إعـــــــلان

تقليص
1 من 3 < >

تحميل التطبيق الرسمي لموسوعة الآجري

2 من 3 < >

الإبلاغ عن مشكلة في المنتدى

تساعدنا البلاغات الواردة من الأعضاء على منتدى الآجري في تحديد المشكلات وإصلاحها في حالة توقف شيء ما عن العمل بشكل صحيح.
ونحن نقدّر الوقت الذي تستغرقه لتزويدنا بالمعلومات عبر مراسلتنا على بريد الموقع ajurryadmin@gmail.com
3 من 3 < >

فهرسة جميع الشروح المتوفرة على شبكة الإمام الآجري [مبوبة على حسب الفنون] أدخل يا طالب العلم وانهل من مكتبتك العلمية

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه - وعلى آله ومن ولاه وبعد :

فرغبة منا في تيسير العلم واشاعته بين طلابه سعينا لتوفير جميع المتون وشروحها المهمة لتكوين طلبة العلم ، وقد قطعنا شوطا لابأس به في ذلك ولله الحمد والمنة وحده ، إلا أنه إلى الآن يعاني بعض الأعضاء والزوار من بعض الصعوبات في الوصول للشروح والمتون المرادة لتداخل الشروح أو لقلة الخبرة التقنية .

من أجل هذا وذاك جاء هذا الموضوع ليكون موضوعا مرجعا جامعا مرتبا بإذن الله لكل المواد العلمية الموضوعة حاليا في شبكتنا ومرتبا على حسب أبواب الفنون العلمية (العقيدة، الفقه، الحديث،...)وسنحاول أيضا ترتيبها على مستويات الطلب (المبتدئ ، المتوسط ، المنتهي) سيتم تحديثه تبعا بعد إضافة أي شرح جديد .

من هـــــــــــنا
شاهد أكثر
شاهد أقل

تيقظ وانتبه !! الدكتور / محمد بن سعيد رسلان - حفظه الله -

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • [خطبة جمعة] تيقظ وانتبه !! الدكتور / محمد بن سعيد رسلان - حفظه الله -



    خطبة الجمعة 19 من ذي القعدة 1433هـ الموافق 5-10-2012م


    الدكتور / محمد بن سعيد رسلان

    - حفظه الله -

    صوت mp3

    صوت rm

  • #2
    رد: تيقظ وانتبه !! الدكتور / محمد بن سعيد رسلان - حفظه الله -

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    تفريغ الخطبة:

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
    يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
    يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا.
    يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
    أما بعد

    فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، أما بعد
    فمن المعلوم المقرر أن العلم إنما يشرُف من أجل العمل به لأجل ما يحدثه في النفس والروح والضمير من أثر، وما ينعكس به على الحياة من سلوك وعمل، وكل علم لا يثمر عملا فهو حجة على العبد يوم القيامة، وبين العلم والعمل فجوة إن وُجدت لا تردم إلا بالنفاق، وإن مما تميز به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كونهم قرنوا بين العلم والعمل، فعن أبي عبد الرحمان السُلمي قال: "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عنهم أنهم تعلموا القرآن عشر آيات عشر آيات لا يتجاوزوهن حتى يفقهوهن ويعملوا بهن قالوا فتعلمنا العلم والعمل جميعا"، وهذه علامة فارقة بيننا وبين أصحاب نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم لم يتعلموا العلم للترف الفكري ولا للمتاع العقلي ولا ليُماروا به العلماء ولا ليُجاروا به السفهاء ولا ليرتفعوا به على أكتاف الخلق وإنما تعلموا العلم للعمل، وبهذا وأمثاله من الأصول النافعة والقواعد الجامعة كانوا سابقين بحيث لا يُدركون ولا يُلحقون، والعلم ما أورثك الخشية، وكل علم لم يورث خشية فليس بعلم في الحقيقة فالعلم ليس بكثرة الرواية والكتب وإنما العلم ما أفاد الخشية والعمل، وقد كان سلفنا رحمة الله عليهم أوعى الخلق بهذا الأمر وكانوا أعظم الناس تحققا به فكانوا سابقين بحيث لا يُدركون ولا يُلحقون.
    والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بيّن في أحاديث كثيرة خطورة هذا الأمر عند المخالفة وكيف أن الذي يعلم الناس العلم ولا يعمل به كالشمعة تضيء للناس وتحرق نفسها،
    وبيّن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عقاب من يأمر الناس بالمعروف ولا يأتمر به وخطورة شأن من ينهاهم عن المنكر ولا ينتهي عنه، ففي حديث الحبّ بن الحبّ رضوان الله عليه أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يُجاء بالرجل يوم القيامة في النار تندلق أقتابه يدور بها كما يدور الحمار برحاه حتى يُطيف به أهل النار فيقولون مالك ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه"، فجعل الله تبارك وتعالى عقابه في النار أن جمع عليه الخلق على هذه الصورة المزرية تندلق أقتابه من بطنه، والأقتاب جمع قِتب وهي المصارين تخرج من دبره يدور بها كما يدور الحمار برحاه حتى يجتمع عليه من شناعة منظره أهل النار فيسألون متعجبين هذا آمر الناس كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وكان فوقنا في ظاهر الأمر مرتبة إذ يأمرنا وينهانا فما الذي حطّه في هذا الدرك الهابط ونزل به إلى هذه المنزلة المتدنية، مالك يا فلان؟ يعرفهم ويعرفونه، يذكّرونه فيتذكر، ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ولا مجال للإنكار، بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه.
    إن مما قد عمّ شرّه وتطاير حتى غمر شرره فعمّ الأفاق ولم ينجو منه إلا من رحم الله جلا وعلا، فدخلت به الفتن الحالّة في شهورها المنصرمة على قلوب المسلمين، فزادت القلوب قساوة فوق قساوتها، وتحجرا فوق تحجّرها، وانهارت الأخلاق إلا لمما، وصار الناس في أمر مريج، فكم من منكر ما كان يألفه، وكم من معتاد ما كان ينكره، ولا يتلبث على رأس طريقه ليسأل نفسه إلى أين أسير، وإلى أين المصير، وهذا شأن الفتن إذا حلّت فعمّت فطمّت ثم استقرت في القلوب فقرّت، فإنها لا تدع منفذا إلا نفذت منه وتغلغلت فيه، حتى تستولي على القلب بشغافه وحتى يكون القلب كما قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "في غُلاف من النكد مُقيم"، فإن العبد إذا ارتكب الذنب نكتت في قلبه نكتة سوداء، فما تزال تلك النكت تزيد حتى يصير القلب أسود مربادّا كالكوز مُجخّيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أُشرِب من هواه. ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها ومن ثواب الحسنة الحسنة بعدها. فما أحوج المسلم في هذا الخضمّ الهائل من الفتن، وقد أحاطت به أمواهه، وعلت عليه جبال مائه، أن يتوقف وإنه لفي ظلماء مدْلهمّة إذا أخرج يده في الظلمات لم يكد يراها، ما أحوجه إلى أن يتلبّث قليلا، وأن ينظر في أطواء نفسه، وأن يتأمل في ذات أمره، حتى يعرف مبصرا أين طريقه، وهل اختلفت عليه الرياح الهوج فعمّت عليه سبيله وطمّت عليه طريقه فصار على غير سبيل سائرا على غير طريق، أم أنه مازال مهتديا بهدي ربه، متمسكا بسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ما هضم ما تتغير الأمور، فما كان ثابتا بالأمس يصير إلى التغيير، ثم ما يصير ثابتا مغيّرا يصير إلى تغيير بعد، والناس تتساقط رموزهم على الطريق، ولو أن الإنسان لا يتأمّل في أمره تأملا صحيحا ليتذكر ما قاله الإمام الشافعي وسلفنا الصالحون: "إياك والإقتداء بالأحياء من كان مقتديا فليقتدي بمن مات فإن الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة"، فإن الحي لا تُؤمن عليه الفتنة، اللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن إنك أنت الكريم المنان.
    من كان مقتديا فليقتدي بمن مات فإن الحي لا تُؤمن عليه الفتنة، إن التفاوت بين القوتين العملية والعلمية يؤدي إلى هذا الهرج الذي تراه في الحياة، وإلى هذه الفوضى التي عمّت الساحتين العلمية والعبادية، وكل ذلك بسبب التفاوت بين القوتين وسعادة المرء في التوازن بينهما، أن يوازن بين قوتيه العلمية والعملية، فمن زادت قوته العلمية على قوته العملية أصابه نفاق ورياء، ومن زادت قوته العملية على العلمية سار على غير طريق ووقع في الإبتداع، لأنه يعبد بغير علم، ومن عبد الله بغير علم فهو مبتدع، لأن العبادة ينبغي أن تكون على مقتضى الوارد كتابا وسنة، فالعبادة كما هو معلوم لا مجال فيها لرأي ولا مجال فيها لاجتهاد، العبادة مقننة مؤقتة مشروطة، من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ، أي فهو مردود عليه. فمن أدركته رياح السعادة، وهبّت عليه بسكونها، حتى يستقر القلب على قراره منّ الله تبارك وتعالى عليه بالتوازن بين قوتيه العلمية والعملية، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعلمنا العلم والعمل جميعا، فما تعلموا أمرا من أمور الدين إلا عملوا به، ولا فارق بين العلم والعمل بزمان رضوان الله عليهم أجمعين. في هذه الرياح الهوج التي هي بمهابّها تطوّح بالقلوب، وتطير بها كل صوب، وتتبع بها كل حد، في هذا الشأن ينبغي على المرء أن يتأمّل في حال قلبه وما أنذر علم القلوب، فإن الناس في غفلة، إلا من رحم ربي جلا وعلا، فأقبل على قلبه مفتشا، وفي أطواء ضميره منقبا، لينظر ما انطوى عليه قلبه، وما اشتمل عليه فؤاده، وليتأمل في حاله، أمُرض هو لربه بفعاله أم هو عابد لهواه.
    والنفس قد تكون أمّارة وتارة لوامة وتارة مطمئنة، بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل منها هذا وهذا، والحكم للغالب عليها من أحوالها، فكونها مطمئنة وصف مدح لها، وكونها أمّارة بالسوء وصف ذم لها، وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم بحسب ما تلوم عليه.
    مرض القلب باستيلاء النفس الأمّارة عليه له علاجان: محاسبتها ومخالفتها، على المرء أن ينظر في نفسه أمطمئنة هي ألوّامة أأمّارة بالسوء، في أيّ قسم نفسه قد استقرت، وهي لا تستقر في قسم أبدا، فتارة تكون مطمئنة وتارة تكون لوّامة وتارة تكون أمّارة بالسوء، ومرض القلب باستيلاء النفس الأمّارة عليه له علاجان: محاسبتها ومخالفتها، وهلاك القلب من إهمال محاسبتها وموافقتها واتباع هواها.
    وقد ذكر الإمام أحمد في الزهد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبو وزنوا أنفسكم قبل أن توزنو، فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية".
    وذكر أيضا عن الحسن قال: "لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه ما أردت بكلمتي ما أردت بأكلتي ما أردت بشربتي، والفاجر يمضي قدما لا يحاسب نفسه"، لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه، وأما الفاجر فيمضي قُدُما، إن الإنسان إذا أضاع نفسه وظلمها ضيّع حظّها من ربها.
    وعن الحسن: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همّته".
    وقال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقيا ختى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه"، ولهذا قيل النفس كالشريك الخوّان إن لم تحاسبه ذهب بمالك.
    وقال ميمون بن مهران أيضا: "التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان عاضّ ومن شريك شحيح".

    وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: "مكتوب في حكمة آل داود حق على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدُقونه عن نفسه، وساعة يُخلّي فيها بين نفسه وبين لذّاتها فيما يحلّ ويجبل فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات وإجماما للقلوب". أربع ساعات، وكل السائرين إلى الله مجمعون على أن مراقبة الله تعالى في الخواطر سبب لحفظها في حركات الظواهر فمن راقب الله في سره حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته.
    ومحاسبة النفس نوعان: نوع قبل العمل ونوع بعد العمل.
    ومحاسبة النفس واجبة، يجب عليك أن تحاسب نفسك.
    ومحاسبة النفس نوعان نوع قبل العمل ونوع بعد العمل. فأما النوع الأول فهو أن يقف عند أول همّه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه.
    قال الحسن رحمه الله: "رحم الله عبدا وقف عند همّه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر".
    وشرح بعضهم هذا فقال: إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهمّ به العبد وقف أولا ونظر، أذلك العمل مقدور له أو غير مقدور ولا مستطاع، فإن لم يكن مقدورا لم يقدم عليه، وإن كان مقدورا وقف وقفة أخرى ونظر، هل فعله خير له من تركه، أو تركه خير له من فعله، فإن كان الثاني تركه ولم يُقدم عليه، وإن كان الأول وقف وقفة ثالثة ونظر، هل الباعث عليه إرادة وجه الله عز وجل وثوابه، أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق، فإن كان الثاني لم يقدم عليه، وإن أفضى به إلى مطلوبه لألا يعتاد على الشرك ولألا يعوّد النفس عليها وحتى لا يخفّ على نفسه العمل لغير الله، فبقدر ما يخفّ عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تبارك وتعالى، بقدر ما يخفّ على النفس العمل لغير الله من إرادة الثناء والجاه والحظ عند غير الله بقدر ما يثقل عليها العمل لله حتى يصير أثقل شيء عليها، وإن كان الأول وقف وقفة أخرى ونظر هل هو معان عليه وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجا إلى ذلك أم لا، فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه، كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد في مكة، كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن القتال بمكة حتى صار له شوكة وأنصار، وإن وجده مُعانا عليه فليقدم عليه فإنه منصور، ولا يفوت النجاح إلا من فوات خصلة من هذه الخصال، وإلّا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح.
    ملخص ذلك، هذه أربعة مقامات يحتاج إلى محاسبة نفسه عليها قبل العمل، فاحفظ ذلك فإنه عزيز، وقلّ الإخفاق بل انتفى مع الإتيان بتلك المقامات، فما كل ما يريد العبد فعله يكون مقدورا له، ولا كل ما يكون مقدورا له يكون فعله خيرا له من تركه، ولا كل ما يكون فعله يكون خيرا من تركه يفعله لله، ولا كل ما يفعله لله يكون مُعانا عليه، فإذا حاسب نفسه على ذلك تبيّن له ما يُقدم عليه وما يُحجم عنه، فهذا هو النوع الأول من نوعي محاسبة النفس وهو محاسبة النفس قبل العمل.
    والنوع الثاني محاسبة النفس بعد العمل، ومحاسبة النفس بعد العمل ثلاثة أقسام، أحدها محاسبتها على طاعة قصّرت فيها من حق الله تعالى فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي.
    وحق الله في الطاعة ستة أمور: الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه ومتابعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيه، وشهود مشهد الإحسان فيه، وشهود منّة الله عليه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله، فيحاسب نفسه هل وفّى هذه المقامات حقها؟ وهل أتى بها في هذه الطاعة؟

    القسم الثاني، أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرا له من فعله.
    القسم الثالث، أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد لما فعله، وهل أراد به الله والدار الآخرة فيكون رابحا، أو أراد به الدنيا وعاجلها فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.

    فيحاسب المرء نفسه قبل العمل، ويحاسب المرء نفسه بعد العمل. المنافق يمضي قُدُما هكذا، لا حسيب ولا رقيب، لا يتوقف متمهلا متأنيا متفكرا ليفتش في قلبه وليُنقب في ضميره ولينظر في دوافعه حتى يحرر ويحقق النية، يمضي قُدما ولا ينوي على شيء ولا يلتفت إلى أمر. وأما المؤمن فيتوقف.
    وأنت خبير أنك يمكن أن تتعلم الحكمة من الضرير، لأنّ الضرير لا يمدّ قدمه حتى يضع عصاه، لا يضع قدمه حتى يضع عصاه، تعلّم الحكمة من الضرير، يجدّ على عصاه ولا يرفع قدمه ليضعها حتّى يضع عصاه، تبصّر تأمل متمهلا ناظرا في حال قلبك وسواء ضميرك، لا تكن كالهمج الرعاع، فقد ماجت بهم الدنيا، تعلو بهم موجة وتطفو بهم، وتنحطّ بهم أخرى وتسفل بهم، وهم لا يدرون لما ارتفعوا ولما انحطوا، وإنما هم سائرون.
    أضر شيء عليك الإستهانة والإهمال وترك المحاسبة والإسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها، هذا أضر ما على النفس، فإن هذا يؤول بالمرء إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور، يغمض عينيه عن العواقب ويُمشّي الحال، ويتكل على العفو فيُهمل محاسبة نفسه والنظر في عواقبها، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنس بها وعسُر عليه فطامها، ولو حضره رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد.
    قال بن أبي الدنيا: "حدثني رجل من قريش، ذُكر أنه من ولد طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: كان توبة بن الصِمّة بالرَقة، وكان محاسبا لنفسه، فحسب يوما فإذا هو بن ستين سنة فحسب أيامها أيام الستين فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ وقال يا ويلتا ألقى ربي بأحد وعشرين ألف ذنب، كيف وفي كل يوم آلاف من الذنوب، ثم خرّ مغشيا عليه فإذا هو ميّت فسمعوا قائلا يقول يا لك رقَدَة إلى الفردوس الأعلى"

    بخطوة واحدة، وجماع ذلك أن يحاسب نفسه أولا على الفرائض، فإن تذكر فيها نقصا تداركه إما بقضاء أو إصلاح، ثم يحاسبها على المناهي فإن عرف أنه ارتكب منها شيئا تداركه بالتوبة والإستغفار والحسنات الماحية، ثم يحاسب نفسه على الغفلة، فإن كان قد غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله، ثم يحاسبها بما تكلم به أو مشت إليه رجلاه أو بطشته يداه أو سمعته أذناه ماذا أردت بهذا ولمن فعلت وعلى أيّ وجه فعلت، ويعلم أنه لا بدّ أن يُنشر بكل حركة وكلمة منه ديوانان: ديوان لمن فعلته وديوان كيف فعلته، كل حركة منك وكل كلمة منك يُنشر لها ديوانان ديوان لمن فعلته وديوان كيف فعلته، فالأول سؤال عن الإخلاص، والثاني سؤال عن المتابعة.
    قال ربك جل وعلا: (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون)
    وقال جلا وعلا: (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ولنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين)
    ليسأل الصادقين عن صدقهم فإذا سئل الصادقون وحوسبوا على صدقهم فما الظن بالكاذبين؟
    ليسأل الصادقين عن صدقهم إذا سُئل الصادقون فماذا يُفعل بالكاذبين؟
    قال مقاتل يقول تعالى: "أخذنا ميثاقهم ليسأل الصادقين يعني النبيين عن تبليغ الرسالة"، وقال مجاهد: "يسأل المبلّغين المؤدين عن الرسل"، يعني هل بلغوا عنهم كما يُسأل الرسل هل بلغوا عن الله تعالى، والتحقيق أن الآية تتناول هذا وهذا، فالصادقون هم الرسل والمبلغون عنهم، فيُسأل الرسل عن تبليغ رسالات ربهم ويسأل الله تعالى المبلغين عن الرسل عن تبليغ ما بلغتهم الرسل ثم يسأل الذين بلغتهم الرسالة ماذا أجابوا المرسلين، كما قال جلا وعلا: (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين)، قال قتادة: "كلمتان يُسأل عنهما الأولون والآخرون، ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين"، فيُسأل عن المعبود وعن العبادة، وقال جل وعلا: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم)، قال محمد بن جرير رحمه الله: "يقول ثم ليسألنكم الله جل وعلا عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا ماذا عملتم فيه ومن أين وصلتم إليه؟ وفيما أنفتموه وماذا عملتم به؟"، وقال قتادة: "إن الله سائل كل عبد عما استودعه من نعمته وحظه".
    والنعيم المسئول عنه نوعان: نوع أُخذ من حلّه وصرف في حقه فيُسأل عن شكره، ونوع أخذ بغير حلّه وصرف في غير حقه قيُسأل عن مخرجه ومصرفه فإذا كان العبد مسئولا ومحاسبا عن كل شيء حتى على سمعه وبصره وقلبه، كما قال تعالى: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا، فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يُناقش الحساب.
    وقد دلّ على وجوب محاسبة النفس على وجوب محاسبة النفس هذا أمر واجب عليك، ليس تطوعا منك ولا نفلا ولا منّة، هذا أمر واجب عليك، إن لم تفعله فأنت مسئول عنه معاقب على التخلف عنه، دلّ على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد)، ينظر أحدكم ما قدّم ليوم القيامة من الأعمال، أمن الصالحات التي تنجيه أم السيئات التي توبقه؟ قال قتادة: "مازال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كالغد"، والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وأن فساد القلب بإهمال النفس والإسترسال معها.
    كان للغِربان في العصر مليك، وله في النخلة الكبرى أريك، فيه كرسي وخدر ومهود، لصغار الملك أصحاب العهود، جاءه يوما نُدور الخادم، وهو في الباب الأمين الحازم، قال -أي الخادم المسمى نُدور- قال: يا فرع الملوك الصالحين، أنت مازلت تحب الناصحين، سوسة كانت على القصر تدور، جالت القصر ودنت في الجذور، فابعث الغربان في اهلاكها قبل أن نهلك في أشراكها، ضحك السلطان من هذا المقال، ثم أدنى خادم الخير وقال: أنا رب الشوكة الضافي الجناح، أنا ذو المنقار غلاب الرياح، أنا لا أنظر في هذه الأمور، أنا أبصر تحتي يا نُدور، ثم لما كان عام بعد عام، قام بين الريح والنخل خصام، وإذا النخلة أقوى جذعها فبدا للريح سهلا خلعها، فهوت للأرض كالتل الكبير، وهوى الديوان وانقضّى السرير، فدهى السلطان ذا الخطب المهول، ودعا خادمه الغالي يقول: يا ندور الخير أسعف بالصياح، لا ترى ما فعلت فينا الرياح، قال يا مولاي لا تسأل ندور، أنا لا أنظر في هذه الأمور.. فتأمّل في عاقبة الإستهانة لما أهمل سوسة كانت على القصر تدور، والقصر هنا ماهو وتلك النخلة السامقة التي اتخذ ملك الغربان ديوانه بديوانه في أعلاها، ثمّ جاءت هذه فأهملت، وعاما بعد عام وقعت الفاجعة، تأمّل في كل ملك يزول، تجده من إهلاك تلك السوسة التي حول القصر تدور، فيُهملها من لا يقدّر عواقب الأمور، ثم يبكي دما ولات حين مندمي ولا يسعفه ندم بحال، لا تستهن إيّاك والإستهانة فإن خطبها عظيم، كن حازما وخذ الأمور من أوائلها، فأمسك بزمامها وصرّفها، ولا تدع زمامها بيد الهوى يصرّفها، فإنها بعد حين تشتد عليك، إذ تحيط بك فهي مهلكة للأبعد لما حالة، حاسب نفسك فمحاسبة النفس واجبة، فلا يندم المرء ولات ساعة مندم، أسأل الله جلّت قدرته وتقدست أسماؤه أن يمنّ علينا باليقظة بعد الغفلة وأن يهدينا إلى الصراط المستقيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو يتولى الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، أما بعد
    ففي محاسبة النفس مصالح، منها الإطلاع على عيوبها، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته، وإذا طلع على عيب النفس مقتها في ذات الرب جل وعلا.
    وقد روى الإمام أحمد في الزهد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا".
    وقال مطرّف بن عبد الله: "لولا ما أعلم من نفسي لقليْت الناس"،
    ففي الناس شر كبير إلا من رحم الخبير البصير، في الناس شر كبير ومهما قلّبتَ الناس خرج لك من وراء تقليبهم أمور، فلولا ما أعلم من نفسي وأنها أسوء وقد انطوت على الشر الكبير لقليْت الناس، لأن الانسان إذا لم يعلم حال نفسه وخبر حال غيره فوجد الشر بازغا، ووجد آفات النفوس حالّة فإنه يمقت غيره ولو علم نفسه لكان لها أشد مقتا، قال مطرّف في دعائه بعرفة: "اللهم لا تردّ الناس لأجلي"، فيرى نفسه بالموقف في عرفات أسوء الناس وأردء الناس وشر الناس فيقول اللهم لا ترد الناس لأجلي من باب هضم النفس والإزراء عليها والحط عليها لأن من ذاق طعم نفسه هلك، فالنفس كماء البحر لا يشبع وارده مهما شرب منه، فما يزال يعب من ماء البحر حتى تنقدّ معدته ولا ريّ ولا ارتواء، فاللهم لا تذقنا طعم أنفسنا يا رب العالمين.
    قال بكر بن عبد الله المزني: "لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم لولا أني كنت فيهم".
    وقال أيوب السختياني: "إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل".
    ولما احتضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب وحماد بن سلمة فقال له حماد: يا أبا عبد الله أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين، فقال: يا أبا سلمة أتطمع لمثلي أن أنجو من النار قال: إي والله إني لأرجو لك ذلك، أتطمع لمثلي أن أنجو من النار.

    عن مسلم بن سعيد الواسطي فيما ذكر بن كثير في البداية قال: "أخبرني حماد بن جعفر بن زيد أن أباه أخبره قال خرجنا في غزوة إلى كابول وفي الجيش صلت بن أشيم، فنزل الناس عند العتمة فصلوا ثم اضطجع، فقلت لأرمقن عمله، فالتمس غفلة الناس حتى إذا قلت هدأت العيون وثب فدخل غيضة قريبا منا فدخلت على إثره فتوضأ ثم قام يصلي، وجاء أسد حتى دنا منه فصعدت في شجرة فتراه إلتفت أو عده جروا، فلما سجد قلت الآن يفترسه الأسد، فجلس ثم سلم ثم قال: أيها السبع أطلب الرزق في مكان آخر فولى وإن له لزئيرا أقول تصدع الجبال منه، قال فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس فحمد الله تعالى بمحامد لم أسمع بمثلها، ثم قال اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي يصغر أن يجترئ أن يسألك الجنة قال ثم رجع وأصبح كأنه بات على الحشايا وأصبحت وبي من الفترة شيء الله به عالم"، وما بات قائما ولا من السبع مشفقا ولا له آمرا ولا هيا، وأما صلت فإنه لما أصبح كأنه ما بات على الحشايا وهو يعامل ربه ويفر بقلبه من مواطن الرياء والسمعة فينتظر حتى تهدأ العيون وتلتذ بالغمض أجفانها ثم يقوم يتوضأ خاليا بربه ومع ذلك كله وما منّ الله به عليه من حال فإنه يقول لما أصبح اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي يصغر أن يجترئ أن يسألك الجنة وأنت خبير أن الله إن أعاذه من النار وأجاره من النار وأدخله الجنة ونعم القرار، ولكنه يعرف نفسه وقدر ربه فيتأدب في الخطاب، فهذا أدب في الخطاب بغير زيادة ولا نقصان.
    قال يونس بن عبيد: "إني لأجد مئة خصلة من خصال الخير أي أعرفها ما أعلم عنها في نفسي منها واحدة".
    وقال محمد بن واسع: "لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجلس إلي"، إي والله لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجلس إلي ولكنه الستر اللهم أدم علينا سترك وعافيتك.
    قال أبو حفص: "من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع الأحوال ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أوقاتها كان مغرورا ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها"، فالنفس داعية إلى المهالك معينة على الأعداء طامحة لكل قبيح متبعة لكل سوء فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة، فالنعمة التي لا خطر لها الخروج منها والتخلص من رقها فإنها أعظم حجاب بين الله وبين العبد تعالى وأعرف الناس بها أشدهم إزراءا عليها ومقتا لها، ومقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين ويدنو العبد به من الله تعالى في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل، مقت النفس في ذات الرب جلا وعلا من صفات الصديقين وبمقت النفس في ذات الرب يدنو العبد من الله تعالى في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل.
    من لي بمثلك سيرك المدلل تمشي الهوين وتجي في الأول
    عن مالك بن دينار قال: "إن قوما من بني إسرائيل كانوا في مسجد لهم في يوم عيد فجاء شاب احتقم على باب المسجد فقال ليس مثلي يدخل معكم أنا صاحب الذنوب أنا صاحب الآثام يُزري على نفسه، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم إن فلانا صديق"، وأما من شمخ بأنفه وذاق طعم نفسه ومشى في الأرض تكبرا وتجبرا فيوشك أن يخسف الله رب العالمين به وهذا من أمقت الخلق إلى الله جل وعلا، لأن العز لله والعظمة لله والكبرياء لله والكبرَ لله وحده، فكل ذلك خاص بالله جل وعلا وحده، ومن نازع الله رب العالمين في شيء منه قصمه الله رب العالمين ولا يبالي.
    تيقظ.. فإن اليقظة هي أول مفاتيح الخير، فإن الغافل عن الإستعداد للقاء ربه والتزود لمعاده بمنزلة النائم بل أسوء حالا منه، فإن العاقل يعلم وعد الله ووعيده وما يتقاضاه أوامر الرب تعالى ونواهيه من الحقوق، لكن يحجبه عن حقيقة الإدراك ويقعده عن الإستدراك سِنة القلب وهي غفلته التي رقد فيها فطال رقاده، وركد وأخلد إلى نوازع الشهوات فاشتد إخلاده، وانغمس في غمار الشهوات، واستولت عليه العادات ومخالطة أهل الباطالات، ورضي بالتشبه بإهل إضاعة الأوقات، فهو في رقاده مع النائمين، وفي سكرته مع المخمورين، فمتى انكشف عن قلبه سِنة هذه الغفلة بزجرة من زواجر الحق في قلبه استجاب فيها لواعظ الله في قلب عبده المؤمن أو همة عالية أثارها مِعول الفكر في المَحَل القابل فضرب بمعول فكره وكبر تكبيرة أضاءت له ملء قصور الجنة فقال:
    ألا يا نفس ويحك ساعديني بسعي منك في ظلم الليالي
    لعلك في القيامة أن تفوزي بطيب العيش في تلك العلالي
    فأثارت تلك الفكرة نورا رأى في ضوئه ما خُلق له، وما سيلقاه بين يديه من حين الموت إلى دخول دار القرار، ورأى سرعة انقضاء الدنيا وعدم وفائها لبانيها، وقتلها لعشاقها وفعلها بهم أنواع المثلات، فنهض في ذلك الضوء على ساق عزمه قائلا يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، فاستقبل بقية عمره التي لا قيمة لها مستدركا بها ما فات محييا بها ما أمات مستقيلا بها ما تقدم له من العثرات، منتهزا فرصة الإمكان التي إن فاتت فاته جميع الخيرات، ثم يلحظ في نور تلك اليقظة وفور نعمة ربه عليه من حين استقر في الرحم إلى وقته وهو يتقلب فيها ظاهرا وباطنا، ليلا ونهارا، يقظة ومناما، سرا وعلانية، فلو اجتهد في إحصاء أنواعها لما قدر، ويكفي أن أدناها نعمة النفس، ولله عليه في كل يوم أربعة وعشرون ألف نعمة بأربعة وعشرين ألف نفس وكل نفس نعمة مستقلة لا يعلم حقها وقدرها إلا المصدور الذي يقاتل من أجل الهواء، فما ظنك بغير ذلك من النعم التي لا تحصى ولا تعد، ثم يرى في ضوء ذلك النور أنه آيس من حصرها وإحصائها، عاجز عن أداء حقها وأن المنعم بها إن طالبه بحقوقها استوعت جميع أعماله حق نعمة واحدة منه، فيتيقن حينئذ أنه لا مطمع له في النجاة إلا بعفو الله ورحمته وفضله، ثم يرى في ضوء تلك اليقظة أنه لو عمل أعمال الثقلين من البر لاحتقرها بالنسبة إلى جنب عظمة الرب جل وعلا ما يبلغ عملك وما يكون، فائدته راجعة إليك، وعائدته مردودة عليك، والله غني عنك وعنه وعن العالمين، لأن الله جل وعلا لا يمكن للعبد أن يعلم ما يستحقه لجلال وجهه وعظيم سلطانه، هذا لو كانت أعمالك منك فكيف وهي مجرد فضل الله ومنته وإحسانه حيث يسرها لك وأعانك عليها وهيأها لك وشائها منك ولو لم يفعل ذلك لم يكن له سبيل إلى تحصيل شيء من ذلك لولا ذلك لكان للعبد من سبيل إلى تحصيل شيء، فحينئذ لا يرى العبد أعماله منه بل يرى ربه سبحانه متفضلا عليه ممتنا بالإحسان منه، وأن هذا الإحسان من الله لا من النفس وأنه ليس للإنسان من نفسه إلا الشر وأسبابه، وما به من نعمة فمن الله وحده، صدقة تصدق بها عليه وفضلا منه ساقه إليه، من غير أن يستحقه بسبب ويستأهله بوسيلة، فيرى ربه ووليه ومعبوده أهلا لكل خير، ويرى نفسه أهلا لكل شر، وهذا أساس جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، وهو الذي يرفعها ويجعلها في ديوان أصحاب اليمين.
    ما أعظم الغفلة إن شئت أن تعلمها فراقب نفسك في خريطة يومك وتأمل محصيا على ذاتك غيبتك وكذبك، لقد صار طلاب العلم في هذا الزمان من صار شيوخهم إلا من رحم الله يتقربون إلى الله بالكذب وهذا أمر عجيب، وقد قال الشعبي قديما لما قال له أمير المؤمنين في مجلس حافل وقد سأله عن شيء لم يرُق له جوابه قال: كذبت قال: "أنا أكذب لا أب لك، والله لو ناد مناد بين السماء والأرض أن الكذب حلال ما كذبت"، فكيف وهو محرم في كل شريعة، محرم على لسان كل نبي ورسول، تنزيله محرم ومحرم في كل تنزيل، ومع ذلك فتجد الشيوخ في هذا العصر والأوان يتقربون إلى الله بالأكاذيب، فما يفعل طلاب العلم فقد عمت الفوضى الساحة وما هكذا يكون جيل النصر المنشود الذي يمتلك زمام مقاليد العالم، إن العالم لا يمتلك زمامه بيد الثلة الصالحة بالسياسة ولا بالكلام ولا بالتنظير وإنما بالنفوس الصالحة والأنفس المطمئنة والقلوب الزكية والأرواح المطمئنة، وهذا هو الجيل الذي نشأه الرسول وربّاه فملك العالم كله ودان العالم كله للا إله إلا الله، والنبي يقول عن وصف الفرقة الناجية "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، ما الذي كانوا عليه؟ تعلموا القرآن عشر آيات عشر آيات لا يجاوزوهن حتى يفقهوهن ويعملوا بهن، فتعلموا العلم والعمل جميعا، السلفيون يقولون الكتاب والسنة بفهم الصحابة هؤلاء هم الصحابة والفرقة الناجية من الفرق الثلاث والسبعين التي هي جميعها في النار إلا الفرقة الناجية، كلها في النار إلا واحدة قيل وما هي قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، هل كان يخالف بين العلم والعمل؟ هل كان أصحابه يفاوتون بين القوتين العلمية والعملية؟ فالحرص على الكم يوما دون الكيف ما التفتوا إليه. كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، وكانوا في بدر ثلة صالحة مؤمنة موحدة وكانوا في حنين كثرة كافرة وتفاوت ما بين النتيجتين بدءا ومنتهى، فتأمل فإن هذه الأمة لا يصلح آخرها إلا بما يصلح عليه أولها بالإيمان واليقين، بالعلم النافع والعمل الصالح.
    وأما طلاب العلم الذين تجاوزوا دائرة الهمج الرعاع تكاد في دائرة طلاب العلم وقفوا في حيْصة فلم يتجاوزوها إلى دائرة طلاب العلم الربانيين الذين لا يفاوتون ولو قيد أنملة بين العلم والعمل.
    وأما الألسنة المنفلتة وأما التحريش بين الشيوخ وأما بث الفتنة بين الربوع وأما التعبد بالأكاذيب وأما السرقة الصلعاء إلى غير ذلك مما يتورط فيه مما يعُدّ نفسه من خلاصة الخلاصة من الأمة فهيهات، هيهات هيهات.. ساء ما يعملون وساء ما يحكمون.
    يا طلاب العلم على منهاج النبوة ومنهج السلف يقول نبيكم في بيان منهاج النبوة صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" وهذا أصل مما كان عليه أصحابه أخبرنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن من أصحاب رسول الله أنهم تعلموا القرآن عشر آيات لا يجاوزوهن حتى يفقهوهن ويعملوا بهن، إنما تتعلم لتعمل، أما هذا الهرج الهارج وهذا العبث العابث فلا يزيدك من الله إلا بعدا.
    تيقظ إن قدمك إن زلت فلن تعود وإن انحرفت فلن تستقيم إلا أن يشاء ربي شيئا لأن الموغل في البعد يحرم عليه الدنو والقرب، فكيف بالمجانب المعاند المشاق، تب وأنب واستغفر وعد واقرن بين العلم والعمل، ودعك من بهارج الزينة ومشايخ السوء الذين خطوا للناس خطة الخس بالتعبد بالأكاذيب يكذبون لا يرعوون، والله إنه لينفر من كذبهم الكافر ذو المروءة لأن ذا المروءة ولو كان كافرا لا يقبل الكذب بحال، يكذب.. لو ناد مناد بين السماء والأرض أن الكذب حلال ما كذب المسلم فكيف يتعبد لله بالكذب، يا أخي إن الآفات قد عمّت فطمّت واستحوذت على القلوب وإني سائلك عن أمر وأجب أنت عنه بينك وبين ربك هل خلا مجلس لك من غيبة؟ بالله عليك أجب بينك وبين ربك، هل خلا مجلس لك من غيبة؟ والغيبة من كبائر الإثم وعظائم الذنوب، وهي من حقوق العباد بمعنى أنه مهما استغفر العبد وتاب وأناب فحق العبد لا بد من توفيته من قبل الرب يوم تنصب الموازين، فهل خلا مجلس لك أنت أنت من غيبة؟ من أنت؟ من تكون؟ ألا تفيق؟ ألا تترقب؟ ألا تستحي؟ اتق الله ربك والله تعالى يتولاك ويرعاك ويغفر لي ولك ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وماهو أعلم به منا وهو علام الغيوب وستير العيوب.
    ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    تعليق

    يعمل...
    X