إعـــــــلان

تقليص
1 من 3 < >

تحميل التطبيق الرسمي لموسوعة الآجري

2 من 3 < >

الإبلاغ عن مشكلة في المنتدى

تساعدنا البلاغات الواردة من الأعضاء على منتدى الآجري في تحديد المشكلات وإصلاحها في حالة توقف شيء ما عن العمل بشكل صحيح.
ونحن نقدّر الوقت الذي تستغرقه لتزويدنا بالمعلومات عبر مراسلتنا على بريد الموقع ajurryadmin@gmail.com
3 من 3 < >

فهرسة جميع الشروح المتوفرة على شبكة الإمام الآجري [مبوبة على حسب الفنون] أدخل يا طالب العلم وانهل من مكتبتك العلمية

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه - وعلى آله ومن ولاه وبعد :

فرغبة منا في تيسير العلم واشاعته بين طلابه سعينا لتوفير جميع المتون وشروحها المهمة لتكوين طلبة العلم ، وقد قطعنا شوطا لابأس به في ذلك ولله الحمد والمنة وحده ، إلا أنه إلى الآن يعاني بعض الأعضاء والزوار من بعض الصعوبات في الوصول للشروح والمتون المرادة لتداخل الشروح أو لقلة الخبرة التقنية .

من أجل هذا وذاك جاء هذا الموضوع ليكون موضوعا مرجعا جامعا مرتبا بإذن الله لكل المواد العلمية الموضوعة حاليا في شبكتنا ومرتبا على حسب أبواب الفنون العلمية (العقيدة، الفقه، الحديث،...)وسنحاول أيضا ترتيبها على مستويات الطلب (المبتدئ ، المتوسط ، المنتهي) سيتم تحديثه تبعا بعد إضافة أي شرح جديد .

من هـــــــــــنا
شاهد أكثر
شاهد أقل

نبذة ... عن تاريخ تقديم العقل على النقل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • نبذة ... عن تاريخ تقديم العقل على النقل

    مقدمة
    الجهمية ومؤسسيها ونشأتها وأفكارها
    المعتزلة ومؤسسيها ونشأتها وأفكارها
    المتفرع منهما
    خاتمة

    مقدمة
    ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، فمن يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادى له، وأشهد أن لا اله الا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، اللهم صل على محمد وآله وصحبه كما صليت على ابراهيم وآله انك حميد مجيد ، وبارك على محمد وآله وصحبه كما باركت على ابراهيم وآله انك حميد مجيد،أما بعد،
    فأن أصدق الكلام كلام الله عز وجل ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار ،
    ثم أما بعد ،

    العقل مطية النقل، والنقل هو كلام رب العالمين سبحانه وتعالى بحرف وصوت متلو ومكتوب فى صحافنا بمداد ونقل الينا بالتواتر، أنزله رب العزة وكلم به جبريل عليه السلام فبلغه لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكذا النقل أقوال وأفعال وتقريرات الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، فالقرآن مجمل والسنة مفصلة وقاصمة، هذا وحول نبينا صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام رضى الله عنهم أجمعين، قالنقل بفهم السلف الصالح ففهمهم عصمة للأمة، وهم أهل البلاغة والفصاحة والنجابة، وتابعهم من كان لسنته وهدى الخلفاء الراشدين مهديا بهم ، وعقول السلف كانت لتصديق الخبر وتنفيذ الأمر ممتثلين طائعين، لله مخلصين خاضعين متذللين محبين، وكانت للتدبر والتأمل فأعملوا العقل حيث أمرهم الشرع وبين لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم،
    فكانت العقيدة نقية صافية فهى كالمحجة البيضاء ليلها كنهارها،
    ثم جدت أمور وأحوال لظهور بعض الحاقدين وأشعلوا الفتن وألقوا شبه مثل عبد الله بن سبأ ذلك اليهودى،
    فكانت هناك أمور لسوء الفهم مع حسن النية، وكذلك اجتهادات، وحدث ماحدث من مقتل عثمان من الغوغائية الذين جهلوا فحركتهم الفتنة، وعثمان رضى الله عنه صبر على بلوى أصابته، حتى ينال الجنة وحتى يقمع الفتنة، ثم خرج من خرج على على لسوء الفهم، ثم اله على ، وجاءت موقعتى الجمل وصفين، وغيره من أمور الا أن العقيدة النقية على حالها، والتى توالت من أحداث أمرها الى الله وحكمها له، كل هذا ونحن لازلنا فى الخيرية والعقيدة النقية،
    حتى بدأ يظهر أمر الحاقدين الذين لايألون جهدا فى التتدبير لأهل الاسلام،
    فأصلهم لقديم من الزمن فاليهود بأحقادهم منهم لبيد بن الأعصم وماكان منه من سحر للنبى صلى الله عليه وسلم، وكما روى البخارى فى صحيحه فى كتاب بدء الخلق: ‏حدثنا ‏ ‏إبراهيم بن موسى ‏ ‏أخبرنا ‏ ‏عيسى ‏ ‏عن ‏ ‏هشام ‏ ‏عن ‏ ‏أبيه ‏ ‏عن ‏ ‏عائشة ‏ ‏رضي الله عنها ‏ ‏قالت ‏ سحر ‏ ‏النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ وقال ‏ ‏الليث ‏ ‏كتب إلي ‏ ‏هشام ‏ ‏أنه سمعه ووعاه عن ‏ ‏أبيه ‏ ‏عن ‏ ‏عائشة ‏ ‏قالت ‏ ‏سحر ‏ ‏النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله حتى كان ذات يوم دعا ودعا ثم قال أشعرت أن الله أفتاني فيما فيه شفائي أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما للآخر ما وجع الرجل قال ‏ ‏مطبوب ‏ ‏قال ومن ‏ ‏طبه قال ‏ ‏لبيد بن الأعصم ‏ ‏قال فيما ذا قال في مشط ‏ ‏ومشاقة ‏ ‏وجف ‏ ‏طلعة ‏ ‏ذكر قال فأين هو قال في ‏ ‏بئر ذروان ‏ ‏فخرج إليها النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏ثم رجع فقال ‏ ‏لعائشة ‏ ‏حين رجع نخلها كأنه رءوس الشياطين فقلت استخرجته فقال لا أما أنا فقد شفاني الله وخشيت أن يثير ذلك على الناس شرا ثم دفنت البئر .

    ثم أخذ منه أبن أخته طالوت الذى بدوره علم تلميذه ابان بن سمعان الذى خرج علي يديه والذى سمع لخلاصة شبه اليهود واعمال العقل فى كل الأمور
    خرج الجعد بن درهم،

    وعلى ذلك فإن الصراع بين الحق والباطل قائم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فأهل الباطل يسعون قديماً وحديثاً لطمس نور الحق الذي أنزله الله لعباده، ولكن الله عز وجل حفظ هذا النور لتقوم الحجة على العباد
    وقد قال عز من قائل {وَمَنْ أَظْلَم مِمّن افْتَرَىْ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَهُو يُدْعَى إِلَى الإسْلامِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالمِين يُرِيْدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِم وَاللهُ مُتمّ نُورِه وَلَو كَرِه الكَافِرُون هُوَ الذِي أَرْسَلَ رَسُوْلَهُ بِالهُدَى وَدِيْنِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُوْنَ} الآيات 7-8-9 من سورة الصف.
    فهذه الآيات جسدت حقيقة الصراع القائم وأوضحت وكشفت بجلاء عن محاولات أهل الباطل لصد الناس عن الحق وسعيهم الحثيث في إطفاء نوره.
    ومن بين حلقات الصراع الدائر بين أهل الحق وخصومهم ما يتعلق بأهم مسائل الدين وقضاياه ألا وهي مسألة الإيمان بالله عز وجل.
    فقد سعى أعداء هذا الدين من اليهود والمجوس والمشركين في طمس الحقائق الشرعية التي وردت بها النصوص، وأخذ ذلك السعي أنماطاً مختلفة ومن بين تلك الأنماط والأشكال ما يسمى عند أهل العلم بمقالة التعطيل التي أخذ أصحابها الأوائل على عاتقهم الكيد والدس والكذب والافتراء على الله في هذا الأصل العظيم من أصول هذا الدين ، وقصدهم في ذلك حجب العباد عن المعرفة الصحيحة بالله عز وجل التي جاءت بها نصوص الوحي.

    الجهمية ومؤسسيها ونشأتها وأفكارها

    وتعد مقالة التعطيل من أكثر المقالات خطورة نظراً لأبعادها الخطيرة التي تشكلها على الإسلام وأهله:
    فالبعد الأول الذي يدلل على خطورة هذه المقالة كونها تمس أعظم جوانب هذا الدين وأكبر مسائله ألا وهو الإيمان بالله عز وجل الذي هو أول أركان الإيمان وأعظم مبانيه.
    فأصحاب هذه المقالة الأوائل سعوا في صد الناس عن هذا الدين من طريق الوقوف على بابه الذي يدخل منه، ذلك لأن من عرف الله عرف ما سواه، ومن جهل ربه فهو لما سواه أجهل. فأرادوا بتعطيلهم لأسماء الله وصفاته قطع الطريق من أوله.
    ولله در سليمان التيمي (143هـ) إذ قال: "ليس قوم أشد نقضاً للإسلام من الجهمية والقدرية، وأما الجهمية فقد بارزوا الله؛ وأما القدرية فقد قالوا في الله عز وجل"
    وأما البعد الثاني في خطورة هذه المقالة فهو كونها أول مقالة تعارض الوحي بالعقل، فلم تكن المقالات السابقة لهذه المقالة تطعن في الدين من هذا الجانب، فالخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة عند ظهورهم لم يدع أحد منهم أن عنده عقليات تعارض النصوص، وإنما أتوا من سوء الفهم للنصوص والاستبداد بما ظهر لهم منها دون من قبلهم، فكانوا ينتحلون النصوص ويستدلون بها على قولهم، ولا يدعون أنهم عندهم عقليات تعارض النصوص.
    فأصحاب مقالة التعطيل هم الذين فتحوا هذا الباب العظيم من أبواب الشر إذ طعنوا في نصوص الوحي وقدموا شبههم العقلية عليها.
    وأما البعد الثالث لهذه المقالة فهو ما أفرزته هذه المقالة من الفرق والآراء المنحرفة، فقد تولد عن هذه المقالة أنماط مختلفة وطروحات غريبة عن جوهر الإسلام وصفائه.
    و ضربت هذه المقالة أطنابها في الفكر الإسلامي، ولا يتصور مدى الضرر الذي الحقته بحياة المسلمين وعقيدتهم.
    فالتيار الفلسفي والكلامي بتفرعاته ومدارسه وطوائفه إنما هو نتاج هذه المقالة الخبيثة التي تولى كبر إظهارها شيخ المعطلة النفاة الجعد بن درهم، وتبعه في ذلك تلميذه الجهم بن صفوان ثم توالت طوائف الباطل تذكى نار هذه المقالة وتنفث من خلالها سمومها إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه.
    اسمه ونسبه
    لم تذكر المصادر والمراجع التي وقفت عليها إلا اسمه واسم أبيه فقط فهو "الجعد بن درهم"
    وأشارت المصادر إلى أنه من الموالي وليس من العرب ولعل في كونه من الموالي ما يبرر اقتصار نسبه على اسمه واسم أبيه، فالعجم في الغالب لم تكن لهم عناية بحفظ أنسابهم بخلاف ما كان عليه الحال عند العرب.
    وقد اختلف في ولائه لأي قبائل العرب:
    فقال السمعاني والزبيدي وابن الأثير: (الجعد بن درهم مولى سويد بن غفلة)
    وقال ابن كثير (ويقال إنه من موالي بني مروان)
    وكذا قال الثعالبي نسبه إلى مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، أحد خلفاء بني أمية. وقال ابن نباتة (هو مولى بني الحكم) نسبة إلى الحكم بن أبي العاص بن أمية القرشي.
    وهذه الأقوال متضاربة فالسمعاني والزبيدي وابن الأثير جزموا بولائه لسويد بن غفلة بن عوسجة الجعفي. والجعفي: بطن من سعد العشيرة، من القحطانية وهذا يتعارض مع ما ذكره ابن كثير ولم يجزم به والثعالبي حيث قالا: (ويقال إنه من بني مروان) وكذا قول ابن نباتة إنه مولى بني الحكم.
    ولعل الصواب الذي يترجح عندي ما ذكره السمعاني والزبيدي وابن الأثير، فهم أدرى بهذا الجانب وعنايتهم به أكبر وقد جزموا بنسبته إلى سويد بن غفلة.
    ويساورني الشك أن هناك تصحيفاً في كلام ابن كثير في البداية، عند قوله: (بني مروان) فلعل الصواب (بني مران) بدون واو، ولو كان الأمر كذلك فإن الأقوال تجتمع (فبنوا مران) بطن من جعفي، من سعد العشيرة والله أعلم بالصواب
    أصول الجعد
    هناك معلومة ذكرها ابن نباتة إن صحت فإن فيها إشارة إلى أصول الجعد العرقية التي يرجع إليها.
    قال ابن نباتة: (ويروى أن أم مروان كانت أمة، وكان الجعد أخاها) فهذه المعلومة إن ثبتت فإنها تفيد أن الجعد يرجع في نسبه إلى أصول كردية. لأن أم مروان بن محمد كانت أم ولد كردية كما ذكر ذلك غير واحد من المؤرخين.
    قال الطبري وابن الأثير في ترجمة مروان بن محمد: (وكانت أمه أم ولد كردية، كانت لإبراهيم ابن الأشتر أخذها محمد بن مروان يوم قتل إبراهيم فولدت مروان)
    وقال ابن كثير: (وأمه أمة كردية يقال لها لبابة، وكانت لإبراهيم ابن الأشتر النخعي، أخذها محمد بن مروان يوم قتله، فاستولدها مروان هذا، ويقال إنها كانت لمصعب بن الزبير) وقال البلاذري: (وأمه كردية أخذها أبوه من عسكر ابن الأشتر، فيقال إنه أخذها وبها حَبَل فولدت مروان على فراشه)
    وقال القلقشندي: (وأمه لبابة جارية إبراهيم بن الأشتر وكانت كردية)
    ولكن ابن كثير يرى أن الجعد بن درهم يرجع إلى أصول فارسية حيث قال: "وأصله من خراسان" دون أن يذكر اسم المدينة التي ينتسب إليها. ويدعم هذا الرأي حادثة وقعت للجعد انتصر فيها لفارسيته.
    قال ابن الأثير: (وقيل إن الجعد كان زنديقاً وعظه ميمون بن مهران (117هـ). فقال: "لشاة قباذ" أحب إلى مما تدين له) فكلمة "شاة قباذ" كلمة فارسية فـ"شاة": معناها "ملك" و"قُباذ": ملك من ملوك الفرس وهو قباذ بن فيروز والد كسرى أنوشروان.
    معنى كلامه للملك قباذ أحب إلى من دين الإسلام. وفي هذا انتصار واضح للمجوسية الفارسية.
    وعلى كل حال فإن الرجل ثبتت أعجميته، وعلى القول بأن أصول الجعد فارسية، فإن ذلك يدعم مقولة ابن حزم التي يقول فيها: (الأصل في أكثر خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام أن الفرس كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم وجلالة الخطر في أنفسهم، حتى إنهم يسمون أنفسهم الأحرار والأبناء، وكانوا يعدون سائر الناس عبيداً لهم؛ فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكانت العرب أقل الأمم عند الفرس خطراً، تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، ففي كل ذلك يظهر الله سبحانه وتعالى الحق، فرأوا أن كيده على الحيلة أنجح، فأظهر قوم منهم الإسلام) وبلا شك أن الإسلام وأهله كانوا في تلك العصور في عزة ومنعة وتمكين، ولم يكن يجترئ كافر ولا منافق متعوذ بالإسلام من أبناء اليهود والنصارى وأنباط العراق أن يظهر ما في نفسه من الكفر وإنكار النبوة، فرقاً من السيف، وتخوفاً من الافتضاح. بل كانوا يتقلبون مع المسلمين بغم ويعيشون فيهم على رغم.
    ولو استقرينا أهل البدع لوجدنا أكثرهم من العجم فالجهم بن صفوان خليفة الجعد ووارث بدعته من العجم، وكذا غيلان الدمشقي وهو من أوائل من تكلم في القدر كان من العجم، وكذا واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وغيرهم. وليس هذا غضاً من شأن العجم، ولكن أهل البدع منهم قد اجتمع فيهم الحقد على الإسلام وأهله، وجهلهم بهذا الدين ولغته التي نزل فيها، وقلة علمهم.
    يتبع

  • #2
    تابع: نبذة ... عن تاريخ تقديم العقل على النقل

    تابع: نبذة ... عن تاريخ تقديم العقل على النقل
    ومما يؤكد ذلك أن عمرو بن عبيد المعتزلي جاء إلى أبي عمرو بن العلاء يناظر في وجوب عذاب الفاسق، فقال له: يا أبا عمرو الله يخلف وعده؟ فقال: لن يخلف الله وعده، فقال عمرو: فقد قال، وذكر آية وعيد، فقال عمرو: من العجمة أتيت، الوعد غير الإيعاد ثم أنشد:
    وإني وإن أوعدْتُه أو وعدْتُه
    لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
    فأمثال هؤلاء لم يفهموا القرآن والسنة فهماً صحيحاً ولهذا لما سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة وكتابها واحد؟ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين: إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيما أنزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن ولا يدرون فيما نزل فيكون لكل قوم فيه رأي فإذا كان كذلك اختلفوا) ( الأعتصام 2/183 )

    مولده وموطنه
    ا- مولده:
    لم تسعفنا كتب التاريخ والتراجم والمقالات بشيء عن تاريخ ولادته، وليس ذلك بمستغرب، فالرجل ضال مبتدع، ولولا ما ابتدعه ما اشتهر وما عرف، إضافة إلى أن العناية بهذا الجانب تعد ضعيفة إلى حد كبير في تراجم السابقين، والجعد لم يعط عناية بتاريخ قتله فضلاً عن أن يعطى عناية بتاريخ مولده.
    ب- موطنه:
    إن مما لا شك فيه أن للبيئة التي ينشأ فيها الإنسان أثرها البالغ في حياته سلباً وإيجاباً، فالإنسان مدني بطبعه يتأثر بمن حوله، ويؤثر على من حوله، فإذا وجد الإنسان البيئة الصحيحة السليمة ساعد ذلك في تنشئته التنشئة السليمة، وإعداده الإعداد الجيد، وبنائه البناء السليم.
    وإذا كان الأمر على العكس من ذلك، بحيث ينشأ المرء في بيئة منحرفة متلوثة بالأفكار الفاسدة، فإن ذلك ينعكس سلباً على الشخص الذي ينشأ في هذه البيئة، فقد يتشرب تلك الأفكار ويعتقدها ويكون من حملة لوائها.
    والجعد بن درهم من هذا الصنف الثاني، فبيئته التي نشأ فيها ساعدت على حمله لأفكار الضلال وتشربه لها.
    أما من حيث المنطقة فهو ينسب إلى الجزيرة الفراتية وفي ذلك يقول الهروي: (فأما الجعد فكان جزري الأصل) وهذه النسبة إلى الجزيرة وهي بلاد بين دجلة والفرات وإنما قيل لها جزيرة لهذا وفيها عدة بلاد منها الموصل، وحران، والرقة، وغيرها.
    أما عن موطنه وبلده:
    فالجعد بن درهم فيما قيل من أهل "حران" كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (قال الإمام أحمد: وكان يقال إنه [أي الجعد] من أهل حران)
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكان الجعد بن درهم هذا فيما قيل من أهل حران)
    وقال ابن عساكر: (وقيل إنه كان من أهل حران)
    وقال الذهبي: (وأصله من حران)
    وحران مدينة تقع بالجزيرة الفراتية من أرض العراق ولا يتعارض هذا القول مع ما ذكره ابن كثير في تاريخه حيث قال: (قال غير واحد من الأئمة كان الجعد بن درهم من أهل الشام)
    فالجعد بن درهم حراني المولد والنشأة، وكان يسكن الجزيرة الفراتية في أول أمره، وعمل في تلك الفترة معلماً ومؤدباً لمروان بن محمد لما كان والياً على الجزيرة أيام هشام بن عبد الملك ثم انتقل بعد ذلك إلى دمشق وسكن فيها ثم هرب من دمشق إلى الكوفة.
    وإذا كان الجعد قد نشأ بحران وتعلم فيها، فإن حران كانت دار الصابئة المشركين، وفيها خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين نمرود والكنعانيين المشركين، وكانت الصابئة إلا قليلاً منهم إذ ذاك على الشرك، وعلماؤهم هم الفلاسفة وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل وكان بها هيكل "العلة الأولى" هيكل "العقل الأول" هيكل "النفس الكلية" هيكل "زحل" هيكل "المشترى" هيكل "المريخ" هيكل "الشمس" وكذلك "الزهرة" و"عطارد" و "القمر".
    وكان هذا دينهم قبل ظهور النصرانية فيهم، ثم ظهرت النصرانية فيهم مع بقاء أولئك الصابئة المشركين حتى جاء الإسلام. ولم يزل بها الصابئة والفلاسفة في دولة الإسلام إلى آخر وقت، ولذا لما قدم الفارابي حران في أثناء المائة الرابعة دخل عليهم، وتعلم منهم، وأخذ عنهم ما أخذ من الفلسفة.
    فيكون الجعد قد أخذ مقالته عن هؤلاء الصابئة الفلاسفة الذين يقولون: إنه ليس للرب إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منهما.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (قال الإمام أحمد: وكان يقال إنه [أي الجعد] من أهل حران، وعنه أخذ الجهم بن صفوان مذهب نفاة الصفات وكان بحران أئمة هؤلاء الصابئة الفلاسفة، بقايا أهل هذا الدين أهل الشرك ونفي الصفات والأفعال ولهم مصنفات في دعوة الكواكب)
    تشير بعض المصادر إلى أن الجعد كان في بدء أمره يسكن الجزيرة الفراتية من أرض العراق وفيها بدء نشر فكره الضال المنحرف.
    قال السمعاني: (الجعد بن درهم مولى سويد بن غفلة وقع إلى الجزيرة وأخذ برأيه جماعة، وكان الوالي بها إذ ذاك مروان بن محمد)
    وقال ابن الأثير: (مذهب الجعد بن درهم مولى سويد بن غفلة، صار إلى الجزيرة، وأخذ برأيه جماعة، وكان الوالي حينئذ مروان بن محمد الحمار وإليه ينسب مروان فيقال الجعدي)
    وقال الزبيدي: (الجعد بن درهم مولى سويد بن غفلة صاحب رأي أخذ به جماعة بالجزيرة)
    ومن أشهر من تأثر بفكر الجعد في هذه الفترة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ولهذا يقال له مروان الجعدي، فنسب إليه إذ أن الجعد هو شيخه وأستاذه، فالجعد كان مؤدباً لمروان بن محمد في الفترة التي كان فيها مروان والياً لهشام بن عبد الملك على الجزيرة من أرض العراق فتعلم مروان من الجعد، وكان يقال له مروان الحمار،
    مذهبه في القول بخلق القرآن، والقدر وغير ذلك، وكان الناس يذمون مروان لنسبته إليه وقيل: إنه كان مؤدبا له في صغره فقد كان مولد مروان بالجزيرة في سنة اثنتين وسبعين للهجرة وذكر أنه كان مؤدباً له ولولده.
    وبسبب مروان بن محمد انتشر فكر الجعد في الجزيرة الفراتية قال ابن القيم: (وإنما نفق عند الناس لأنه كان معلم مروان بن محمد وشيخه، ولهذا يسمى مروان الجعدي).
    وانتقل الجعد بعد ذلك من الجزيرة إلى دمشق، وسكنها وهي يوم ذلك عاصمة الخلافة، وحاضرة العلم والعلماء، ولعل المبرر في انتقاله إليها: محاولته لبث فكره المنحرف الضال على نطاق أوسع، لما تمثله دمشق في ذلك الوقت من كونها دار الخلافة ومركز الحضارة والعلم، وملتقى العلماء وطلاب العلم.
    ويظهر هذا القصد جلياً في إظهار الجعد لبدعته، ومحاولته لطرحها في مجالس العلماء، ومجادلتهم في ذلك، كما هي حال أمثاله من المبتدعة الزنادقة الذين يستخدمون مثل هذه الأساليب في نشر فكرهم المنحرف.
    قال ابن كثير: (سكن الجعد دمشق، وكانت له بها دار بالقرب من القلاسيين إلى جانب الكنيسة)
    وقال ابن عساكر: (كان يسكن دمشق، وله بها دار)
    وقال ابن كثير: (وذكر أنه كان يتردد إلى وهب بن منبه، وأنه كلما راح إلى وهب يغتسل ويقول: أجمع للعقل، وكان يسأل وهباً عن صفات الله عز وجل؛ فقال له وهب يوماً: ويلك يا جعد اقصر المسألة عن ذلك، إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يداً ما قلنا ذلك، وأن له عيناً ما قلنا ذلك، وأن له نفساً ما قلنا ذلك وأن له سمعاً ما قلنا ذلك، وذكر الصفات من العلم والكلام وغير ذلك)
    وقال عبد الصمد بن معقل: قال الجعد بن درهم: ما كلمت عالماً قط إلا غضب وحل حبوته غير وهب.
    وقد كان لمناظرات الجعد ومجادلاته مع العلماء أثرها العكسي عليه، فلم تحقق ما يصبو إليه من أهداف كزرع الشبه وزعزعة المعتقد وإحداث البلبلة في فكر المسلمين. بل على العكس من ذلك فقد ساعدت تلك المناظرات على كشفه وفضح مقاصده وبيان فساد معتقده ورفع أمره إلى ولي الأمر وخليفة المسلمين هشام بن عبد الملك المعروف بمواقفه من المبتدعة.
    ويروي لنا ابن الأثير سبب اكتشاف أمر الجعد وسبب طلب هشام له والقبض عليه فيقول: (وقيل إن الجعد كان زنديقاً، وعظه ميمون بن مهران
    فقال: لشاه قباذ أحب إلي مما تدين به.
    فقال له: قتلك الله، وهو قاتلك، وشهد عليه ميمون وطلبه هشام وسيره إلى خالد القسري فقتله) فهذا النص التاريخي يوضح أن الفضل في كشف أمر الجعد ورفع أمره يعود لميمون بن مهران الذي وعظ الجعد في بداية الأمر فلما رأى أن الموعظة لا تنفع شهد عليه؛ فطلبه هشام بن عبد الملك، وقد اختلفت الروايات التاريخية في طريقة إخراج الجعد من دمشق:
    فقال ابن الأثير: (وقيل إن الجعد بن درهم أظهر مقالته بخلق القرآن أيام هشام بن عبد الملك، فأخذه هشام وأرسله إلى خالد القسري وهو أمير العراق، وأمره بقتله، فحبسه خالد ولم يقتله، فبلغ الخبر هشاماً، فكتب إلى خالد يلومه ويعزم عليه أن يقتله)
    ويروي ابن عساكر وابن كثير رواية تختلف عن رواية ابن الأثير فيقول ابن عساكر: (كان الجعد أول من أظهر القول بخلق القرآن في أمة محمد فطلبه بنو أمية فهرب من دمشق وسكن الكوفة، ومنه تعلم الجهم بن صفوان بالكوفة خلق القرآن)
    وقال ابن كثير: (وأما الجعد فإنه أقام بدمشق حتى أظهر القول بخلق القرآن، فتطلبه بنو أمية فهرب منهم، فسكن الكوفة فلقيه فيها الجهم بن صفوان فتقلد هذا القول منه)
    ويروى أبو محمد اليمني رواية ثالثة في قصة إخراج الجعد من دمشق فيقول: (فبان له [أي هشام بن عبد الملك] بعض زندقته فنفاه إلى البصرة وكان عليها إذ ذاك خالد بن عبد الله القسري فرفع إليه خبره في يوم الأضحى) وذكر قصة ذبحه. والراويات التاريخية تذكر أن للجعد نشاطاً بالبصرة وبالكوفة، فممن أشار إلى نشر الجعد لبدعته بالبصرة الدارمي حيث قال: (كان أول من أظهر شيئاً منه [أي التكذيب بكلام الله] بعد كفار قريش الجعد بن درهم بالبصرة، وجهم بخراسان إقتداءاً بكفار قريش، فقتل الله جهماً شر قتلة. وأما الجعد فأخذه خالد بن عبد الله القسري، فذبحه ذبحاً بواسط يوم الأضحى، على رؤوس من شهد العيد معه من المسلمين، ولا يعيبه به عائب، ولا يطعن عليه طاعن بل استحسنوا ذلك من فعله، وصوبوه من رأيه) فالشاهد قوله إنه "أظهره بالبصرة".
    وأما عن نشاطه في الكوفة فقد تقدم قول ابن كثير: (فهرب من دمشق وسكن الكوفة ومنه تعلم الجهم بالكوفة خلق القرآن.)
    فالذي يستنتج من تلك الروايات أن الجعد كان يتردد بين الكوفة والبصرة، لكن تبقى مسألة نفيه محل النظر فمثل هذه المسألة لا يكون حلها بالنفي، إلا أن يكون المقصود بالنفي السجن، وبالتالي إذا كان هذا هو المراد فإن هذه الرواية تتفق مع رواية ابن الأثير.
    ويستنتج من الأخبار السابقة الأمور التالية:
    1-أن بدعة الجعد ظهرت بوادرها في الجزيرة الفراتية من أرض العراق، ثم أظهرها الجعد بدمشق لما انتقل إليها وسكن فيها، فطلبه بنو أمية لما علموا بأمره، فهرب منها إلى الكوفة فلقيه فيها الجهم بن صفوان فتقلد هذا القول عنه.
    2-أن زمن ظهور بدعة الجعد كان في أيام خلافة هشام بن عبد الملك الذي تولى الخلافة في الفترة ما بين 105-125هـ.

    يتبع

    تعليق


    • #3
      3-أن الفضل في الإنكار على الجعد والأمر بقتله يعود في المقام الأول إلى هشام بن عبد الملك، وليس لخالد بن عبد الله القسري فهشام هو الذي طلب الجعد لما أظهر بدعته بدمشق، ولكن الجعد هرب إلى الكوفة، فأرسل هشام في طلبه كما في خبر ابن كثير، وابن عساكر. أو أن هشاما نفاه إلى البصرة كما في خبر اليماني. أو أن هشاماً قبض عليه، وأرسله إلى عامله بالعراق خالد القسري، وأمره بقتله، لكن خالد اكتفى بحبسه ولم يقتله، فبلغ الخبر هشاماً، فكتب إلى خالد يلومه ويعزم عليه أن يقتله. كما أشار إلى ذلك ابن الأثير.
      والذي يترجح عندي أن خبر ابن كثير وابن عساكر أقرب للصواب لأن الجعد عندما كان في الكوفة أخذ منه الجهم بن صفوان مقالته. وعموماً فإن جميع الروايات توضح أن الفضل يعود في الدرجة الأولى لهشام ابن عبد الملك، وإن كان الفضل يرجع لخالد القسري في طريقة إعلانه لهذا الأمر في مجمع الناس بعيد الأضحى، ففي ذلك ترهيب لكل مبتدع. ولقد كان هشام شديداً على أهل البدع، وليست هذه هي المنقبة الوحيدة له. فقد كان من مناقبه في حرب أهل البدع والأهواء قتله لغيلان الدمشقي الذي أظهر القول بنفي القدر في أيام عمر بن عبد العزيز، فأحضره عمر، واستتابه، فتاب. ثم عاد للكلام فيه أيام هشام، فأحضره من ناصرة ثم أحضر له الأوزاعي لمناظرته، فأفتى الأوزاعي بقتله، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه، ثم أمر به فصلب.
      فقد أخرج عبد الله بن الإمام أحمد بسنده عن أبي جعفر الخطمي قال: شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه في القدر فقال له: ويحك يا غيلان ما هذا الذي بلغني عنك؟
      قال: يُكذَب عليَّ يا أمير المؤمنين، ويُقالُ عليَّ ما لم أقل.
      قال: ما تقول في العلم؟
      قال: قد نفذ العلم.
      قال: فأنت مخصوم، اذهب الآن فقل ما شئت، ويحك يا غيلان إنك إن أقررت بالعلم خصمت، وإن جحدته كفرت، وإنك أن تقر به فتخصم خير لك من أن تجحده فتكفر.
      ثم قال: تقرأ يس؟
      قال: نعم.
      فقال: اقرأ ( يس والقرآن الحكيم )
      فقرأ: (يس والقرآن الحكيم) إلى قوله: {لقد حقَّ القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون}
      فقال: قف، كيف ترى؟
      قال: كأني لم أقرأ هذه الآية يا أمير المؤمنين.
      قال: زد. فقرأ (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيدهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون )
      قال: قال عمر رحمه الله: قل (فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) قال: كيف ترى؟
      قال: كأني لم أقرأ هذه الآيات قط، وإني لأعاهد الله أن لا أتكلم في شيء مما كنت أتكلم فيه أبداً.
      قال: اذهب، فلما ولى. قال: اللهم إن كان كاذباً فيما قال فأذقه حر السلاح.
      قال: فلم يتكلم زمن عمر رحمه الله، فلما كان زمن يزيد بن عبد الملك جاء رجل لا يهتم لهذا ولا ينظر فيه فتكلم غيلان، فلما ولي هشام أرسل إليه فقال: أليس عاهدت الله عز وجل لعمر أن لا تتكلم في شيء من هذا الأمر أبداً؟
      قال: أقلني فوالله لا أعود.
      قال: لا أقالني الله إن أقلتك هل تقرأ فاتحة الكتاب؟
      قال: نعم.
      قال: فاقرأ.
      فقرأ ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين )
      قال: قف، علام استعنته؟ على أمر بيده لا تستطيعه إلا به، أو على أمر في يدك أو بيدك؟ اذهبوا فاقطعوا يديه ورجليه واضربوا عنقه واصلبوه.)
      وأخرج الآجري بسنده وكذا ابن حبان عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: "كنت عند عبادة بن نُسَيٍّ، فأتاه رجل. فأخبره أن أمير المؤمنين هشاماً قطع يد غيلان ولسانه وصلبه، فقال له: حقاً ما تقول؟
      قال: نعم.
      قال: أصاب والله السنة والقضية، ولأكتبن إلى أمير المؤمنين فلأحسنن له ما صنع"
      ومن مناقب هشام كذلك إصداره أمراً لواليه بخراسان نصر بن سيار بقتل الجهم بن صفوان تلميذ الجعد بن درهم فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق صالح بن الإمام أحمد بن حنبل قال: قرأت في دواوين هشام ابن عبد الملك إلى نصر بن سيار عامل خراسان: أما بعد فقد نجم قبلك رجل يقال له جهم من الدهرية فإن ظفرت به فاقتله) ولكن هشام توفي قبل ذلك فقد كانت وفاته سنة (126هـ) والجهم قتل سنة (128هـ).
      فهذه ثلاث مناقب لهشام تظهر شدته على أهل البدع.
      مقتل الجعد
      قتل الجعد بن درهم بالعراق في مدينة واسط في أوائل المائة الثانية على عهد علماء التابعين مثل الحسن البصري (ت110هـ) وغيره.1
      "سبب قتله"
      ويروى ابن الأثير سبب قتله فيقول: (وقيل: إن الجعد كان زنديقاً، وعظه ميمون بن مهران. فقال: لشاه قباذ2 أحب إلي مما تدين به. فقال له: قتلك الله، وهو قاتلك، وشهد عليه ميمون، وطلبه هشام فظفر به وسيره إلى خالد القسري فقتله)
      فهذه الرواية التاريخية تظهر أن ميمون بن مهران (ت117هـ) -وهو أحد الأربعة الذين كانوا هم علماء الناس في زمن هشام بن عبد الملك4 وهم مكحول والحسن والزهري وميمون بن مهران5 - هو الذي رفع أمر الجعد لهشام وأعد الشهود الذين شهدوا على الجعد بالكفر.
      وفي هذا رد على زعم من زعم أن قتل الجعد كان بدافع سياسي من أمثال "شارل بلاذا" في كتابه "الجاحظ" حيث قال: (وقد تكون هناك أسباب سياسية أو عداء شخصي بين هشام والجعد لا تشير إليه المصادر، وجعلت هشام بن عبد الملك يأمر بقتل الجعد)
      وعلي سامي النشار حيث قال: (لا نستطيع أن نصدق أن قتله -أي الجعد- كان لآرائه الفكرية، بل يبدو أنه لسبب سياسي)
      وهذا التشكيك لا مستند له إلا التخرصات والأوهام ولذلك لم يستطع أحد منهما أن يبرهن لذلك ويدلل عليه.
      "تاريخ قتل الجعد"
      حددت المصادر التاريخية وغيرها الساعة واليوم والشهر والبلد والمكان الذي قتل فيه الجعد والطريقة والأداة والذابح الذي ذبح الجعد.
      فالساعة: هي صباح يوم عيد الأضحى بعد انتهاء الخطبة.
      واليوم: هو اليوم العاشر.
      والشهر: شهر ذي الحجة.
      والبلد: هي واسط.
      والمكان: أسفل المنبر.
      والطريقة والأداة والذابح: ذبح بالسكين ذبحاً بيد خالد بن عبد الله القسري.
      ولكن مع كل هذه المعلومات التفصيلية الدقيقة، يبقى أن العام الذي قتل فيه
      "سبب قتل الجعد"
      وقد ضحى بالجعد خالد بن عبد الله القسري بواسط على عهد علماء التابعين وغيرهم من علماء المسلمين وهم بقايا التابعين في وقته مثل الحسن البصري وغيره، الذين حمدوه على ما فعل وشكروا ذلك. قال الدارمي: (أظهر الجعد بن درهم بعض رأيه في زمن خالد القسري، فزعم أن الله تبارك وتعالى لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليما، فذبحه بواسط يوم الأضحى على رؤوس من حضره من المسلمين، لم يعبه به عائب، ولم يطعن عليه طاعن، بل استحسنوا ذلك من فعله وصوبوه.
      قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهذا لما ظهر هذا القول في أوائل الإسلام قُتل من أظهره، وهو الجعد بن درهم يوم الأضحى، فقتله خالد بن عبد الله القسري برضا علماء الإسلام)
      وقال النديم في الفهرست: (وقَتَلَ الجعدَ هشامُ بن عبد الملك في خلافته بعد أن طال حبسه في يد خالد بن عبد الله القسري. فيقال إن آل الجعد رفعوا قصته إلى هشام، يشكون ضعفهم وطول حبس الجعد، فقال
      هشام: أهو حي بعد، وكتب إلى خالد في قتله، فقتله يوم أضحى، وجعله بدلاً من الأضحية بعد أن قال ذلك على المنبر بأمر هشام.
      وقال ابن القيم: (فلما كثرت الجهمية في أواخر عصر التابعين كانوا هم أول من عارض الوحي بالرأي، ومع هذا كانوا قليلين أولاً مقموعين مذمومين عند الأئمة، وأولهم شيخهم الجعد بن درهم، وإنما نفق عند الناس بعض الشيء لأنه كان معلم مروان بن محمد وشيخه، فلما اشتهر أمره في المسلمين طلبه خالد بن عبد الله القسري، وكان أميراً على العراق، حتى ظفر به، فخطب الناس في يوم الأضحى، وكان آخر ما قال في خطبته: "أيها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه في أصل المنبر فكان ضحية. ثم طفئت تلك البدعة فكانت كأنها حصاة رمي بها والناس إذ ذاك عنق واحد)
      وقال ابن العماد الحنبلي: (خطب خالد بن عبد الله القسري بواسط يوم أضحى وكان ممن حضره الجعد بن درهم. فقال خالد في خطبته الحمد لله الذي اتخذ إبراهيم خليلاً وموسى كليماً. فقال الجعد وهو بجانب المنبر لم يتخذ الله إبراهيم خليلاً ولا موسى كليماً ولكن من وراء وراء فلما أكمل خالد خطبته قال: يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولا موسى كليماً في كلام طويل ثم نزل فذبحه في أسفل المنبر. فلله ما أعظمها وأقبلها من أضحية)
      وقال ابن عساكر: (وأما الجعد بن درهم فقتله خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بالكوفة، وكان خالد والياً عليها، أتي به في الوثاق حتى صلى وخطب ثم قال في آخر خطبته: انصرفوا وضحوا تقبل الله منا ومنكم، فإني أريد أن أضحى اليوم بالجعد بن درهم، فإنه يقول ما كلم الله موسى تكليماً، ولا اتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً؛ ثم نزل وجز رأسه بيده بالسكين)
      وقد أخرج البخاري في كتابه خلق أفعال العباد، وغيره، قال: حدثنا قتيبة حدثني القاسم بن محمد ثنا عبد الرحمن بن محمد بن حبيب بن أبي حبيب عن أبيه عن جده قال: شهدت خالد بن عبد الله القسري بواسط يوم أضحى وقال: ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم فإني مضح بالجعد بن درهم. زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً تعالى الله علواً كبيراً عما يقول الجعد بن درهم ثم نزل فذبحه)
      قال ابن عساكر: (ثم نزل وجز رأسه بيده بالسكين)
      وقال الذهبي في العلو للعلي الغفار: (قرأت في كتاب الرد على الجهمية لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي صاحب التصانيف حدثنا عيسى ابن أبي عمران الرملي حدثنا أيوب بن سويد عن السري بن يحي قال: خطبنا خالد القسري وقال: انصرفوا إلى ضحاياكم تقبل الله منكم فإني مضح بالجعد، وذكر القصة)
      والقصة مشهورة كما قال عنها الذهبي وقد تناقلها جمع من علماء السنة منهم البخاري، والدارمي، وابن أبي حاتم واللالكائي، والأجري، وابن كثير، والذهبي، وابن تيمية، وابن القيم وغيرهم.
      وقد شكر علماء المسلمين هذا العمل وأثنوا عليه، وعلى رأس أولئك الحسن البصري.

      يتبع

      تعليق


      • #4
        قال ابن القيم:
        ولأجل ذا ضحى بجعد خالد ال ... ـقسري يوم ذبائح القربان
        إذ قال ابراهيم ليس خليله ... كلا ولا موسى الكليم الداني
        شكرا لضحية كل صاحب سنة ... لله درك من أخي قربان
        وقال أبو محمد اليمني: (فاستحسن الناس منه ذلك، وقالوا نفى الغل عن الإسلام جزاه الله خيراً).
        وقال الدارمي: (وأما الجعد، فأخذه خالد بن عبد الله القسري، فذبحه ذبحاً بواسط في يوم الأضحى، على رؤوس من شهد العيد معه من المسلمين، ولا يعيبه به عائب، ولا يطعن عليه طاعن. بل استحسنوا ذلك من فعله، وصوبوه من رأيه).
        وقال الذهبي بعد ذكره قصة قتل خالد القسري للجعد (هذه من حسناته هي وقتله مغيرة الكذاب). وكذلك من حسناته قتله لبيان بن سمعان النهدي.
        أقوال العلماء فيه
        قال اللالكائي: عن عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سمعت أبي يقول: (أول من أتى بخلق القرآن جعد بن درهم)
        وقال ابن عساكر في ترجمة الجعد: (أول من قال بخلق القرآن)
        وقال الهروي: (وأما فتنة إنكار الكلام لله عز وجل فأول من زرعها جعد بن درهم، فلما ظهر جعد قال الزهري وهو أستاذ أئمة الإسلام وقائدهم: ليس الجعد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم)
        وقال ابن الأثير: (وكان مروان يلقب بالحمار والجعدي لأنه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك، وقيل إن الجعد كان زنديقاً)
        وقال ابن كثير في ترجمة الجعد: (هو أول من قال بخلق القرآن)
        وقال الذهبي: (وكان الجعد أول من تفوه بأن الله لا يتكلم)
        وقال السيوطي في الأوائل: (أول من تفوه بكلمة خبيثة في الاعتقاد
        الجعد بن درهم)
        وقال الذهبي في ترجمته في الميزان: (مبتدع ضال، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً، فقتل على ذلك يوم النحر والقصة مشهورة)
        وقال البيهقي بعد أن ساق بأسانيده أقوال أئمة السلف في أن القرآن الكريم كلام الله غير مخلوق: (ولم يصح عندنا خلاف هذا القول عن أحد من الناس في زمان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، وأول من خالف الجماعة في ذلك الجعد بن درهم فأنكر عليه خالد بن عبد الله القسري وقتله)
        وقال الطبري: (إن أول من قال القرآن مخلوق جعد بن درهم)
        قال ابن العماد الحنبلي: (والجعد هذا من أول من نفى الصفات وعنه انتشرت مقالة الجهمية إذ ممن حذا حذوه في ذلك الجهم بن صفوان عاملهما الله تعالى بعدله.).
        وقال الذهبي في ديوان الضعفاء: (الجعد بن درهم، الضال، ذبحه خالد القسري، أنكر أن إبراهيم عليه السلام خليل الله.)
        وقال عنه أبو الحسن علي بن محمد المدائني الأخباري: (كان زنديقاً وقد قال له وهب من منبه إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله أن له يداً، وأن له عيناً ما قلنا ذلك. ثم لم يلبث الجعد أن صلب)
        وقال ابن كثير: (وذكر أنه -أي الجعد- كان يتردد إلى وهب بن منبه، وأنه كلما راح إلى وهب يغتسل ويقول أجمع للعقل، وكان يسأل وهباً عن صفات الله عز وجل؛ فقال له وهب يوماً: ويلك يا جعد اقصر المسألة عن ذلك، إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يداً ما قلنا ذلك، وأن له عيناً ما قلنا ذلك، وأن له نفساً ما قلنا ذلك وأن له سمعاً ما قلنا ذلك، وذكر الصفات من العلم والكلام وغير ذلك. ثم لم يلبث الجعد أن صلب ثم قتل ذكره ابن عساكر)2
        وقال ابن حجر: (وللجعد أخبار كثيرة في الزندقة منها أنه جعل في قارورة تراباً وماءً فاستحال دوداً وهواماً فقال: أنا خلقت هذا لأني كنت سبب كونه. فبلغ ذلك جعفر بن محمد فقال: فليقل كم هو، وكم الذكران منه والإناث إن كان، وليأمر الذي يسعى إلى هذا أن يرجع إلى غيره. فبلغه ذلك فرجع)
        وقال ابن نباتة: (دخل على الجعد يوماً بُهْلول، فقال أحسن الله عزاءك في {قل هو الله أحد} فإنها ماتت!
        قال: وكيف تموت؟
        قال: لأنك تقول: إنها مخلوقة، وكل مخلوق يموت)
        وقال ابن عساكر: (وأخذ الجعد بن درهم من أبان بن سمعان وأخذ أبان من طالوت وأخذ طالوت من لبيد بن أعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لبيد يقرأ القرآن وكان يقول بخلق التوراة، وأول من صنف في ذلك طالوت، وكان طالوت زنديقًا وأفشى الزندقة، ثم أظهره جعد بن درهم)
        وقال ابن كثير: (وقد أخذ الجعد بدعته عن بيان بن سمعان وأخذها بيان عن طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم الساحر الذي سحر رسول صلى الله عليه وسلم، وأخذها لبيد عن يهودي باليمن)
        وقال النديم في الفهرست: (كان الجعد بن درهم الذي ينسب إليه مروان بن محمد، فيقال مروان الجعدي، وكان مؤدباً له ولولده، فأدخله في الزندقة.)
        وقال ابن القيم: (فلما كثرت الجهمية في أواخر عصر التابعين كانوا هم أول من عارض الوحي بالرأي، ومع هذا كانوا قليلين أولاً مقموعين مذمومين عند الأئمة، وأولهم شيخهم الجعد بن درهم، وإنما نفق عند الناس بعض الشيء لأنه كان معلم مروان بن محمد وشيخه ولهذا كان يسمى مروان الجعدي، وعلى رأسه سلب الله بني أمية الملك والخلافة وشتتهم في البلاد ومزقهم كل ممزق ببركة شيخ المعطلة النفاة)
        وقال القلقشندي في ترجمة مروان: (ويعرف بالجعدي لأنه أخذ عن الجعد ابن درهم مذهبه في الكلام في القول بخلق القرآن والقدر)
        قال المطهر بن طاهر المقدسي: (وقيل له الجعدي لأن الجعد بن درهم الزنديق كان غلب عليه وفيه يقول الشاعر:
        أتاك قومُ برجالٍ جُرْد ... مخالفاً ينصُرُ دِينَ الجعد
        مكذباً بجحد يومَ الوَعْد
        بدعه ومقالته
        وبعد فهذه جملة من الأفكار المنحرفة ذكر العلماء أن الجعد كان ينادي بها ويظهرها ويدعو إليها. ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
        1- إنكاره لصفات الخالق، ولا شك أن جحود صفاته مستلزم لجحود ذاته
        فأراد الجعد بذلك هدم الأصل الأول من أصلي الدين الذي هو "الإيمان بالله"
        فالجعد وأمثاله لا يؤمنون بوجود حقيقي لله تعالى، ويجعلون وجود الله أمرًا مقدرًا في الذهن والخيال لا حقيقة له في الخارج، فلذلك هم لا يصفونه بصفة ثبوتية، ويقتصرون على وصفه بالصفات السلبية أو الإضافية أو المركبة منهما.
        والجعد أول من أحدث ذلك في الإسلام، وقد كان أسبق من الجهم ابن صفوان، ولكن الجهم كان له في هذه البدعة مزية المبالغة في النفي وكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه ولذلك اشتهر نسبة هذه المقالة إليه
        فقيل مقالة الجهمية، ولم يقل مقالة الجعدية.
        قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهاتان الصفتان -أي كلامه ورضاه الذي يتضمن محبته ومشيئته- هما اللتان أنكرهما الجعد بن درهم أول الجهمية، لما زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، إذ لا محبة له ولا رضا؛ ولم يكلم موسى تكليما)
        - إنكاره أن الله يتكلم حقيقة، وهذا إنكار لحقيقة الرسالة
        فالصابئة المتفلسفة شيوخ الجعد لا يثبتون وجود الله على الحقيقة فضلاً أن يثبتوا له صفة الكلام، ولذلك هم يقولون: (إن الله ليس له كلام في الحقيقة، وإن كلام الله اسم لما يفيض على قلب النبي من "العقل الفعال" أو غيره. و"ملائكة الله" اسم لما يتشكل في نفسه من الصور النورانية ولهذا يقول هؤلاء إن خاصية النبي التخييل، وإن ما جاء به النبي ليس كلامًا لله على الحقيقة، وإنما هو تخييل للحقائق لينتفع به الجمهور، لا أنه بين به الحق، ولا هدى به الخلق ولا أوضح به الحقائق.
        فأراد الجعد بذلك هدم الأصل الثاني من أصلي الدين الذي هو الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ورسالته. وذلك من خلال إنكاره لكلام الله المستلزم لإنكار حقيقة الرسالة، وقد تجلت بدعته هذه في قوله بخلق القرآن فهو أول من تكلم به.
        قال الهروي: (وأما الذين قالوا بإنكار الكلام لله عز وجل، فأرادوا إبطال الكل، فإن الله على زعمهم الكاذب إذا لم يكن متكلماً، بطل الوحي، وارتفع الأمر والنهي وذهبت الملة، فلا يكون جبريل عليه السلام سمع ما بلغ، ولا الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ ما أنفذ. فبطُلَ التسليم والسمع والتقليد، ويبقى المعقول الذي به قاموا.)
        - إنكاره محبة الله لأحد من عباده، وبالتالي أنكر أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وهو يريد بذلك الطعن في نبي الله إبراهيم الخليل إمام الحنفاء، ولا غرابة في ذلك فأئمة الجعد هم الصابئة المشركون عباد الكواكب، وهؤلاء هم أعداء إبراهيم الخليل عليه السلام إمام الحنفاء، وهم ينكرون في الحقيقة أن يكون إبراهيم خليلاً. بل إن هؤلاء يقولون إن الله لا يُحِبُ ولا يُحَبُ، فلا يحب الرب عبده، ولا يحب العبد ربه.
        وهدفهم هو التعطيل والجحود، لأن إنكار محبة العبد ربه هو في الحقيقة إنكار لكونه إلها معبوداً.
        كما أن إنكار محبته لعبده يستلزم إنكار مشيئته وهو يستلزم إنكار كونه رباً خالقاً.
        فصار إنكار المحبة مستلزماً لإنكار كونه رب العالمين، ولكونه إله العالمين. وهذا هو قول أهل التعطيل والجحود ولذا أطلق إمام المعطلة الجعد بن درهم القول بأن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً.
        قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكان الجعد بن درهم من أهل حران، وكان فيهم بقايا من الصابئين والفلاسفة -خصوم إبراهيم الخليل عليه السلام- فلهذا أنكر تكليم موسى وخلة إبراهيم، موافقة لفرعون ونمرود، بناءً على أصل هؤلاء النفاة، وهو أن الرب تعالى لا يقوم به كلام، ولا يقوم به محبة
        لغيره، فقتله المسلمون، ثم انتشرت مقالته فيمن ضل من هذا الوجه. والمحبة متضمنة للإرادة، ومسألة الكلام والإرادة ضل فيهما طوائف).
        وقال رحمه الله: (وكان أول من أنكر المحبة الجعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري، وقال: "ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولا اتخذ إبراهيم خليلاً تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً" ثم نزل فذبحه. فإن الخلة من توابع المحبة، فمن كان من أصله أن الله لا يُحِبُ ولا يُحَبُ، لم يكن للخلة عنده معنى.
        4- من بدع الجعد معارضته للنصوص بالعقليات، وهو أول من أحدث هذه البدعة، وفتح باباً من أبواب الشر على المسلمين.
        قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومعلوم أن عصر الصحابة وكبار التابعين لم يكن فيه من يعارض النصوص بالعقليات، فإن الخوارج والشيعة حدثوا في آخر خلافة علي رضي الله عنه، والمرجئة والقدرية حدثوا في أواخر عصر الصحابة، وهؤلاء كانوا ينتحلون النصوص ويستدلون بها على قولهم، لايدَّعون أنهم عندهم عقليات تعارض النصوص. ولكن لما حدثت الجهمية في أواخر عصر التابعين، كانوا هم المعارضين للنصوص برأيهم،.... وأولهم الجعد بن درهم)
        فأول ما ظهر علم الكلام في الإسلام بعد المائة الأولى، من جهة الجعد بن
        درهم والجهم بن صفوان، ثم صار إلى أصحاب عمرو بن عبيد، كأبي الهذيل العلاف وأمثاله.
        فالجعد هو مشعل نار هذه الفتنة، وعلم الكلام جر على المسلمين الكثير من البلايا والمحن والفتن التي لا نزال إلى يومنا هذا نعاني منها.
        وقال ابن القيم: (مضى الرعيل الأول [من الصحابة] في ضوء ذلك النور لم تطفئه عواصف الأهواء، ولم تلتبس به ظلم الآراء وأوصوا من بعدهم أن لا يفارقوا النور الذي اقتبسوه منهم، وأن لا يخرجوا عن طريقهم، فلما كان في أواخر عصرهم حدثت الشيعة والخوارج والقدرية والمرجئة، فبعدوا عن النور الذي كان عليه أوائل الأئمة، ومع هذا لم يفارقوه بالكلية، بل كانوا للنصوص معظمين، وبها مستدلين، ولها على العقول والآراء مقدمين، ولم يدع أحد منهم أن عنده عقليات تعارض النصوص، وإنما أتوا من سوء الفهم فيها، والاستبداد بما ظهر لهم منها دون من قبلهم، ورأوا أنهم إن اقتفوا أثرهم كانوا مقلدين لهم، فصاح بهم من أدركهم من الصحابة وكبار التابعين من كل قطر، ورموهم بالعظائم، وتبرؤوا منهم، وحذروا من سبيلهم أشد التحذير، وكانوا لا يرون السلام عليهم ولا مجالستهم، وكلامهم فيهم معروف في كتب السنة، وهو أكثر من أن يذكر هاهنا.
        فلما كثرت الجهمية في أواخر عصر التابعين كانوا هم أول من عارض الوحي بالرأي، ومع هذا كانوا قليلين أولاً مقموعين مذمومين عند الأئمة، وأولهم شيخهم الجعد بن درهم، وإنما نفق عند الناس بعض الشيء لأنه كان معلم
        مروان بن محمد وشيخه ولهذا كان يسمى مروان الجعدي، وعلى رأسه سلب الله بني أمية الملك والخلافة وشتتهم في البلاد ومزقهم كل ممزق ببركة شيخ المعطلة النفاة)

        يتبع

        تعليق


        • #5
          5- من بدع الجعد إنكاره للقدر.
          فقد ذكره البغدادي في عداد القدرية حيث قال: (ثم حدث في زمان المتأخرين من الصحابة خلاف القدرية في القدر والاستطاعة من معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، والجعد بن درهم.)
          وذكر أن الحمارية من القدرية قد تأثروا ببعض أفكار الجعد في هذه المسألة فقال: (وأخذوا من جعد بن درهم الذي ضحى به خالد بن عبد الله القسري قوله بأن النظر الذي يوجب المعرفة تكون تلك المعرفة فعلاً لا فاعل لها.)
          وقد زعم هؤلاء الحمارية أن الخمر ليست من فعل الله، وإنما هي من فعل الخمار، لأن الله تعالى لا يفعل ما يكون سبب المعصية وزعموا أن الإنسان قد يخلق أنواعاً من الحيوانات، كاللحم إذا دفنه الإنسان أو يضعه في الشمس فيدود، وزعموا أن تلك الديدان من خلق الإنسان، وكذلك العقارب التي تظهر من التبن تحت الآجُرّ زعموا أنها من اختراع من جمع بين الآجُرّ والتبن.
          وهذا الزعم كان الجعد أسبق من الحمارية إليه فقد ذكر ابن حجر في اللسان أن الجعد كان يقول بذلك حيث قال: (وللجعد أخبار كثيرة في الزندقة منها
          أنه جعل في قارورة تراباً وماءً فاستحال دوداً وهواما فقال: أنا خلقت هذا لأني كنت سبب كونه)
          ولذلك فإني لا استبعد أن تكون الحمارية نسبة إلى مروان الحمار الذي تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك كما أشار إلى ذلك ابن الأثير وغيره. وبهذا يعلم أن أفكار الجعد كانت تدور حول تعطيل ذي الجلال والإكرام وإنكار صفاته، وتكذيب رسله، وإبطال وحيه.).
          الجهم بن صفوان يتابع الجعد بن درهم في ضلالاته
          قال: [وأخذ هذا المذهب عن الجعد الجهم بن صفوان ، فأظهره وناظر عليه، وإليه أضيف قول الجهمية ] والجهمية: علم مشهور يطلق على منكري صفات الله سبحانه وتعالى، وعلى القائلين أيضاً: بأن الإيمان هو مجرد المعرفة، فبمجرد أن الإنسان يعرف الله فهو مؤمن عندهم، وعلى الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان كالريشة في مهب الريح، لا إرادة له ولا اختيار، أرأيتم كيف جمع الجهم بين هذه المصائب الثلاث، وكل واحدة منها كافية في أن يعاقب بما عاقبته به الأمة الإسلامية، من ذكره بأسوأ الذكر في كل كتب تواريخها وسيرها وأعلامها ورجالها، فضلاً عما عوقب به من القتل في عصره. فهو يقول: إن الله تعالى لا يوصف بشيء، ويقول: إن الإيمان هو المعرفة، ويقول: إن العبد مجبور على أفعاله، لا إرادة له ولا اختيار، بل هو كالريشة في مهب الريح. وكل واحدة من هذه تستحق أن يعاقب صاحبها إذا أصر عليها بمثل العقوبة التي عوقب بها الجهم .
          والجهم ترجم له وذكر شأنه كثير من العلماء، ومن أجلهم وأقدمهم الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتابه خلق أفعال العباد ، ذكر نبذاً من ذلك عن الأئمة الذين تكلموا في الجهم .
          تناظر الجهم وتشككه في دينه السمنية
          وهناك طائفة موجودة في الهند ومثل فكرتها أيضاً في الفكر اليوناني، يقولون: لا نؤمن إلا بالمحسوس المشاهد الذي يراه الإنسان بعينه، ويلمسه بيده ويسمعه بإذنه، ويشمه بأنفه، هذا المحسوس نؤمن به، فما عدا ذلك ينكرونه بزعمهم، وفي الحقيقة لا يوجد إنسان ينكر كل شيء غاب عن هذه الحواس بهذا الشكل القاطع، لكن هكذا ظهرت، وهذا الضال المسكين -الجهم - لأنه أراد أن يتشبه بشيخه الجعد ، وأراد أن يصبح فيلسوفاً أو حكيماً وأعرض عن الكتاب والسنة، وكان من أجهل الناس بالقرآن والسنة وأحكامهما، وكان من أبعد الناس عن العلماء وعن حلقاتهم، وهنا نأخذ العبرة والعظة من أين تأتي الضلالات؟!
          فالتقى بقوم من فلاسفة الهنود فلما قالوا: ما دينك؟ قال: مسلم. قالوا: من تعبد؟ قال: أعبد الله. قالوا: كيف ربك هذا؟ قال: ما أدري. قالوا: هل رأيته؟ قال: لا. قالوا: هل لمسته؟ قال: لا. قالوا: هل شممته؟ قال: لا. قالوا: هل سمعته؟ قال: لا. قالوا: هل ذقته؟ قال: لا. قالوا: إذاً: أنت يا جهم تؤمن بشيء لا وجود له، فشككوه في دينه، فانظروا إلى هذا المسكين، لا علم عنده ولا فقه، ولم يرد الأمر إلى أهل العلم، لأن الله يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] وهكذا تجد أي مسلم عنده شبهة وضلالة فإنما هو من مجالسة أهل البدع، ولهذا نعلم خطورة قول من يقول: يجب أن ننفتح على الفكر العالمي ونحن واثقون مطمئنون، ونقول: سبحان الله! أننفتح على الأفكار الهدامة والضلالات المردية، فيقع في القلوب من الشبه والشكوك ما الله به عليم؟!
          المهم أن الجهم قال: أمهلوني. فشك في دينه وبقي أربعين يوماً لا يصلي -كما ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله نقلاً عن شيوخه- فظل يفكر بالليل والنهار كيف يجيبهم، فتذكر شيئاً قال: هذا الهواء ليس له طعم ولا لون ولا ريح، فخرج إليهم فقال: إن ربه مثل الريح، وقيل في بعض النسخ: إنه قال: مثل الروح ليس له طعم ولا لون ولا رائحة، بطبيعة الحال لن تؤمن السمينية بمثل هذا الكلام، ولكن الذي ضل هو هذا الرجل، ولذلك أخذ يؤصل لمذهب خبيث وهو أنه ليس لله تبارك وتعالى صفات، وأن تنزيه الله هو بنفي صفاته كما قال شيوخه من الفلاسفة ، وحتى امرأته -كما نقل الإمام عثمان الدارمي رحمه الله في رده على بشر - تعلمت منه، ولقيها بعض من العلماء في سوق الدباغين، فسمعت رجلاً يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قالت: محدود على محدود؟! فعلّم زوجته وأفسدها، وهكذا دعاة الشر يفسدون نساءهم، ومع الأسف أن بعض دعاة الخير لا يصلحون أزواجهم.

          اذن أس البلاء وسبب ما نحن فيه من الشقاء ، وحامل لواء مقدمي الآراء على كتاب الله وسنة رسوله فهو الجهم بن صفوان الخرساني ، الذي توفي في نهاية الربع الأول من القرن الثاني الهجري
          فعقائد الجهم ونظرياته تنبع من أسس يهودية ، بعيدة كل البعد عن العقيدة الإسلامية ، استقي أفكاره من الفلاسفة القدماء للديانات اليهودية .
          أما الطريق الثاني الذي استمد منه الجهم بن صفوان فكره ، فهو طريق وثني ، فالجهم كان كثير الخصومة والكلام ، لقي أناسا من المشركين ومنهم السمنية الذين ذكرناهم آنفا ، والسمنية نسبة إلي قرية بالهند تسمي سُومَنَات ، وهذه رواية أخرى لتلك المناظرة التى هو ليس لهل بأهل: وهي فرقة تعبد الأصنام وتقول بتناسخ الأرواح ، وتنكر الوحي والدين ، جرت بين الجهم وبينهم مناظرة عقلية ، فلما عرفوا الجهم قالوا له : نكلمك ونناظرك ، فإن ظهرت حجتنا عليك ، دخلت في ديننا ، وإن ظهرت حجتك علينا ، دخلنا في دينك ، - والجهم عامي مسكين ليس له باع أو قدم بين المتناظرين - فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له : ألست تزعم أن لك إلها ؟ قال الجهم : نعم ، قالوا له : فهل رأيت إلهك ؟ قال : لا ، قالوا : فهل سمعت كلامه ؟ قال : لا قالوا : فهل شممت له رائحة ؟ قال : لا ، قالوا : فوجدت له حسا ؟ قال : لا قالوا : فما يدريك أنه إله ؟ فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما .

          قال ابن شوذب : ( ترك الصلاة أربعين يوما على وجه الشك خالفه بعض السمنية ، فشك فقام أربعين يوما لا يصلي ) ثم استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى ، الذين يزعمون أن الروح الذي في عيسي هو الله وأن الله يحل فيه ، فإذا أراد الله أمرا دخل في عيسي فتكلم على لسانه ، فيأمر بما يشاء وينهي عما يشاء ، وهو روح غائبة عن الأبصار ، فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة ، فقال الجهم لمن ناظره من السمنية : ألست تزعم أن فيك روحا ؟ قال السمني : نعم فقال له : هل رأيت روحك ؟ قال : لا ، قال : فسمعت كلامها ؟ قال : لا قال : فوجدت لها حسا ؟ قال : لا ، قال : فكذلك الله لا يري له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحه وهو غائب عن الأبصار وهو في كل مكان ، فالمخلوقات بمثابة الجسد والله في داخلها بمثابة الروح .

          قال أبو معاذ البلخي : ( كان جهم على معبر ترمذ ، بلد من نواحي إيران ، وكان رجلا كوفي الأصل فصيح اللسان ، لم يكن له علم ولا مجالسه لأهل العلم ، وكان قد تناقل كلام المتكلمين وكلمه السمنية ، فقالوا له : صف لنا ربك الذي تعبده ، فدخل البيت لا يخرج كذا وكذا ، قال : ثم خرج عليهم بعد أيام ، فقال : هو هذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء

          وقد أخذ الجهم بن صفوان كما ذكرنا أستاذه الجعد بن درهم الذي قال بنفي أوصاف الله وعطل الآيات عن مدلولها وقال بخلق القرآن ، قال أبو القاسم اللالكائي : ( ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال القرآن مخلوق جعد بن درهم ، ثم جهم بن صفوان k

          فالجهم بن صفوان إليه تنسب طائفة الجهمية الذين قالوا لا قدرة للعبد أصلا ، بل هو بمنزلة الجمادات ، والجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما حتى لا يبقي موجود سوي الله تعالى ) ،

          يتبع

          تعليق


          • #6
            وقال أبو الحسن الأشعري : ( قول الجهمية الذي تفرد به جهم القول بأن الجنة والنار تبيدان وتفنيان وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط والكفر هو الجهل به فقط ، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة الا الله وحده وأنه هو الفاعل ، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز ، كما يقال : تحركت الشجرة ودارت السفينة وزالت الشمس ، وإنما فعل ذلك بالشجرة والسفينة والشمس ، الله سبحانه وتعالي ، وكان جهم ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ، وكان جهم بن صفوان يقف على الجذامي ويشاهد ما هم فيهم من البلايا ويقول : أرحم الراحمين يفعل مثل هذا ، يعني أنه ليس هناك رحمة في الحقيقة ولا حكمة ، وأن الأمر راجع الجبر وإلي محض المشيئة الخالية عن الحكمة والرحمة .
            والجهم بن صفوان انتقل إلي ترمذ أحد البلدان في إيران ، وبدأ الدعوة لمذهبه ، فانتشرت فيها عقائد الإنكار والتعطيل لكلام الله ، ثم وجد لدعوته أتباعا ومريدين من العامة والدهماء والجاهلين ، في مدن أخرى من مدن إيران ، ثم انتشرت أفكاره في بغداد وبقية البلدان ، فالجهمية فرقة ظهرت في أواخر الحكم الأموي مؤسسها الجهم بن صفوان الترمذي السمرقندي
            لكن نرجع إلي سؤال الأساسي في مناقشة السمنية لهذا الجهمي ؟ فهم لما ناقشوا الجهم قالوا له : ألست تزعم أن لك إلها ؟ قال الجهم : نعم ، قالوا له : فهل رأيت إلهك ؟ قال : لا ، قالوا : فهل سمعت كلامه ؟ قال : لا قالوا : فهل شممت له رائحة ؟ قال : لا ، قالوا : فوجدت له حسا ؟ قال : لا قالوا : فما يدريك أنه إله ؟ لو أن أحدا سألنا كما سأل الجهم : هل رأيت ربك ؟ أو هل يمكن أن نري الله ؟ والجواب أنه كان يكفي الجهم بن صفوان في الرد على السمنية أن يقول : إن الله يري في الآخرة ولا يري في الحياة الدنيا لأن الله شاء لنا الابتلاء والاختبار فيها ، فلو رأيناه أو رأينا ملائكته أو جنته وعذابه مباشرة دون حجاب لما كان لقيام السماوات والأرض بهذه الكيفية وبهذا الوضع الذي فطرنا عليه معني يذكر ،) ألمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقّ) إبراهيم:19) ولذلك قال تعالى ): الذي خَلقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُو العزيز الغَفُورُ) (الملك:2(

            فكيف يتحقق الإيمان به ونحن نراه ؟ وإذا كان الله لا يري في الدنيا ابتلاءا فإنه سبحانه يري في الآخرة إكراما لأهل طاعته كما قال سبحانه : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلي رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(القيامة:22:23) وقد تواترت الأحاديث في إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة .

            فالعلة في عدم إدراك الكيفية ليست عدم وجودها ولا استحالة رؤية الله عز وجل ، ولكن العلة هي قصور الجهاز الإدراكي البشري في الحياة الدنيا عن إدراك حقائق الغيب ، فقد خلق الله الإنسان بمدارك محدودة لتحقيق علة معينة تمثلت في الابتلاء لقوله تعالى: إِنَّا خَلقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (الانسان:
            فإذا قال رسول الله صلي الله عليه وسلم كما ثبت عند البخاري : ( إنكم سترون ربكم عيانا ) أو ( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ) ، علمنا أن إدرك العين المبصرة في الدنيا ، تختلف عن إدراك العين المبصرة في الآخرة .
            من أجل ذلك وجب الإيمان بالرؤية في الآخرة والتسليم بذلك لموافقته للعقل الصريح والنقل الصحيح ، وكذلك الحال في بقية الصفات ، نؤمن بها ونثبتها لله دون سؤال عن الكيفية ، لكن الجهم بن صفوان بهذا الفكر العقلي الخبيث الذي زعم به أن الله حل في مخلوقاته وهو بذاته في كل مكان نظر في كتاب الله ، فما ظن أنه يوافق مذهبه من النصوص احتج بها ، وما ظن أنه يخالف مذهبه من النصوص أنكرها وعطلها عن مدلولها فوجد قوله تعالى) ليْسَ كَمِثْلهِ شيء ) ، ) وقوله تعالى :وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ (وقوله تعالى( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ اْلأبْصَارَ) فبني عليها القول بالحلول ونفيه لصفات الله والتكذيب بها .

            (الرحمن على العرش استوي) ووجد قوله تعالى) : سَأَل سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ مِنْ اللهِ ذِي المَعَارِجِ تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِليْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلفَ سَنَة) ٍ، ( قُل لوْ كَان مَعَهُ آلهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إلي ذِي العَرْشِ سَبِيلا الذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ للذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُل شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلمًا فَاغْفِرْ للذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلك وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ (

            ماذا صنع الجهم بهذه النصوص ؟ قال أبو نعيم البلخي وكان قد أدرك جهما : كان للجهم صاحب يكرمه ويقدمه على غيره فإذا هو قد هجره وخاصمه ، فقلت له : لقد كان يكرمك ، فقال : إنه جاء منه ما لا يتحمل بينما هو يقرأ سورة طه والمصحف في حجره إذ أتي على هذه الآية : الرحمن على العرش استوي ، قال : لو وجدت السبيل إلي أن أحكها من المصحف لفعلت فاحتملت هذه ، ثم إنه بينما يقرأ آية أخرى إذ قال : ما أظرف محمدا حين قالها ثم بينما هو يقرأ القصص والمصحف في حجره إذ مر بذكر موسي عليه السلام فدفع المصحف بيديه ورجليه ، وقال : أي شيء هذا ؟ ذكره هنا فلم يتم ذكره وذكره هنا فلم يتم ذكره .

            هذا هو المنهج الذي اتبعته المعطلة إلي يومنا هذا ، أتباع الجهمية من المعتَزِلة والأشعرية وسائر المتكلمين أصحاب المدرسة العقلية
            زعم الجهم بن صفوان أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو في سنة رسوله صلي الله عليه وسلم فهو مشبه ، وأن التوحيد يكمن في نفي هذه الصفات سواء كان النفي نفيا واضحا أو كان بتأويل القرآن على غير معناه ولي أعناق النصوص بغير ما تحتمل متمسكا بزعمه بقول الله تعالى) ليْسَ كَمِثْلهِ شيء) .

            فالجهم بن صفوان زعم أن الله في كل مكان ، كما أن الروح في الجسد ، وهذا كلام باطل من جميع الوجوه لأن الله سبحانه وتعالي لا يحل في مخلوقاته ، فقد ثبت أنه بذاته ، في السماء فوق العرش وعرشه فوق الماء ، والماء فوق السماء السابعة ، وهو سبحانه تعالى العلى في سمائه ، يدبر أمر مخلوقاته ويعلم ما هم عليه .
            قال أبو عمر الطلمنكى: أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى ( وهو معكم أينما كنتم ) ونخو ذلك من القرآن أنه علمه، وأن الله تعالى فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء، وقال أهل السنة في قوله: ( الرحمن على العرش استوى ) إن الاستواء من الله على عرشه على الحقيقة لا على المجاز.
            وقال أبو زرعة الرازى : إن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسول الله صلي الله عليه وسلم بلا كيف أحاط بكل شيء علما ، وإنه تبارك وتعالي يري في الآخرة يراه أهل الجنة بأبصارهم ويسمعون كلامه كيف شاء وكما شاء .
            وقال أبو نعيم الأصبهاني : طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة ، ثم قال : فما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلي الله عليه وسلم في العرش واستواء الله يقولون بها ويثبتونها من غير تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه ولا يحل فيهم ولا يمتزج بهم ، وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه وخلقه ، وقال أيضا : وأجمعوا
            أن الله فوق سماواته عال على عرشه مستو عليه لا مستول عليه كما تقول الجهمية أنه بكل مكان خلافا لما نزل في كتابه)

            وقال أبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة عن أصول الديانة الذي نصر فيه أهل السنة والجماعة عند قوله تعالى :
            ( أَأَمِنتُمْ مَنْ في السَّمَاءِ ) قال : السماوات فوقها العرش ولما كان العرش فوق السماوات قال أأمنتم من في السماء لأنه على العرش الذي فوق السماوات وكل ما علا فهو سماء والعرش أعلى السماوات ، وليس إذا قال : أأمنتم من في السماء يعني جميع السماوات وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات .

            وقال يحي بن معاذ الرازى إن الله على العرش بائن من خلقه قد أحاط بكل شيء علما وأحصي كل شيء عددا لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء أو هالك مرتاب يمزج الله بخلقه ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان .


            يتبع

            تعليق


            • #7
              المعتزلة ومؤسسيها ونشأتها وأفكارها
              تعريفهم : المعتزلة فرقة إسلامية تنتسب إلى واصل بن عطاء الغزال، تميزت بتقديم العقل على النقل، وبالأصول الخمسة التي تعتبر قاسما مشتركا بين جميع فرقها، من أسمائها القدرية والوعيدية والعدلية، سموا معتزلة لاعتزال مؤسسها مجلس الحسن البصري بعد خلافه معه حول حكم الفاسق .
              مؤسسها :
              واصل بن عطاء الغزال: قال الإمام الذهبي في ترجمته في السير :" البليغ الأفوه أبو حذيفة المخزومي مولاهم البصري الغزال .. مولده سنة ثمانين بالمدينة، .. طرده الحسن عن مجلسه لما قال الفاسق لا مؤمن ولا كافر فانضم إليه عمرو واعتزلا حلقة الحسن فسموا المعتزلة "

              وانظر الى قول الشيعة عن واصل
              تقيّة واصل بن عطاء :
              قال ابن الجوزي الحنبلي : خرج واصل بن عطاء يريد سفراً في رهط ، فاعترضهم جيش من الخوارج ، فقال واصل : لا ينطقنّ أحد ودعوني معهم ، فقصدهم واصل ، فلمّا قربوا بدأ الخوارج ليُوقِعوا . فقال : كيف تستحلّون هذا وما تدرون من نحن ، ولا لأي شيء جئنا ؟ فقالوا : نعم ، من أنتم ؟ قال : قوم من المشركين جئناكم لنسمع كلام الله . قال : فكفّوا عنهم ، وبدأ رجل منهم يقرأ القرآن ، فلمّا أمسك قال واصل : قد سمعت كلام الله ، فأبلغنا مأمننا حتّى ننظر فيه وكيف ندخل في الدين ! فقال : هذا واجب ، سيروا . قال : فسرنا والخوارج ـ والله ـ معنا يحموننا فراسخ ، حتّى قربنا إلى بلدلا سلطان لهم عليه ، فانصرفوا ( 1 ) .

              ( 1 )كتاب الأذكياء ـ ابن الجوزي : 136 ، ط . 1 ، دار الكتب العلمية ـ بيروت /1405هـ .

              يقول ابن العماد الحنبلي: « كان واصل ألثغ يبدل الرّاء غيناً في كلامه وكان يخلِّص كلامه بحيث لا تسمع منه الرّاء حتّى يظنّ خواصّ جلسائه أنّه غير ألثغ ، حتّى يقال: إنّه دفعت إليه رقعة مضمونها: أمر أمير الاُمراء الكرام أنّ يحفر بئراً على قارعة الطريق ، فيشرب منه الصادر والوارد. فقرأ على الفور: حكم حاكم الحكّام الفخام ، أنّ ينبش جُبّاً على جادّة الممشي فيسقى منه الصادي والغادي. فغيّر كلّ لفظ برديفه وهذا من عجيب الإقتدار
              وكذلك خطبته التى القى منها الراء.
              عمرو بن عبيد: قال الذهبي في ترجمته في السير : " عمرو بن عبيد الزاهد العابد القدري كبير المعتزلة .. قال ابن المبارك دعا - أي عمرو بن عبيد - إلى القدر فتركوه، وقال معاذ بن معاذ سمعت عمروا يقول إن كانت { تبت يدا أبي لهب } في اللوح المحفوظ فما لله على ابن آدم حجة، وسمعته ذكر حديث الصادق المصدوق، فقال : لو سمعت الأعمش يقوله لكذبته، إلى أن قال ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لرددته .. مات بطريق مكة سنة ثلاث وقيل سنة أربع وأربعين ومائة "
              العقائد والأفكار :
              بدأت المعتزلة بفكرة أو بعقيدة واحدة، ثم تطور خلافها فيما بعد، ولم يقف عند حدود تلك المسألة، بل تجاوزها ليشكل منظومة من العقائد والأفكار، والتي في مقدمتها الأصول الخمسة الشهيرة التي لا يعد معتزليا من لم يقل بها، وسوف نعرض لتلك الأصول ولبعض العقائد غيرها، ونبتدئ بذكر الأصول الخمسة:
              1- التوحيد: ويعنون به إثبات وحدانيته سبحانه ونفي المثل عنه، وأدرجوا تحته نفي صفات الله سبحانه، فهم لا يصفون الله إلا بالسلوب، فيقولون عن الله : لا جوهر ولا عرض ولا طويل ولا عريض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا بذي حرارة ولا برودة .. إلخ، أما الصفات الثبوتية كالعلم والقدرة فينفونها عن الله سبحانه تحت حجة أن في إثباتها إثبات لقدمها، وإثبات قدمها إثبات لقديم غير الله، قالوا : ولو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الألوهية، فكان التوحيد عندهم مقتضيا نفي الصفات.
              2- العدل: ويعنون به قياس أحكام الله سبحانه على ما يقتضيه العقل والحكمة، وبناء على ذلك نفوا أمورا وأوجبوا أخرى، فنفوا أن يكون الله خالقا لأفعال عباده، وقالوا: إن العباد هم الخالقون لأفعال أنفسهم إن خيرا وإن شرا، قال أبو محمد ابن حزم: " قالت المعتزلة: بأسرها حاشا ضرار بن عبد الله الغطفاني الكوفي ومن وافقه كحفص الفرد وكلثوم وأصحابه إن جميع أفعال العباد من حركاتهم وسكونهم في أقوالهم وأفعالهم وعقودهم لم يخلقها الله عز وجل ". وأوجبوا على الخالق سبحانه فعل الأصلح لعباده، قال الشهرستاني:" اتفقوا - أي المعتزلة - على أن الله تعالى لا يفعل إلا الصلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد وأما الأصلح واللطف ففي وجوبه عندهم خلاف وسموا هذا النمط عدلا "، وقالوا أيضا بأن العقل مستقل بالتحسين والتقبيح، فما حسنه العقل كان حسنا، وما قبحه كان قبيحا، وأوجبوا الثواب على فعل ما استحسنه العقل، والعقاب على فعل ما استقبحه.
              3- المنزلة بين المنزلتين: وهذا الأصل يوضح حكم الفاسق في الدنيا عند المعتزلة، وهي المسألة التي اختلف فيها واصل بن عطاء مع الحسن البصري، إذ يعتقد المعتزلة أن الفاسق في الدنيا لا يسمى مؤمنا بوجه من الوجوه، ولا يسمى كافرا بل هو في منزلة بين هاتين المنزلتين، فإن تاب رجع إلى إيمانه، وإن مات مصرا على فسقه كان من المخلدين في عذاب جهنم.
              4- الوعد والوعيد: والمقصود به إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر وأن الله لا يقبل فيهم شفاعة، ولا يخرج أحدا منهم من النار، فهم كفار خارجون عن الملة مخلدون في نار جهنم، قال الشهرستاني:" واتفقوا - أي المعتزلة - على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب والعوض .. وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار وسموا هذا النمط وعدا ووعيدا "
              5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذا الأصل يوضح موقف المعتزلة من أصحاب الكبائر سواء أكانوا حكاما أم محكومين، قال الإمام الأشعري في المقالات :" وأجمعت المعتزلة إلا الأصم على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف كيف قدروا على ذلك" فهم يرون قتال أئمة الجور لمجرد فسقهم، ووجوب الخروج عليهم عند القدرة على ذلك وغلبة الظن بحصول الغلبة وإزالة المنكر .
              هذه هي أصول المعتزلة الخمسة التي اتفقوا عليها، وهناك عقائد أخرى للمعتزلة منها ما هو محل اتفاق بينهم، ومنها ما اختلفوا فيه، فمن تلك العقائد :
              6- نفيهم رؤية الله عز وجل: حيث أجمعت المعتزلة على أن الله سبحانه لا يرى بالأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة، قالوا لأن في إثبات الرؤية إثبات الجهة لله سبحانه وهو منزه عن الجهة والمكان، وتأولوا قوله تعالى :{ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } أي منتظرة .
              7- قولهم بأن القرآن مخلوق: وقالوا إن الله كلم موسى بكلام أحدثه في الشجرة.
              8- نفيهم علو الله سبحانه، وتأولوا الاستواء في قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } بالاستيلاء .
              9- نفيهم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته . قال الإمام الأشعري في المقالات : " واختلفوا في شفاعة رسول الله هل هي لأهل الكبائر فأنكرت المعتزلة ذلك وقالت بإبطاله "
              10- نفيهم كرامات الأولياء، قالوا لو ثبتت كرامات الأولياء لاشتبه الولي بالنبي .
              فرق المعتزلة
              عادةً ما تبدأ الفرق في عددها وأفكارها صغيرة ثم ما تلبث أن تتشعب وتتفرق، فتصبح الفرقة فرقاً والشيعة شيعاً، وهكذا كان الحال مع المعتزلة فقد بدأت فرقة واحدة ذات مسائل محدودة، ثم ما لبثت أن زادت فرقها، وتكاثرت أقوالها وتشعبت، حتى غدت فرقا وأحزابا متعددة، ونحاول في هذا المبحث أن نذكر بعضا من تلك الفرق، ونقدم موجزاً تعريفياً بها وبمؤسسها، مع ذكر بعض أقوالها التي شذت بها عن أصحابها المعتزلة، فمن فرق المعتزلة:
              1- الواصلية: وهم أصحاب أبى حذيفة واصل بن عطاء الغزال، كان تلميذا للحسن البصري يقرأ عليه العلوم والأخبار، ثم فارقه بسبب خلافه معه في مسألة مرتكب الكبيرة، وقول واصل فيه بأنه في الدنيا في منزلة بين منزلتين .
              2- الهذيلية: وهم أصحاب أبي الهذيل حمدان بن الهذيل العلاّف شيخ العتزلة ومقدمهم، أخذ الإعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل بن عطاء، من مفردات قوله: أن حركات أهل الجنة والنار تنقطع وأنهم يصيرون إلى سكون دائم خمودا، وتجتمع اللذات في ذلك السكون لأهل الجنة، وتجتمع الآلام في ذلك السكون لأهل النار.
              3- النظامية: أتباع إبراهيم بن يسار بن هانئ النظّام كان قد خلط كلام الفلاسفة بكلام المعتزلة، وانفرد عن أصحابه بمسائل منها قوله: أن الباري سبحانه لا يوصف بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل النار شيئا، ولا على أن ينقص منه شيئا، وكذلك لا ينقص من نعيم أهل الجنة، ولا أن يخرج أحدا من أهل الجنة، وليس ذلك مقدورا له، وقد ألزم بأن يكون البارى تعالى مجبورا على ما يفعله تعالى الله .
              4- الخابطية والحدثية: أصحاب أحمد بن خابط وكذلك الحدثية أصحاب الفضل الحدثي، كانا من أصحاب النظام وطالعا كتب الفلاسفة، ومن مفردات أقوالهما القول - موافقة للنصارى- بأن المسيح عليه السلام يحاسب الخلق في الآخرة . وكذلك قولهم: أن الرؤية التي جاءت في الأحاديث، كقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون فى رؤيته ) متفق عليه، هي رؤية العقل الأول الذي هو أول مبدع وهو العقل الفعّال الذي منه تفيض الصور على الموجودات، فهو الذي يظهر يوم القيامة وترفع الحجب بينه وبين الصور التي فاضت منه فيرونه كمثل القمر ليلة البدر فأما واهب العقل "الله" فلا يُرى.
              5- البشرية: أصحاب بشر بن المعتمر كان من علماء المعتزلة ، قال الذهبي: " وكان .. ذكيا فطنا لم يؤت الهدى، وطال عمره فما ارعوى، وكان يقع في أبي الهذيل العلاف وينسبه إلى النفاق " من أقواله :" أن الله تعالى قادر على تعذيب الأطفال وإذا فعل ذلك فهو ظالم " .
              6- المردارية: أصحاب عيسى بن صبيح المكنى بأبي موسى الملقب بالمردار، ويسمى راهب المعتزلة، من مفردات أقواله : أن الله تعالى يقدر على أن يكذب و يظلم ولو كذب وظلم كان إلها كاذبا ظالما تعالى الله، وقال إن الناس قادرون على مثل القرآن فصاحة ونظما وبلاغة، وكان مبالغا في القول بخلق القرآن وتكفير من خالفه، وقد سأله إبراهيم بن السندي مرة عن أهل الأرض جميعاً فكفّرهم، فأقبل عليه إبراهيم، وقال الجنة التي عرضها السموات والأرض لا يدخلها إلا أنت وثلاثة وافقوك، فخزي ولم يحر جوابا.
              7- الثمامية: أصحاب ثمامة بن أشرس النميري كان جامعا بين سخافة الدين وخلاعة النفس، انفرد عن أصحابه المعتزلة بمسائل منها قوله: في الكفار والمشركين والمجوس واليهود والنصارى والزنادقة والدهرية أنهم يصيرون في القيامة ترابا، وكذلك قال : في البهائم والطيور وأطفال المؤمنين .
              8- الهشامية: أصحاب هشام بن عمرو الفوطي كان مبالغا في نفي القدر، وكان يمتنع من إطلاق إضافات أفعال إلى الباري تعالى وإن ورد بها التنزيل، منها قوله: أن الله لا يؤلف بين قلوب المؤمنين بل هم المؤتلفون باختيارهم، وقد ورد في التنزيل { ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم } ، ومنها قوله : أن الله لا يحبب الإيمان إلى المؤمنين ولا يزينه في قلوبهم، وقد قال تعالى : { وحبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم } ومن أقواله: أن الجنة والنار ليستا مخلوقتين الآن، وقال كذلك : أن النبوة جزاء على عمل وأنها باقية ما بقيت الدنيا.
              فهذه هي المعتزلة نشأة وأقوالا ورجالا وعقائد، عرضناها مختصرة بغية تعريف القارئ بحال تلك الفرقة التي أوجدت جدلا شديدا في مراحل كثيرة من التاريخ الإسلامي ، ووضعت الشرع المطهر في مخاصمة مفتعلة مع العقل، فكان أثرها على الشرع سيئاً إذ قللت من هيبته، وأثرها على العقل أسوأ إذ وضعته في مكان لا يرتقي إليه .

              يتبع

              تعليق


              • #8
                وقفة مع المعتزلة
                ربما ظن البعض أن المعتزلة قد ذهبت من غير ر جعة، وأن أفكارهم الجريئة لم يعد لها وجود، وأن التوازن قد عاد لجدلية العقل والنقل، إلا أن هذا الظن خاطيء، فالمذهب المعتزلي ما زال موجودا حيا في الصدور ومكتوبا في السطور، وما زالت فرق عديدة تتبناه، وإن اختلفت مسمياتها، فضلا عن انتصار كثير من الحداثيين لمنهج الاعتزال في تقديم العقل على النقل وجعله حاكما على نصوص الشريعة، فالاعتزال قائم مبثوث في العقائد والأفكار ولكن الذي ذهب هو حدته وصولته بعد زوال دولته، وتعرضه لعملية نقد متواصلة على أيدي أئمة السنة، فغدا هامدا يظنه الناس ميتا وليس بميت، ونحاول في خاتمة عرضنا لعقيدة المعتزلة أن نقف وقفة مع هذا المنهج نبين فيه أمرا غاية في الأهمية هذا الأمر هو مخالفة منهج المعتزلة لمنهج السلف، ومباينة عقائد الاعتزال لعقائد الصحابة الكرام، ولنروي في هذا الإطار المناظرة الشهيرة التي قصمت ظهر المعتزلة، والتي جرت بين شيخ من شيوخ السنة وشيخ المعتزلة أحمد بن أبي دؤاد، فقد جيء بشيخٍ سني كبير موثقا بحديده ، حتى أوقفوه في حضرة الخليفة الواثق، فطلب منه الخليفة مناظرة أحمد بن أبي دؤاد فوافق، بعد أن طعن في قدرة أحمد بن أبي دؤاد على المناظرة، وابتدأ السؤال قائلا : مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها، من القول بخلق القرآن أداخلة في الدين، فلا يكون الدين تامًّا إَّلا بالقول بها ؟ قال أحمد بن أبي دؤاد : نعم .
                فقال الشيخ : فرسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إليها أم تركهم ؟ قال أحمد : لا . قال له: يعلمها أم لم يعلمها ؟قال : عَلِمَهَا .قال: فلم دعوت إلى ما لم يدعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، وتركهم منه ؟ فأمسك.
                فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين هذه واحدة. ثم قال له: أخبرني يا أحمد، قال الله في كتابه العزيز:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ ديِنَكُمْ }( المائدة :3)، فقلت أنت : الدين لا يكون تاماًّ إلا بمقالتك بخلق القرآن، فالله تعالى – عز وجل – صدق في تمامه وكماله ، أم أنت في نقصانك ؟! فأمسك .
                فقال الشيخ يا أمير المؤمنين ، هذه ثانية .ثم قال بعد ساعة : أخبرني يا أحمد ، قال الله عز وجل:{ يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }( المائدة :67) فمقالتك هذه التي دعوت الناس إليها، فيما بلَّغه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أم لا ؟ فأمسك.
                فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، هذه الثالثة. ثم قال بعد ساعة: أخبرني يا أحمد، لمّا عَلِم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالتك التي دعوت الناس إليها، أَتَّسع له أن أمسك عنها أم لا ؟ قال أحمد : بل اتَّسع له ذلك .فقال الشيخ : وكذلك لأبي بكر ، وكذلك لعمر ، وكذلك لعثمان ، وكذلك لعلي رحمة الله عليهم ؟ قال : نعم .فصرف وجهه إلى الواثق، وقال: يا أمير المؤمنين، إذا لم يسع لنا ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه فلا وسع الله علينا.
                فقال الواثق: نعم، لا وسع الله علينا، إذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، فلا وسع الله علينا.
                وبهذه المناظرة كسر الله شوكة المعتزلة فتحول وجه الخليفة عنهم، وما زال مذهبهم في هبوط إلى يومنا هذا، ولنختم بكلمة للعلامة ابن الوزير اليماني، يبين فيها هذا الأصل، قال رحمه الله : " وقد أجمعت الأمة على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فكل ما لم يُبين من العقائد في عصر النبوة فلا حاجة إلى اعتقاده، ولا الخوض فيه والجدال، والمراد سواء كان إلى معرفته سبيل [ غير النقل ] أو لا، وسواء كان حقا أو لا، وخصوصا متى أدى الخوض فيه إلى التفرق المنهي عنه، فيكون في إيجابه إيجاب ما لم ينص على وجوبه " . فاستمسك أخي القارئ بمثل هذا الأصل العظيم، واحفظ به دينك فما لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته دينا فليس اليوم دين.
                المتفرع منهما
                فتفرع منهما مثل الأشاعرة

                التعريف : الأشاعرة فرقة إسلامية تنتسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري - رحمه الله - وتنتهج أسلوب أهل الكلام في تقرير العقائد والرد على المخالفين .
                المؤسس : الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ولد بالبصرة سنة 260هـ وسكن بغداد وتوفي بها سنة 324هـ . وعاش – رحمه الله - ملازما لزوج أمه شيخ المعتزلة في زمنه أبي علي الجبائي، فعنه أخذ الاعتزال حتى تبحر فيه وصار من أئمته ودعاته .
                تحوله عن الاعتزال :
                يجمع المؤرخون لحياة أبي الحسن رحمه الله على التحول الأول في حياته، وهو خروجه من مذهب الاعتزال ونبذه له .
                فيذكر ابن عساكر وغيره أن أبا الحسن الأشعري - رحمه الله - اعتزل الناس مدة خمسة عشر يوما، وتفرغ في بيته للبحث والمطالعة، ثم خرج إلى الناس في المسجد الجامع، وأخبرهم أنه انخلع مما كان يعتقده، كما ينخلع من ثوبه، ثم خلع ثوبا كان عليه ورمى بكتبه الجديدة للناس.
                ومع اتفاق الباحثين على رجوعه عن مذهب الاعتزال، إلا أنهم اختلفوا في تحديد سبب ذلك الرجوع، فقيل إن سبب رجوعه ما رآه في مذهب المعتزلة من عجز ظاهر في بعض جوانبه، فقد كان - رحمه الله - دائم السؤال لأساتذته عما أشكل عليه من مذهبهم، ومما يروى في ذلك أن رجلا دخل على أبي علي الجبائي وفي حضرته أبو الحسن الأشعري، فقال الرجل لأبي علي : هل يجوز أن يسمى الله عاقلا ؟ فقال : الجبائي : لا ، لأن العقل مشتق من العقال، وهو المنع، والمنع في حق الله محال، فامتنع الإطلاق، فاعترض أبو الحسن على جواب أبي علي قائلا : لو كان قياسك المذكور صحيحا، لامتنع إطلاق اسم الحكيم على الله، لأنه مشتق من حَكَمَةِ اللجام، وهي حديدة تمنع الدابة من الخروج، وذكر شواهد من الشعر على ذلك، فلم يحر أبو علي الجبائي جوابا، إلا أنه قال لأبي الحسن، فَلِمَ منعت أنت أن يسمى الله عاقلا، وأجزت أن يسمى حكيما ؟ فقال : لأن طريقي في مأخذ أسماء الله الإذن الشرعي دون القياس اللغوي، فأطلقت حكيما لأن الشرع أطلقه، ومنعت عاقلا لأن الشرع منعه، ولو أطلقه الشرع لأطلقته ".
                ومما يذكر أيضا في سبب رجوعه عن مذهب الاعتزال مع ما سبق، رؤيا رأى فيها النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو الحسن : " وقع في صدري في بعض الليالي شيء مما كنت فيه من العقائد، فقمت وصليت ركعتين، وسألت الله أن يهديني الصراط المستقيم، ونمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فشكوت إليه بعض ما بي من الأمر، فقال صلى الله عليه وسلم عليك بسنتي، قال : فانتبهت وعارضت مسائل الكلام بما وجدت من القرآن والأخبار، فأثبته ونبذت ما سواه ورائي ظهريا " ( التبيين 38-39) وهذه القصة يقول الدكتور عبدالرحمن المحمود : " ينتهي إسنادها إلى بعض الأصحاب من غير تحديد".
                ولو صحت هذه القصة لكانت نصا في بيان سبب رجوعه، إلا أنه من الملاحظ من خلال مناظرات أبي الحسن للمعتزلة أنه بدأت تتشكل عنده رؤية خاصة به في بعض المسائل وهو ما زال منضويا في عباءة المعتزلة، ولعل الرؤيا التي رآها هي التي وضعت حدا لإنهاء تلك الحيرة، ورسمت له طريق التخلص كليا من مذهب الاعتزال .
                واختلف الباحثون كذلك حول المذهب الذي تحول إليه أبو الحسن رحمه الله، فقيل تحول إلى مذهب الكلابية وعنه إلى مذهب السلف وهذا قول جمع من العلماء، وقيل تحول إلى مذهب الكلابية وبقي عليه، وكانت له آراء مستقلة توسط فيها بين المعتزلة والمثبتة نشأ عنها المذهب الأشعري وهو قول الأشعرية .
                ويعتمد أصحاب القول الأول - القائلين بتحوله إلى الكلابية ومنها إلى مذهب السلف - على ما كتبه الأشعري في الإبانة، ويقولون إنها من آخر كتبه، وفيها نصَّ على أنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله .
                إلا أن مقارنة دقيقة بين ما كتبه - رحمه الله - في الإبانة ومذهب الكلابية لا تظهر كبير فرق بين المذهبين، فما قال به الكلابية قال به الأشعري، كإثبات الصفات الخبرية كالوجه واليدين وغيرهما، وما نفاه الكلابية نفاه الأشعري كنفيه قيام الأفعال الاختيارية بالله سبحانه، حيث ذهب إلى أن صفة الإرادة صفة أزلية قديمة، لا تتجدد لفعل فعل ولا لإنشائه .
                وكذلك قال - في غير الإبانة - إن الكلام صفة ذات، وأنكر على من قال إن الله تكلم بالقرآن.
                أما انتسابه لمذهب الإمام أحمد فلا يمكن أن ينسب إليه بمجرد الانتساب، مع أن أقواله وأراءه تخالف ما قال به أحمد، فأحمد رحمه لم يقل بنفي اتصاف الله بالأفعال الاختيارية كالنزول والمجيء .
                أما قوله بإثبات الاستواء والعلو فهو أيضا مذهب ابن كلاب، وعليه فلا ينقض هذا الاستشهاد قول من قال بأنه تحول عن الاعتزال إلى الكلابية وبقي عليها .
                فهذه نبذة عن حياة الرجل الفكرية وهي توضح أهمية البحث والمطالعة، ومناقشة المرء لما عنده مما نشأ عليه، فإن البحث والاستقصاء لا يزيد الحق إلا جلاء وقوة، ولا يزيد الباطل إلا اضمحلالا ونفرة .
                الفرق بين متقدمي الأشاعرة ومتأخريهم :
                لعل من الواضح لدى دارسي المذهب الأشعري أن ثمة تباين ظاهر بين ما كان عليه متقدموا الأشاعرة في بعض المسائل، وبين ما استقر عليه الرأي عند المتأخرين منهم في تلك المسائل، وهو ما يؤدي بنا إلى القول بأن الأشاعرة المتأخرين لم يكونوا متبعين تماما لأبي الحسن الأشعري - رحمه الله - وإنما خالفوه في مسائل من الأهمية بمكان، حتى قال بعضهم :
                لو حدث الأشعري عمن له إلى رأيه انتماء لقال أخبرهم بأني مما يقولونه براء
                ويمكن التمثيل لهذه المسائل بمثالين :
                المثال الأول: القول في الصفات الخبرية كصفة الوجه واليدين والعينين، فقد كان رأي الإمام أبي الحسن رحمه الله في هذه الصفات موافقا لرأي الكلابية الذين يثبتون هذه الصفات لله عز وجل، وقد نص أبو الحسن رحمه الله على إثباتها في الإبانة 51-58 وفي رسالته لأهل الثغر 72-73 ، في حين ذهب متأخروا الأشعرية إلى تأويل تلك الصفات، يقول الإيجي 3/145 في صفة اليد : " الخامسة اليد : قال تعالى : { يد الله فوق أيديهم } { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } فأثبت الشيخ صفتين ثبوتيتين زائدتين وعليه السلف وإليه ميل القاضي في بعض كتبه، وقال الأكثر إنها مجاز عن القدرة فإنه شائع، وخلقته بيدي أي بقدرة كاملة ".
                المثال الثاني : صفة العلو والاستواء حيث أثبت الأشعري رحمه الله صفة علو الله واستوائه على عرشه، كما جاء في الإبانة 1/105 : " إن قيل ما تقولون في الإستواء ؟ قيل له : نقول : إن الله عز وجل يستوى على عرشه استواء يليق به .. كما قال : { الرحمن على العرش استوى }( طه : 5 )" وقال في مقالات الإسلاميين 1/290 : " جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله .. وأن الله سبحانه على عرشه، كما قال : { الرحمن على العرش استوى }( طه : 5 ) " أ.هـ ، بل إنه رحمه الله رد على من أوّل استواءه سبحانه بالقهر ، فقال في الإبانة 1/108 : " وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية إن معنى قول الله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } ( طه : 5 ) أنه استولى وملك وقهر وأن الله تعالى في كل مكان وجحدوا أن يكون الله عز وجل مستو على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، ولو كان هذا كما ذكروه، كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة لأن الله تعالى قادر على كل شيء " فهذا كان رأي الإمام الأشعري، أما متأخروا الأشاعرة ، فيقول الإيجي في مواقفه 3/150-151 : " الصفة الثالثة : الإستواء لما وصف تعالى بالإستواء في قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى }( طه : 5 ) اختلف الأصحاب فيه، فقال الأكثرون : هو الاستيلاء ويعود الاستواء حينئذ إلى صفة القدرة، قال الشاعر :
                قد استوى عمرو على العراق من غير سيف ودم مهراق
                أي استولى .. وقيل هو أي الاستواء ههنا القصد فيعود إلى صفة الإرادة نحو قوله تعالى { ثم استوى إلى السماء } أي قصد إليها وهو بعيد " فهذان مثالان يوضحان الفرق بين ما كان عليه الأشعري نفسه، وبين ما استقر عليه الرأي عند متأخري الأشاعرة.

                يتبع

                تعليق


                • #9
                  الأفكار والعقائد :
                  من عقائد الأشاعرة المتأخرين التي عرفوا بها وصار العمدة في المذهب عليها:
                  1- تقديم العقل على النقل: وهو منهج يقوم على افتراض التعارض بين الأدلة النقلية والعقلية، ما يستدعي ضرورة تقديم أحدهما، فصاغ الأشاعرة للتعامل مع هذا التعارض الموهوم قانونا قدموا بموجبه العقل، وجعلوه الحكم على أدلة الشرع، بدعوى أن العقل شاهد للشرع بالتصديق، فإذا قدمنا النقل عليه فقد طعنا في صدق وصحة شهادة العقل، مما يعود على عموم الشرع بالنقض والإبطال .
                  2- نفيهم أن تقوم بالله أمور تتعلق بقدرته ومشيئته: أي نفي ما يتعلق بالله من الصفات الاختيارية التي تقوم بذاته،كالاستواء والنزول والمجيء والكلام والرضا والغضب، فنفوا كلام الله ورضاه وغضبه باعتبارها صفة من صفاته، وادعوا أن نسبة هذه الصفات لله تستلزم القول بأن الله يطرأ عليه التغير والتحول، وذلك من صفات المخلوقات.
                  3- إثبات سبع صفات لله عز وجل وتأويل أو تفويض غيرها، فالصفات التي يثبتونها هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام النفسي، أما غير هذه الصفات فهم يتأولونها كتأولهم صفة الرضا بإرادة العقاب، وصفة الرحمة بإرادة الثواب، واستواء الله على العرش بقهره له واستيلائه عليه، إلى آخر تأويلاتهم لصفات الله.
                  4- حصرهم الإيمان في التصديق القلبي: فالإنسان – وفق مذهبهم - إذا صدق بقلبه، ولو لم ينطق بالشهادتين عمره، ولم يعمل بجوارحه أيا من الأعمال الصالحة، فهو مؤمن ناج يوم القيامة، يقول الإيجي في المواقف بعد أن ذكر معنى الإيمان في اللغة : " وأما في الشرع .. فهو عندنا وعليه أكثر الأئمة كالقاضي والأستاذ التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة، فتفصيلا فيما علم تفصيلا، وإجمالا فيما علم إجمالا "
                  من علماء الأشاعرة
                  يزخر المذهب الأشعري بأئمة أعلام، هم الذي رسخوا المذهب وقووا دعائمه، وقعَّدوا له القواعد، ووضعوا له المقدمات، ونشروا آراءه، ودافعوا عنه ضد خصومه، إلا أن كثيرا منهم - لسعة علمه - تبين له ضعف مسلك أهل الكلام، فرجع في آخر عمره إلى مذهب السلف، وعلم أن مذهبهم هو الأسلم والأعلم والأحكم، ونحن نذكر بحول الله وقوته بعض أشهر علماء الأشاعرة، ونبين رجوع من رجع منهم إلى مذهب السلف، فمن علمائهم:
                  1. أبو الحسن الطبري، توفي بحدود سنة 380هـ وكان من تلامذة أبي الحسن الأشعري رحمه الله - ذكر الأسنوي عن أبي عبدالله الأسدي أنه قال في كتاب مناقب الشافعي : " كان شيخنا وأستاذنا أبو الحسن بن مهدي - الطبري - حافظا للفقه والكلام والتفاسير والمعاني وأيام العرب، فصيحا مبارزا في النظر ما شوهد في أيامه مثله، مصنفا للكتب في أنواع العلم، صحب أبا الحسن الأشعري في البصرة مدة " ( طبقات الشافعية للأسنوي 2/39 .
                  2. أبو بكر الباقلاني ت 403هـ ، قال الإمام الذهبي في السير في ترجمته : " وانتصر لطريقة أبي الحسن الأشعري، وقد يخالفه في مضائق فإنه من نظرائه، وقد أخذ علم النظر عن أصحابه " ويعده الباحثون المؤسس الثاني للمذهب الأشعري، فهو الذي قعد له القواعد ، ووضع له المقدمات الكلامية، وقد تتلمذ على تلامذة الأشعري، وفاقهم علما ومعرفة .
                  3. محمد بن الحسن بن فورك : ت 406هـ، درس المذهب الأشعري على أبي الحسن الباهلي تلميذ أبي الحسن الأشعري ، وكان من كبار أئمة الأشعرية .
                  4. أبو المعالي إمام الحرمين عبدالملك بن عبدالله الجويني ولد سنة 419هـ وتتلمذ على يدي والده، وكان أحد أعلام الشافعية والأشاعرة، ويعد من المجددين داخل المذهب، وقد انتقد على الأشاعرة مسائل وردها عليهم، وتبحر في علم الكلام حتى بلغ الغاية فيه، إلا أنه رجع عنه أخيرا ، كما حكاه عنه غير واحد منهم أبو الفتح الطبري الفقيه، قال : دخلت على أبي المعالي في مرضه، فقال : اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة، وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور " ( سير أعلام النبلاء 18/474) وقد أوصى في كتاب الغياثي - وهو من آخر كتبه - بالتزام مذهب السلف فهو المذهب الحق قبل نبوغ الأهواء وزيغان الآراء ، وذكر من حال السلف في الحرص على الطاعة والاجتهاد في أعمال البر، والابتعاد عن التعرض للغوامض والتعمق في المشكلات، ما يُلزم المرء باتباع منهجهم، والسير على طريقتهم.
                  5. أبو حامد محمد بن محمد العزالي ت 505هـ، قال الإمام الذهبي وكان خاتمة أمره إقباله على حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ومجالسة أهله، ومطالعة الصحيحين - البخاري ومسلم - اللذين هما حجة الإسلام ولو عاش لسبق الكل في ذلك الفن " سير أعلام النبلاء 19/323-324
                  6. أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني ت 548هـ وقد رجع عن المذاهب الكلامية إلى دين الفطرة جاء في نهاية الإقدام ص4 قوله : " عليكم بدين العجائز فإنه من أسنى الجوائز "
                  7. أبو عبدالله محمد بن عمر بن الحسين الرازي ويعرف بابن خطيب الري توفي سنة 606هـ جاء في لسان الميزان ( 4/427 ) : " وكان مع تبحره في الأصول يقول : " من التزم دين العجائز فهو الفائز " ، وقال ابن الصلاح أخبرني القطب الطوعاني مرتين أنه سمع فخر الدين الرازي يقول:" يا ليتني لم أشتغل بعلم الكلام وبكى، وروى عنه أنه قال: " لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فلم أجدها تروي غليلا ولا تشفي عليلا ، ورأيت أصح الطرق طريقة القرآن "
                  وقفة مع المذهب الأشعري
                  من العجيب أن يعترف الأشاعرة بأن مذهبهم في تأويل جل الصفات مذهب محدث، لم يكن عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ولهم في ذلك المقولة الشهيرة، "مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم" أي إن مذهب التأويل عند المتأخرين أعلم وأحكم مما نسبوه إلى السلف من التفويض الذي يعدونه المذهب الأسلم، بما يوحي بنوع انتقاص للسلف رحمهم الله في علمهم وفهمهم، وهو انتقاص لا يقوله إلا من جهل مقدارهم وموضعهم من العلم والفهم.
                  إن مناقشة أقوال الأشاعرة وعقائدهم التي خالفوا فيها مذهب السلف، تظهر بما لا يدع مجالا للشك مدى سلامة مذهب السلف من التناقض والاضطراب، واتصافه بالعلم والحكمة والسلامة .
                  ودعونا نناقش بعض عقائد الأشاعرة لنستبين على وجه التفصيل فضل علم السلف على علم الخلف، وصحة منهجهم على من جاء بعدهم ممن خالفهم، فنقول وبالله التوفيق:
                  أما تقديم العقل على النقل والقانون الذي صاغة الأشاعرة في ذلك، فنقول إن المسألة مصادرة من أساسها، فأهل السنة يقولون على وجه القطع: إنه لا يمكن أن يتعارض عقل صريح مع نقل صحيح، فالمسألة غير واقعة أساساً.
                  ثم نرد عليهم بالقول : إن العقل قد شهد بصدق الرسول وصحة نبوته، فالواجب بناء على هذه الشهادة الحقة تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، فإذا أخبر أن الله في السماء وجب تصديق خبره، وكان تقديم العقل على النقل طعن في شهادة العقل، وفي ذلك إبطال لشهادته بصدق الرسول، ونقض للدين.
                  أما نفيهم أن تقوم بالله أمور تتعلق بقدرته ومشيئته: فهو مبني على ما سبق من نفي التغير والتحول عن الله، وهو أصل فاسد والصحيح إثبات كمال قدرته سبحانه، فهو يفعل ما يشاء متى شاء، وعلى ذلك دلائل الكتاب والسنة وإجماع السلف، قال تعالى : { كل يوم هو في شأن } وقال تعالى : { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } .
                  أما حصرهم صفات الله في سبع صفات هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام النفسي، وتأويلهم غيرها، فغاية في الغرابة والتناقض، وإلا فما الذي جعلهم يؤولون صفة الرحمة مثلا ولا يؤلوون صفة السمع، فإن قالوا إن الأولى تدل على رقة القلب وهذا لا يليق بالله ، لأن فيه مشابهة للمخلوقين، قلنا وكذلك السمع فإن في إثباته مشابهة للمخلوقين، فإن قالوا نحن نثبت سمعا يليق به جل وعلا، قلنا فأثبتوا رحمة تليق به كما أثبتم سمعا يليق به.
                  أما القول بأن الإيمان في الشرع هو التصديق فمخالف للإجماع الصحيح ولأدلة الكتاب والسنة، أما الإجماع فقد قال الإمام الشافعي : " وكان الإجماع من الصحابة ، والتابعين من بعدهم ممن أدركنا : أن الإيمان قول وعمل ونية لا يجزيء واحد من الثلاثة عن الآخر " فكل من الاعتقاد والعمل الصالح والنطق بالشهادتين، ركن من أركان الإيمان لا يصح الإيمان إلا به. والأدلة النقلية على تأييد هذا الإجماع المأخوذ منها أكثر من أن تحصر .
                  خاتمة
                  مما سبق ظهر مدى مافعله تقديم العقل على النقل وما أدى الى انتكاس الفطر أن يفتروا على الله عز وجل ويكذبون بالنقل لأنه ليس موافقا لأهواء هؤلاء المبتدعة الذين ضلوا وأضلوا كثيرا فشقى جليسهم ولم تشنف أذان من سمعهم الا بكل ضلال ، فهنا لابد من وقفة مع نفسك أين أنت من تصديق الخبر وامتثال الأمر ، وأن العقل هو مطية النقل.
                  والحمد لله رب العالمين.

                  ---------------------------------------------------------------------------------------------------
                  المراجع
                  مقالة التعطيل والجعد بن درهم ( بتصرف )
                  مختصر تاريخ ابن عساكر، الكامل فى التاريخ، البداية والنهاية ، الأنساب للسمعانى، اللباب لابن الأثير، ديوان الضعفاء، ميزان الاعتدال، لسان الميزان، تاج العروس، تاريخ الاسلام، سير أعلام النبلاء، النجوم الزاهرة، ذم الكلام للهروى، الاعتصام، الرد على الجهمية للدارمى، العيون فى شرح رسالة بن ويدون،لطائف المعارف،نهاية الأرب، تاريخ الطبري،مروج الذهب،الفصل،درء تعارض ، الفتوى الحموية،منهاج السنة،مختصر الصواعق،عقائد الثلاث والسبعين فرقة،الشريعة،شرح أصول الاعتقاد ، فتح البارى، السنه للأمام أحمد، أنساب الأشراف للبلاذرى، السنن للبيهقى وله الاسماء والصفات،الابانه لأبن بطة،العلو للعلى الغفار،الملل والنحل،الصواعق المرسلة، الفرق بين الفرق،الاناقة فى معالم الخلافة للقلقشندى.

                  تعليق

                  يعمل...
                  X