأعيان، منْهُم النَّووي في الأذكار، حيث قال: [باب إنكارِه ودعائِه على من ينْشُد ضالَّةً في الْمَسجِد، أو يبيعُ فيه]، ثم أورد فيه أحاديثَ هذا منها) [فيض القدير(1/356-357)].
              الثّالثة: أنّ هذا الدُّعاءَ عقوبةٌ له لارتكابِه في الْمَسجِد ما لا يجوز، وظاهرُه أنّه يُقال جهرًا وأنَّه واجبٌ. [سبل السلام(1/231)، والثمر المستطاب(1/691)].
              الرّابعة: في هذا الدُّعاء دليلٌ على تحريم هذا الفعل، لأنَّ الدُّعاء على غيْرِنا من العُدْوَانِ الذي لا يَجُوز، إلّا إذا كان في مقابل عُدْوَان، فلا يجوز الدُّعاء بهذا على من نَشَدَ في السُّوق مثلاً، فلمَّا أُبِيحَ دلَّ على عُدْوانيَّةِ هذا الفعلِ وتَحْرِيمِه.
              [فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام لابن عثيمين(2/555-556)].
              واستَثْنَى الشيخُ ابنُ عثيمين-رحمه الله- الصّبيَّ إذَا ضاعَ في الْمَسجدِ الْحَرَام ونَحْوِه، لكثرةِ الأبوابِ، ولأنّ فقْدَ البشرِ ليس كفقدِ الأموال. [فتح ذي الجلال والإكرام(2/55].
              وأفتت اللّجنةُ الدّائمةُ برئاسةِ الشّيخِ ابنِ باز-رحمه الله- بعدمِ جَوازِ ذلك لدخولِه في العُموم.
              ومع ذلك هم يفرِّقون بين من سَأَلَ أفرادَ النَّاسِ الذين يلتقِيهِم عن طفلٍ صفتُه كذا وكذا، وبينَ رفعِ الصّوت بذلك، فيجيزونَ الأُولى دونَ الثَّانية. والله أعلم.
              [فتاوى اللجنة الدائمة(13369)].


              الْخَامسة: قوله: ((فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا)).

              يُحْتَمل أن تكونَ هذه الْجُملةُ تعليلًا من النَّبي-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- للحُكْم، ويُحْتَمل أنَّها من تمام القول الذي يقال لِمَن ينْشُد، حتَّى يطيبَ قلبُه، ولا يجدَ في نفسه شيئًا. والأولى ذِكرُها كما ذكر الشيخُ ابنُ عثيمين-رحمه الله-. والله أعلم. [فتح ذي الجلال والإكرام(2/555)].


              السّادسة: وهل يدخل في هذا الْحُكمِ من وَجَدَ شيْئًا فرَفَعَ صوْتَه باحثاً عن صاحِبِه؟


              الصُّورتان بينهُما فرقٌ لا شكّ، لأنَّ هذا مُحْسِن، ومع ذلك العلَّةُ في الْمَنع واحدةٌ، وقد فرَّق بعضُهم فقال: إن كان قَدْ وجدها في الْمَسجد فليقل: لِمَن هذه، لأنَّ النّاس محصُورُون في الْمَسجد، وإن كان وجدها خارِج الْمَسجد فليَطْلُب صاحبَها خارجَ المسجدِ عند الأبواب، وجوَّد هذا القولَ الشيخُ ابنُ عثيمين، بل قال-رحمه الله-: (ربَّما لا يسعُ النَّاس العملُ إلَّا بِه)، ومثال هذا بعد القيام من مجلس علم يجد أحدُنا بعضَ الأقلام فله أنْ يقول: لمن هذه، أمَّا لو وجدَه في الشّارع ثمَّ وجَد النَّاس مُجْتَمَعينَ في الْمَسجد، لم يَجُزْ له نشدُها، ويمكن حصولُ الْمَصلحَةِ بالتَّعريف بها عند باب الْمَسجد برفع الصَّوت، حتَّى يسمعَه من بالدَّاخل.[فتح ذي الجلال والإكرام(2/557)].


              السَّابعة: ما حُكْمُ التَّسَولِ داخلَ الْمَسجِد؟


              اختلف أهلُ العلم في حكم التَّسول داخل المسجد على ثلاثةِ أقوال:
              -فمنَعه بعضُ العلماء مطلقاً منهم مالك-رحمه الله-.حيث قَالَ-رحمه الله-: (وَيُنْهَى السُّؤَّالُ عَنْ السُّؤَالِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالصَّدَقَةُ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ)[الذَّخيرة(13/34، والتَّاج والإِكليل(7/619)].
              وقال أبُو الوليد ابنُ رشد-رحمه الله-: (وسُئِلَ مالكٌ عن السُّؤَّال الذين يسأَلُونَ فِي الْمَسْجِد، ويلحُّون في الْمَسألَة، ويقولون للنَّاس قد وَقَفْنَا منذُ يومين، ويذكرون حاجَتَهُم ويبْكُون، قال: "أَرَى أن يُنْهَوا عنْ ذلك". قال محمدُ بنُ رشْد: الْمَعنى في هذا بيِّن، لأنَّ المساجدَ إنَّما وُضِعَتْ للصَّلاة، وتلاوَةِ القُرآن، وذكرِ الله، والدُّعاءِ لله -عزَّ وجل-، فينبغي أن يُنهى فيها عمَّا سِوَى ذلك من اللَّغَطِ، ورَفْعِ الصَّوت، وسؤال السؤَّال الذين يلحُّون، لأنَّ ذلك مِمَّا يشغل الْمُصلِّين، وبالله التَّوفيق)[البيان والتحصيل (18/160)].
              وبمثل هذا القولِ قَالَ ابنُ بطَّة من الْحَنابلة.[الفروع(3/187)، والمبدع(2/179)].
              -وأجازه مع الكَراهة الشَّافعيةُ، والحنابلةُ استنادا إلى ما رواه أبو داود(1670) عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ((هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا))، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- (دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا أَنَا بِسَائِلٍ يَسْأَلُ، فَوَجَدْتُ كِسْرَةَ خُبْزٍ فِي يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَأَخَذْتُهَا مِنْهُ فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ)[المجموع(2/176)].
              ولقد ألَّف السُّيوطي-رحمه الله- رسالةً في هذا الموضوع بعنوان: (بذْلُ العَسْجَد لسُؤَّالِ الْمَسْجِد) ابتدأَها بقوله: (السُّؤال في الْمَسجد مكروه كراهة تنْزيه، وإعطاء السَّائل قُربة يثاب عليها، وليس بمكروه فضْلا عن أن يكون حراما، هذا هو الْمَنقول والذي دلَّت عليه الأحاديث)[الحاوي للفتاوي للسيوطي(1/103)].
              واستدلّ كذلك بالحديث السّابق، والحديث منكر ضعيف لأجل ضعف راويه (مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ) و قد كان يدلِّس كذلك، وقد عَنْعَن.
              قال الألباني-رحمه الله-: (ومِمَّا يُؤكِّد ضعف الْحَديث بهذا السِّياقِ أنَّه قدْ صحَّ من حديثِ أبِي هريرةَ مرفوعاً نحوه، وليس فيه أنَّ تصدقَ أبي بكر -رضي الله عنه- كان في الْمَسجد، أخرجه مسلمٌ وغيرُه، وهو مُخَرَّج في الكتاب الآخَر "الصحيحة" (رقم 8.
              و إذا عرفت ذلك فلا يستقيم استدلال السُّيوطي بالْحَديثِ على أنَّ الصَّدقَة على السَّائل في الْمَسجد ليست مكروهة، و أن السُّؤال فيه ليس بمحرَّم، والله أعلم)[السلسلة الضعيفة(3/654)(145].
              -وأجازه الحنفيَّة بشُروط، وإلَّا حرُم، وهذا اختيارُ شيخِ الإسلام.
              قال الرّازي الحنفي-رحمه الله-: (السُّؤَال فِي الْمَسْجِد والسَّائل فِي الْمَسْجِد قيل: يَحرم إِعْطَاؤُهُ، وَالْمُخْتَار أَنه إِذا كَانَ: لَا يتخطّى رِقَاب النَّاس، وَلَا يمرّ بَين يَدي الْمُصَلِّين، وَلَا يسْأَل النَّاس إلحافاً، يُبَاح إِعْطَاؤُهُ، وَإِن كَانَ يفعل وَاحِدَة من هَذِه الثَّلَاثَة يحرم إِعْطَاؤُهُ)[تحفة الملوك(274)].
              قال ابنُ عابدين-رحمه الله-: (فَالْكَرَاهَةُ لِلتَّخَطِّي الَّذِي يَلْزَمُهُ غَالِبًا الْإِيذَاءُ، وَإِذَا كَانَتْ هُنَاكَ فُرْجَةٌ يَمُرُّ مِنْهَا بلَا تخَطِّي فَلَا كَرَاهَةَ)[ردُّ الْمُحتار(6/417)].
              قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية-رحمه الله-: (أَصْلُ السُّؤَالِ مُحَرَّمٌ فِي الْمَسْجِدِ وَخَارِجَ الْمَسْجِدِ إلَّا لِضَرُورَةِ، فَإِنْ كَانَ بِهِ ضَرُورَةٌ وَسَأَلَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا بِتَخَطِّيهِ رِقَابَ النَّاسِ، وَلَا غَيْرِ تَخَطِّيهِ، وَلَمْ يَكْذِبْ فِيمَا يَرْوِيهِ وَيَذْكُرُ مِنْ حَالِهِ، وَلَمْ يَجْهَرْ جَهْرًا يَضُرُّ النَّاسَ، مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ، أَوْ وَهُمْ يَسْمَعُونَ عِلْمًا يَشْغَلُهُمْ بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ جَازَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.)[مجموع الفتاوى(22/206)].
              وبمثل هذا أجَابَ الشَّيخُ ابنُ باز-رحمه الله- وكذا اللَّجنةُ الدَّائمة. [مجموع فتاوى ابن باز(30/172)، وفتاوى اللجنة(166)].
              وبنَحْوِ هذا كذلك أجَابَ الشيخُ ابنُ عثيمين-رحمه الله- إلَّا أنّه رأى ضَرُورَةَ أمْرِ السَّائلِ بأنْ يَخْرُجَ ليَسْألَ أمامَ بابِ الْمَسجدِ لا داخِلَه، ولا يُعتَبَر هذا من نهْرِ وانتهارِ الْمِسْكِين، وإنَّما هو أمرٌ له بتَغْيِيرِ الْمَكان فقط.
              فقال-رحمه الله-: (من الْمُتَسَوِّلين من يقومُ أمامَ الْجَماعَة، ويتكلَّمُ بصوتٍ مرتَفِع، ويشوِّشُ علَى النَّاسِ أذكارَهم بعدَ الصَّلاة، وقد يستمرُّ فِي الكلَامِ حتَّى يُشوِّشَ بكلامِه على منْ أرَادَ أنْ يتَنفَّل، فمثلُ هذا يُمنع ويُقالُ له: اخْرُجْ إلى بابِ الْمَسجِدِ من الْخَارِج)[لقاءات الباب المفتوح. اللقاء(39)].



              هذا وللحديثِ بقيَّة-بإذن الله-
              والله تعالى أعلى وأعلم
              والحمد لله رب العالمين



              [1] انظر غريب الحديث(11/221)، ولسان العرب(3/421)، وتاج العروس(9/220).
              [2] انظر الزاهر(177)، ولسان العرب(11/392)، والنهاية في غريب الحديث(3/9.
              [3]وقد وردت هذه المقولة مرفوعة عند الترمذي(2687)، وابن ماجه(4169) ولكن لا تصح. انظرضعيف الجامع(4301و4302).
              [4] جاء في رواية لمسلم(569): ((جَاءَ أَعْرَابِيٌّ بَعْدَ مَا صَلَّى النَّبِيُّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَاةَ الْفَجْرِ فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ)).الحديث.

              تعليق


              • #8
                رد: إرشادُ العابدِ السَّاجِد إلى بعضِ أحكامِ وآدابِ المساجِد

                إِرْشَادُ العَابِدِ السَّاجِدِ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِ وَآدَابِ المَسَاجِدِ

                الحَلْقَةُ الثَّامنةُ


                [البَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ]



                بِسْمِ اللهِ وَالصَّلَاةُ والسَّلَامُ عَلَى رسولِ اللهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَالاهُ:
                أمَّا بعدُ:

                منَ الأفعالِ القَبِيحةِ والأعمالِ الشَّنيعةِ التِّي تُناقِضُ الْمَقصودَ الذِي لأجلِه بنيت الْمَساجدُ: البيعُ والشِّراءُ فيها، قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}[النُّور:36]، فقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَسَاجِدَ بُيُوتٌ أَذِنَ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَأَنْ يُسَبَّحَ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ فَلِهَذَا بُنِيَتْ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُنَزَّهَ عَنْ كُلِّ مَا لَمْ تُبْنَ لَهُ[1]، ومن أشدِّ ما يعارضُ ويناقضُ هذا المقصدَ: التِّجارةُ في المساجدِ وجعلُها محلاً للبيع والشِّراء.
                ولهذا جاء في صحيح السُّنة: النَّهيُ عن هذا الفعلِ والدُّعاءُ على فاعلِه، وذلكَ لأجلِ صيانةِ بيوتِ اللهِ عن أمورِ الدُّنيا، وما يُشغِل عن الطَّاعة، فمِمَّا ورد في ذلك ما يلي:
                - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- قَالَ: ((إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ[2] فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ))
                [التِّرمذي(1321)، والنَّسائي في الكبرى(9933)، وهو في صحيح التَّرغيب والتَّرهيب(291)].
                - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ-رضي الله عنه-: ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنِ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ،...))[أحمد(6676)، وأبو داود(1079)، والنّسائي (714)، وهو في صحيح الجامع(6880)].


                فَوَائِدُ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ:

                الأُولَى : يدخُل في هذا النَّهيِ حتَّى البيعُ عبرَ الهاتف.[فتح ذي الجلال والإكرام لا بن عثيمين(2/566)].
                الثَّانية : لفظة: (فقولوا) أمرٌ، ولكنْ هل امتثالُ هذا الأمرِ مطلوبٌ من جميعِ من رأى من يبيعُ في المسجد أو من مجموعِهم، فعلى الثَّاني إذا قالها واحدٌ من النَّاس كفى، وعلى الأوَّل: لا بدَّ أن يقول ذلك كلُّ من سمِعَه، والأبلغُ في الزَّجر أنَّه للجميع.[فتح ذي الجلال والإكرام(2/564)].
                الثَّالثة : في قوله-صلَّى الله عليه وسلَّم-: (لا أربح الله تجارتك): دُعَاءٌ عَلَيْهِ بأَلَّا يجعَلَ اللَّهُ تِجَارَتَه ذَاتَ رِبْحٍ وَنَفْعٍ، وذلك لأنَّ المسجدَ سوقُ الآخرة، لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}[الأنعام: 112]، فمن عكسَ وجعلَه سوقاً للدُّنيا كان حريًّا أن يُدعى عليه بالخُسرانِ والحرمانِ، فكان هذا دعاءً عليه بنقيض قصدِه؛ لأنَّه إنَّما باعَ أو ابتاعَ يطلبُ الرِّزقَ والرِّبحَ، فيُدعى عليه بنقيض قصدِه؛ لأنَّه استعمل المسجد في غير ما بُنِيَ له.
                الرَّابعة : ما حكمُ البيعِ والشِّراء في المسجد: اختلفَ أهلُ العلمِ في حُكمِ ذلك على أقوال:
                - فذهب الحنفيَّة[3] والمالكيَّة[4] والحنابلة في رواية[5] وهو الصَّحيح من مذهب الشَّافعية[6]، إلى كراهيَّة البيع والشِّراء في المسجد.
                - وذهب الحنابلةُ في الرِّواية الأخرى[7]، إلى القول بتحريم ذلك.
                - وذهب بعضُ أصحاب الشَّافعي، وهو قولٌ ضعيف له[8]، إلى أنَّه لا يُكرَه البيع والشِّراء في المسجد.
                قال الشَّوكاني-رحمه الله-: (أَمَّا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ،...وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ حَمْلَ النَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ يَحْتَاجُ إلَى قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنْ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ النَّهْيَ حَقِيقَةٌ فِي التَّحْرِيمِ، وَهُوَ الْحَقُّ، وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ النَّقْضِ وَصِحَّةِ الْعَقْدِ[9] لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّحْرِيمِ، فَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ قَرِينَةً لِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْأَحَادِيثُ تَرُدُّ عَلَيْهِ، وَفَرَّقَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ ذَلِكَ وَيَكْثُرَ فَيُكْرَهَ أَوْ يَقِلَّ فَلَا كَرَاهَةَ وَهُوَ فَرْقٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ)[10].
                وقال الصَّنْعانِي-رحمه الله-: (فِيهِ دَلَالَةٌ [يقصِدُ أمرَ النَّبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- بالدُّعاءِِ عليه] عَلَى تَحْرِيمِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مِنْ رَأَى ذَلِكَ فِيهِ يَقُولُ لِكُلٍّ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَك يَقُولُ جَهْرًا زَجْرًا لِلْفَاعِلِ لِذَلِكَ وَالْعِلَّةُ هِيَ قَوْلُهُ فِيمَا سَلَفَ: فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِذَلِكَ)[11].
                قال ابنُ عثيمين-رحمه الله-: (البيعُ والشِّراءُ والتَّأجيرُ والاستئجارُ محرَّمٌ في المسجد، لأنَّه ينافي ما بُنِيَتْ المساجِدُ من أجلِه)[فتاوى نور على الدَّرب/ الشَّريط: (33/ الوجه: ب/ الدقيقة: 22].

                تنبيه:
                أقوالُ العلماءِ السَّابقةُ كانتْ عن غَيْرِ الْمُعْتَكِفِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْتَكِفِ:
                -فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ[12] وَالشَّافِعِيَّةِ[13] يَجُوزُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، فَإِنْ كَانَ لِتِجَارَةٍ، أَوْ كَانَ كَثِيرًا كُرِهَ.
                وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ [14] جَوَازَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَثْنَاءَ الاِعْتِكَافِ بِعَدَمِ إِحْضَارِ السِّلْعَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَإِلاَّ كُرِهَ.
                - وأجازه الإمامُ مالكٌ[15] له كذلك بشرطِ أنْ يكونَ بغيرِ سَمْسَرَةٍ[16]، وأنْ يكونَ يسيرًا.
                الخامسة : هل ينعقدُ البيعُ أوْ لا؟
                - ذهب الجمهور من الحنفيَّة والمالكيَّة والشافعيَّة وهو قولٌ عند الحنابلة إلى انعقاده[17]، لاقتصار النَّبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- على تعليم المسلمين الدُّعاءَ عليه بعدم الرِّبح دونَ الإشارةِ إلى بُطلانِه، ولا يجوزُ تأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ، كما أنَّ ذكرَ الرِّبحِ إشارةٌ إلى إتمامِ البيعِ[18]، وهو اختيار شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة[19].
                - وذهب الإمامُ أحمدُ في قولٍ له[20] إلى بطلانِه، ورجّحَ هذا القولَ الشَّيخُ ابنُ عثيمين[21] .
                السّادسة : هل المرادُ بالنَّهي عن البيعِ والشِّراءِ في المسجدِ العقدُ أو التَّقابض؟
                أجاب عن هذا شيخُنا الفاضلُ محمَّد علي فركوس-حفظه الله- فقال: (البيعُ والشِّراءُ في المسجدِ منهيٌّ عنه لكونِه يُفضِي إلى ارتفاعِ الأصواتِ، وارتفاعُ الأصواتِ لا يتجَانَسُ مع المسْجِدِ في هدوئِه وفِي سكينتِه ووقارِه، لهذَا قالَ -عليه الصَّلاة والسَّلام-:(خيرُ بقاعِ الأرْضِ المساجدُ، وشرُّ بقاعِ الأرضِ الأسواقُ)[22] ذلك لأنَّ الأسواقَ ترتفعُ فيها الأصواتُ، وقدْ نَهَى النَّبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- عن هيشاتِ الأسْواقِ داخل المساجد، فقال–عليه الصَّلاة والسَّلام-: ((ليلِنِي أُولُوا الأحلَامِ والنُّهى، وإيَّاكُم وهيشاتِ الأسْواق))[23]، فكلُّ ما يؤدِّي ويُفضِي إلى تغييرِ ما في المسجدِ من السَّكينة والوقارِ إلى الفَوضَى وارتفاعِ الأصْوات، والمناداة داخلَ المسجدِ في غيرِ ما حاجةٍ لدرسٍ أو علمٍ أو خُطبةٍ فلا يجوزُ في ذلك رفعُ الصَّوت، فإذنْ لا يُشتَرطُ في البَيْعِ المنهيِّ عنه في الأحاديثِ تبادلُ الثَّمن والمُثْمَن، بلْ مجرَّدُ إبرامِ العقدِ والصِّيغةِ يسمَّى بيعًا، والبيع داخل المسجدِ لا يجوزُ فيه شرعاً لما يُفضِي فيه إلى المساومَة أو المفاوضَة وهذِه كلُّها مُوصلَةٌ إلى صرْفِ النَّظرِ عن رسالةِ المسجدِ التِّي حَصَرَهَا النَّبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- في حديثِ الأعْرَابِيّ في الذِّكر والصَّلاة فقال: ((إنَّما بنيت للذِّكر وللصَّلاة)) [24]، فذلك النَّص النَّبوي القاضِي في تحريمِ البيعِ في المسجدِ، فلا يجوزُ البيعُ في المسجدِ سواء كانَ مجرَّدَ إبرامِ العقدِ أو تبادلِ الثَّمنِ والمُثْمَن)
                [من شريط: المسائل الوهرانيَّة/ السُّؤال: 11/ الدَّقيقة: 32].
                السَّابعة : لا بدَّ من التَّنبُّه إلى أنَّ هذا الحكمَ يتعلَّقُ كذلِك برحبةِ المسجدِ على التَّفصيل الذي ذكرناه في الحلقة الثَّالثة، وقد وضَّح هذه المسألةَ شيخُنا الفاضلُ محمَّد علي فركوس-حفظه الله- فقال: (إنَّ رحبةَ الْمَسجدِ وفناءَه وحوالَيهِ وما أضيفَ إليهِ وما اتَّصلَ بهِ خارجَه أو داخلَه يُعَدُّ من حريمِ الْمَسجدِ على الأصحِّ، وحريمُ الْمسجدِ حكمُه حكمُ الْمَسجدِ من حيثُ عدمُ مشروعيةِ البيعِ وإنشادِ الضَّالةِ فيهِ أو تغسيلِ الْموتَى والاستنجاءِ ونحوِ ذلك، ويشرعُ فيه الاقتداءُ بِمَن فِي الْمسجدِ، وتحيةُ الْمسجدِ وغيرُ ذلك من الأحكامِ الْمتعلِّقةِ بالْمسجدِ...وَفْقًا لقاعدة: «الحَرِيمُ لَهُ حُكْمُ مَا هُوَ حَرِيمٌ لَهُ»[25]، التي أصلُها قولُه -صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم-: «أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ»[26].
                أمّا إذا كانت توابعُ المسجدِ من ساحتِه وفنائِه مضافةً إلى المسجدِ وهي مُنفصلةٌ عنه بطريقٍ أو مَمَرٍّ بحيث لا يقتدرُ على الدُّخول إلى التَّوابعِ إلاّ بعد الخرُوجِ من المتبُوعِ فلا تمنَعُ -والحالُ هذه- ممَّا يمنعُ في التَّوابع المتَّصلةِ اتِّصالَ قرارٍ لكونِها منفصلةً عنه انفصالاً حقيقيًّا وفعليًّا، فتبعيَّتُها للمسجد تبعيَّةٌ اسميَّةٌ وشكليَّةٌ لا فعليَّة لذلك يختلف حكمُها)[فرائد القواعد (12)، والفتوى رقم: (691) في موقع الشَّيخ].
                وقد سُئِلَتْ اللَّجنة الدَّائمة للإفتاء برئاسة الشَّيخِ ابنِ باز –رحمه الله-: (كثيرٌ من المساجدِ في أمريكا تحتوي على قاعة للصَّلاة وغرفٍ ملحقةٍ بها، فهل يجوزُ البيعُ والشِّراءُ في تلك الغرفِ لصالحِ المسجد؟ وهل يجوز البيعُ والشِّراءُ في القاعةِ المخصَّصَةِ للصَّلاةِ (حَرَم المسْجِد)، أو الإعلانُ عن البضائعِ والخدماتِ فيها؟).
                فأجَابتْ: (لا يجوزُ البيعُ والشِّراءُ، ولا الإعلانُ عن البضائع، في القاعة المخصَّصة للصَّلاة إذا كانت تابعةً للمسجد، ...
                أمَّا الغرف ففيها تفصيل: فإن كانتْ داخلةً في سورِ المسجِدِ فلَهَا حكْمُ المسجِدِ، والقولُ فيهَا كالقولِ في القَاعَةِ، أمَّا إنْ كانتْ خارجَ سورِ المسجِد، ولو كانتْ أبوابُها فيه، فليسَ لَها حُكم المسجِد؛ لأنَّ بيتَ النَّبي -صلّى الله عليه وسلّم- الذي تسكُنُه عائشةُ -رضي الله عنها- كانَ بابُه فِي المسْجِد، ولمْ يكنْ له حُكْمُ المسْجِدِ).[فتاوى اللَّجنة الدَّائِمَة (6/286- 287)].


                هذا وللحديثِ بقيَّة في حلقاتٍ مقبلةٍ-بإذنِ الله-
                والله تعالى أعلى وأعلم
                والحمدُ لله ربِّ العالمين

                مصطفى قالية
                12 / ربيع الآخر / 1433 ه
                التعديل الأخير تم بواسطة أبو الحسين عبد الحميد الصفراوي; الساعة 12-Dec-2013, 12:40 PM.

                تعليق


                • #9
                  رد: إرشادُ العابدِ السَّاجِد إلى بعضِ أحكامِ وآدابِ المساجِد

                  إِرْشَادُ العَابِدِ السَّاجِدِ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِ وَآدَابِ المَسَاجِدِ

                  الحَلْقَةُ التَّاسعَةُ






                  تشبيكُ الأصابع في الصَّلاة أو عندَ قصدِها









                  بِسْمِ اللهِ وَالصَّلَاةُ والسَّلَامُ عَلَى رسولِ اللهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَالاهُ:

                  أمَّا بعدُ:



                  فمنَ الأخطاء التي تخفى على كثيرٍ من المصلِّين وروَّادِ بيوت الله، وتراهم لا يجِدُون في فعلِهم لها حرجًا، هو تشبيكُهم لأصابِعِهم، مع أنَّ نصوصَ الشَّرعِ صريحةٌ في النَّهي عن ذلك وعن فعله:
                  فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ كَانَ فِي صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ، فَلَا يَقُلْ هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ)) [ 1].
                  وعن كعب بنِ عجرة-رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: ((إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَا يُشَبِّكْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنَّهُ فِي الصَّلَاةِ)) [2]. وفي رواية[3] قال:دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَسْجِدَ وَقَدْ شَبَّكْتُ بَيْنَ أَصَابِعِي، فَقَالَ لِي: ((يَا كَعْبُ إِذَا كُنْتَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَا تُشَبِّكْ بَيْنَ أَصَابِعِكَ، فَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتَ الصَّلَاةَ)).

                  فوائد ومسائل متعلِّقةٌ بالحديثَين:
                  الأُولى: قال الخطّابي-رحمه الله-: (تَشْبِيكُ اليَدِ: هو إدخالُ الأصابع بعضِها في بعض والاشتباكُ بها، وقد يفعله بعضُ النّاس عبثًا، وبعضُهم ليفرقعَ أصابعَه عند ما يجده من التَّمدُّد فيها، وربَّما قعد الإنسان فشبَّك بين أصابعه واحتبى بيديه يريد به الاستراحة، وربّما استجلب به النَّوم فيكون ذلك سببا لانتقاض طهره، فقيل لمن تطهَّر وخرج متوجِّها إلى الصَّلاة: (لا تشبِّك بين أصابعك) لأنَّ جميع ما ذكرناه من هذه الوجوه على اختلافها لا يُلائم شيءٌ منها الصَّلاة ولا يُشاكل حالَ المصلِّي)[4].
                  الثَّانية: اتِّفق العلماء على كراهةِ تشبيك الأصابع في حال الصَّلاة[5]، أمَّا تشبيكها عند قصدِ الصّلاة أو عند انتظارِها ففيه خلاف:
                  فَقَدْ قَال الجمهور من الْحَنَفِيَّةِ [6] وَالشَّافِعِيَّةِ[7] وَالْحَنَابِلَةِ[8] بِكَرَاهَةِ التَّشْبِيكِ حِينَئِذٍ كذلك، لأِنَّ المرء في صلاة ما انتظر الصَّلاة.
                  وخصَّ المالكيَّةُ الكراهة في حال الصَّلاة فقط[9].
                  ولا شكّ بأنَّ قول الجمهور هو الحقُّ لصراحة الأحاديث في ذلك، وإنَّما لم يأخذ بها مالك-رحمه الله- لأنَّه لم يصحَّ عنده من هذا كلِّه إلَّا النَّهي عن تشبيك الأصابع في الصَّلاة خاصَّة، فأخذ بذلك ولم ير بما سواه بأسا[10].
                  الثَّالثة: قال المُناوي -رحمه الله -: (إنَّ مفهوم الشَّرط ليس قيدا معتبرا، حتَّى إنَّه إنَّما يُنهى عن التَّشبيك من توضّأ فأحسن وضوءه، بل من توضّأ فأسبغ الواجب، وترك المندوب، فهو مأمور بذلك، وكذا من خرج من بيته غير متوضِّئ، ليتوضَّأ في طريقه، أو عند المسجد، لأنّه قاصد للصَّلاة في المسجد، وفائدة ذكره الشَّرط: أنّ الآتي بصفات الكمال، من توضّئِه قبل خروجه من بيته، وإحسانِه للوضوء، وذهابِه للمسجد، أنّه لا يأتي بما يخالف ما ابتدأ به عبادتَه، من العبث في طريقه إلى المسجد، بتشبيك اليدين بغير ضرورة، بل ينبغي أن يواظب على صفات الكمال في خروجه، ودخوله المسجد، وصلاته، وخروجه منه، حتّى يرجع إلى بيته، ليكونَ آخر عبادتِه مناسبا لأوَّلها، والنَّهي عن التَّشبيك في الصَّلاة، لا يتقيَّد بكونه في المسجد، بل لو صلَّى في بيته، أو سوقه فكذلك، لتعليله النَّهي عن التَّشبيك في الصَّلاة إذا خرج من بيته بأنَّه في صلاة، فإذا نهى من يُكتب له أجر المصلِّي لكونه قاصدها، فحالة الصّلاة الحقيقيّة أولى بترك العبث، سواء كانت الصَّلاة بالمسجد أو غيره)[11].
                  الرَّابعة/ قوله: ((فَلَا يَقُلْ هَكَذَا)) معناه: (فلا يفعل هكذا)، وفيه إطلاق القول على الفعل وهذا جائز، وعكسه وهو إطلاق الفعل على القول جائز كذلك، ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}[الأنعام: 112].

                  تنبيه مهم:
                  وردت أحاديث ظاهرها يفيد جواز تشبيك الأصابع في المسجد، منها:
                  حديث أَبِي مُوسَى-رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ))[12].
                  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه- قَالَ: (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ، [قَالَ ابْنُ سِيرِينَ سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا]، قَالَ: فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّه غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الْأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَخَرَجَتْ السَّرَعَانُ[13]... )[14].
                  فحَدِيثَ أَبِي مُوسَى، دَالٌّ عَلَى جَوَازِ التَّشْبِيك مُطْلَقًا، وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَة دَالٌّ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِذَا جَازَ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ فِي غَيْرِهِ أَجْوَزُ[15]، وقد جمع بينها أهل العلم بعدَّة أقوال منها:
                  الأوَّل:النَّهي خاصّ بالأمّة، والجواز من خصوصيّاته-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قاله الشَّوكاني[16].
                  والثَّاني: النَّهي عن فعله على وجه العبث ولغير قصد. وهو لاِبْن الْمُنير حيث قال: (التَّحْقِيق أَنَّهَا لَا تعارضها، إِذ المنهي عَنهُ فعله على وَجه الولع والعبث، وَالَّذِي فِي الحَدِيث إِنَّمَا هُوَ لمقصود التَّمْثِيل، وتصوير الْمَعْنى فِي النَّفس بِصُورَة الْحس. وَنَحْو ذَلِك من الْمَقَاصِد الصَّحِيحَة)[17].
                  قال الحافظ ابنُ حجر-رحمه الله-: (هُوَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَابْن عُمَر كَمَا قَالَ، بِخِلَافِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة)[18].
                  والثَّالث: النَّهي عن فعله في الصَّلاة أو عند قصدها. إِذْ مُنْتَظِر الصَّلَاةِ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي وَهو جَمْعُ الْإِسْمَاعِيلِيّ، ورجَّحه كثيرون.
                  قال الحافظ ابن ُرجب -رحمه الله-: (وقد ذكر أبو بكر الإسماعيلي في (صحيحه) المخرّج على (صحيح البخاري)[19] أنَّ حديث كعبِ بنِ عجرةَ وما في معناه لا ينافي حديث أبي هريرة الذي خرَّجه البخاري في هذا الباب، وأنَّه يمكن الجمع بينهما، بأنَّه إنَّما يكره التَّشبيك لمن كان في صلاة، أو حكمه حكم من كان في صلاة، كمن يمشي إلى المسجد أو يجلس فيه لانتظار الصَّلاة، فأمَّا من قام من الصَّلاة وانصرف منها، كما فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمَّا سلَّم من ركعتين وقام إلى الخشبة المعترضة، فإنَّه صار منصرفا من الصَّلاة لا منتظرا لها، فلا يضرّه التَّشبيك حينئذ)[20].
                  و قال الحافظ ابنُ حجر-رحمه الله-: (وَأَحَادِيث الْبَاب الدَّالَّة عَلَى الْجَوَازِ خَالِيَة عَنْ ذَلِكَ[21]: أَمَّا الْأَوَّلَانِ[22] فَظَاهِرَانِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَة فَلِأَنَّ تَشْبِيكَهُ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ اِنْقِضَاء الصَّلَاة فِي ظَنِّهِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُنْصَرِفِ مِنْ الصَّلَاةِ)[23].
                  قال الشّيخ ابنُ باز-رحمه الله-: ( يكره للمسلم أن يشبِّك بين أصابعه إذا خرج إلى الصَّلاة، وهكذا حال انتظاره للصَّلاة، وهكذا في الصَّلاة؛ لأنَّه جاء عن النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- ما يدلُّ على كراهة ذلك، فإذا خرج إلى الصَّلاة فإنَّه في صلاة، فلا يشبّك بين أصابعه، وهكذا في المسجد إذا كان ينتظر الصَّلاة لا يشبِّك بين أصابعه، كلُّ هذا مكروه، وهكذا في نفس الصَّلاة لا يشبِّك بين أصابعه، أمَّا بعد الصَّلاة فلا حرج، ولو كان في المسجد بعد الصَّلاة لا بأس أن يشبِّك وإن كان في المسجد، فقد ثبت عنه -صلَّى الله عليه وسلَّم- في الصَّحيحين أنَّه لمَّا سلَّم من الصَّلاة يظنُّ أنَّه أتمَّها تقدَّم وجلس في مقدَّم المسجد، وشبَّك بين أصابعه -عليه الصَّلاة والسَّلام، فالحاصل أنَّ التَّشبيك بعد الصَّلاة ولو في المسجد لا حرج فيه)[24].

                  2- الحكمة في النَّهي عن التَّشبيك:
                  اخْتُلِفَ فِي حِكْمَة النَّهْي عَنْ التَّشْبِيكِ:
                  - فَقِيلَ: لِكَوْنِهِ مِنْ الشَّيْطَانِ. وقد جاء ذلك في حديث أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه- الذي رواه أحمد[25] وابنُ أبي شيْبة[26]، ولكنَّ إسنادَه ضعيفٌ لا يثبُت[27].
                  - وَقِيلَ: لِأَنَّ التَّشْبِيكَ يَجْلِبُ النَّوْمَ، وَهُوَ مِنْ مَظَانّ الْحَدَثِ. وهذا غير لازم، بل كالنَّادر.
                  - وَقِيلَ: لِأَنَّ صُورَةَ التَّشْبِيكِ تُشْبِهُ صُورَةَ الِاخْتِلَافِ، فَكُرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ هُوَ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ، حَتَّى لَا يَقَعَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْمُصَلِّينَ: ((وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)) [28].
                  قال ابنُ رجب-رحمه الله- رادًّا على هذا القول: (وهو مناسبة بعيدة جدا، فإنَّ التَّشبيك، كما مُثِّل به الاختلافُ والافتراقُ، فقد مثِّل به الائتلاف والتَّعاون والتَّناصر، كما في حديث أبي موسى الذي خرَّجه البخاري في أوَّل الباب[29]، فليس كراهته لمشابهته لمثل الافتراق، بأولى من عدم كراهته لمشابهته لمثل التَّعاون والتَّعاضد والتَّناصر) [30].
                  - وقيل: لأنَّ فيه مشابهةً لأهل الكتاب. ويدلُّ على هذا ما رواه أبو داود بسنده[31] عَنْ إسماعيل بْنِ أُمَيَّةَ سَأَلْتُ نَافِعًا عَنْ الرَّجُلِ يُصَلِّي وَهُوَ مُشَبِّكٌ يَدَيْهِ؟ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: (تِلْكَ صَلَاةُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)[32].
                  - وقيل: لأنّه فعلٌ يدلُّ على العبث الذي ينبغي أن تنزّه عنه الصّلاة. وهذا وارد كذلك، لذلك قال الحافظ ابنُ رجب-رحمه الله- مرجِّحا القولين الأخيرين:(وكلامُ ابنِ عمر يدلُّ على أنَّه كُرِه لِمَا فيه من مشابهة أهل الكتاب، وهو-أيضا- من نوع العبث الذي تنزَّه عنه الصَّلاة) [33].

                  فائدتان مهمتان:
                  الأولى: قال شيخُنا الفاضل محمَّد علي فركوس-حفظه الله-: (وإذا كانت علَّة النَّهي عن تشبيك الأصابع في المسجد هي العبث على أرجح الأقوال، فإنَّه يمكن توسيع دائرة الكراهة من المسجد إلى سائر مواضع العبادات كالسَّعي والطَّواف وغيرِها، ومجالسِ العلمِ والذّكرِ والمدارسةِ؛ لأنَّ العبثَ لا يتجانس مع مضمون العبادة والدِّيانة، ويقوِّي ذلك أنّ تشبيك الأصابع يُنهى عنه في الصَّلاة سواء في المسجد أو خارجه،...
                  هذا، وإذا كان التَّشبيك المُنهى عنه من أجل العبث، فإنَّه يخرج عن النَّهي ما كان سبيله التَّعليم والبيان، فقد ثبت عن النبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم- أنّه قال: «دَخَلْت العُمْرَة فِي الحَجِّ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ»[34]، وكذا في قوله -صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم-: «المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ»[35]، ففي الحديثين وجهٌ للتشبيه والمبالغة في البيان )[36].
                  الثَّانية: ممَّا يلحق بالتَّشبيك من جهة كراهيّة فعله في الصَّلاة هو (فرقعةُ الأصابع)، فإنَّ فيه في الغالب- تشبيكا وزيادة[37]، ولأنَّه عمل لغير مصلحة الصَّلاة، وقد نصَّ فقهاءُ المذاهب الأربعة[38] وغيرُهم على كراهيَّة ذلك[39].
                  فالفرقعةُ كالتَّشبيك تُكره لأنّها من العبث الذي تنزَّه عنه العبادة، إلَّا أنَّ بين التَّشبيك والفرقعة فرقًا من جهتين:
                  الأُولى: أنَّ كراهيَّة الفرقعة إذا فعلت بغير التَّشبيك خاصٌّ بحال الصَّلاة فقط، وهي مباحةٌ عند قصدها وانتظارها أو بعد الفراغ منها، بخلاف التَّشبيك كما مرّ.
                  الثَّانية: أنَّ الفرقعةَ وإن كانت جائزةً في المسجد بعدَ الصَّلاة، إلَّا أنَّه إن خشيَ أن تشوِّش على مَن حوله فلا يفعل، بخلاف التَّشبيك ففعله بعد الصَّلاة لا يضرّ.
                  وبهذا أفتى العالمان الجليلان: الألباني[40] وابن عثيمين[41] -رحمهما الله-.




                  اتِّخَاذُ المَسَاجِدِ طُرُقًا




                  وهذا الفعل كذلك من الأخطاء الّتي تحدثُ باستمرار في مساجدنا، ولا تكاد تجد من ينكرُها إلّا قليلا ممّن وفقهم الله
                  والمقصود بـ(اتّخاذ المساجد طرقًا): أن يدخلَ الرَّجل من بابٍ ويخرجَ من بابٍ آخر عابرا لحاجته من غير أن يصلّيَ فيه[42].
                  قال الصَّنعاني-رحمه الله-: (وهذا مُشاهد في أعظم بيوت الله، وهو الحرم المكيّ، فإنَّه كالطَّريق لأهل مكَّة يعبرون لحاجاتهم منه إلى مساكنهم،...) [43].
                  وهذا من أشراط السّاعة كما أخبر نبيُّنا-صلَّى الله عليه وسلَّم- في الحديث الذي رواه عنه ابنُ مسعودٍ-رضي الله عنه-: (( إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَمُرَّ الرَّجُلُ فِي الْمَسْجِدِ لَا يُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ...))[44].
                  وقد نُهي عن هذا الفعل لمنافاته للتَّعظيم الواجب لشعائر الله، فالمساجدُ ما جُعلت لمرور النَّاس من خلالها، وإنَّما جعلت للعبادة، ولم يتوقَّف الأمر عند هذا الحدّ، بل وصل الأمر في بعض بلاد المسلمين أن أصبحت المساجدُ آثارًا سياحيَّة، يدخلُها من لا يُراعي لها أيَّ حرمة. والله المستعان.
                  وقد جاء النَّهي عن هذا الفعل في السُّنَّة الصَّحيحة:
                  فعن عبدِ الله بنِ عمر-رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قَالَ: ((لَا تَتَّخِذُوا الْمَسَاجِدَ طُرُقًا، إِلَّا لِذِكْرٍ أَوْ صَلَاةٍ))[45].
                  تنبيه: قد جاء ما يدلُّ على جواز المرور في المسجد:
                  فعَنْ أَبِي مُوسَى-رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: ((إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا، أَوْ فِي سُوقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ، فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا بِكَفِّهِ، أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْءٍ))[46].
                  إلَّا أنَّ هذا الدّليل على الجواز حملَه أهلُ العلم على الحاجة والنُّدرة حيث لا يؤدّي إلى استطراق المسجد المنهيّ عنه كما سبق[47].
                  قال ابنُ كثير-رحمه الله-: (أَمَّا أَنَّهُ (لَا يُتَّخَذُ طَرِيقًا) فَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُرُورَ فِيهِ إِلَّا لِحَاجَةٍ إِذَا وَجَد مَنْدُوحَةً عَنْهُ)[48].
                  وقد أشار -صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- إلى هذا المعنى حين قال: ((...سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا المَسْجِدِ، غَيْرَ خَوْخَةِ[49] أَبِي بَكْرٍ))[50].
                  قال القُرطبي-رحمه الله-: ( فَأَمَرَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَدِّ الْأَبْوَابِ لَمَّا كَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ إلى اتخاذ الْمَسْجِدِ طَرِيقًا وَالْعُبُورِ فِيهِ، وَاسْتَثْنَى خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ إِكْرَامًا لَهُ وَخُصُوصِيَّةً، لِأَنَّهُمَا كَانَا لَا يَفْتَرِقَانِ غَالِبًا)[51].
                  وقال النَّووي-رحمه الله-: ( فِيهِ أَنَّ الْمَسَاجِدَ تُصَانُ عَنْ تَطَرُّقِ النَّاسِ إليها فِي خَوْخَاتٍ وَنَحْوِهَا إِلَّا مِنْ أَبْوَابِهَا إِلَّا لِحَاجَةٍ مُهِمَّةٍ)[52].
                  وقال ابنُ كثير-رحمه الله-: ( وَهَذَا قَالَهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، عِلْمًا مِنْهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- سَيَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْمَسْجِدِ كَثِيرًا لِلْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ فِيمَا يَصْلُحُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَمَرَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ الشَّارِعَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)[53].
                  وللحديث بقية في حلقاتٍ أخَريسَّر الله إتمامَها
                  والحمدُ لله ربِّ العالمين



                  مصطفى قالية
                  14ذو الحجة 1433هـ
                  الجزائر العاصمة











                  [1] أخرجه ابن خزيمة في الصحيح برقم (439)، والحاكم في المستدرك برقم (744). وهو في صحيح الجامع برقم (445).
                  [2] أخرجه أحمد في المسند برقم (18103)، والدّارمي في المسند برقم (1444)، وأبو داود في السّنن برقم (562)، والتّرمذي في الجامع برقم (386). وهو في صحيح التّرغيب برقم (294).
                  [3] أخرجها أحمد في المسند برقم (18130). وهو في صحيح الترغيب برقم (294).
                  [4] معالم السُّنن (1/162).
                  [5] حاشية ابن عابدين على الدرِّ المختار (1/642)، والموسوعة الفقهيَّة الكويتيَّة (12/15).
                  [6] البحر الرَّائق (2/22)، وحاشية ابن عابدين (1/642).
                  [7] المجموع شرح المهذب (4/544)، وأسنى المطالب في شرح روض الطَّالب (1/270).
                  [8] المغني (1/328-329)، وكشف القناع (1/324)، والشَّرح الكبير على المقنع (1/500).
                  [9] النَّوادر والزِّيادات على ما في المدوَّنة (1/23، والبيان والتَّحصيل لابن رشد (1/364)، والذَّخيرة للقرافي (2/151)، والفواكه الدَّواني (1/139)، وحاشية العدوي (1/191).
                  [10] البيان والتَّحصيل لابن رشد(1/364)
                  [11] فيض القدير(1/321).
                  [12] أخرجه البخاري في الصّحيح برقم(467)، وهو عند مسلم في الصحيح برقم (573) ولكن ليس فيه ذكر التّشبيك.
                  [13] قَالَ النَّوَوِيُّ-رحمه الله- في شرح مسلم (5/6 عن لفظة: (السَّرعان): (بِفَتْحِ السِّينِ وَالرَّاءِ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَاللُّغَةِ وكَذَا ضبَطَه الْمُتْقِنُونَ، والسَّرَعَانُ: المُسْرِعُونَ إلى الخُروجِ، وضبَطَه الأصيلي في البُخاري بضمِّ السِّين وإسكانِ الرَّاء).
                  [14] أخرجه البخاري في الصحيح برقم (46.
                  [15] انظر فتح الباري (1/566).
                  [16] انظر نيل الأوطار (2/38. وهذا مبنيّ على ما اختاره الشّوكاني-رحمه الله- عند تعارض قوله وفعله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أنّه يجعل القول للأمّة والفعل من خصوصّياته-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. انظر إرشاد الفحول (1/114) .
                  [17] انظر المتواري على أبواب البخاري (90).
                  [18] انظر فتح الباري(1/566).
                  [19] مستخرج الإسماعيلي من الكتب الّتي فقدت، وإن كان كثير من مادّته قد حفظ في كتب أهل العلم، وبالخصوص في كُتب أربعةِ أعلامٍ من مشاهير شُرَّاح صحيح البُخاري وهم :
                  1. الكَرماني (ت 786 هـ)، في شرحه الذي سَمَّاهُ: (الكواكب الدّراري في شَرْح صحيح البخاري).
                  2. ابن حجر(ت 852 هـ)، في شرحه: (فتح الباري شَرْح صحيح البخاري).
                  3. العيني (ت 855 هـ)، في شرحه: (عمدة القاري شرح صحيح البخاري).
                  4. القَسْطلاني (ت 923 هـ)، في شرحه: (إرشاد السَّاري لشرح صحيح البخاري).
                  انظر الدّراسة والتّحليل الّتي قام بها: محمد بن زين العابدين رستم حول مستخرج الإسماعيلي، مقال منشور في: مجلة جامعة الإِمام محمّد بن سعود الإِسلاميّة [العدد 36/ص 183].
                  [20] انظر فتح الباري له(3/423).
                  [21] أي: ليس فيها أنَّ التَّشبيك وقع في حال الصّلاة أو عند قصدها.
                  [22] الحديث الأوّل أورده البخاري بسنده عن عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَوْ ابْنِ عَمْرٍو: ((شَبَكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَصَابِعَهُ))، والحديث الثَّاني هو حديث أبي موسى المذكور سابقا.
                  [23] انظر فتح الباري(1/566).
                  [24] فتاوى نور على الدّرب (9/241)
                  [25] في المسند برقم (11385).
                  [26] في المصنّف برقم (4824).
                  [27] انظر سلسلة الأحاديث الضّعيفة والموضوعة (6/135)(262.
                  [28] مسلم(432).
                  [29] سبق ذكره.
                  [30] انظر فتح الباري له(3/424).
                  [31] في السّنن برقم (993)، ومن طريقه أخرجه البيهقي في السّنن الصّغرى برقم (852)، والكبرى برقم (3573). وإسناده صحيح. انظر إرواء الغليل(2/102)(380).
                  [32] قلت: هذه الرِّواية الصَّحيحة عن ابن عمر-رضي الله عنه- تُبطِل ما نُسِب إليه وإلى ابنه سالم كذلك من أنّهما كَانَا يُشَبِّكَانِ بَيْنَ أَصَابِعِهِمَا فِي الصَّلَاةِ، وتؤكِّد في الوقت ذاتِه الاتِّفاقَ الّذي نقله بعضُهم من كراهيّة التّشبيك حال الصّلاة، وإثباتَ الخلاف في غيرها كما مرّ.والله أعلم.وانظر حسن التَّسليك في حكم التَّشبيك للسُّيوطي مطبوع ضمن الحاوي للفتاوي له (2/13).
                  [33] انظر فتح الباري له(3/426).
                  [34] أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الحج، باب حجة النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: (2950)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
                  [35] أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب المظالم، باب نصر المظلوم: (2314)، ومسلم في «صحيحه» كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم: (6585)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
                  [36] الفتوى رقم: (929) الصِّنف: فتاوى أصول الفقه والقواعد الفقهيّة.
                  [37] انظر: الذّخيرة للقرافي (2/151)، .
                  [38] انظر: البناية شرح الهداية (2/437)، والبحر الرّائق (2/22)، والذّخيرة للقرافي (2/151)، ومواهب الجليل (1/550)، والمجموع (8/46)، وتحفة المحتاج (2/165)، والمغني (2/9)، والإقناع (1/112).
                  [39] انظر:المحلّى لابن حزم (2/36، وإرشاد أولي البصائر والألباب للسِّعدي (ص 87)، وفتاوى نور على الدّرب لابن باز (13/320)، ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (13/305)، وفتاوى اللّجنة الدّائمة- المجموعة الثّانية (5/266)- السُّؤال الثَّاني من الفتوى رقم (21349).
                  [40] سلسلة الهدى والنُّور/ الشَّريط: 822 / الدَّقيقة: 43.
                  [41] الشَّرح الممتع (3/235)، وسلسلة نور على الدَّرب / الشّريط رقم: 325 / الوجه: ب / الدَّقيقة: 16.
                  [42] انظر: التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي (2/380).
                  [43] التنوير شرح الجامع الصغير للصّنعاني (9/583).
                  [44] أخرجه عبد الرزاق في المصنّف برقم (167، وابن خزيمة في الصّحيح برقم (1326)، والطّبراني في الكبير برقم (948، والبيهقي في شعب الإيمان برقم (8399). والحديث في سلسلة الأحاديث الصّحيحة (2/249)(649).
                  [45] أخرجه الطّبراني في المعجم الكبير برقم (13219)، وفي الأوسط برقم (31). وإسناده حسن كما قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصّحيحة (3/3)(1001).
                  [46] أخرجه البخاري في الصّحيح برقم (452)، ومسلم في الصّحيح برقم (2615).
                  [47] انظر الثّمر المستطاب للألباني-رحمه الله- (2/727).
                  [48] تفسير ابن كثير (6/64).
                  [49] قال ابنُ الأثير-رحمه الله-: (الخَوْخَةُ: بابٌ صغِيرٌ كالنَّافِذَة الكَبِيرَة، وتكُون بَيْن بَيْتَيْن يُنْصَبُ عَلَيْهَا بابٌ). انظر النِّهاية في غريب الحديث والأثر (2/86).
                  [50] أخرجه البخاري في الصّحيح برقم (467).
                  [51] تفسير القرطبي (5/207).
                  [52] شرح مسلم (15/153).
                  [53] تفسير ابن كثير (2/311).
                  التعديل الأخير تم بواسطة أبو عبد الله محمد العَربي; الساعة 12-Dec-2013, 12:57 PM.

                  تعليق


                  • #10
                    رد: إرشادُ العابدِ السَّاجِد إلى بعضِ أحكامِ وآدابِ المساجِد

                    إِرْشَادُ العَابِدِ السَّاجِدِ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِ وَآدَابِ المَسَاجِدِ



                    الحَلْقَةُ العاشرة




                    دخولُ المسجدِ برائحةِ البصلِ أو الثُّومِ وما أشبهِهما


                    من الرَّوائحِ المستقذَرة




                    ممَّا ينبغي على المسلم أن يحرصَ عليه هو نظافةُ بدنِه وثيابِه وطيبُ رائحتِه، وذلك في كلِّ وقت وحين، ويتأكَّد ذلك عند إرادتِه الذَّهابَ لبيوتِ الله وفي مجامع النَّاس.

                    قال النَّووي-رحمه الله-: (وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَذْكُورَ مِنْ اسْتِحْبَابِ الْغُسْلِ وَالطِّيبِ وَالتَّنَظُّفِ بِإِزَالَةِ الشُّعُورِ الْمَذْكُورَةِ وَالظُّفْرِ وَالرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ وَلُبْسِ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْجُمُعَةِ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ حُضُورَ مَجْمَعٍ مِنْ مَجَامِعِ النَّاسِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ الشَّافِعِيُّ أُحِبُّ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَكُلِّ مَجْمَعٍ تَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ قَالَ وَأَنَا لِذَلِكَ فِي الْجُمَعِ وَنَحْوِهَا أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَتُسْتَحَبُّ هَذِهِ الْأُمُورُ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ حُضُورَ الْجُمُعَةِ وَنَحْوِهَا سَوَاءٌ الرِّجَالُ وَالصِّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ إلَّا النِّسَاءَ فَيُكْرَهُ لِمَنْ أَرَادَتْ مِنْهُنَّ الْحُضُورَ الطِّيبُ وَالزِّينَةُ وَفَاخِرُ الثِّيَابِ)[ المجموع شرح المهذ ب (4/53].
                    وبالمقابل فإنَّ المسلمَ مطالبٌ بأن يجتنبَ الحضور إلى مجامع النَّاس وبالأخصِّ بيوتِ الله وله رائحةٌ كريهةٌ يؤذي به الحاضرين من الملائكة والإنس.
                    وقد وردت النُّصوص المتظافرة عن نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم- في تحذير آكل البصل والثُّوم ونحوهِما من حضور المساجد، وما ذلك إلَّا لأجل الرَّائحة الكريهة المنبعثة حينها، ومن هذه النُّصوص:
                    1.عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي-رضي الله عنه- قَالَ: لَمْ نَعْدُ أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ فَوَقَعْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي تِلْكَ الْبَقْلَةِ[1] الثُّومِ وَالنَّاسُ جِيَاعٌ، فَأَكَلْنَا مِنْهَا أَكْلًا شَدِيدًا، ثُمَّ رُحْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَوَجَدَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرِّيحَ فَقَالَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ شَيْئًا، فَلَا يَقْرَبَنَّا فِي الْمَسْجِدِ». فَقَالَ النَّاسُ: حُرِّمَتْ حُرِّمَتْ، فَبَلَغَ ذَاكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ بِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لِي، وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا»[ مسلم (565)].
                    2.عن أنس بن مالك-رضي الله عنه- قال: قال النَّبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلاَ يَقْرَبَنَّا -أَوْ: لاَ يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا-))[ البخاري (856)، ومسلم (562)].
                    3.عن جابر-رضي الله عنه- قال: قال النَّبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ))[ البخاري (855)، ومسلم (565)].
                    4.عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ-رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:((مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ))[مسلم (564)].
                    5.عن أبِي سعيد الخدري-رضي الله عنه- قال: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الثُّومُ وَالْبَصَلُ، وَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَشَدُّ ذَلِكَ كُلُّهُ الثُّومُ، أَفَتُحَرِّمُهُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كُلُوهُ وَمَنْ أَكَلَهُ مِنْكُمْ فَلَا يَقْرَبْ هَذَا الْمَسْجِدَ حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهُ مِنْهُ»[أبو داود (3823)، الصَّحيحة (2032)].
                    6.عن أنس-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((إِيَّاكُمْ وَهَاتَيْنِ البَقْلَتَيْنِ الْمُنْتِنَتَيْنِ أَنْ تَأْكُلُوهُمَا وَتَدْخُلُوا مَسَاجِدَنَا، فَإِنْ كُنْتُمْ لاَ بُدَّ آكِلُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا بِالنَّارِ قَتْلاً))[الطبراني في الأوسط(3655)، صحيح الجامع (268].
                    7.عن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-: أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: ((...ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لَا أَرَاهُمَا إِلَّا خَبِيثَتَيْنِ هَذَا الْبَصَلَ وَالثُّومَ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ-صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنْ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ، أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ، فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا))[مسلم (567)].




                    فوائد وأحكام من الأحاديث السَّابقة
                    الأولى

                    [في تسمية الثُّوم والبصل شجرا]



                    فِي الأحاديث السابقة تَسْمِيَة الثَّوْم والبصل شَجَرًا، والشَّائع أنَّ الشَّجر ما كان له ساق يحمل أغصانه دون غيره، وعند العرب: أنَّ كلَّ ما بقيَ له أصلٌ في الأرض يَخلُفُ ما قُطِع فهو شجر، وما لا أصلَ له فهو نجمٌ، ومنه قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾[الرحمن: 6] على أحد التفسيرين[2].
                    وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَيْنَ الشَّجَرِ وَالنَّجْمِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، فَكُلُّ نَجْمٍ شَجَرٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، كَالشَّجَرِ وَالنَّخْلِ، فَكُلُّ نَخْلٍ شَجَرٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ. [شرح مسلم للنَّووي (5/4، وفتح الباري لابن رجب(8/9)، وفتح الباري لابن حجر (2/340)].


                    الثَّانية

                    [هل النَّهي خاصٌّ بالمسجد النَّبوي أو يعمُّ كلَّ المساجد؟]



                    قال النَّووي في شرحه(5/4: (هَذَا تَصْرِيح يَنْهَى مَنْ أَكَلَ الثّوم وَنَحْوَه عَنْ دُخُول كُلّ مَسْجِد، وَهَذَا مَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء: أَنَّ النَّهْي خَاصّ فِي مَسْجِد النَّبِيّ-صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لِقَوْلِهِ-صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ: ((فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدنَا))، وَحُجَّة الْجُمْهُور: ((فَلَا يَقْرَبَنَّ الْمَسَاجِد))اهـ.
                    بل إنَّ في الحديث خيرُ دليل على العموم، قال ابن رجب-رحمه الله-: (وهذا صريحٌ بعموم المساجد، والسِّياق يدلُّ عليه؛ فإنَّه لم يكن بخيبر مسجدٌ بُنِيَ للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إنَّما كان يصلِّي بالنَّاس في موضع نزوله منها؛ وقد رُوي: (أنَّه اتَّخذ بها مسجداً)، والظَّاهر: أنَّه نصب أحجاراً في مكان، فكان يصلي بالنَّاس فيه)[فتح الباري (8/5)].


                    الثَّالثة

                    [هل يسمح لآكلهما من دخول المسجد إذا كان فارغا؟]


                    فِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى مَنْع آكِل الثّوم وَنَحْوه مِنْ دُخُول الْمَسْجِد- وَإِنْ كَانَ خَالِيًا- لِأَنَّهُ مَحَلّ الْمَلَائِكَة، وهي تتأذَّى من ذلك، وَيؤيِّد هذا عُمُومِ الْأَحَادِيث[شرح مسلم(5/49)].


                    الرَّابعة


                    [هل إزالة رائحة البصل والثُّوم مشروط بطبخه أو بأيّ طريقة حصل؟]



                    قوله: ((فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا)) أي: فلْيُبَالِغْ في طَبْخِهما لتَذْهَبَ حِدّتُهما ورائحَتُهما.
                    قال النَّووي-رحمه الله-: (مَعْنَاهُ مَنْ أَرَادَ أَكْلَهُمَا فَلْيُمِتْ رَائِحَتَهُمَا بِالطَّبْخِ، وَإِمَاتَةُ كُلِّ شَيْءٍ: كَسْرُ قُوَّتِهِ وَحِدَّتِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: قَتَلْتُ الْخَمْرَ إِذَا مَزَجَهَا بِالْمَاءِ وَكَسَرَ حِدَّتَهَا)[شرح مسلم (5/54)].
                    قال ملَّا علي القاري-رحمه الله-: (وَفِي مَعْنَاهُ إِمَاتَتُهُ وَإِزَالَتُهُ بِغَيْرِ الطَّبْخِ، وَإِنَّمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ)[ مرقاة المفاتيح(2/617)].
                    وممَّا تزال به رائحة البصل والثُّوم أو تخفِّفها أكل بعض النَّباتات كالنّعناع ونحوه. [سلسلة الهدى والنّور/ الشّريط: 409].
                    قال ابنُ القيّم رحمه الله-: (وَيُذْهِبُ رَائِحَتَهُ مَضْغُ وَرَقِ السَّذَابِ عَلَيْهِ)[زاد المعاد(4/267)].
                    و(السَّذاب): نبات عشبي يعرف كذلك باسم الفَيْجَن. [تهذيب اللغة للأزهري (11/7].


                    الخامسة


                    [هل النَّهي خاصٌّ بالمساجد أو يشمل مجامع النَّاس كذلك؟]



                    هذه الأحاديث وإن ورد النَّهي فيها مقيَّدا بالمساجد، فإنَّ أكثرَ أهلَ العلم على إلحاق أماكن اجتماع النَّاس من غير المساجد -كالمصليَّات وحِلق العلم ونحوِها- بها، وإن اختلفوا هل تلحق قياسا أو تلحق تنصيصا؟
                    قال النَّووي-رحمه الله-: (قَاسَ الْعُلَمَاء عَلَى هَذَا مَجَامِع الصَّلَاة غَيْر الْمَسْجِد، كَمُصَلَّى الْعِيد وَالْجَنَائِز وَنَحْوهَا مِنْ مَجَامِع الْعِبَادَات، وَكَذَا مَجَامِع الْعِلْم وَالذِّكْر وَالْوَلَائِم وَنَحْوهَا)[شرح مسلم(5/4].
                    قال الحافظُ ابنُ حجر-رحمه الله-: (قَوْلُهُ: ((فَلَا يَقْرَبَنَّا)) -بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ- وَلَيْسَ فِي هَذَا تَقْيِيدُ النَّهْيِ بِالْمَسْجِدِ، فَيُسْتَدَلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى إِلْحَاقِ الْمَجَامِعِ بِالْمَسَاجِدِ كَمُصَلَّى الْعِيدِ وَالْجِنَازَةِ وَمَكَانِ الْوَلِيمَةِ، وَقَدْ أَلْحَقَهَا بَعْضُهُمْ بِالْقِيَاسِ، وَالتَّمَسُّكِ بِهَذَا الْعُمُومِ أَوْلَى، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ((وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ)) كَمَا تَقَدَّمَ، لَكِنْ قَدْ عُلِّلَ الْمَنْعُ فِي الْحَدِيثِ بِتَرْكِ أَذَى الْمَلَائِكَةِ، وَتَرْكِ أَذَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءَ عِلَّةٍ اخْتَصَّ النَّهْيُ بِالْمَسَاجِدِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، وَإِلَّا لَعَمَّ النَّهْيُ كُلَّ مَجْمَعٍ كَالْأَسْوَاقِ)[فتح الباري(2/343)].
                    قال مقيِّده-عفا الله عنه-: ويدلُّ على أنَّ الإلحاقَ تنصيصا وليس قياسا، ما أخرجه ابنُ حبان في صحيحه (1645): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلَا يُؤْذِيَنَّا في مَجَالِسِنَا)) يعني الثّوم.والله أعلم.


                    السَّادسة



                    [الردُّ على من استدلَّ بهذه الأحاديث على عدم فرضيَّة صلاة الجماعة]



                    قال ابنُ رجب-رحمه الله-: (استدلَّ قومٌ من العلماء بأحاديثِ هذا الباب على أنَّ حضور الجماعة في المساجد ليست فرضاً، لأنَّها لو كانت فرضاً لم يرخِّص في أكل الثوم، ويَنهى من أكلَه عن حضور المسجد، وجعلوا أكل هذهِ البقولِ الّتي لها ريحٌ خبيثةٌ عذراً يبيح ترك الجماعةِ، وردَّ عليهم آخرون.
                    قال الخطَّابي: "قد توهَّم هذا بعضُ النَّاس، قال: وإنَّما هو- يعني: النَّهي عن دخول المسجد- توبيخٌ له وعقوبةٌ على فعله إذ حرم فضيلة الجماعةَ")اهـ.
                    وقال ابنُ عثيمين-رحمه الله- لمن ذكر له هذا الإشكال: (هذا اعتراض جيد في ظاهره، لكنَّه في باطنه ليس له أرجل، الآن السَّفر في رمضان جائز، وإذا سافر أفطر، فجاز السَّفر مع أنَّه وسيلة للإفطار المحرَّم، ولهذا لو سافر ليُفطرَ صار حراما، ولو أكل البصل ليُسقط الجماعة صار حراما)[شرح صحيح البخاري/ كتاب الأذان/الشَّريط الرَّابع].


                    السَّابعة


                    [حكم أكل البصل والثُّوم ووجه وصفهما بالخبث]


                    قال النَّووي-رحمه الله-: (إِنَّ هَذَا النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ حُضُورِ الْمَسْجِدِ لَا عَنْ أَكْلِ الثَّوْمِ وَالْبَصَلِ وَنَحْوِهِمَا، فَهَذِهِ الْبُقُولُ حَلَالٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ تَحْرِيمَهَا لِأَنَّهَا تَمْنَعُ عَنْ حُضُورِ الْجَمَاعَةِ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ فَرْضُ عَيْنٍ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ: ((كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي))، وَقَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ لِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لِي)))[شرح مسلم (5/4].
                    وإنَّما سَمَّاهَا خَبِيثَة لِقُبْحِ رَائِحَتهَا، وَلَيْسَتَ حَرَامًا، قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْخَبِيث فِي كَلَام الْعَرَب الْمَكْرُوه مِنْ قَوْل أَوْ فِعْل أَوْ مَال أَوْ طَعَام أَوْ شَرَاب أَوْ شَخْص؛ والمراد هنا: الرَّديء، فالخبث يطلق على المحرَّم مثل: (مهر البغي خبيث)، ويطلق على الرَّديء مثل: (كسب الحجّام خبيث)، أي: رديء، ومن هذا تسمية البصل والكرَّاث بالشَّجرتين الخبيثتين، أي: الرَّديئتين لخبث رائحتها.[تهذيب اللُّغة للأزهري (7/14، وشرح مسلم (5/ 50)، ومجموع الفتاوى (30/192)].


                    الثَّامنة


                    [هل يلحق بآكلهما من كانت به رائحة كريهة لعلَّة طبيعية، أو لأجل نوعيَّة حرفته؟]


                    ألحق أصحابُ مالكٍ بآكل هذه المذكورات، كلَّ من له رائحةٌ كريهةٌ يُتأذى بها، كالحرَّاث والحوّات[3]، إلّا أنَّه إلحاق مع الفارق لأنَّ الرَّائحة الكريهة التّي تلحق أصحاب هذه الحرف ونحوهما يمكن إزالتها بالاغتسال والتَّنظيف، وعليه فإن كان يمكن العامل الاغتسال والتَّنظف دون مشقَّة وحرج شديد أُمِر به، كما أَمَر النَّبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- من كان يشهد الجمعة من الأنصار الذين كانوا يعملون بالاغتسال، فعَنْ عَائِشَةَ-رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْعَوَالِي، فَيَأْتُونَ فِي الْعَبَاءِ، وَيُصِيبُهُمُ الْغُبَارُ، فَتَخْرُجُ مِنْهُمُ الرِّيحُ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنْسَانٌ مِنْهُمْ وَهُوَ عِنْدِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا» [البخاري (903)، ومسلم (847)].
                    أمَّا إن كان عاجزا عن الاغتسال لضيق الوقت، أو لعدم توفّر الحمّام أو اللِّباس النَّظيف، أو يكون في ذلك مشقَّة ظاهرة عليه، أو ترتَّب الفساد في عمله بذهابه للمسجد، فهذا يكون معذورا شرعا لتحقّق العلّة فيه ووجود الضَّرر بذهابه، ويؤمر بالصَّلاة جماعة مع من كانت حالُه مثلَه، أو يصلِّي منفردا إذا تعذَّر.
                    وكذا إذا كانت الرَّائحة الصَّادرة من الشَّخص لا يمكن إزالتُها، كمن كان مريضا بتصاعِد الأبخرَة، أو نحوِها أُلحِق صاحبُها بما سبق في الحكم.
                    قال الرَّملي-رحمه الله-: (وَمِثْلُ ذَلِكَ مَنْ بِثِيَابِهِ أَوْ بَدَنِهِ رِيحٌ كَرِيهَةٌ كَدَمِ فَصْدٍ، وَقَصَّابٍ، وَأَرْبَابِ الْحِرَفِ الْخَبِيثَةِ، وَذِي الْبَخَرِ، وَالصُّنَانِ الْمُسْتَحْكمِ[4]، وَالْجِرَاحَاتِ الْمُنْتِنَةِ، وَالْمَجْذُومِ، وَالْأَبْرَصِ، وَمَنْ دَاوَى جُرْحَهُ بِنَحْوِ ثُومٍ؛ لِأَنَّ التَّأَذِّي بِذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْهُ بِأَكْلِ نَحْوِ الثُّومِ، وَمِنْ ثَمَّ نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ الْعُلَمَاءِ مَنْعَ الْأَجْذَمِ وَالْأَبْرَصِ[5] مِنْ الْمَسْجِدِ وَمِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَمِنْ اخْتِلَاطِهِمَا بِالنَّاسِ)[نهاية المحتاج (2/160)].
                    وقال ابنُ عثيمين-رحمه الله-: (قال العلماء: من كانَ بِه رائحةُ أسنان، أو بخرٌ في الفم، أو رائحةٌ كريهة، أو ما أشبهَ ذلك، فإنَّه لا يقرُب المسجد حتَّى يُزيلَ هذه الرَّائحة، لأنَّ العلَّةَ قائمةٌ وهي تأذِّي الملائكة بالرَّوائح الكريهة، فإنْ قال قائل لو أنَّ الإنسان استعمل شيئا تذهب به الرَّائحة، فهل يجوز أن يدخل نقول نعم يجوز إذا أكل ما يذهب الرَّائحة إذهابا كاملا، ولا صارَ يخرج من المعدة رائحة فلا بأس، لأنَّ الحكم يدور مع علَّته وجودا وعدما)[شرح رياض الصّالحين (6/44].
                    هذا وقد ذهب بعضُ أهل العلم إلى أنَّ ما لم يكن للمرء فيه كسبٌ ولا هُو يملك إِزالتَه كالبخر، فإِنَّه لا يُلحق بآكل البصل والثّوم، ولا يمنع من دخول المسجد أصلًا.
                    قال الألباني-رحمه الله-: (هذا الإلحاقُ فيه نظَر، لأنَّ البخرَ ونحوَه علَّة سماويَّة لا إرادةَ ولا كسبَ للمرء فيها، ولا هُو يملك إزالتَها، فكيف يلحق بالرَّوائح الكريهة الَّتي هي بإرادتِه وكسبِه، وبإمكانِه الامتناعُ من تعاطي أسبابِها أو القضاءِ عليها؟ والشَّارع الحكيم إنَّما مَنَع آكل الثّوم وغيرِه من حضور المساجد والحصول على فضيلة الجماعة: عقوبةً له على عدم مبالاتِه بإيذاءِ المؤمنين والملائكة المقرَّبين فلا يجوز أن يُحرَم من هذه الفضيلة الأبخرَ ونحوَه لمَا ذكرناه من الفارق).
                    ولعلَّ الأقربَ أنَّ على كلِّ من كانت له رائحةٌ كريهةٌ تؤذي، ولم يُمكنْه إزالُتها أن يجتنبَ المسجدَ، ومجامعَ النَّاس[6].
                    وممَّا يَلحَق بالبصل والثُّوم لحوقا لا شكَّ فيه بل هو أشنع: الدّخان الخبيث.


                    التَّاسعة


                    [في إلحاق من كان ضرره وإذايته بغير الرَّائحة بالحكم المذكور]



                    ألحق بعضُ أهل العلم بهذا الحُكمِ من كانت إذايتُه بغير الرَّائحة، كمن كان أهل المسجد يتأذَّون بشهودِه معهم من لسانِه ويدِه، لسفهِه عليهم وإضرارِه بهم.
                    قال ابنُ عبد البر-رحمه الله-: (وَإِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ في إخراجه مِنَ الْمَسْجِدِ أَنَّهُ يُتَأَذَّى بِهِ فَفِي الْقِيَاسِ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَأَذَّى بِهِ جِيرَانُهُ فِي الْمَسْجِدِ، بِأَنْ يَكُونَ ذَرِبَ اللِّسَانِ سَفِيهًا عَلَيْهِمْ فِي الْمَسْجِدِ مُسْتَطِيلًا، أَوْ كَانَ ذَا رِيحَةٍ قَبِيحَةٍ لَا تَرِيمُهُ[7] لِسُوءِ صناعته، أو عاهة مؤذية كَالْجُذَامِ وَشبهِهِ، وَكُلّ مَا يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ إِذَا وُجِدَ فِي أَحَدِ جِيرَانِ الْمَسْجِدِ، وَأَرَادُوا إِخْرَاجَهُ عَنِ الْمَسْجِدِ وَإِبْعَادَهُ عَنْهُ، كَانَ ذَلِكَ لَهُمْ مَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً فِيهِ حَتَّى تَزُولَ، فَإِذَا زَالَتْ بِإِفَاقَةٍ أَوْ تَوْبَةٍ أَ وْ أَيِّ وَجْهٍ زَالَتْ كَانَ لَهُ مُرَاجَعَةُ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ شَاهَدْتُ شَيْخَنَا أَبَا عُمَرَ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هَاشِمٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أَفْتَى فِي رَجُلٍ شَكَاهُ جِيرَانُهُ، وَأَثْبَتُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ يُؤْذِيهِمْ فِي الْمَسْجِدِ بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ، فَشُوِّرَ فِيهِ فَأَفْتَى بِإِخْرَاجِهِ عَنِ الْمَسْجِدِ وَإِبْعَادِهِ عَنْهُ، وَأَنْ لَا يُشَاهِد مَعَهُمُ الصَّلَاةَ، إِذْ لَا سَبِيلَ مَعَ جُنُونِهِ وَاسْتِطَالَتِهِ إِلَى السَّلَامَةِ مِنْهُ، فَذَاكَرْتُهُ يَوْمًا أَمْرَهُ وَطَالَبْتُهُ بِالدَّلِيلِ فِيمَا أَفْتَى بِهِ مِنْ ذَلِكَ وَرَاجَعْتُهُ فِيهِ الْقَوْلَ، فَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الثُّومِ، وَقَالَ: هُوَ عِنْدِي أَكْثَرُ أَذًى مِنْ آكِلِ الثُّومِ، وَصَاحِبُهُ يُمْنَعُ مِنْ شُهُودِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ)[التّمهيد (6/423)].
                    قال ابنُ رجب-رحمه الله-معلِّقا على كلام ابنِ عبد البرّ السَّابق: (وهذا حسنٌ)[فتح الباري (8/1].


                    العاشرة


                    [الحكمة في إبعاد آكلهما إلى البقيع]



                    في أمر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم- بإخراج من دخل المسجد برائحة الثّوم والبصل إلى البقيع تغيير للمنكر باليد لمن كان مستطيعا لذلك، والحكمة في ذلك ما ذكره السِّندي-رحمه الله- حيث قال: (وَلَعَلَّ فِي الْإِخْرَاجِ إِلَى الْبَقِيعِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ:
                    1.لَا يَنْبَغِي لَهُ صُحْبَةُ الْأَحْيَاءِ بَلْ يَنْبَغِي لَهُ صُحْبَةُ الْأَمْوَاتِ الَّذِينَ لَا يَتَأَذُّونَ بِمِثْلِهِ.
                    2.أَوْ هُوَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْأَمْوَاتِ الَّذِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ وَلَا يُصَلُّونَ، حَيْثُ تَسَبَّبَ لِمَنْعِ نَفْسِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ.
                    3.وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ وَضَعُوا تِلْكَ الْجِهَةَ لِلتَّعْزِيرِ)[حاشية على سنن ابن ماجه (1/31].


                    الحادية عشر


                    [هل يقيَّد المنع بمدَّة معيَّنة، أو أنَّ الحكم يدورُ مع العلَّة وجودا وعدما؟]



                    جاء في حديث حذيفة-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((مَنْ تَفَلَ تُجَاهَ القِبْلَةِ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ تَفْلُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَمَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ البَقْلَةِ الْخَبِيثَةِ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، ثَلاَثاً))[أبو داود (3824)، وابن حبان (1643)، والبيهقي في الكبرى (5055)].
                    قال الألباني-رحمه الله-: (وقع في حديث حذيفة عند ابن خزيمة: (من أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا ثلاثا)، وبوَّب عليه بوقت النَّهي على إتيان الجماعة لأكل الثّوم، وفيه نظر لاحتمال أن يكون قوله: (ثلاثا) يتعلَّق بالقول أي: (قال ذلك ثلاثا)، بل هذا هو الظَّاهر لأنَّ علَّة المنع وجود الرَّائحة وهي لا تستمرّ هذه المدَّة)[الثَّمر المستطاب (2/665-666)].
                    وقد جعل ابنُ رجب-رحمه الله- هذا الحديث من أغرب ما رُوي في هذا الباب، وقال: (وهذا مشكوك في رفعه، وقد رواه جماعةٌ من الثِّقات، فوقفوه على حذيفة بغير شكّ، وهو الأظهر، ثم قال: ويحتمل أنَّ في الكلام حذفاً، تقديره: (قالها ثلاثاً)، يعني: أنَّه أعاد هذه الكلمة ثلاث مراتٍ)[فتح الباري لابن رجب(6/125)].
                    قال مقيِّده-عفا الله عنه- لم أجد لفظ: (ثلاثا) عند ابن خزيمة، والحديث عنده دونها. والله أعلم.



                    والحمد لله رب العالمين


                    مصطفى قالية


                    20 رجب 1434هـ/30 ماي 2013م



                    [1]قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْبَقْل كُلّ نَبَات اِخْضَرَّتْ بِهِ الْأَرْض. انظر شرح مسلم(5/4

                    [2] قال ابنُ كثير-رحمه الله- في تفسيره (7/489): (قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَالنَّجْمُ﴾ بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الشَّجَرَ مَا قَامَ عَلَى سَاقٍ، فَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: النَّجْمُ مَا انْبَسَطَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ -يَعْنِي مِنَ النَّبَاتِ. وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. وَقَدِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ-.
                    وَقَالَ مُجَاهِدٌ: النَّجْمُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ. وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ الْآيَةَ [الْحَجِّ: 18] ).

                    [3] انظر مواهب الجليل (2/183)، وفتح الباري لابن رجب(8/17).

                    [4]الصُّنان: هو رائحة الآباط والأرفاغ المنتنة. انظر: مفاتيح العلوم للخوارزمي (ص 184)، والنهاية لابن الأثير (3/57).

                    [5] لا وجه لإيراد الأبرص هنا فإنَّه لا يُعدي، بخلاف الجذام الذي ذكر فإنَّه يعدي، ولعلَّهم كانوا يعتبرونه مرضا معديا. والله أعلم.

                    [6]وهذا ما رجّحه لي شيخنا محمَّد علي فركوس-حفظه الله- لما سألته عن هذه المسألة.

                    [7]أي: ملازمة له لا تفارقه. انظر: العين للخليل (8/293)، وجمهرة اللغة للأزهري (15/202).

                    تعليق


                    • #11
                      رد: إرشادُ العابدِ السَّاجِد إلى بعضِ أحكامِ وآدابِ المساجِد

                      بسم الله الرحمن الرحيم


                      إِرشاد العابِدِ السّاجِدِ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِ وآدابِ المَسَاجِدِ
                      الحلقة الحادية عشرة
                      وهي الأخيرة







                      الكلام عن الأمور الدُّنيويَّة في المسجد

                      من أعظم ما يميِّز بيوتَ الله عن غيرِها من البيوت أنَّها بنيت أصالةً لذكر الله وللصَّلاة، يقول سبحانه: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ[النور: 36].
                      والأصلُ فيمن يعمرُها أن يعمرَها بذلك، ولأجل ذلك، يقول سبحانه في تمام الآية السابقة: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ[النور: 36-38].
                      وقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ[التوبة: 18].
                      ولكنَّ المشاهدَ اليوم في كثيرٍ من بيوتِ الله، والملاحظَ كذلك على أحوالِ كثيرٍ من روَّادها هو مخالفتُهم لهذا الأصل، فترى النَّاس في المساجد حِلقا حِلقا متجمِّعين، ولأطرافِ الحديث متبادِلين، وياليتَ تجمُّعَهم كان على طاعة، وياليتَ أحاديثَهم كانت في مباح.
                      وقد صحَّ عن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم التَّحذيرُ الشَّديد من أولئك القومِ ومن صنيعِهم، وذلك فيما رواه: ابنُ أبي عاصم في الزّهد[1] -واللَّفظ له- والطَّبراني في المعجم الكبير[2] عن عبد الله بن مسعود ﭬ قال: قال رسول الله
                      صلى الله عليه وسلم: ((سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَقْعُدُونَ فِي الْمَسْجِدِ حِلَقًا حِلَقًا، إِمَامُهُمُ الدُّنْيَا، فَلَا تُجَالِسُوهُمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ)).
                      ورواه ابن حبان[3] بلفظ: ((سَيَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يَكُونُ حَدِيثُهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ، لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ)).
                      والحديث فيه خلاف في تقويته وتضعيفه، وقد حسَّنه جمع من الأئمة منهم الشيخ الألباني رحمه الله في سلسلة الأحاديث الصَّحيحة[4].
                      ولا شكَّ بأنَّ حديث نبيِّنا
                      صلى الله عليه وسلم فيه ترهيبٌ شديٌد من اتِّخاذ المساجد أماكنَ للحديث عن الدُّنيا الفانية، إلى درجة أنّها تصير لا يفرَّق بينها وبين المقاهي أو الأسواق، فإنَّ المساجد لم تبن لذلك. وإلى الله المشتكى.

                      مسألة:حكم الكلام عن الأمور الدُّنيويَّة في المسجد:
                      - ذهب الحنفيّة[5] والمالكيّة[6] والحنابلة[7] إلى كراهة الكلام في المساجد بأمرٍ من أمور الدنيا، والكراهة عند بعض الحنفيَّة للتَّحريم[8].
                      - وذهب الشّافعيّة[9] إلى جواز الكلام المباح في المسجد.
                      والأقرب-والله أعلم- هو جواز الكلام المباح في المسجد بشروط:
                      1. ألَّا يكون ذلك على سبيل العادة والاعتياد[10].
                      2. وألَّا يصحبَه رفعُ الأصوات أو غيرُه من المخالفات[11].
                      3. والأَولى ألَّا يخلو كلام المجتمعين من الفوائد الدِّينية[12].
                      ويؤيِّد هذا أحاديث وآثار كثيرة منها ما رواه مسلم[13] عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه: أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ
                      صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((نَعَمْ كَثِيرًا، كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ أَوْ الْغَدَاةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ قَامَ، وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ)).
                      وفي رواية لأحمد[14] بإسناد حسن عن جابر رضي الله عنه :((شَهِدْتُ النَّبِيَّ
                      صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَصْحَابُهُ يَتَذَاكَرُونَ الشِّعْرَ وَأَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَرُبَّمَا تَبَسَّمَ مَعَهُمْ)).
                      قال ابنُ حزم رحمه الله: (وَالتَّحَدُّثُ فِي الْمَسْجِدِ بِمَا لَا إثْمَ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مُبَاحٌ، وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ)[15].
                      وقال النَّووي رحمه الله : (يجوز التَّحدث بالحديث المباح في المسجد وبأمورِ الدُّنيا وغيرِها من المباحات، وإن حصل فيها ضحكٌ ونحوُه، ما دام مباحاً)[16].
                      وقال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله : (أَمَّا الْكَلَامُ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي الْمَسْجِدِ فَحَسَنٌ، وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا، وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ، وَيُكْرَهُ فِيهِ فُضُولُ الْمُبَاحِ)[17].
                      وقال الشَّيخُ ابنُ باز رحمه الله : (التَّحدث في المساجد إذا كان في أمور الدُّنيا، والتَّحدث بين الإخوان والأصحاب في أمور دنياهم إذا كان قليلًا لا حرج فيه إن شاء الله، أمَّا إن كان كثيرا فيكره؛ لأنَّه يكره اتخاذ المساجد محلَّ أحاديثِ الدُّنيا، فإنَّها بنيت لذكر الله وقراءة القرآن والصَّلوات الخمس وغير هذا من وجوه الخير؛ كالتَّنفل والاعتكاف وحلقات العلم...)[18].
                      وقال رحمه الله في جواب آخر: (التَّحدث في المساجد يكره للرِّجال والنِّساء، يعني: التَّحدث في أمور الدُّنيا؛ لأنَّ المساجد لم تبن لهذا، وإنَّما بنيت لعبادة الله وقراءة القرآن والذِّكر والصَّلاة، لكن إذا كان الحديث قليلًا فلا بأس، إذا كان الحديث في أمور الدُّنيا ليس بكثير فيعفى عنه)[19].
                      وقال الشَّيخ ابنُ عثيمين رحمه الله عن الكلام في المسجد: (لا بأس بها ما لم يكن ممنوعاً، مثل: أن يرفع صوتَه بذلك فيشوِّش على من في المسجد، أو يكون ذلك بيعاً وشراءً أو تأجيراً واستئجاراً أو رهناً أو نحوَ ذلك ممَّا يُمنَع من عقده في المسجد)[20].

                      فائدة: روى التِّرمذي في جامعه[21] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﭬ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
                      صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ)).

                      دخول المسجد بالرِّجل اليسرى

                      من الأشياء الَّتي تهاون فيها كثير من مرتادي بيوت الله: تركُهم تقصُّد الدُّخول إلى المسجد بالرِّجل اليمنى، والخروج بالرِّجل اليسرى، والسُّنَّةُ خلاف ذلك.
                      قال البخاري في صحيحه[22]: (بَابُ: التَّيَمُّنِ فِي دُخُولِ المَسْجِدِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ: يَبْدَأُ بِرِجْلِهِ اليُمْنَى، فَإِذَا خَرَجَ بَدَأَ بِرِجْلِهِ اليُسْرَى).
                      أثر ابن عمررضي الله عنهما هذا أخرجه البخاري هكذا تعليقًا بصيغة الجزم.
                      قال الحافظ ابنُ حجر رحمه الله : (ولم أره موصولا)[23].
                      قال الألباني رحمه الله بعد نقله كلام الحافظ السابق: (والقسم الأوَّل منه يؤيِّده عموم حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كَانَ النَّبِيُّ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ، فِي طُهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ)). أخرجه البخاري (1/ 216 و 415) ومسلم (1/ 155 - 156)، وقد احتج به البخاري في هذا الباب)[24].
                      وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (مِنَ السُنَّةِ إِذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلِكَ اليُمْنَى وَإِذَا خَرَجْتَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلِكَ اليُسْرَى)[25].
                      قال الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد ذكره لهذا الأثر: (وَالصَّحِيح أَنَّ قَوْل الصَّحَابِيّ: «مِنْ السُّنَّة كَذَا» مَحْمُولٌ عَلَى الرَّفْع)[26].

                      ترك الذِّكر عند دخول المسجد والخروجِ منه

                      ومن أخطاء كثير من مرتادي المسجد - كذلك- تركُهم الإتيانَ بما صحَّ من الأدعية والأذكار عند دخول المسجد، وفي هذا تفويتٌ منهم لخير عظيم، وتفريطٌ منهم في ثواب جزيل، وممَّا ورد في ذلك:
                      ما رواه أبو داود في السُّنن بسند صحيح[27] عَنْ حَيْوَةَ بنِ شُرَيْحٍ قَالَ: لَقِيتُ عُقْبَةَ بنَ مُسْلِمٍ فَقُلْتُ لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ حَدَّثْتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ النَّبِيِّ
                      صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ:((أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)) قَالَ: أَقَطْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:((فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ، قَالَ الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ)).
                      وروى مسلم في صحيحه[28] عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ، أَو عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ ﭭ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
                      صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ، فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ)).
                      وفي رواية صحيحة في غير الصَّحيح[29] زيادة التَّسليم على النَّبي
                      صلى الله عليه وسلم ولفظه: ((إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، فَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ)).

                      فوائد من الحديث

                      أوَّلا: قوله: (أَقَطْ): الْهَمْزَة لِلِاسْتِفْهَامِ، وَ(قَطْ) بِمَعْنَى حَسْب، قَالَ عُقْبَة لِحَيْوَةَ: «أَبَلَغَك عَنِّي هَذَا الْقَدْر مِنْ الْحَدِيث فَحَسْب»، فلذلك زادَه، وفي معناها أقوالٌ أخر[30].
                      ثانيًا: حمل جمهورُ أهلِ العلم الأمرَ هنا على الاستحباب[31]، خلافًا لابنِ حزم رحمه الله الذي ذهبَ إلى وجوبِ هذه الأذكار عند دخولِ المسجد[32]، ورجَّح هذا الألباني رحمه الله [33]، والله أعلم.
                      وهذا الخلاف بين الاستحباب والوجوب يدلُّ على عظم هذا الذِّكر، وعلى عظيم ما يفوِّته الكثيرُون.
                      ثالثًا: قال ابنُ الجوزي رحمه الله : (إِنَّمَا خصَّت الرَّحْمَةُ بِالدُّخُولِ لِأَن الدَّاخِلَ طَالبٌ للآخرَة، وَالرَّحْمَةُ أخصُّ مَطْلُوب، وَخصَّ الْفضل بِالْخرُوجِ، لِأَن الْإِنْسَانَ يخرج من الْمَسْجِد لطلب المعاش فِي الدُّنْيَا وَهُوَ المُرَاد بِالْفَضْلِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الْجُمُعَة: 10])[34].
                      رابعًا: قال السِّندي رحمه الله : (إِنَّمَا شُرِعَ [يقصد: السَّلام] عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
                      صلى الله عليه وسلم عِنْدَ دُخُولِ الْمُصَلِّي الْمَسْجِدَ ... لِأَنَّهُ السَّبَبُ فِي دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ وَوُصُولِهِ الْخَيْرَ الْعَظِيمَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَهُ بِالْخَيْرِ)[35].

                      التَّهاون في أداء تحية المسجد

                      بعضُ النَّاس إذا دخلَ المسجدَ جلسَ مباشرةً قبلَ أن يركعَ ركعتينِ أو أكثر، وهذا يُعدُّ خطأً منهم، فالصَّلاة عند دخول المسجدِ وقبل الجلوسِ واجبةٌ على الصَّحيح من أقوالِ أهلِ العلم[36]، فقد أخرج البخاري[37] ومسلم[38] من حديث أبي قتادة ﭬ قال: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ النَّاسِ، قَالَ: فَجَلَسْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا مَنَعَكَ أَنْ تَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسَ؟)) قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُكَ جَالِسًا وَالنَّاسُ جُلُوسٌ، قَالَ: ((فَإِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ)).
                      قال ابنُ دقيق العيد رحمه الله : (وَلَا شَكَّ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ: الْوُجُوبُ، وَظَاهِرَ النَّهْيِ: التَّحْرِيمُ وَمَنْ أَزَالَهُمَا عَنْ الظَّاهِرِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الدَّلِيلِ)[39].
                      وقال الشَّوكاني رحمه الله بعد أن أجاب على من قال بسنيَّة التَّحية: (إذَا عَرَفْت هَذَا لَاحَ لَك أَنَّ الظَّاهِرَ مَا قَالَهُ أَهْلُ الظَّاهِرِ مِنْ الْوُجُوبِ)[40].
                      وقال الألباني رحمه الله : (والحديثُ دليلٌ بظاهرِه على وجوبِ ركعتَيْ تحيَّةِ المسجد لأنَّه في الرِّواية الأولى أَمَرَ بهما، والأمرُ للوجوب، وفي الأخرى نهى عن الجلوس قبل الصَّلاة، وذلك يفيد التَّحريم، وقد ذهب إلى هذا الظَّاهريَّة حاشا ابنَ حزمٍ منهم، فإنَّه صرَّح في (المحلَّى) بأنَّها سنَّة وهو قول الجمهور، وأجابوا عن الحديث بأنَّ الأمر فيه للنَّدب، واحتجُّوا على ذلك بأدلَّة لا تنهض بما ادَّعوه، وقد ساقها المحقِّق الشَّوكاني وتعقَّبها مبيِّنا عدم صلاحيَّتِها لصرف الأمر من الوجوب إلى النَّدب)[41].
                      وقال شيخنا محمَّد علي فركوس-حفظه الله-: (فالظاهرُ من النُّصوص الحديثية أنَّ تحيَّةَ المسجدِ واجبةٌ لقولِهِ
                      صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ»[42]، وفي لفظ: «فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ»[43]، فالحديثُ يدلُّ على وجوب ركعتي تحية المسجد؛ لأنَّ الأمرَ للوجوب كما في الرِّواية الأولى، والنهيَّ للتَّحريم كما في الرِّواية الثَّانية. وهذا هو الظَّاهر ومَنْ أزالهما عن الظَّاهر فهو محتاجٌ إلى الدَّليل. ومِنْ مُؤكِّدات الإيجاب حديث جابر بن عبد الله ﭬ أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قطع خطبتَه وأمر سُلَيْكًا الغَطَفَانِيَّ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا[44].
                      وغايةُ ما يَستدِلُّ به الجمهورُ أنّ الوجوبَ مصروفٌ إلى النَّدب ببعض النُّصوصِ الحديثيةِ منها: قولُ السائلِ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللهُ عَلَيَّ مِنَ الصَّلاَةِ قَالَ: «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ» قال: هل عَلَيَّ غيرهنّ؟ قال: «لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ»[45]، فيدلّ على أنّ تحيةَ المسجد ليستْ واجبةً. وحديثُ: «اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ»[46] فأمرَه
                      صلى الله عليه وسلم بالجلوس ولم يأمره بتحيَّة المسجد، فدلَّ على أنَّها ليستْ بواجبةٍ، وكذلك حديثُ النَّفَرِ الثلاثةِ، أقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد.. فأمّا أحدهما فرأى فُرْجَةً في الحلقة فجلس فيها، وأمّا الآخر فجلس خَلْفَهُم، وأمّا الثَّالث فأدبر ذاهبًا»[47] الحديث يفيد أنَّه لم يأمره صلى الله عليه وسلم بصلاة تحيَّة المسجد فدلَّ على عدم وجوبها إذ لا يُقرُّ صلى الله عليه وسلم على باطل.
                      فمجموع هذه الأدلة يمكن الجواب عنها فيما يلي:
                      أولاً: يحتمل في حديث: «إلَّا أن تطَّوَّع» أنَّه كان قبل أن يجب غيرُها من الصَّلوات، فيكون حصر واجبات الصَّلاة باعتبار وقت السَّائل الذي سأله فيه، ولم يقل له: إنَّه لا يجب عليه ما يوجبه الله من بعد، بل ما أوجبه الله وجب، بدليل أنَّ صلاة الجنازة واجبة ولم تذكر في محصور الحديث، وهذا الجواب يشمل أيضًا لحديث: «اجلس فقد آذيت» وحديثِ النَّفر الثَّلاثة؛ لأنَّ الشَّريعة تكاملت شيئًا فشيئًا.
                      ثانيًا: إنَّ النبيَّ
                      صلى الله عليه وسلم لَمَّا نفى وجوبَ الواجباتِ ابتداءً في قوله: «إلاّ أن تطّوّع» لا الواجباتِ بأسبابٍ يختار المكلّف فعلها كدخول المسجد، فلا يصحُّ شمول هذا الصَّارف وغيرِه لمثلها. وعليه، فإنَّ إيجاب ركعتَيْ تحيَّة المسجد هو الجاري على مقتضى الأوامر والنَّواهي)[48].

                      اتخَاذُ الرَّجُلِ مَكَاناً مُعَيَّناً فِي المَسْجِدِ، لَا يُصَلِّي إِلَّا فِيهِ

                      فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ شِبْلٍ رضي الله عنه قَالَ: ((نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ، وَافْتِرَاشِ السَّبْعِ، وَأَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ الْمَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرُ))[49].

                      فوائد وأحكام:
                      أوَّلا: هذا النَّهي خاصٌّ بغير الإمام، يقول الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهاب رحمه الله: (ويكرَه لغيرِ الإمامِ اتَّخاذُ مكانٍ في المسجدٍ لا يصلِّي فرضَه إلَّا فيه لنهيه
                      صلى الله عليه وسلم عن إيطانٍ كإيطانِ البعير)[50].
                      ثانيا: الحكمة من هذا النهي:
                      1. قَالَ ابنُ حَجَرٍرحمه الله : (وَحِكْمَتُهُ أَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الشُّهْرَةِ، وَالرِّيَاءِ، وَالسُّمْعَةِ، وَالتَّقَيُّدِ بِالْعَادَاتِ، وَالْحُظُوظِ، وَالشَّهَوَاتِ، وَكُلُّ هَذِهِ آفَاتٌ، أَيْ آفَاتٌ فَتَعَيَّنَ الْبُعْدُ عَمَّا أَدَّى إِلَيْهَا مَا أَمْكَنَ)[51].
                      2. قال الشَّوكاني رحمه الله : (وَعِلَّة النَّهْي عَنْ الْمُوَاظَبَة عَلَى مَكَان فِي الْمَسْجِد مَا سَيَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي بَعْد هَذَا مِنْ مَشْرُوعِيَّة تَكْثِير مَوَاضِع الْعِبَادَة)[52].
                      3. قال ابنُ الهمام الحنفي رحمه الله : (وَفِي النِّهَايَةِ عَنْ الْحَلْوَانِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الصَّوْمِ عَنْ أَصْحَابِنَا يُكْرَهُ أَنْ يَتَّخِذَ فِي الْمَسْجِدِ مَكَانًا مُعِينًا يُصَلِّي فِيهِ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ تَصِيرُ لَهُ طَبْعًا فِيهِ وَتَثْقُلُ فِي غَيْرِهِ، وَالْعِبَادَةُ إذَا صَارَتْ طَبْعًا فَسَبِيلُهَا التَّرْكُ وَلِذَا كُرِهَ صَوْمُ الْأَبَدِ انْتَهَى).
                      ثالثًا: نَقْرَةِ الْغُرَابِ: بِفَتْحِ النُّون، يُرِيد الْمُبَالَغَة فِي تَخْفِيف السُّجُود، وَأَنَّهُ لَا يَمْكُث فِيهِ إِلَّا قَدْر وَضْع الْغُرَاب مِنْقَاره فِيمَا يُرِيد أَكْله[53].
                      رابعًا: افْتِرَاشِ السَّبُعِ: الافتراش: افتعال من الفرش، وَهُوَ أَنْ يَضَع سَاعِدَيْهِ عَلَى الْأَرْض فِي السُّجُود، ولا يرفعهما عن الأرض كما يبسط السبع والكلب والذِّئب ذراعيه[54].
                      خامسًا: قال الخطَّابي رحمه الله : (نقرةُ الغراب هي: أن لا يتمكَّن الرَّجل من السُّجود فيضعَ جبهتَه على الأرض حتَّى يطمئن ساجدا، وإنَّما هو أن يمسَّ بأنفِه أو جبهتِه الأرضَ كنقرةِ الطَّائر ثم يرفعُه.
                      وافتراشُ السَّبع: أن يمدَّ ذراعيْه على الأرض لا يرفعُهما ولا يجافي مرفقيْه عن جنبيْه.
                      وأمَّا إيطان البعير: ففيه وجهان:
                      أحدهما: أَنْ يَأْلَف الرجل مَكَانًا مَعْلُومًا مِنْ الْمَسْجِد لَا يُصَلِّي إِلَّا فِيهِ، كَالْبَعِيرِ لَا يَأْوِي مِنْ عَطَنه إِلَّا إِلَى مَبْرَك دَمِث قَدْ أَوْطَنَهُ، وَاِتَّخَذَهُ مُنَاخًا لَا يَبْرُك إِلَّا فِيهِ.
                      وَالْوَجْه الْآخَر: أَنْ يَبْرُك عَلَى رُكْبَتَيْهِ قَبْل يَدَيْهِ-إِذَا أَرَادَ السُّجُود- بَرْكَ الْبَعِير عَلَى الْمَكَان الَّذِي أَوْطَنَهُ، وَأَنْ لَا يَهْوِي فِي سُجُوده، فَيُثْنِي رُكْبَتَيْهِ حَتَّى يَضَعهَا بِالْأَرْضِ عَلَى سُكُون وَمَهْل)[55].
                      وهذا الوجه الثَّاني بعيد جدًّا عن الحديث، لا سيَّما بمجموع ألفاظه المذكورة أعلاه، فهي تعيِّن أنَّ المراد منه الوجه الأول، وبه جزم جمع من الشُّراح.
                      قال ملَّا علي القاري رحمه الله : (والمعنى الثَّاني لا يصحُّ هنا، لأنَّه لا يمكن أن يكون مشبَّها به، وأيضا لو كان أريد هذا المعنى، لما اختصَّ النَّهي بالمكان في المسجد، فلمَّا ذكر دلَّ على أنَّ المرادَ هو الأوَّل)[56].
                      سادسًا: قال ابنُ القيِّم رحمه الله : (نَهى - أي: النَّبي
                      صلى الله عليه وسلم - في الصَّلاة عن التَّشبُّه بالحيوانات، فنَهَى عن بروكٍ كبروكِ البعير، والتفاتٍ كالتفاتِ الثَّعلب، وافتراشٍ كافتراشِ السَّبع، و إقعاءٍ كإقعاءِ الكلب، ونقرٍ كنقرِ الغراب، ورفعِ الأيدِي وقتَ السَّلام كأذنابِ الخيلِ الشُّمس[57]، فهَدْيُ المصلِّي مخالفٌ لهدْيِ الحيوانات)[58].
                      سابعًا: قال الشَّيخ جمال الدِّين القاسمي رحمه الله : (يهوَى بعضُ مُلازِمي الجماعات مكانًا مخصوصًا أو ناحيةً من المسجدِ، إمَّا وراءَ الإمامِ، أو جانبَ المنبرِ، أو أمامَه، أو طرفَ حائِطه اليمينِ، أو الشِّمال، أو الصُّفَّة المرتفِعة في آخرِه، بحيثُ لا يَلَذُّ له التَّعبُّد ولا الإقامةُ إلَّا بها، وإذا أبصَرَ منْ سبقَه إليهَا فربَّما اضطَّره إلى أن يتنحَّى له عنها لأنَّها محتكَرَة، أو يذهبُ عنها مغضَبًا أو متحوْقلًا أو مسترْجعًا، وقد يفاجِئُ المَاكِثَ بها بأنَّها مُقامُه من كذا وكذا سنة، وقد يستعينُ بأشكالِه من جهلةِ المتنسِّكين على أن يُقام منها، إلى غير ذلك من ضروب الجهالات التي ابتليت بها أكثرُ المساجد، ولا يخفى أنَّ محبَّةَ مكانٍ من المسجد على حِدَة تنشأُ من الجهلِ أو الرِّياء والسُّمعة، وأن يقال إنَّه لا يصلي إلَّا في المكان الفلاني، أو إنَّه من أهل الصفِّ الأوَّل ممَّا يُحبِط العملَ ملاحظتُه ومحبَّتُه نعوذُ بالله.
                      وهَبْ أنَّ هذا المتوطِّنَ لم يقصد ذلك، فلا أقلَّ أنَّه يفقد لذَّة العبادةِ بكثرةِ الإِلفِ والحرصِ على هذا المكان، بحيثُ لا يدعُوه إلى المسجد إلَّا موضعُه، وقد ورد النَّهي عن ذلك...)[59]
                      .
                      ثامنًا: ورد في السُّنَّة ما يفيدُ في ظاهرِه جوازَ لزومِ مكانٍ معيَّن للصَّلاة دوْمًا سواءً في المسجد أو في البيت، نذكرُه ثمَّ نبيِّن ما يستفاد منه:
                      1- جاء في حديث مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بَنِي سَالِمٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ
                      صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي، وَإِنَّ السُّيُولَ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي، فَلَوَدِدْتُ أَنَّكَ جِئْتَ، فَصَلَّيْتَ فِي بَيْتِي مَكَانًا حَتَّى أَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَ: «أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ النَّهَارُ، فَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَذِنْتُ لَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ: «أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟»، فَأَشَارَ إِلَيْهِ مِنَ المَكَانِ الَّذِي أَحَبَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، فَقَامَ، فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ[60].
                      2- وعن يَزِيدَ بنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: كُنْتُ آتِي مَعَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ﭬ فَيُصَلِّي عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ أَرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ، قَالَ: ((فَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ
                      صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا))[61].
                      أمَّا الحديث الأوَّل: فلا إشكالَ فيه أصلًا لأنَّ النَّهي الواردَ عن نبيِّنا
                      صلى الله عليه وسلم هو عن استيطانِ المسجد لا غيرِه، والحديثُ جاء في تخصيص مكانٍ في البيت.
                      وأما الحديثُ الثَّاني: فظاهرُه جوازُ تخصيص مكان معيَّن لصلاة النَّافلة في المسجد، وقد ذهب إلى ذلك جمعٌ من أهلِ العلم.
                      قال ابنُ رجب رحمه الله: (وفي الحديث: دليلٌ على أنَّه لا بأس أن يلزمَ المصلِّي مكانًا معيَّنا من المسجد يصلِّي فيه تطوُّعًا)[62].
                      وذهب آخرُون إلى جواز ذلك التَّخصيص إذا ورد في شأنه دليلٌ خاص، كما هو الشَّأن في حديث الأسطوانة، فإنَّ الصَّحابي رضي الله عنه كان يتحرَّى الصَّلاة عندَها لرؤيتِه النَّبيَ
                      صلى الله عليه وسلم يفعلُ كذلك، أمَّا إذا لم يرِد دليلٌ خاصٌّ فالأَولى عدم التَّخصيص.
                      قال النَّووي رحمه الله : (وفي هذا أنَّه لا بأس بإدامةِ الصَّلاة فِي موضع واحدٍ إذا كان فيه فضْل، وأمَّا النَّهي عن إيطان الرَّجل موضعًا من المسجدِ يلازمُه فهو فيما لا فضْلَ فيه ولا حاجةَ إِليه)[63].
                      ويؤيِّد هذا أنَّه لم يرد -فيما أعلم- عن الصَّحابة ﭫ أنَّهم كانوا يتحرَّون أداءَ النَّافلةِ في أماكنَ أخرى غير الواردِ في هذا الحديث. والله أعلم.

                      حجز الأماكنِ للصَّلاة وغيرِها

                      من الأخطاءِ الكبيرةِ الَّتي صِرْنا نراها كثيرًا في بيوت الله هو حجز الأماكن وتحجيرها فيها، سواء كان ذلك من الشَّخص نفسِه بأن يحضرَ مبكِّرا إلى المسجد فيضعَ شيئًا يدلُّ عليه ثم ينصرف، أو كان من غيره بأن يحجزَ المبكِّرُ لأخيه المتخلِّف.
                      وهذه بليَّة عظيمة ومصيبة خطيرة، وهو فعلٌ منهيٌّ عنه باتِّفاق أهلِ العلم -كما سيأتي بيانُه- ولو لم يكن فيها إلَّا العداوة والشَّحناء الَّتي تحدثُها بين المصلِّين لكَفَت، فكيف وهي تَحرُم المصلِّي من فضيلة التَّبكير، وتجرُّه إلى معصية تخطِّي الرِّقاب وغيرها.
                      أضفْ إلى هذا أنَّه ربَّما أحدثَ هذا التَّصرُف فراغاً في الصُّفوف إذا أقيمت الصَّلاة، ولم يأتِ صاحب المكان المحجوز، لأنَّ بعض النَّاس لا يسدُّها بحجَّة أنَّ ثمَّة من حجزَها.
                      وقد سُئِلَ شيخ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله عَمَّنْ تَحَجَّرَ مَوْضِعًا مِنْ الْمَسْجِدِ، بِسَجَّادَةٍ أَوْ بِسَاطٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. هَلْ هُوَ حَرَامٌ؟ وَإِذَا صَلَّى إنْسَانٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ هَلْ يُكْرَهُ؟ أَمْ لَا؟
                      فَأَجَابَ: (لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَحَجَّرَ مِنْ الْمَسْجِدِ شَيْئًا لَا سَجَّادَةً يَفْرِشُهَا قَبْلَ حُضُورِهِ، وَلَا بِسَاطًا، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لَكِنْ يَرْفَعُهَا وَيُصَلِّي مَكَانَهَا؛ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ)[64].
                      وقال رحمه الله : (وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ تَقْدِيمِ مَفَارِشَ إلَى الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِهَا قَبْلَ ذَهَابِهِمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ مُحَرَّمٌ، ... وَالْمَأْمُورُ بِهِ أَنْ يَسْبِقَ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ إلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا قَدَّمَ الْمَفْرُوشَ وَتَأَخَّرَ هُوَ فَقَدْ خَالَفَ الشَّرِيعَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ تَأَخُّرِهِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالتَّقَدُّمِ. وَمِنْ جِهَةِ غَصْبِهِ لِطَائِفَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ وَمَنْعِهِ السَّابِقِينَ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يُصَلُّوا فِيهِ وَأَنْ يُتِمُّوا الصَّفَّ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ ثُمَّ إنَّهُ يَتَخَطَّى النَّاسَ إذَا حَضَرُوا).
                      وقد سئِل العلَّامة عبد الرَّحمن بن ناصر السّعدي رحمه الله: عن حكم التَّحجير فيالمسجد؟ فأجاب بجواب بديع نذكره بطوله لفائدته؟
                      قال رحمه الله: (اعلموا -رحمكم الله- أنَّ التَّحجر في المساجد، ووضع العصا والإنسانُ متأخِّر في بيتِه أو سوقِه عن الحضور لا يحلّ ولا يجوز، لأنَّ ذلكمخالفٌ للشَّرع ومخالفٌ لما كان عليه الصَّحابة والتَّابعون لهم بإحسان، فإنّ النَّبي
                      صلى الله عليه وسلم حثَّ النَّاس على التَّقدم للمساجد، والقرب مِن الإمام بأنفسهم، وحثَّ علىالصَّفِّ الأوَّل وقال: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِ الأَوَّلِ -يعني مِن الأجر العظيم- ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِلَاسْتَهَمُوا»، ولا يحصل هذا الامتثال وهذا الأجر العظيم إلَّا لِمَن تقدَّم وسبَقبنفسه، وأمّا مَن وضعَ عصاه ونحوَه، وتأخَّر عن الحضور، فإنَّه مخالفٌ لما حثَّ عليهالشَّارع، غيرُ ممتثل لأمره، فمَن زعم أنَّه يدرك فضيلةَ التَّقدم وفضيلةَ المكان الفاضلبتحجُّره مكاناً فيه وهو متأخِّر فهو كاذب، بل مَن فعل هذا فاتَه الأجر، وحصل له الإثموالوزر.
                      ومِن مفاسد ذلك: أنَّه يعتقد أنَّه إذا تحجَّر مكاناً فاضلاً في أوَّل الصَّفِّ، أو فيالمكان الفاضل، أنَّه يحصل له فضيلة التَّقدم، وهذا اعتقاد فاسد، فإنَّ الفضيلة لا تكونإلَّا للسَّابق بنفسه، وأمَّا المتحجِّر للمكان الفاضل، المتأخِّر عن الحضور، فلا يدرك شيئاًمِن الفضيلة، فإنَّ الفضل لا يحصل إلَّا للسَّابق بنفسه، لا لسبقِ عصاه، فلو كان في ذلكخير، لكان أولى النَّاس به الصَّحابةﭫ،وقد نزَّههم الله عن هذا الفعل القبيح، كمانزَّههم عن كل قبيح، فلو علم المتحجِّر أنَّه آثِم، وأنَّ صلَاتَه في مؤخّر المسجد أفضلُ له،وأسلمُ له مِن الإثم، لم يتجرَّأ على هذا، ولأبعد عنه غايةَ البعد، وكيف يكون مأجوراًبفعلٍ محرَّمٍ لا يجوز؟!
                      ومِن مفاسدِ ذلك: أنَّ المساجدَ لله،والنَّاس فيها سواء، وليس لأحد فيها حقٌّ إلَّا إذا تقدَّم بنفسه، فإذا سبَقَه غيرُه فهو أحقُّمنه، فإذا تحجَّر شيئاً لغيره فيه حقٌّ، كان آثماً عاصياً لله، وكان ظالماً لصاحب الحقِّ،وليس الحقُّ فيها لواحد، بل جميعُ مَن جاء قبلَه له حقٌّ في مكانه، فيكون قد ظلَم خلقاًكثيراً، ولو قدَّرنا أنّ إنساناً جاء والصَّفُّ الأوَّل قد تحجَّره المتحجِّرون بغير حقٍّ، فصفَّ فيالصُّفوف المتأخِّرة، كان أفضلَ منهم، وأعظمَ أجراً، وأسلمَ مِن الإثم، والله يعلم مِننيَّته أنَّه لو وجدَها خاليةً لصلَّى فيها، فهو الذي حصَّلَ فضلَها، وهُمْ حصَّلُوا الوزر، وفاتَهمالأجر.
                      ومِن مفاسِد ذلك: أنَّه يدعُوه إلى تخطِّي رقابِ النَّاسوإيذائِهم، وقد نهى الشَّارع عن ذلك، فيجمع بين التَّحجِّر والتَّأخر والتَّخطي، فيكون فاعلاًللنَّهي مِن وجوه متعدِّدة.
                      ومنها أنَّه إذا وضع عصاه، أوجبَ لهالكسَلَ والتَّأَخُّرَ عن الحضور، لأنَّه إذا عرف أنَّه يجد مكاناً في مقدَّم المسجد ولو تأخَّر،برَد قلبه، وكسَل عن التَّقدم، ففاته خيرٌ كثير، وحصَل له إثم كبير.
                      ومِن المفاسد: أنّه يحدثُ الشَّحناءَ والعَداوةَ والخُصومةَ في بيوتِ الله الَّتي لم تُبْنَإلَّا لذكر الله وعبادته.
                      ومِن المفاسد أنَّ صلَاة المتحِّجرناقصة، لأنَّ المعاصي إذا لم تُبْطِل الأعمال تنقِصها، ومِن العلماء مَن يرى أنَّ صلاةالمتحجِّرِ بغير حقٍّ غيرُ صحيحة، كالمصلِّي في مكان غصب، لا تصح صلاتُه، لأنَّه غصَبَه وظَلَمغيرَه.
                      ومِن مفاسد ذلك: أنَّ الذي يعتاد التَّحجُّر مُصِرٌّ علىمعصية الله، لأنَّه فاعل لها، جازم على معاودتها، والإصرارُ على المعاصي ينافيالإيمان، قال تعالى: ﴿وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾[آل عمران: 134]، والصَّغائر تكون كبائرَ مع الإصرارِ عليها.
                      ومِن العجب أنَّ أكثرَ مَنيفعلُ ذلك أناسٌ لهم رغبةٌ في الخير، ولعلَّه زال عنهم استقباح هذا الأمر لمداومتهمعليه، واقتداءِ بعضِهم ببعض، والرَّغبة في الخير لا تكونبالتَّقرب إلى الله بفعلٍ محرَّم، وإنَّما الرَّاغب في الخير مَن أبعَدَ عن معاصي الله، وعنظُلم النَّاس في حقوقِهم، فإنَّه لا يتقرَّبُ إلى الله إلَّا بطاعتِه.
                      وأعظمُ مِن ذلك أنْ يتحجَّرلنفسه ولغيره، فيجمع عدَّة مآثم، وشرُّ النَّاس مَن ظلم النَّاسَ للنَّاس فيشترك الحاميوالمحمى له في الإثم، فكيف يرضى المؤمن الموفَّق الذي في قلبه حياة، أنْ يفعل أمراًهذه مفاسدُه ومضارُّه؟!
                      فالواجب على كلِّ مَن يفعلُ ذلك، أنْ يتوبَإلى الله، ويعزَمَ على أنْ لا يعودَ، فإنَّ مَن علِم أنَّ ذلك لا يجوز، ثم أصرَّ على هذاالذَّنب، فهو متهاون بحرمات الله، متجرِّئ على معاصي الله، يُخْشى أنْ يكون مِمَّن يحبُّونأنْ يُحمدوا بما لم يفعلوا رياء وسمعة، يحبُّ أنْ يُحمد على صلاتِه في الصَّفِّ الأوَّل،والمكان الفاضل، وهو آثم ظالم لأهل المسجد، غيرُ محصِّل للفضيلة، ولكنَّه مصرٌّ على هذهالخصلة الذَّميمة الرَّذيلة، ونعتقدُ أنَّ المؤمنَ الحريصَ على دينه إذا علم أنَّ هذا محرَّم،وعلم ما فيه مِن المفاسد والمضارِّ، وتنقيصِ صلاتِه أو فسادِها، فإنَّه لا يقدِم عليه، ولايفعلُه، لأنَّه ليس له في ذلك مصلحةٌ في دينه ولا دنياه، بل ذلك مضرَّة محضة عليه،فالموفَّق يستعين الله على تركه، والعزم على أنْ لا يعود إليه، ويستغفر الله مِمَّاصدر منه، فإنَّ الله غفور رحيم، قال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَوَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه: 82].
                      ونسأل الله تعالى أنْ يحفظنا وإخوانَنا المسلمين مِن معاصيه، وأنْ يعفوَ عنَّا وعنهم ما سلفَمنها، إنَّه جواد كريم)[65].

                      تنبيهان


                      الأوَّل: من تقدَّم إلى المسجد وفي نيَّته انتظار الصَّلاة، ثم عرض له عارض من وضوءٍ ونحوِه فقام، فلا حرج عليه في حجز المكان حتَّى يرجع، لأنَّه أحقُّ بهذا المكان، لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْمِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ))[66].
                      والثَّاني:من جاء ووجد مكاناً محجوزاً فماذا يصنع؟
                      قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: (ثُمَّ إذَا فَرَشَ هَذَا فَهَلْ لِمَنْ سَبَقَ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يَرْفَعَ ذَلِكَ وَيُصَلِّي مَوْضِعَهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
                      أَحَدُهُمَا:لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ.
                      وَالثَّانِي:وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ لِغَيْرِهِ رَفْعَهُ وَالصَّلَاةَ مَكَانَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا السَّابِقَ يَسْتَحِقُّ الصَّلَاةَ فِي ذَلِكَ الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلِ هَذَا الْمَأْمُورِ وَاسْتِيفَاءِ هَذَا الْحَقِّ إلَّا بِرَفْعِ ذَلِكَ الْمَفْرُوشِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْمَأْمُورُ إلَّا بِهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَأَيْضًا فَذَلِكَ الْمَفْرُوشُ وَضَعَهُ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ الْغَصْبِ وَذَلِكَ مُنْكَرٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ
                      صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يُؤَوَّلَ إلَى مُنْكَرٍ أَعْظَمَ مِنْهُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ)[67].

                      الخُروج مِن المَسجد بعد الأذان

                      وهذا من الأخطاءِ الكبيرة الَّتي نراها تصدُر بين الحين والآخر من بعض مرتادي بيوت الله، وهذا الفعل منهم عجيب، فالأصل بعدَ سماعِ الأذان أو أثناءَه التَّوجهُ إلى بيوتِ الله لا الخروج منها، فالأَذَان دُعَاءٌ إلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَاسْتِجْلَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ إلَيْهَا، فَمَنْ خَرَجَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَظَاهِرُهُ قَصْدُ خِلَافِهِمْ وَتَفْرِيقُ جَمَاعَتِهِمْ وَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ[68].
                      وقد ورد النَّهي الصَّريح الشَّديد عن هذا الفعل:
                      فعَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، قَالَ: كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمَسْجِدِ يَمْشِي فَأَتْبَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بَصَرَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَمَّا هَذَا، فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ ﷺ»[69].
                      قال النَّووي رحمه الله: (فِيهِ: كَرَاهَة الْخُرُوج مِنْ الْمَسْجِد بَعْد الْأَذَان حَتَّى يُصَلِّي الْمَكْتُوبَة إِلَّا لِعُذْرٍ)[70].
                      قال ابنُ عبد البر رحمه الله : (أَجْمَعُوا عَلَى الْقَوْلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ وَكَانَ عَلَى طَهَارَةٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ قَدْ صَلَّى وَحْدَهُ إِلَّا لِمَا لَا يُعَادُ مِنَ الصَّلَوَاتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ بُسْرِ بْنِ مِحْجَنٍ، فَإِذَا كَانَ مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ بِإِجْمَاعٍ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ لِلْوُضُوءِ وَيَنْوِيَ الرُّجُوعَ)[71].
                      ولا يستثنى من هذا الحكم إلاَّ من كان له عذرٌ شرعيٌّ كانتقاضِ طهارة، أو خوفِ فواتِ رفقة، أو كان إمامًا لمسجد آخر، ونحو هذا.
                      عَنْ عُثْمَانَ ﭬ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
                      صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْرَكَهُ الْأَذَانُ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ خَرَجَ، لَمْ يَخْرُجْ لِحَاجَةٍ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ، فَهُوَ مُنَافِقٌ»[72].
                      قال التِّرمذي رحمه الله : (وَعَلَى هَذَا العَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ: أَنْ لاَ يَخْرُجَ أَحَدٌ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الأَذَانِ، إِلاَّ مِنْ عُذْرٍ: أَنْ يَكُونَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، أَوْ أَمْرٍ لاَ بُدَّ مِنْهُ.
                      وَيُرْوَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: يَخْرُجُ مَا لَمْ يَأْخُذِ الْمُؤَذِّنُ فِي الإِقَامَةِ.
                      وَهَذَا عِنْدَنَا لِمَنْ لَهُ عُذْرٌ فِي الخُرُوجِ مِنْهُ)
                      [73].
                      وقد أشار الإمام البخاري رحمه الله لهذه المسألة حيث ذكر في صحيحه: [باب: هَلْ يَخْرُجُ مِنَ المَسْجِدِ لِعِلَّةٍ؟].
                      ثم ذكر بسنده حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
                      صلى الله عليه وسلم خَرَجَ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، وَعُدِّلَتِ الصُّفُوفُ، حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ، انْتَظَرْنَا أَنْ يُكَبِّرَ، انْصَرَفَ، قَالَ: «عَلَى مَكَانِكُمْ» فَمَكَثْنَا عَلَى هَيْئَتِنَا، حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً، وَقَدِ اغْتَسَلَ).
                      قال الحافظ ابنُ رجب رحمه الله: (مقصودُ البخاري بهذا الباب: أنَّه يجوز لمن كان في المسجد بعد الأذان أو بعد الإقامة أن يخرج منه لعذر، والعذر نوعان:
                      أحدهما: ما يحتاج إلى الخروج معه من المسجد، ثم يعود لإدراك الصَّلاة فيه، مثل أن يذكرَ أنَّه على غير طهارة، أو ينتقضَ وضوؤه حينئذ، أو يدافعَه الأخبثان، فيخرجُ للطَّهارة، ثمَّ يعودُ فيلحق الصَّلاة في المسجد، وعلى هذا دلَّ حديث أبي هريرة المخرَّج في هذا الباب.
                      والثَّاني: أن يكون العذر مانعاً من الصَّلاة في المسجد كبدعة إمامِه ونحوه، فيجوز الخروج منه - أيضا - للصَّلاة في غيره، كما فعل ابن عمر ﭭ، روى أبو داود من حديث أبي يحيى القتَّات، عن مجاهد، قال: كنت مع ابن عمر، فثوَّب رجل في الظُّهر أو العصر، فقال: (اخرج بنا؛ فإنَّ هذه بدعة)[74]...
                      وأمَّا الخروج بعد الأذان لغير عذر، فمنهيٌّ عنه عند أكثر العلماء)[75].
                      وقال الحافظ ابنُ حجر رحمه الله: (وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى تَخْصِيصِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ أَنْ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ فَقَالَ أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ فَإِنَّ حَدِيثَ الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ لَيْسَ لَهُ ضَرُورَةٌ فَيُلْحَقُ بِالْجُنُبِ الْمُحْدِثُ وَالرَّاعِفُ وَالْحَاقِنُ وَنَحْوُهُمْ وَكَذَا مَنْ يَكُونُ إِمَامًا لِمَسْجِدٍ آخَرَ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ) [76].

                      فائدة: فِي بيانِ العلَّةِ منْ هذَا النَّهي:
                      1. أنَّه يُخشى أن تفوتَه الصَّلاة جماعة[77].
                      2. أنَّ هذا من صفاتِ المنافقين، ومن أعمالِهم[78]، كما ورد ذلك صريحًا في أحاديثِ الكتاب.
                      ولاشكَّ في كون فاعل ذلك من المنافقين إن خرج راغباً عنها وآبياً من فعلها[79].
                      3. أنَّ فيه تشبُّها بالشَّيطان الذي يَخرج بعد سماع الأذان[80].
                      4. أنَّه قد يعرِّضُ الشَّخصَ الخارجَ للتُّهمةِ وإساءَةِ الظَّنِّ به[81].
                      قال الباجي رحمه الله : (قَوْلُهُ: إلَّا أَحَدٌ يُرِيدُ الرُّجُوعَ إلَيْهِ: اسْتِثْنَاءٌ لِمَنْ نَزَلَتْ بِهِ ضَرُورَةٌ مِنْ حَدَثٍ أَوْ غَيْرِهِ فَخَرَجَ لِيُزِيلَ الضَّرُورَةَ وَيَرْجِعَ فَيُدْرِكَ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ، فَإِنْ كَانَتْ الضَّرُورَةُ ظَاهِرَةً كَالرُّعَافِ وَنَحْوِهِ فَفِي ذَلِكَ بَيَانٌ لِحَاجَتِهِ وَإِزَالَةُ اللُّبْسِ فِي أَمْرِهِ وَمَانِعٌ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ ضَرُورَةً بَاطِنَةً فَيُظْهِرُ أَمْرًا يَقُومُ بِهِ عُذْرُهُ مِنْ قَبْضِهِ عَلَى أَنْفِهِ كَهَيْئَةِ الرَّاعِفِ[82])[83].
                      وقال المرغيناني رحمه الله : (لأنَّهُ يتَّهمُ بمخالفةِ الجماعةِ عيانًا)[84].
                      وقال الزَّيلعي رحمه الله : (لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِمُخَالَفَةِ الْجَمَاعَةِ عِيَانًا، وَرُبَّمَا يُظَنُّ أَنَّهُ لَا يَرَى جَوَازَ الصَّلَاةِ خَلْفَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَا تَزْعُمُ الْخَوَارِجُ وَالشِّيعَةُ)[85].

                      صوتُ الموسيقَى ورنين الجوَّالات أثناءَ وقبلَ وبعدَ الصَّلاة

                      ممَّا ابتلينا به وابتليت به بيوت الله في هذه الأعصار، وصار لا يكاد يفارقنا في مساجدنا، بل وفي كل صلواتنا تقريبا-والله المستعان- صوتُ الموسيقى والغناء الذي ينبعثُ من الهواتف والجوَّالات، فما إن يكبِّر الإمامُ ويشرع المؤمنون في صلاتِهم مجاهدين أنفسَهم لاستحضار الخشوع أو الثَّبات عليه، حتَّى يكسِر ذلك الجوَّ الإيماني صوتٌ شيطانِي منبعثٌ من هاتفٍ لأحدِهم أو أكثر، وكثيرًا ما ترى أصحابَ هذه الجوَّالات يتورَّعون عن إطفائها خوفا من أن تبطلَ صلاتُهم، مفضِّلين –بفعلِهم- تركَ النَّاس لذلك المجون مستمعين، وعن صلاتهم غافلين. وإلى الله المشتكى.

                      وكان الواجب عليهم:
                      أوَّلا: تغييرُ صوت الموسيقى في رنَّة الهاتف إلى صوتٍ طبيعي، أو رنَّةٍ غيرِ موسيقيَّة، لأنَّ المقصود التَّنبيه إلى ورود مكالمة، وهذا يتحقَّق بعدة طرق.
                      ثانيًا: الاهتمامُ بتعظيم الصَّلاة وتعظيمِ بيتِ الله، فمبجرَّدِ إرادةِ دخولِها ينبغِي إطفاءُ الهواتف أو جعلِها على الصَّامت.
                      ثالثًا: إذا نسيَ إطفاءَ الهاتفِ أو جعلَه على الصَّامت ثمَّ رنَّ، فله أن يطفئه بل ربَّما وجبَ، لأنَّ الحركة إذا دعت إليها مصلحة فلا حرج، ولأنَّه ما لا يتمُّ الواجبُ إلَّا به فهو واجب.
                      رابعًا: يجب نصحُ من صدر منه هذا المنكر بعد انتهاء الصَّلاة برفق وحلم، ولا يشترط أن يكون نصحُه من إمام المسجد، بل لو فعل ذلك من كان بجانبه لحصل المقصود.
                      قال الشَّيخ ابنُ عثيمين رحمه الله : (لا بأس باستعمال الجوَّال والهاتف للمعتكف في المسجد إذا لم يشوِّش على النَّاس، فإن شوَّش على النَّاس فإنَّه لا يُستعمل؛ لأنَّ النَّبي
                      صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه ذات ليلة وهم يصلُّون في المسجد أوزاعاً ويجهرون في القراءة فقال: لا يؤذيَّن بعضكم بعضاً في القراءة، وكلُّكم يناجي ربَّه، وأمرَهم ألَّا يجهروا لئلَّا يؤذي بعضُهم بعضاً[86]، فإذا كانت هذه الجوَّالات أو البياجِر[87] تشوِّش على المصلِّين فإنَّ الواجب أن يغلقَها الإنسان حتَّى لا يشوِّش على إخوانِه)[88].
                      وقد سئل الشَّيخ عبد المحسن العبَّاد - حفظه الله-: هل إغلاق الجوَّال أثناء خطبة الجمعة يعد من اللغو؟ فأجاب حفظه الله : (الواجِب إغلاقُه قبل، لكنْ إذا حصَل الرَّنين وكان مفتوحًا، لا شكَّ أنَّ هذا من الأمور الَّتي لا بدَّ منها لأنَّ إغلاقَه أولى من تركِه يرنُّ يشوِّش على النَّاس).
                      وقال الشَّيخ عبد العزيز الرَّاجحي -حفظه الله-: (ينبغي للإخوان أن يراقبوا جوَّالاتِهم الَّتي فيها نغمات تشبه أصوات الموسيقى، فلابدَّ من أن يغيِّروا هذه النَّغمات، وينبغي للإنسان أن يغلقَ الجوَّال إذا دخل المسجد للصَّلاة أو للدَّرس حتَّى لا يشغل النَّاس، وينبغي لطلبة العلم ألَّا يتشبَّهوا بالفسَّاق، فليس هناك داعٍ لتلك النَّغمات، فاجعلها نغمةً عادية).

                      خاتمة هذه السلسلة

                      هذا آخر ما يسَّر الله جمعَه وبيانَه ممَّا يتعلَّق بالمساجد من مسائلَ وأحكام، ركَّزت فيه بصورة كبيرة على المخالفات التي تصدر من كثير من روَّاد بيوت الله، سواء فيما يتعلَّق بعمارتها الماديَّة أو المعنويَّة، ولم أقصد استقصاء الأخطاء ولا استيعابها، وإنَّما ذكرتُ ما ظهر لي أنَّه أهمُّها.
                      والقصد من هذا الجمع هو التَّنبُّه لهذه الأخطاء لتجتنب وتترك، فإنَّ المساجد أحبُّ البلاد إلى الله، وينبغي أن تكون لنا كذلك.
                      وقد بذلت في إخراجه بهذه الصُّورة جهدي، وهو مع ذلك جهد بشري لا يخلو من خطأ أو تقصير، فمن وجد خيرا فليعلم بأنَّه من توفيق الله وحده، ومن وجد غيرَ ذلك فهو منِّي وأستغفر الله وأتوب إليه منه، وليكن كما قال النَّاظم:
                      وإنْ تَجِدْ عَيبًا فَسُدَّ الخَلَلا *** فَجَلَّ مَنْ لَا فيهِ عَيبٌ وَعَلا
                      وفي الأخير أسأل الله سبحانه أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، إنَّه على ذلك قدير وبالإجابة جدير وهو حسبي ونعم الوكيل والحمد لله ربِّ العالمين.


                      مصطفى قالية
                      الثلاثاء 25 ذو القعدة 1434 هـ

                      الموافق لـ: 01 أكتوبر 2013م




                      [1]
                      (284).

                      [2] (10452).
                      [3] في صحيحه (6761).
                      [4](3/151)(1163).
                      [5]انظر: فتح القدير (1/422)، والبحر الرَّائق شرح كنز الدقائق (2/39)، ومراقي الفلاح شرح متن نور الإيضاح (ص 267).
                      [6]المدخل لابن حاج (1/4 و(2/227)
                      [7]كشاف القناع عن متن الإقناع (1/327).
                      [8] حاشيىة ابن عابدين (2/450).
                      [9]انظر المجموع(2/177)، وفتح الباري لابن رجب (3/345)، والموسوعة الفقهية الكويتية (35/11.
                      [10] انظر الثمر المستطاب(1/832).
                      [11]فتاوى نور على الدَّرب لابن عثيمين وسيأتي ذكره قريبا.
                      [12] انظر مرقاة المفاتيح(2/756).
                      [13] (670).
                      [14] في المسند (34/436 و 513).
                      [15]المحلى (3/160).
                      [16]المجموع(2/177).
                      [17]مجموع الفتاوى (22/200).
                      [18] فتاوى نور على الدَّرب (11/345).
                      [19] فتاوى نور على الدَّرب (11/34.
                      [20]فتاوى نور على الدَّرب لابن عثيمين الشَّريط (352) الوجه: أ.
                      [21] برقم (3433). والحديث صحيح. انظر صحيح الجامع (2/1065)(6192).
                      [22]في كتاب: الصلاة، بَابُ: التَّيَمُّنِ فِي دُخُولِ المَسْجِدِ وَغَيْرِهِ
                      [23] فتح الباري (1/523).
                      [24]الثَّمر المستطاب (2/603).
                      [25] أخرجه الحاكم في المستدرك (1/33(791)، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (2/620)(4322). وحسنه الألباني $ في سلسلة الأحاديث الصحيحة(5/624)(247.
                      [26] انظر فتح الباري(1/523).
                      [27]أخرجه أبو داود في السنن (466)، ومن طريقه البيهقي في الدعوات الكبير (6. انظر صحيح أبي داود-الأم- (2/364)(485).
                      [28](713).
                      [29] الدَّارمي في المسند (1434)، وابن ماجه في السنن (772)، وأبو داود في السنن (440)، وابن ماجه في السنن (465)، وابن حبان في الصَّحيح (204، وغيرهم. انظر صحيح الجامع(1/150)(510).
                      [30] انظر شرح أبي داود للعيني (2/376)، وعون المعبود(2/94).
                      [31] مراقي الفلاح (ص 149)، تحفة المحتاج للهيتمي (2/16، وكشاف القناع عن متن الإقناع (2/476)، وحاشية الروض المربع (4/89)، وشرح مسلم للنووي (5/224)، وحاشية السندي على ابن ماجه (1/260).
                      [32] انظر المحلى(2/380).
                      [33]الثّمر المستطاب(1/611).
                      [34]كشف المشكل من حديث الصَّحيحين (2/136)، و قد أشار إلى نحو هذا المعنى شيخ الإسلام $ انظر: مجموع الفتاوى (10/662).
                      [35]حاشية السِّندي على سنن ابن ماجه (1/259).
                      [36]ذهب إلى القولِ بوجوبِ الصَّلاة قبل الجلوس في المسجد: الظَّاهرية، وهو ظاهر صنيع ابنِ عوانة $ حيث بوَّب في مستخرجه (2/14) لهذه الأحاديث بقوله: [بَيَانُ إِيجَابِ الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى مَنْ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ...]، ورجَّح هذا القولَ ابنُ دقيق العيد، والصَّنعاني والشَّوكاني وغيرُهم، خلافا للجمهور ومنهم ابن حزم الظاهري الذين قالوا بالاستحباب فقط.
                      [37](1163).
                      [38] (714).
                      [39] إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/28.
                      [40] نيل الأوطار (3/84).
                      [41] الثَّمر المستطاب (2/615).
                      [42] أخرجه البخاري في «المساجد»: (٤٣٣)، ومسلم في «صلاة المسافرين»: (١٦٥٤)، والترمذي في «الصلاة»:(٣١٦)، والنسائي في «المساجد»: (٧٣٠)، ومالك في «الموطإ»: (٣٨٦)، والدارمي في «سننه»: (١٣٦٥)، وابن حبان: (٢٤٩٩)، وأحمد: (٢٢٠٨٨)، من حديث أبي قتادة الأنصاري ﭬ.
                      [43] أخرجه البخاري في «التطوع»: (١١١٠)، ومسلم في «صلاة المسافرين»: (١٦٥٥)، وابن خزيمة: (١٨٢٩)، وأحمد: (٢٢٠٩٥)، من حديث أبي قتادة الأنصاري ﭬ. وأخرجه ابن ماجه في «إقامة الصلاة»: (١٠١٢)، وابن خزيمة: (١٣٢٥)، من حديث أبي هريرة ﭬ.
                      [44] أخرجه مسلم في «الجمعة» : (٢٠٢٣)، وأبو داود في «الصلاة»: (١١١٦)، وابن ماجه في «إقامة الصلاة»: (١١١٢)، وابن حبان: (٢٥٠٠)، وابن خزيمة: (١٨٣٥)، وأحمد: (١٣٩٩٦)، من حديث جابر بن عبد الله ﭭ.
                      [45] أخرجه البخاري في «الإيمان»: (٤٦)، ومسلم في «الإيمان»: (١٠٠)، وأبو داود في «الصلاة»: (٣٩١)، والنسائي في «الصلاة»: (٤٥٨)، ومالك في «الموطإ»: (٤٢٣)، وابن حبان: (١٧٢٤)، وابن خزيمة: (٣٠٦)، من حديث طلحة بن عبيد الله ﭬ.
                      [46] أخرجه ابن ماجه في «إقامة الصلاة»: (١١١٥)، من حديث جابر ﭬ. وأخرجه وأبو داود في «الصلاة»: (١١١٨)، والنسائي في «الجمعة»: (١٣٩٩)، وابن حبان: (٢٧٩٠)، وابن خزيمة: (١٨١٢)، وأحمد: (١٧٣٤٤)، والبيهقي: (٥٩١٥)، والحاكم: (١٠٩٣)، من حديث عبد الله بن بسر ﭬ. والحديث صحّحه الألباني في «صحيح الجامع»: (١٥٥).
                      [47] أخرجه البخاري في «العلم»: (٦٦)، ومسلم في «السلام»: (٥٦٨١)، والترمذي في «الاستئذان»: (٢٧٢٤)، ومالك في «الموطإ»: (١٧٢٤)، وابن حبان: (٨٦)، وأحمد: (٢١٤٠٠)، من حديث أبي واقد الليثي ﭬ.
                      [48]الفتوى رقم: (٦٥٢)، الصنـف: فتاوى الصلاة. من موقع الشيخ حفظه الله-.
                      [49] أخرجه أحمد في المسند (24/292)، والدارمي في السنن (2/835)، وابن ماجه في السنن (142، وأبي داود في السنن (862)، والنسائي في السنن (1112)، وفي الكبرى (700)، وغيرهم. والحديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/156)(116.
                      [50]آداب المشي إلى الصلاة (ص 2.
                      [51] نقله عنه ملا علي القاري في مرقاة المفاتيح(2/727).
                      [52] نيل الأوطار(3/234).
                      [53] النهاية في غريب الحديث (5/104).
                      [54] النهاية في غريب الحديث (3/429-430).
                      [55] معالم السنن (1/212-213).
                      [56]انظر مرقاة المفاتيح(3/415).
                      [57]بِسُكُونِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا وَهِيَ الَّتِي لَا تَسْتَقِرُّ بَلْ تَضْطَرِبُ وَتَتَحَرَّكُ بِأَذْنَابِهَا وأرجلها، لِشَغَبِها وَحِدَّتها. انظر شرح النَّسائي للسيوطي (3/62).
                      [58]انظر زاد المعاد(1/217-21.
                      [59] انظر إصلاح المساجد(186-187).
                      [60] رواه البخاري(840)، ومسلم (33).
                      [61] رواه البخاري(480)، ومسلم(509).
                      [62] فتح الباري (4/50).
                      [63] شرح مسلم (4/226).
                      [64]مجموع الفتاوى (22/193).
                      [65] فتاوى الإمام السّعدي (ص 182).
                      [66] رواه مسلم (2179).
                      [67] مجموع فتاوى ابن تيمية(22/193).
                      [68] المنتقى للباجي (1/285)، وكشف المشكل من حديث الصحيحين (3/594).
                      [69] أخرجه مسلم (655).
                      [70] شرح مسلم(5/157).
                      [71] التمهيد (24/213).
                      [72] أخرجه ابن ماجه (734)، والطبراني في الأوسط (3842). وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/56)(251.
                      [73]انظر جامع الترمذي (1/279).
                      [74] أخرجه أبو داود في السنن (53، والطبراني في الكبير (13486)، والبيهقي في السنن الكبرى (1990) وإسناده حسن. انظر إرواء الغليل (1/254)(236).
                      [75] فتح الباري (5/425-426).
                      [76] فتح الباري (2/121).
                      [77] أعلام الموقعين (3/11.
                      [78] المنتقى للباجي (1/285)،
                      [79] البيان والتحصيل (17/105).
                      [80] الحاوي للفتاوي للسيوطي (1/3.
                      [81] انظر الهداية مع العناية (1/474).
                      [82]عَنْ عَائِشَةَ ڤ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
                      صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِذَا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَأْخُذْ عَلَى أَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْصَرِفْ)). أخرجه ابن حبان في الصحيح (223، والدارقطني في السنن (589). وهو صحيح. انظر التعليقات الحسان (4/87)(2235).
                      [83] المنتقى (1/285).
                      [84] الهداية في شرح بداية المبتدي (1/71).
                      [85] تبيين الحقائق (1/182).
                      [86] حديث صحيح أخرجه أحمد في المسند (11896) وغيرُه، ولفظه: ((إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَرْفَعَنَّ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقِرَاءَةِ)) .
                      [87]البياجر جمع بيجر، وهو: جهاز الكتروني للتَّنبيه صغير يسهل حمله ويستخدم لاستقبال الرّسائل قصيرة أو رقم الشَّخص الذي يحاول الاتصال بالجهاز، وكان استعماله بكثرة قبل انتشار الجوَّالات.

                      تعليق


                      • #12
                        رد: إرشادُ العابدِ السَّاجِد إلى بعضِ أحكامِ وآدابِ المساجِد

                        أحسن الله اليك اخي ونفع الله بك

                        تعليق

                        يعمل...
                        X