إعـــــــلان

تقليص
1 من 3 < >

تحميل التطبيق الرسمي لموسوعة الآجري

2 من 3 < >

الإبلاغ عن مشكلة في المنتدى

تساعدنا البلاغات الواردة من الأعضاء على منتدى الآجري في تحديد المشكلات وإصلاحها في حالة توقف شيء ما عن العمل بشكل صحيح.
ونحن نقدّر الوقت الذي تستغرقه لتزويدنا بالمعلومات عبر مراسلتنا على بريد الموقع ajurryadmin@gmail.com
3 من 3 < >

فهرسة جميع الشروح المتوفرة على شبكة الإمام الآجري [مبوبة على حسب الفنون] أدخل يا طالب العلم وانهل من مكتبتك العلمية

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه - وعلى آله ومن ولاه وبعد :

فرغبة منا في تيسير العلم واشاعته بين طلابه سعينا لتوفير جميع المتون وشروحها المهمة لتكوين طلبة العلم ، وقد قطعنا شوطا لابأس به في ذلك ولله الحمد والمنة وحده ، إلا أنه إلى الآن يعاني بعض الأعضاء والزوار من بعض الصعوبات في الوصول للشروح والمتون المرادة لتداخل الشروح أو لقلة الخبرة التقنية .

من أجل هذا وذاك جاء هذا الموضوع ليكون موضوعا مرجعا جامعا مرتبا بإذن الله لكل المواد العلمية الموضوعة حاليا في شبكتنا ومرتبا على حسب أبواب الفنون العلمية (العقيدة، الفقه، الحديث،...)وسنحاول أيضا ترتيبها على مستويات الطلب (المبتدئ ، المتوسط ، المنتهي) سيتم تحديثه تبعا بعد إضافة أي شرح جديد .

من هـــــــــــنا
شاهد أكثر
شاهد أقل

الجديد في ترجيح النهي عن قول فلان شهيد إلا بنص صحيح أو اتفاق سديد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الجديد في ترجيح النهي عن قول فلان شهيد إلا بنص صحيح أو اتفاق سديد

    الجديد في ترجيح النهي عن قول فلان شهيد
    إلا بنص صحيح أو اتفاق سديد


    · مقدمة :
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، صلى الله عليه ، وعلى آله ، وصحبه ومن والاه ، وبعد ..
    فقد أطلعني أحد إخواننا الأفاضل على ما كتبه – قديما - الشيخ عبد الله الزقيل - حفظه الله - في كثير من المنتديات السلفية ، بشأن قضية مهمة جدا ، ودار حولها جدل كبير ، وهي : هل يقال على المعين فلان شهيد مع عدم وجود النص الشرعي ؟
    وقد كان جل بحث الشيخ الزقيل - حفظه الله - منقول إجمالا عن كتاب " أحكام الشهيد في الفقه الإسلامي " تأليف : عبد الرحمن بن غرمان بن عبد الله ..
    ولكن - ومع شدة احترامي للشيخ - لم ينقل من الكتاب إلا دليلا واحدا لمن قال بالنهي عن تسمية المعين بالشهيد .. وكذا لم يذكر الاعتراضات وجوابها ، بينما توسع في ذكر الأدلة الأخرى وفتاوى من قال بالجواز ..
    مع أن مؤلف الكتاب كان جمعه دقيقا وملما - إلى حد ما - ومنصفا في تقريره ، بغض النظر عن النتيجة ..
    ومع إبداء احترامي الشخصي لفضيلته فسأناقش بحثه فيما ذكره من أدلة ، مع ما سنذكره من الجواب على ما استدل به الفريق الذي قال بجواز إطلاق لفظ الشهيد على المعين ، وقبل ذلك نعرض الأدلة المخالفة لما ذهبوا إليه وجزموا به ، لنكون قد وضعنا القاعدة لبناء النهي الصريح من الأدلة المساقة ، ثم نعرض ما يخالفه ..
    وينحصر بحثي بعد هذه المقدمة في تمهيد يسير لعرض الخلاف ، ثم الفصل الأول وهو عرض وتخريج لأدلة من قال بمنع إطلاق اسم الشهيد على المعين ، والفصل الثاني لعرض ومناقشة أدلة المجوزين على الإطلاق ، ثم خاتمة لنتائج البحث .

    · فريقا الخلاف :
    والخلاف في هذه المسألة قائم بين فريقين :
    الفريق الأول : قال بمنع تسمية المعين بأنه شهيد إلا بنص عن المعصوم أو بإجماع من الأمة أو اتفاق من جمهور أهل السنة عليه ، ولهم أدلة كثيرة من نصوص السنة الصحيحة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الفصل الأول .
    والفريق الثاني : ذهب إلى جواز قول فلان شهيد بلا نص لمن علم صلاحه وتقواه .. ومعهم ظواهر أدلة صحيحة فهموا منها الجواز بالإضافة إلى فتاوى بعض علماء أهل السنة ..

    وفي هذا البحث إن شاء الله تعالى سنعرض ما عند كل فريق من أدلة لما ذهب إليه ، ونناقش ونحلل لنصل إلى نتيجة مرضية على وفق الكتاب والسنة وجمهور أهل السنة .
    ونسأل الله تعالى السداد والتوفيق ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ..


    الفصل الأول
    الأدلة على منع إطلاق لفظ الشهيد على المعين بدون نص أو اتفاق


    وأنا أتحير ممن يتكلم في هذا الموضوع ، ويتجاهل أدلة كثيرة صريحة صحيحة في هذا الموضوع ، وكلها نصوص واضحة ناطقة بعدم الجزم بمآل المسلم إلا من شهد له الوحي أو الجماعة المسلمة ..
    ويكفي ظاهر كتاب الله عز وجل ..

    الدليل الأول : عموم أدلة القرآن
    قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا } [ النساء-49 ]
    وقال تعالى : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [ النجم: 32 ].
    قال ابن كثير في الآية الأولى :
    قال الحسن وقتادة : نزلت هذه الآية ، في اليهود والنصارى .
    وقيل : نزلت في ذم التمادح والتزكية ..
    وقال في آية النجم : وهي قوله : { فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } أي : تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم ، { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } .. اهـ
    ثم ذكر في آيتي سورة النساء والنجم أحاديث نذكرهما مجموعة من تفسيره .
    قال : وقد جاء في الحديث الصحيح عند مسلم ، عن المقداد بن الأسود قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وجوه المداحين التراب .
    وروى أحمد ومسلم وأبو داود عن همام بن الحارث قال : جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه ، قال : فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ويقول : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب .
    وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يثني على رجل ، فقال : " ويحك ! قطعت عنق صاحبك ". ثم قال : " إن كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة ، فليقل : أحسبه كذا ولا يزكي على الله أحدا " .
    وفي لفظ أحمد : مدح رَجُلٌ رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويلك ! قطعت عُنُقَ صاحبك – مرارًا - إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل : أحسب فلانا - والله حسيبه ، ولا أزكي على الله أحدا - أحسبه كذا وكذا ، إن كان يعلم ذلك ".
    وقال الإمام أحمد : حدثنا معتمر عن أبيه عن نعيم بن أبي هند قال: قال عمر بن الخطاب : من قال أنا مؤمن ، فهو كافر . ومن قال هو عالم ، فهو جاهل ، ومن قال هو في الجنة ، فهو في النار .
    قلت : رواه حنبل بن إسحاق عن أحمد به إلى نعيم بن أبي هند كما ذكره اللالكائي في أصول السنة ، وقال ابن كثير رواه ابن مردويه من طريق موسى بن عبيدة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن عمر أنه قال: فذكره . ونعيم وطلحة لم يدركا عمر فهو مرسل منهما .
    وروى أحمد وابن ماجة عن معبد الجهني عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ، وإن هذا المال حلو خضر ، فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه ، وإياكم والتمادح فإنه الذبح .
    وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجة والصحيحة.
    وروى ابن جرير( بسند فيه من لا يعرف ) عن طارق بن شهاب قال : قال عبد الله بن مسعود : إن الرجل ليغدو بدينه ، ثم يرجع وما معه منه شيء ، يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرا فيقول له : والله إنك كيت وكيت فلعله أن يرجع ولم يحل من حاجته بشيء وقد أسخط الله ، ثم قرأ { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } الآية .
    انتهى من ابن كثير رحمه الله تعالى ..
    ويفرق هنا بين الثناء للمرء حيا وميتا ، ففي الثناء على الميت حديث الجنازة وقوله وجبت وجبت .. وسيأتي تخريجه والكلام عليه ، والمعني هنا هو أن الثناء على المرء بالشهادة غيب وهو داخل في ذم التمادح وغيره .. والله اعلم .
    أما عن الأحاديث والأدلة فهي كثيرة ، ولكثرتها سنعرضها بصورة منظمة ما أمكن ..

    الدليل الثاني :
    وهو النهي عن الشهادة للمعين بالجنة ، فضلا عن الشهادة بلا نص أو إجماع .
    وفيه أحاديث :
    1- حديث أم العلاء ( وهي من المبايعات )
    في البخاري قالت أم العلاء في قصة عثمان بن مظعون : رحمة الله عليك يا أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( وما يدريك أن الله أكرمه) ؟ فقلت بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله ؟ فقال ( أما هو فقد جاءه اليقين والله إني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي) . قالت فوالله لا أزكي أحدا بعد أبدا .
    والشاهد منه : أنه أنكر قولها ( لقد أكرمك الله ) والتي يلزم منها الشهادة له بالجنة ، وعليه فالجزم بالشهادة أشد من هذه .. والله أعلم .
    2- حديث كعب بن عجرة
    في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه عندما مرض وأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : أبشر يا كعب ، فقالت : أمه : هنيئًا لك الجنة يا كعب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من هذه المتألية على الله ؟ قال : هي أمي يا رسول الله ،قال : ما يدريك يا أم كعب ؟ لعل كعبًا قال ما لا ينفعه ، أو منع ما لا يغنيه ".
    أخرجه الطبراني في الأوسط ( 7157 ) ومن طريقه ابن عساكر (50/146) والخطيب في تاريخه (4/272) من طريق ابن أبي الدنيا ، وذكر المنذري عن شيخه أن إسناده جيد . وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/565) إسناده جيد . وقال العراقي في تخريج الإحياء : أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت من حديث كعب بن عجرة بإسناد جيد إلا أن الظاهر انقطاعه بين الصحابي وبين الراوي عنه . اهـ
    قلت: في رواية الطبراني حدث به ضمام بن إسماعيل وهو صدوق عن يزيد بن أبي حبيب وموسى بن وردان كليهما عن كعب ، وابن وردان روى عن كعب بن عجرة فلا انقطاع . وفيه أحمد بن عيسى المصري وهو صدوق ولذلك حسنه الألباني في صحيح الترغيب ، وصححه في الصحيحة رقم : 3103.وهو شاهد قوي لما نحن بصدد بيانه .

    3- حديث أول من يقضى بينهم يوم القيامة :
    قول النبي صلى الله عليه وسلم : إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها ؟ قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار . الحديث .. متفق عليه .
    ووجه دلالته أنه قال : رجل استشهد ، أي حسب الظاهر ، وقد بان من الحديث أن الأمر على غير ذلك ، فيؤخذ منه عدم القطع له بالشهادة .
    والبعض يستدل بقوله : استشهد ، أي أن الناس سموه شهيدا !! كذا قال ، والعجب والغرابة من هذا الاستدلال .. فهلا استدل بأصل سياق الحديث وأنه للنهي عن الرياء والسمعة والتدين بالإخلاص .. ثم يرى خاتمته فيوقن أن مساق الحديث يؤكد على النهي في القطع لأحدبالشهادة وإن رآه قاتل وقتل .

    4- قصتا من غلا العباءة والشملة
    وهما قصتان متغايرتان كما رجحه ابن حجر وغيره ..
    فأورد مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :
    لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابه النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : فلان شهيد فلان شهيد ، حتى مروا على رجل فقالوا فلان شهيد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة .. الحديث
    وأخرج الشيخان واللفظ لمسلم : فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل رحله فرمي بسهم فكان فيه حتفه فقلنا هنيئا له الشهادة يا رسول الله ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه نارا ، أخذها من الغنائم يوم خبير لم تصبها المقاسم .. الحديث.
    وفي الحديث الأول إشكال استدل به المجوزون على جواز القول للمعين بأنه شهيد عموما ولو لم يكن هناك نص أو إجماع .. وسيأتي عرض الحديث وتفصيل الاستشهاد من عدمه في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى .

    الدليل الثالث : أقوال أئمة أهل السنة في الحكم للمعين بالجنة

    أولا : يجب أن نفصل بين شيئين اثنين .. يخلط بينهما كثيرا .. وهو الشهادة للمعين بالجنة والشهادة للمعين بأنه شهيد .. وهما عند المتساهلين على الترادف في المعنى ..
    والصحيح إن شاء الله أن يفرق بينهما فيقال : الشهادة للمعين بأنه شهيد تستلزم الشهادة له بالجنة ولا عكس .. فليس كل من مات على الإيمان والصلاح يكون شهيدا !! وهذا واضح جدا .. ويوضحه :

    خصال الشهيد
    فقد صح من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : إن للشهيد عند الله خصالا ، يغفر له في أول دفقة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى حلة الإيمان ، ويزوج من الحور العين ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه .
    رواه سعيد بن منصور (6/114 رقم : 2385) بسند صحيح وهو عند أحمد والترمذي وابن ماجة وغيرهما ، لكن سياقته هنا جيدة .

    ومن فضائل الشهداء
    روى أحمد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمرها وتأوي إلى قناديل من ذهب مذللة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا عن الحرب ولا يزهدوا في الجهاد ؟ قال فقال الله عز وجل أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله تعالى: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } " .
    رواه أحمد وأبو داود والحاكم وحسنه الألباني .

    وعن جابر بن عتيك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت ... فقالت ابنته : والله إن كنت لأرجو أن تكون شهيدا فإنك قد كنت قضيت جهازك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته ، وما تعدون الشهادة ؟ قالوا القتل في سبيل الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله المطعون شهيد والغريق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد والحريق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيد ".
    رواه أبو داود وابن حبان والنسائي كبرى وصححه الألباني لغيره .

    وعن ربيعة بن الهدير قال ما سمعت طلحة بن عبيد الله يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا قط غير حديث واحد ، قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قبور الشهداء حتى إذا أشرفنا على حرة واقم فلما تدلينا منها وإذا قبور بمجنبة قال قلنا يا رسول الله أقبور إخواننا هذه ؟ قال قبور أصحابنا ، فلما جئنا قبور الشهداء قال هذه قبور إخواننا .
    رواه أحمد وأبو داود والبزار والبيهقي كبرى وصححه الألباني.

    وعن معاذ بن جبل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة ومن سأل الله عز وجل القتل من عند نفسه صادقا ثم مات أو قتل فله أجر شهيد ومن جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها كالزعفران وريحها كالمسك ومن جرح جرحا في سبيل الله فعليه طابع الشهداء " .
    رواه أحمد وأبو داود والنسائي والطبراني والبيهقي وغيرهم وصححه الألباني .

    وفي المسند عن جابر قال قالوا : يا رسول الله أي الجهاد أفضل قال : من عقر جواده وأهريق دمه .
    رواه أحمد وابن ماجة والدارمي والحاكم وغيرهم وصححه الألباني .

    قال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد (1/237) :
    وإذا كان من هرق دمه وعقر جواده أفضل الشهداء علم أنه من لم يكن بتلك الصفة فهو مفضول ... لأن شرط الشهادة شديد فمن ذلك ألا يغل ولا يجبن وأن يقتل مقبلاً غير مدبر وأن يباشر الشريك وينفق الكريمة ونحو هذا كما قال معاذ . والله أعلم .
    وقال أيضا في التمهيد ( 18/344) على حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يضحك الله عز وجل إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ثم يتوب الله على القاتل فيقاتل فيستشهد " .
    قال : وفي هذا الحديث دليل على أن كل من قتل في سبيل الله فهو في الجنة لا محالة إن شاء – ثم ذكر خطبة عمر بسنده – وهي قوله : وأخرى تقولونها يعني في مغازيكم هذه لمن يقتل قتل فلان شهيدا أو مات فلان شهيدا ولعله أن يكون قد أوقر دفتي راحلته ذهبا أو ورقا يبتغي الدنيا أو قال التجارة فلا تقولوا ذالكم ولكن قولوا كما قال النبي عليه السلام : " ومن قتل في سبيل الله أو مات فهو في الجنة " .
    وكذلك الآثار المتقدمة كلها تدل على ذلك والله أعلم ، وذلك على قدر النيات وكل من قاتل لتكون كلمة الله العليا وكلمة الذين كفروا السفلى فهو في الجنة إن شاء الله . اهـ

    فهذه المناقب لا ينالها أي مسلم مات على الإيمان والصلاح .. فبان المراد والحمد لله .
    ولذلك كان رأي العلماء في القول على المعين الذي عرف صلاحه وتقواه بأنه من أهل الجنة في اتجاهين بين القبول والمنع ..
    ومذهب المنع أقوى وأكثر إذ إنه رأي الجمهور .. فيحسن بنا عرض المذهبين :

    قال الإمام ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية (2/415) :
    وللسلف في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال :
    أحدها : أن لا يشهد لأحد إلا للأنبياء ، وهذا ينقل عن محمد بن الحنفية والأوزاعي .
    والثاني : أن يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه النص ، وهذا قول كثير من العلماء وأهل الحديث .
    والثالث : أن يشهد بالجنة لهؤلاء ولمن شهد له المؤمنون .. واستدل بحديث الصحيحين أنتم شهداء الله في الأرض وسيأتي التحقيق فيه ، وحديث : يوشك أن تعرفوا أهل الجنة من أهل النار ! قالوا بم ذاك يا رسول الله ؟ قال بالثناء الحسن والثناء السيئ أنتم شهداء الله بعضكم على بعض . رواه أحمد وابن ماجة والحاكم والبيهقي وحسنه الألباني .
    فتمخض من هذه الأقوال الثلاثة مذهبين :

    المذهب الأول :
    وهو مذهب جمهور أهل السنة والجماعة : وهو عدم الشهود لمعين بالجنة أو بالنار ، إلا لمن شهد له الله في كتابه ، أو شهد له رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح من سنته .
    قال الإمام الطحاوي في العقيدة الطحاوية ( ص 18 ) :
    نرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته ، ولا نأمن عليهم ولا نشهد لهم بجنة ، ونستغفر لسيئهم ، ونخاف عليهم ، ولا نقنطهم .
    وقال أيضاً في ( ص21) : ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة ، ونصلي على من مات منهم ، ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً ، ولا نشهد عليهم بكفر ولا شرك ولا نفاق ما لم يظهر منهم من ذلك شيء ، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى .
    قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية (2/415) تحقيق شاكر :
    وإن كنا نقول : إنه لا بد أن يُدخل النار من أهل الكبائر من يشاء إدخاله النار ، ثم لا يخرج منها بشفاعة الشافعين ، ولكنا نقف في الشخص المعين ، فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم ؛ لأن حقيقة باطنه وما مات عليه لا نحيط به ، لكن نرجو للمحسن ، ونخاف على المسيء . اهـ
    ومن التعليقات الأثرية على العقيدة الطحاوية لأئمة الدعوة السلفية :
    الذي عليه أهل السنة والجماعة : أنهم لا يشهدون لأحد بجنة ولا نار ، إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبر عنه بذلك ، ولكنهم يرجون للمحسن ، ويخافون على المسيء ، وبهذا تعلم ما عليه كثير من الناس إذا ذكروا عالماً أو أميراً أو ملكاً أو غيرهم : قالوا : المغفور له أو ساكن الجنان ، وأنكى من ذلك قولهم : نُقل إلى الرفيق الأعلى ، ولا شك أن هذا قول على الله بلا علم ، كما قال تعالى : { وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطناً وأن تقولوا على الله مالا تعلمون }. اهـ

    وقال الإمام ابن قدامة في لمعة الاعتقاد :
    وكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له بها .... ولا نجزم لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار ، إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم لكنا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء . اهـ
    قال الشيخ ابن عثيمين في شرح اللمعة ( ص144) :
    الشهادة بالجنة أو بالنار ليس للعقل فيها مدخل فهي موقوفة على الشرع فمن شهد له الشارع بذلك ؛ شهدنا له ، ومن لا ؛ فلا ، لكننا نرجو للمحسن ، ونخاف على المسيء
    وتنقسم الشهادة إلى قسمين عامة وخاصة :
    فالعامة : هي المعلقة بالوصف ، مثل أن نشهد لكل مؤمن بأنه في الجنة ، أو لكل كافر بأنه في النار ، أو نحو ذلك من الأوصاف التي جعلها الشارع سبباً لدخول الجنة .
    والخاصة : هي المعلقة بشخص ، مثل أن نشهد لشخص معين بأنه في الجنة أو لشخص معين بأنه في النار ، فلا نعيّن إلا ما عيّنه الله أو رسوله . اهـ

    وقال الإمام أحمد في أصول السنة ( ص 50 ) :
    ولا نشهد على أهل القبلة بعمل يعمله بجنة ولا نار ، نرجو للصالح ونخاف عليه ونخاف على المسيء المذنب ، ونرجو له رحمة الله . اهـ
    وهي عين كلمة علي بن المديني كما جاءت في اعتقاد أهل السنة لللالكائي (1/162).
    وروى عن سفيان الثوري قوله : يا شعيب بن حرب لا ينفعك ما كتبت لك حتى لا تشهد لأحد بجنته ولا نار إلا للعشرة الذين شهد لهم رسول الله وكلهم من قريش. اهـ

    وقال الإمام أبو عمرو الداني في الرسالة الوافية ( ص 96 ) :
    ومن قولهم : أن لا ينزل أحد من أهل القبلة جنة ولا نارا إلا من ورد التوقيف بتنزيله ، وجاء الخبر من الله تبارك وتعالى ، ورسوله عن عاقبة أمره .

    وقال الإمام أبو عثمان الصابوني في اعتقاد أصحاب الحديث ( ص 96 ) :
    ويعتقد ويشهد أصحاب الحديث أن عواقب العباد مبهمة لا يدرى أحد بم يُختم له ، ولا يحكمون لواحد بعينه أنه من أهل الجنة ، ولا يحكمون على أحد بعينه أنه من أهل النار ؛ لأن ذلك مغيّب عنهم لا يعرفون على ما يموت عليه الإنسان ، أعلى الإسلام أم على الكفر .

    وقال الإمام البربهاري في شرح السنة ( ص 30 ) : ومن كان من أهل الإسلام فلا تشهد له بعمل خير ولا شر فإنك لا تدري بما يختم له عند الموت ترجو له رحمة الله وتخاف عليه ذنوبه لا تدري ما سبق له عند الموت إلى الله من الندم وما أحدث الله في ذلك الوقت إذا مات على الإسلام ترجو له الرحمة وتخاف عليه ذنوبه وما من ذنب إلا وللعبد منه توبة . اهـ

    وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه : جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية :
    لا أحد يشهد لأحد بالجنة أو النار إلا من ثبت له ذلك .. وأهل السنة والجماعة لا يشهدون لِمُعَيَّنٍ بالجنة إلا لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة ، كالعشرة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ، الذين ثبتت الأحاديث في تعيينهم أنهم من أهل الجنة . وأما مَنْ سواهم فلا يشهدون له بذلك ، ولكنهم يرجون لجميع المؤمنين دخول الجنة ، ويخافون على مَنْ أذنب من النار ، ولا يقطعون لمعين بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا من ثبت له ذلك . اهـ
    فهذا مذهب جمهور أهل السنة كما ترى ..
    وأختم هذا برأي يناسب موضوع الشهيد :
    اعتقاد ابن عيينة وأحمد
    روى الإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/156) عن الإمام سفيان بن عيينة في اعتقاده قوله : السنة عشرة فمن كن فيه فقد استكمل السنة ومن ترك منها شيئا فقد ترك السنة : إثبات القدر وتقديم أبي بكر وعمر والحوض والشفاعة والميزان والصراط والإيمان قول وعمل والقرآن كلام الله وعذاب القبر والبعث يوم القيامة ولا تقطعوا بالشهادة على مسلم .
    ونقل (1/161) في اعتقاد الإمام أحمد فيمن خرج عليه اللصوص والخوارج قال :
    وإن قتل هذا في تلك الحال وهو يدفع عن نفسه وماله رجوت له الشهادة كما جاء في الأحاديث . ونقل مثلها عن علي بن المديني ..

    المذهب الثاني :
    وهو مذهب بعض أهل السنة والجماعة : وهو جواز الشهود لمعين بجنة أو نار .
    وممن ذهب إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بشرط شهادة الأمة .. كما سيأتي ..
    واستدل هذا الفريق بحديث : المؤمنون شهداء الله في الأرض .. وبغيره ،،
    وسنفرد لعرض هذه الأدلة ومناقشتها فصلا على حده .

    الدليل الرابع : غياب نية المجاهد في سبيل الله عن الناس

    فالشهادة بالشيء لا تكون إلا عن العلم به ، وشرط كون الإنسان شهيدا أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، وهي نية باطنة لا سبيل إلى العلم بها ، وعلى هذا أحاديث ..
    1- قال النبي صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود وأحمد : النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والوئيد في الجنة . الحديث وسنده صحيح .
    2- ومن حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - : قال : قال رجل لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد : أرأيتَ إنْ قُتِلتُ أين أنا ؟ قال : في الجنة ، قال : فألْقى تمْرات في يده ، ثم قاتل حتى قُتل . أخرجه البخاري ومسلم والنسائي
    والشاهد منهما : هو أمر معلوم شرعا وعرفا ، وهو أن الشهيد في الجنة .
    3- ومنها عند البخاري في الصحيح : باب لا يقال فلان شهيد .. وأورد حديث أبي هريرة : ما من ملكوم يكلم في سبيل الله ، والله أعلم بمن يُكلم في سبيله ..
    والحديث جاء في صحيحه متصلا في كتاب الجهاد قال: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به مرفوعا ..
    والشاهد منه قوله : والله أعلم بمن يكلم في سبيله ، وفيه الاستثناء لعدم الجزم بنية المجاهد .
    وفي الصحيح أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم : مثل المجاهد في سيبل الله ، والله أعلم بمن يجاهد في سبيله .
    رواه البخاري من حديث أبى هريرة ، وفيه أيضا الاستثناء لعدم الجزم بنية المجاهد .
    قال ابن حجر في فتح الباري :
    قوله باب لا يقال فلان شهيد : أي على سبيل القطع بذلك إلا إن كان بالوحي .. وعلى هذا فالمراد النهي عن تعيين وصف واحد بعينه بأنه شهيد بل يجوز أن يقال ذلك على طريق الإجمال . اهـ
    وقال ابن حجر أيضا في الفتح :
    ووجه أخذ الترجمة منه يظهر من حديث أبي موسى الماضي من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ولا يطلع على ذلك إلا بالوحي فمن ثبت أنه في سبيل الله أعطى حكم الشهادة ، فقوله : والله أعلم بمن يكلم في سبيله ، أي فلا يعلم ذلك إلا من أعلمه الله فلا ينبغي إطلاق كون كل مقتول في الجهاد أنه في سبيل الله ... ووجه أخذ الترجمة منه أنهم شهدوا رجحانه في أمر الجهاد فلو كان قتل لم يمتنع أن يشهدوا له بالشهادة وقد ظهر منه أنه لم يقاتل لله وإنما قاتل غضبا لقومه فلا يطلق على كل مقتول في الجهاد أنه شهيد لاحتمال أن يكون مثل هذا وإن كان مع ذلك يعطى حكم الشهداء في الأحكام الظاهرة ، ولذلك أطبق السلف على تسمية المقتولين في بدر وأحد وغيرهما شهداء والمراد بذلك الحكم الظاهر المبني على الظن الغالب والله أعلم ..
    وقال ابن عبد البر في التمهيد (19/ 14) : وفي قوله عليه السلام "والله أعلم بمن يكلم في سبيله " دليل على أن ليس كل من خرج في الغزو تكون هذه حاله حتى تصح نيته ويعلم الله من قلبه أنه خرج يريد وجهه ومرضاته ، لا رياء ولا سمعة ولا مباهاة ولا فخرا . اهـ

    4- وعن جابر بن عتيك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت ... فقالت ابنته : والله إن كنت لأرجو أن تكون شهيدا فإنك قد كنت قضيت جهازك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته.
    الحديث رواه أبو داود وابن حبان والنسائي كبرى وصححه الألباني لغيره .

    5- وقول النبي صلى الله عليه وسلَّم : " إنَّ الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، وهو من أهل النار " . متفق عليه .
    وشاهده فيما نحن في صدد بيانه واضح .. وهي قصة قزمان ..
    لا سيما إذا علم سبب ورود هذا الحديث ، وقد جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا فلما مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه فقالوا ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إنه من أهل النار .. الحديث
    ولما علم الصحابة أنه جرح واستعجل الموت فقتل نفسه بسيفه قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام أعلاه وهو : إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة .
    فقد شهد الصحابة لهذا الرجل وهم من هم ، واستلزمت شهادتهم له الشهادة والجنة ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر على غير ذلك ..
    وأن الحكم بالشهادة ما هو إلى تأل على الله تعالى وحكم بغيب لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى ، فإننا لو شهدنا لأحد بعينه أنه شهيد لزم من تلك الشهادة أن نشهد له بالجنة وهذا خلاف ما كان عليه جمهور أهل السنة فإنهم لا يشهدون بالجنة إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم ، بالوصف أو بالشخص . وتفصيله في الدليل الخامس ..
    والأمر الأهم من ذلك : حصوله على مميزات الشهادة وقد ذكرناها من قبل .
    6- عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
    تكفل الله عز وجل [ أو تضمن الله ، أو انتدب الله ] لمن خرج مجاهدا في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد ، والإيمان بالله ورسوله ، وتصديقا به [ وتصديق كلماته ] ، إن توفاه أن يدخله الجنة ، أو يرده إلى بيته الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة .
    حديث صحيح رواه البخاري 2955 في كتاب الخمس ومسلم في الإمارة 1876 وهذا لفظ سعيد بن منصور في سننه (5/ 309) .
    وهو غني عن الشرح والبيان ..

    الدليل الخامس : وفيه حديث مرفوع ونهي صريح لعمر وابن مسعود رضي الله عنهما وروايات مرسلة .

    وقد ورد النهي الصريح عن القول بأن فلان شهيد ، جاء في حديث مرفوع وصح عن عمر وابن مسعود موقوفا ، وهما يجزمان بالنهي لعدم وجود المعارض ..

    1- فأما ما روي مرفوعا
    فروى أبو يعلى في مسنده عن أبي هريرة قال : قتل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فبكت عليه باكية ، فقالت : واشهيداه ! قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : مه ! ما يدريك أنه شهيد ؟ ولعله كان يتكلم بما لا يعنيه ، ويبخل بما لا ينقصه .
    رواه أبو يعلي (11/523) وابن عدي في الكامل (5/370) ومن طريقه البيهقي في الشعب (5010) عن عصام بن طليق نا سعيد ( والصحيح : شعيب وهو ابن العلاء ) عن أبي هريرة ، وقال البيهقي: وروي في معناه عن الأعمش عن أنس وقيل عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس.
    قلت : ذكره في باب السخاء قال أنس : استشهد منا رجل يوم أحد فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت هنيئا لك يا بني الجنة [ وفي رواية قالت : ليهنك الشهادة ] فقال النبي : ما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ، ويمنع ما لا يضره .
    رواه البيهقي في الشعب (7/425) عن الأعمش عن أبي سفيان وهو طلحة بن نافع عن أنس به ، وفي سند البيهقي من لم أهتدي لتراجمهم . والتفصيل في الضعيفة .
    ورواه البخاري في غير صحيحه ( كما في تاريخ الإسلام للإمام الذهبي 10/ 358 في ترجمة عصام ) عن أحمد بن صالح ، نا عصام طليق ، نا شعيب ، عن أبي هريرة : قتل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيداً ، فبكته باكية ، فقال لها : ما يدريك أنه شهيد ، فلعلّه كان يتكلّم فيما لا يعنيه ، أو يبخل بفضل ما لا ينفعه .
    وفيه عصام بن طليق وهو ضعيف باتفاق وشيخه شعيب مجهول ما وثقه غير ابن حبان والألباني ضعفه في الضعيفة وصححه لغيره في صحيح الترغيب .
    ولا أدري هل تصحيحه لغيره هو المختار أم تضعيفه .. فالله أعلم .
    وقد استنكر الإمام الألباني رحمه الله ، في الضعيفة قوله صلى الله عليه وسلم للمرأة : ما يدريك أنه شهيد ولعله كان يتكلم بما لا يعنيه ، ويبخل بما لا ينقصه ..
    فقال في السلسة الضعيفة (رقم 6107) : وإنما خرجت الحديث هنا لأنني استنكرت ذكر الاستشهاد في بعض طرقه مع ضعفها ، ولمنافاة ذلك لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين " رواه مسلم ، فكيف لا يغفر له ما ذكر في الحديث مع الكلية المذكورة في الحديث الصحيح ، ولم يستثن منها إلا الدين ؟ . اهـ
    قلت : نعم ، الشهادة في سبيل الله تكفر كل شيء إلا الدين ، وكذلك الغال فإنه لا يقال له شهيد كما ثبت في الحديث الصحيح .
    فمن موانع الشهادة غير الدين : الغلول – وقيل : عدم إذن الوالدين – والفرار من الزحف جبنا فإن قتل وهو فار فليس بشهيد ، وكذلك عموم المعاصي بالنسبة للشهيد فإن كانت مرتبطة بالجهاد والقتال فإنها تبطل الشهادة على رأي الجمهور .
    وسيأتي معنا أربعة أحاديث مرسلة تخص النهي عن القول لقتيل المعركة أنه شهيد إذا ارتكب معصية ..
    وقال ابن عبد البر في التمهيد (1/238 ) : وروينا في هذا المعنى عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه قال: " لا تغل ولا تخف غلولا ولا تؤذ جارا ولا رفيقا ولا ذميا ولا تسب إماما ولا تفر من الزحف " يعني ولك الشهادة إن قتلت . اهـ
    وقال أيضا في (1/237) : شرط الشهادة شديد فمن ذلك ألا يغل ولا يجبن وأن يقتل مقبلاً غير مدبر وأن يباشر الشريك وينفق الكريمة ونحو هذا كما قال معاذ . والله أعلم. اهـ

    وعند الترمذي (2317) بسند ضعيف من حديث أنس : توفي رجل فقال رجل آخر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع : أبشر بالجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو لا تدري ؟ فلعله تكلم فيما لا يعنيه ، أو بخل بما لا ينقصه .
    فإن صح حديث أبي هريرة أو حديث أنس عند البيهقي ، أو أحدهما فهو شاهد قوي في المسألة مع أثري عمر وابن مسعود ، وإن كان ضعيفا فيستأنس به إن شاء الله تعالى .

    1- خطبة عمر رضي الله عنه
    عن ابن سيرين سمعه من أبي العجفاء سمعت عمر رضي الله عنه يقول :
    لا تغلوا صداق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة لكان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ما أنكح شيئا من بناته ولا نسائه فوق اثنتي عشرة وقيه، وأخرى تقولونها في مغازيكم قتل فلان شهيدا مات فلان شهيدا ولعله أن يكون قد وقر عجز دابته أو دف راحلته ذهبا وفضة يبتغى التجارة فلا تقولوا ذالكم ولكن قولوا كما قال محمد صلى الله عليه وسلم من قتل في سبيل الله فهو في الجنة .

    أخرجه أحمد (1/48 ) وابن حبان (10/480) والنسائي ( رقم :3349) وسعيد بن منصور (6/88 ) والحميدي في مسنده (1/13) وعبد الرزاق (6/175) وابن أبي شيبة (6/175) والطحاوي في المشكل (11/269) والمقدسي في المختارة (1/169) وابن عبد البر في التمهيد (18/345 ) والحاكم في المستدرك (2521و 2725) من طريق أحمد وقال : هذا حديث كبير صحيح ، وقال أيضا : تواترت الأسانيد الصحيحة بصحة خطبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
    كلهم من رواية محمد بن سيرين عن أبي العجفاء عن عمر ، وذكر الحاكم له روايات عدة عن سالم ونافع وابن عباس وابن المسيب فليراجعه من شاء .
    وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح ، وقال شعيب : إسناده قوي رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي العجفاء فقد روى له أصحاب السنن .. اهـ
    وصححه أحمد شاكر في تعليقه على مسند أحمد .

    فهذه خطبة لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، الخليفة الراشد ، على المنبر النبوي ، في أرض الشريعة والدين ، مهجر النبي والصديقين ، والصحابة متوافرون سامعون مقرون ، ولم يعرف منهم مخالف ..
    بل قد قال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد (1/237) :
    وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب من يسمعه يقول : من قتل في سبيل الله فهو شهيد ويقول لهم : " قولوا من قتل في سبيل الله فهو في الجنة ".
    قال أبو عمر: لأن شرط الشهادة شديد فمن ذلك ألا يغل ولا يجبن وأن يقتل مقبلاً غير مدبر وأن يباشر الشريك وينفق الكريمة ونحو هذا كما قال معاذ والله أعلم. اهـ

    وأكده كلام ابن مسعود رضي الله عنه وهو الآتي :

    2- أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
    في المسند : حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا روح ثنا حماد أنا عطاء بن السائب عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : إياكم أن تقولوا مات فلان شهيدا أو قتل فلان شهيدا فإن الرجل يقاتل ليغنم ويقاتل ليذكر ويقاتل ليرى مكانه فإن كنتم شاهدين لا محالة فاشهدوا للرهط الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فقتلوا فقالوا اللهم بلغ نبينا صلى الله عليه وسلم عنا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا .

    هكذا في مسند أحمد (1/416) ورواه ابن أبي عاصم في الجهاد (2/494) من طريق حماد بن سلمة عن عطاء عن أبي عبيدة ، عن أبيه به ..
    وقال شعيب الأرنؤوط : الحديث فيه انقطاع ..
    وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده ضعيف لانقطاعه ، وأصل معناه صحيح .
    وجود إسناده الشيخ أحمد الساعاتي في الفتح الرباني (14/34) ..
    ورواه الحاكم في المستدرك (2 /121) من رواية أبي إسحاق الفزاري عن عطاء بن السائب قال :
    سمعت أبا عبيدة بن عبد الله يقول : قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إياكم والشهادات أن تقول قتل فلان شهيدا فإن الرجل يقاتل حمية ويقاتل في طلب الدنيا ويقاتل وهو جريء الصدر ولكن سأحدثكم على ما تشهدون.. الحديث
    وقال هذا حديث صحيح الإسناد ( ووافقه الذهبي ) إن سلم من الإرسال فقد اختلف مشائخنا في سماع أبي عبيدة من أبيه ، وله شاهده موقوف على شرط الشيخين . اهـ
    وحماد بن سلمة ممن روى عن عطاء قبل وبعد الاختلاط فلا يصح إعلال الحديث به كما فعل الهيثمي في المجمع لمتابعاته الآتية ..
    ورواية أبي داود الطيالسي الآتية تثبت سماع عطاء من أبي عبيدة لهذا الحديث ..
    ومن قال أن علته الانقطاع فيقصد بين أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود وأبيه ..
    فإنه لم يروي عنه على رأي الجمهور من أهل التراجم والطبقات ..
    وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود ثقة ، قيل اسمه عامر وقيل كنيته اسمه .
    وقال الإمام الدارقطني في سننه (3/173) عن حديث ابن مسعود في دية الخطأ : أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه بالسند الصحيح عنه الذي لا مطعن فيه ولا تأويل عليه وأبو عبيدة أعلم بحديث أبيه وبمذهبه وفتياه من ... ونظرائه . اهـ
    وحسن روايته عن أبيه الترمذي وصححها الحاكم وحسنها الزيلعي في نصب الراية (4/358 ) مع علمهم بعدم سماعه من أبيه .
    ولأبي عبيدة رواية عن أمه زينب .. وذكر الذهبي في ترجمة الإمام الطحاوي روايته عن بكار بن قتيبة ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا سفيان، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن أبي عبيدة ، عن أمه ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله ليغار للمؤمن فليغر " . والحديث صحيح .
    وقد جاء في إكمال الكمال (4/411) لابن ماكولا أن سيرين أم أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، حدثت عن عبد الله ، وروى عنها المنهال بن عمرو. فالله أعلم .

    فإن صح هذا وعلمت الواسطة فلا ضير حينئذ .. والعلم عند الله تعالى ، فهذا شيء انقدح في ذهني ، ولست أهلا للجزم به .
    ويساعدني هنا قول يعقوب بن شيبة : إنما استجاز أن يدخلوا حديث أبي عبيدة عن أبيه في المسند - يعني في الحديث المتصل ـ لمعرفة أبي عبيدة بحديث أبيه وصحتها ، وأنه لم يأت فيها بحديث منكر . اهـ ( كما في شرح علل الترمذي لابن رجب 1/198 ) .
    ومثله ما قاله الشيخ الطريفي في كتابه التحجيل في تخريج ما لم يخرج في إرواء الغليل (1/377) : أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود وإن لم يسمع من أبيه ، إلا أن حديثه عنه يحمل على الاتصال .. ويغتفر في قبول الموقوف مالا يغتفر في المرفوع . اهـ
    وجاء عن عطاء من طرق غير طريق حماد ..
    فرواه أبو داود الطيالسي في مسنده (1/45) من طريق المسعودي عن عطاء بن السائب قال دخلت مسجد الكوفة يوم الجمعة فإذا رجل قد اجتمع الناس عليه ولو استطاعوا أن يدخلوه بطونهم لأدخلوه من حبهم إياه وإذا هو يحدث قال ، قال عبد الله : لا تكثروا الشهادة قتل فلان شهيدا وقتل فلان شهيدا .. قال وإن الرجل أبا عبيدة .
    ورواه أبو يعلى (9/255) من طريق جرير عن عطاء بن السائب به ..
    ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10 / 153) عن عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني إبراهيم بن أبي الليث ثنا الأشجعي عن سفيان (الثوري) عن عطاء بن السائب عن أبي عبيدة عن أبيه مختصرا ..
    وفيه إبراهيم بن أبي الليث ذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن أبي حاتم الرازي سئل أبي عنه فقال كان احمد بن حنبل يجمل القول فيه ويحيى بن معين يحمل عليه .
    وأرى بعد تتبع ترجمته أن روايته عن عبيد الله الأشجعي أقواها إن شاء الله تعالى .
    ورواه أيضا (10/153) من طريق مسعر بن كدام عن عطاء به ..
    وفيه أبو مقاتل حفص بن سلم السمرقندى وهو ضعيف باتفاق .
    فهذه الطرق إلى عطاء تثبت صحة روايته عن أبي عبيدة إن شاء الله تعالى .

    ومع ذلك لم ينفرد به أبي عبيدة ، فللأثر طريقين آخرين جاء عن هزيل بن شرحبيل وعبد الله بن معقل .. كلاهما عن عبد الله بن مسعود ..
    فأما رواية هزيل
    فرواها الحاكم في المستدرك (2 / 121) بسنده إلى آدم بن أبي إياس ثنا شعبة عن أبي قيس عن هذيل بن شرحبيل قال : خرج ناس فقتلوا فقالوا : فلان استشهد فقال عبد الله : إن الرجل ليقاتل للدنيا ويقاتل ليعرف وإن الرجل ليموت على فراشه وهو شهيد .. الخ ، وقال الحاكم : على شرط الشيخين ..
    قلت : سنده رجاله ثقات غير شيخ الحاكم عبد الرحمن بن الحسن القاضي الهمداني ترجمه الخطيب في تاريخه (12/292) والذهبي في تاريخ الإسلام (26/75) وبينا أنه ادعى الرواية عن إبراهيم بن الحسين بن ديزيل وهو ثقة فاتهم بذلك .
    ورواية ابن معقل
    رواها سعيد بن منصور في سننه (6/88 ) باب ما جاء في الرياء في الجهاد .. قال : نا أبو الأحوص ، قال : نا أشعث بن سليم ، عن عبد الله بن معقل ، قال : كنا قعودا عند عبد الله بن مسعود ، فقال رجل من القوم : قتل فلان شهيدا ، فقال عبد الله : وما يدريك أنه قتل شهيدا ؟ إن الرجل يقاتل غضبا ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رئاء ، إنما الشهيد من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا .
    وسنده صحيح ورواته ثقات أثبات ، وبه تصحح رواية أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود . والله أعلم .
    ملحوظة : في الروايات عنه اختلاف يسير في الألفاظ مع اتحاد المعنى وهو النهي الصريح في عدم الجزم بالشهادة للمعين .

    1- مرسلات مجاهد وزيد بن أسلم ويحيى بن أبي كثير والوليد بن هشام
    قال ابن حجر في الفتح : وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن مجاهد قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك قال : لا يخرج معنا إلا مُقَوِّىٍ فخرج رجل على بكر ضعيف فوقص فمات ، فقال الناس الشهيد الشهيد !! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بلال ناد أن الجنة لا يدخلها عاص .
    قال مجد الدين أبو السعادات ابن الأثير في النهاية (2/505) : مُقَوِّىٍ : أي ذو دابة قوية . اهـ
    رواه سعيد بن منصور في سننه (6/33 رقم2317 ) وفيها قال مجاهد : ما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا أشد من هذا .. وذكره
    ورواه عبد الرزاق في المصنف (5/177) عن مجاهد قال : أشد حديث سمعناه عن النبي صلى الله عليه وسلم .. فذكره .
    وصحح إسناده ابن حجر في الفتح وقال : وفيه إشارة إلى أن الشهيد لا يدخل النار لأنه صلى الله عليه وسلم قال أنه من أهل النار ولم يتبين منه إلا قتل نفسه وهو بذلك عاص لا كافر لكن يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على كفره في الباطن أو أنه أستحل قتل نفسه . اهـ
    ولا أدري ما هو وجه التصحيح !! فلعله أراد أن يقول : بإسناد صحيح إلى مجاهد ..
    ومعلوم أن مجاهد مرفوعا مرسل ، وإن قالوا مراسيله أحسن من مراسيل عطاء ، فالمرسل أيا كان ضعيفا كما هو المختار .
    وفي مصنف عبد الرزاق (5/179) عن ابن جريج عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم وهو مستقبل العدو : ولا يقاتل أحد منكم ، فعمد رجل منهم فرمى العدو وقاتلهم فقتلوه ، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم أستشهد فلان ، فقال : أبعد ما نهيت عن القتال ؟ قالوا : نعم ، قال : لا يدخل الجنة عاص .
    حديث مرسل سنده صحيح متصل وزيد بن أسلم من أجلة التابعين.
    وروى عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يقاتلوا من ناحية من جبل فانصرف الرجال عنهم وبقي رجل فقاتلهم فرموه فقتلوه فجىء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أبعد ما نهينا عن القتال ؟ فقالوا نعم ، فتركه ولم يصل عليه .
    مصنف عبد الرزاق (5/176) وسنده صحيح مرسل .

    وروى أبو داود في المراسيل (1/361) حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، أخبرنا رجاء أبو المقدام ، عن الوليد بن هشام ، أن رجلا ، حمل على المشركين يوم حنين وحده من غير أن يؤمر ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فنادى : لا يدخل الجنة عاص .
    مقطوع ، وسنده صحيح متصل ورجاله ثقات وحماد قريب الوفاة من أبو المقدام فلا ضير من تغيره .
    وروى أبو القاسم بن أعين وهو إخباري ثقة ، قال : حدثنا عبد الملك بن مسلمة قال حدثنا ضمام بن إسماعيل قال حدثنا عياش بن عباس قال : لما حاصر المسلمون الإسكندرية قال لهم صاحب المقدمة : لا تعجلوا حتى آمركم برأي ، فلما فتح الباب دخل رجلان فقتلا فبكى صاحب المقدمة فقيل له لا تبك وهما شهيدان ؟ قال : ليت أنهما شهيدان ! ولكن سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول : لا يدخل الجنة عاص ، وقد أمرت أن لا يدخلوا حتى يأتيهم رأيي فدخلوا بغير إذني . اهـ
    فتوح مصر وأخبارها (1/89) والظاهر من روايات المؤلف أن صاحب المقدمة هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح كما قاله ضمام بن إسماعيل ظنا ، وشيخ المؤلف عبد الملك منكر الحديث وعياش ثقة لكنه لم يدرك عبد الله بن سعد . فالأثر ضعيف جدا .

    وللعلم اذكر هذه الآثار وليس للاستشهاد ، لكي يكون الموضوع ملما بأحاديث وآثار الباب .. وفق الله لما يحب ويرضى .

    الدليل السادس : تخصيص الشهادة النبوية للمعين

    ومن الأحاديث الفاصلة في هذه المسألة والتي لم أر أحدا ذكرها في معرض النقاش حول هذا الموضوع ، ألا وهي شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه نصا على الشهادة لمعين .. ويحضرني هنا أحاديث عدة أقتصر منها على التالي :

    الحديث الأول : حديث الصحابي في غزوة خيبر وقد أعطوه من الغنائم فقال لرسول الله : ما على هذا تبعتك ، ولكن اتبعتك على أن أرمي إلى ها هنا - وأشار إلى حلقه - بسهم فأموت ، فأدخل الجنة ، فقال : إن تصدق الله يصدقك .. فلبثوا قليلا .. فأصابه سهم حيث أشار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أهو هو؟ قالوا : نعم ، قال : صدق الله فصدقه .. وقال : اللهم هذا عبدك ، خرج مهاجرا في سبيلك ، فقتل شهيدا ، أنا شهيد على ذلك ".
    أخرجه النسائي (1/277) والطحاوي (1/291) والحاكم (3 / 595) والبيهقي (4/ 15) وعبد الرزاق وصححه الألباني في صحيح النسائي رقم 1845.

    والحديث الثاني : حديث غزوة مؤتة : وقوله صلى الله عليه وسلم في حديثه :
    ثم أخذ اللواء جعفر بن أبى طالب فشد على القوم حتى قتل شهيدا ، أشهد له بالشهادة فاستغفر له الناس ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فثبت قدميه حتى قتل شهيدا ، أشهد له بالشهادة فاستغفروا له فاستغفر له الناس .. الحديث
    رواه أحمد والبيهقي وابن حبان والنسائي في الكبرى وصححه الألباني .
    والحديث الثالث : في قصة ثابت بن قيس بن شماس وقول النبي صلى الله عليه وسلم له : بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة .
    الحديث ضعفه الألباني في الضعيفة ( رقم 6398 ) لكن قال في آخره : أن ما في الحديث من شهادته صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بأنه من أهل الجنة ، وخوفه رضي الله عنه من رفعه صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم قد صح ذلك من حديث أنس عند البخاري (3613) ، ومسلم (1/77) وابن حبان (7124) والبيهقي (6/354) ، وأحمد (3/137 و 146) ، وغيرهم من طرق عن أنس ، وفي بعضها أنه قتل شهيداً يوم اليمامة رضي الله عنه . اهـ
    قلت : في رواية البخاري من حديث أنس : قال له : اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكن من أهل الجنة .
    وعند ابن حبان : يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة ؟
    قال : بلى يا رسول الله ، قال : فعاش حميدا وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب.
    والحديث الرابع :
    وهو عن شهداء أحد كما في رواية عن جابر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : أنا شهيد على هؤلاء ، لفوهم في دمائهم ، فإنه ليس جريح يجرح ( في الله ) إلا جاء وجرحه يوم القيامة يدمي ، لونه لون الدم ، وريحه ريح المسك " .
    رواه البيهقي (4/10) وكذا ابن سعد في الطبقات والزيادة له ، وإسناده صحيح على شرط مسلم. وانظر إحكام الجنائز (1/54).
    والشاهد من هذه الأحاديث الأربعة ظاهر ، وهو أنه جزم لهم بالشهادة خاصة ، ولم يعمم ، فدل على أن ليس كل قتيل في المعركة شهيد .
    أما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعيين البعض وتسميته شهيدا ..
    فهو كثير جدا .. مثل شهادته لعمر وعثمان بالشهادة في حديث الصحيحين : أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان ..
    وشهادته صلى الله عليه وسلم بالشهادة غير شهادته بالجنة ..
    فشهادته للعشرة بالجنة صحيح مشهور .. وجاء عند مسلم ، والترمذى ، والنسائى وغيرهم عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن عبدا لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبا فقال يا رسول الله ليدخلن حاطب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدرا .
    وإنما المعني هنا هو الشهادة للمعين بأنه شهيد ..
    ومنه شهادة النبي لطلحة بأنه شهيد يمشي على الأرض
    عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى طلحة يمشي في بعض سكك المدينة فقال شهيد يمشي على وجه الأرض .
    وفي رواية : من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله .
    رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم والطبراني وابن عساكر وغيرهم وصححه في الصحيحة .
    ومن ذلك قصة عامر بن الأكوع عم سلمة وقصته في الصحيحين ، لما كان في خيبر أصاب ركبته بسيفه فمات منها ..
    قال سلمة بن الأكوع في حديثه : رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي قال مالك ؟ . قلت له : فداك أبي وأمي زعموا أن عامرا حبط عمله ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : كذب من قاله ، إن له لأجرين - وجمع بين إصبعيه - إنه لجاهد مجاهد قل عربي مشى بها مثله .
    وفي رواية ابن إسحاق : إنه لشهيد .. وسنده لا بأس به إن شاء الله تعالى.
    ومثل الشهادة لحارثة بأنه شهيد في الجنة كما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه : أن أم الربيع بنت البراء - وهي أم حارثة بن سراقة - أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله ! ألا تحدثني عن حارثة ، - وكان قتل يوم بدر- ، أصابه سهم غـرب فإن كان في الجنة صبرت ، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء . قال : يا أم حارثة ، إنها جنان في الجنة ، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى .
    ولو تتبعنا مثل هذا لوجدناه كثيرا .. والعلم عند الله تعالى .

    يتبع الفصل الثاني إن شاء الله تعالى لمناقشة أدلة المجوزين ..

  • #2

    الفصل الثاني : أدلة من جوز تسمية المعين بالشهيد بلا نص أو اتفاق سديد .


    وأعني بها الأدلة التي جاء ذكرها في بحث الشيخ عبد الله زقيل - حفظه الله- فيما نقله من الكتاب المذكور ، ومن غيره لمن استشهد على ذلك برأي أو فتوى لبعض العلماء ..
    وأنا لا أقصد الرد على شيخنا الزقيل ، فقد علمناه محققا ثبتا ، داعيا إلى منهج أهل السنة ومن أهلها ، ملما بحوادث العصر بإتقان ، وإنما عولت على بحثه لكثرة الأدلة التي استشهد بها الطرف الآخر المجيز ..
    فنقول والله المستعان :

    الدليل الأول على الجواز :
    وهو استدلالهم بحديث : المؤمنون شهداء الله في الأرض .
    فأنقل ها هنا رواية جمعها الألباني جمعا حسنا ووفق بين زياداتها ..
    عن أنس رضي الله عنه قال : مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة ، فأثنى عليها خيرا ، ( وتتابعت الألسن بالخير) ، فقالوا : ( كان - ما علمنا - يحب الله ورسوله ) ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : وجبت وجبت وجبت، ومر بجنازة فأثني عليها شرا ( وتتابعت الألسن لها بالشر ) ، ( فقالوا : بئس المرء كان في دين الله ) ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : وجبت وجبت وجبت ، فقال عمر : فدى لك أبي وأمي ، مر بجنازة فأثني عليها شرا ، فقلت : وجبت وجبت وجبت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار ( الملائكة شهداء الله في السماء ، و) أنتم شهداء الله في الأرض ، أنتم شهداء الله في الأرض ، أنتم شهداء الله في الأرض ، ( وفي رواية : والمؤمنون شهداء الله في الارض ) ، ( إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر ) .
    خرجه الألباني في أحكام الجنائز (1/44) وقال : أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وصححه ، وابن ماجه والحاكم والطيالسي وأحمد من طرق عن أنس ، والسياق لمسلم ، والرواية الأخرى لابن ماجه ، ورواية لأحمد والبخاري ، والزيادات كلها إلا التي قبل الأخيرة لأحمد ، وللبخاري الأولى منها ، وللحاكم الأخيرة وصححها ، ووافقه الذهبي وهو كما قالا .. الخ
    ومثله حديث : يوشك أن تعرفوا أهل الجنة من أهل النار ! قالوا بم ذاك يا رسول الله ؟ قال بالثناء الحسن والثناء السيئ ، أنتم شهداء الله بعضكم على بعض .
    الحديث رواه أحمد وابن ماجة والحاكم والبيهقي وحسنه الألباني .
    ملاحظة مهمة جدا :
    وهي أن من استشهد بهذا الحديث على جواز الشهادة للمعين بأنه شهيد تجنى على الأدلة وفعله ظاهر الخطأ ، إذ إنه سوى بين الشهادة للمعين بأنه من أهل الجنة والشهادة للمعين بأنه شهيد ، والفرق ظاهر ومر معنا بيان للفرق بينهما .
    والكلام على الحديث في نقاط ثلاث :
    الأولى في صفة الثناء :
    ففي رواية الحاكم : فقالوا كان يحب الله ورسوله ويعمل بطاعة الله ويسعى فيها . وقالوا للتي أثنوا عليها شراً : كان يبغض الله ورسوله ويعمل بمعصية الله ويسعى فيها .
    ففيه تفسير ما أبهم من الخير والشر في رواية الشيخين .
    وقال النووي : وهذا الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شراً كان مشهوراً بنفاق أو نحوه .
    وقال الحافظ : يرشد إلى ذلك ما رواه أحمد من حديث أبي قتادة بإسناد صحيح أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل على الذي أثنوا عليه شراً وصلى على الآخر . اهـ
    الثانية : ممن الثناء على الحقيقة :
    قد وقع في رواية النضر بن أنس عن أبيه عند الحاكم في آخر الحديث : إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر .
    وهي هنا فيصل الأمر في المسألة ، إذ إنها أرجعت حقيقة شهادة الناس للمحسن المستحق بفضل الله الجنة ، وللمسيء المستحق بمعصيته النار ، إلى أمر غيبي وهي نطق الملائكة على ألسنة البشر ، وهذا كاف في أن تلك الشهادة من الله حقيقة ويبنى عليها أن تلك الشهادة تؤدي إلى الشهادة بالجنة والنار حقيقة .
    الثالثة : هل هذا الثناء موجب للجنة ؟
    جاء في شرح مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي (5/793) قال :
    ونقل الطيبي عن بعض شراح المصابيح : أنه قال ليس معنى قوله "أنتم شهداء الله" أن ما يقول الصحابة والمؤمنون في حق شخص يكون كذلك ؛ لأن من يستحق الجنة لا يصير من أهل النار بقولهم " ولا من يستحق النار " يصير من أهل الجنة بقولهم ، بل معناه أن الذي أثنوا عليه خيراً رأوا منه الصلاح والخيرات في حياته ، والخيرات والصلاح علامة كون الرجل من أهل الجنة ، والذي أثنوا عليه شراً رأوا منه الشر والفساد ، والشر والفساد من علامة النار ، فترجى الجنة لمن شهد له بالخير ، ويخاف النار لمن شهد له بالشر وتعقبه . اهـ
    وفيها أيضا : فقيل : هذا مخصوص بمن أثنى عليه أهل الفضل وكان ثناءهم له مطابقاً لأفعاله فهو من أهل الجنة فإن كان غير مطابق فلا وكذا عكسه ..
    والصحيح أنه على عمومه وإطلاقه ، وأن كل مسلم مات فألهم الله الناس أو معظمهم الثناء عليه كان ذلك دليلاً على أنه من أهل الجنة سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا إذ العقوبة غير واجبة بل هو في خطر المشيئة ، فإذا ألهم الله الناس الثناء عليه استدللنا بذلك على أنه تعالى قد شاء المغفرة له ، وبهذا تظهر فائدة الثناء ، وإلا فإذا كانت أفعاله مقتضية للجنة لم يكن للثناء فائدة ، وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم له فائدة .
    قال الحافظ : وهذا في جانب الخير واضح ، ويؤيده ما رواه أحمد وابن حبان والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مرفوعاً : ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيراً ، قال الله تعالى : قد قبلت قولكم وغفرت له مالا تعلمون .
    وأما جانب الشر فظاهر الأحاديث أنه كذلك ، لكن إنما يقع ذلك في حق من غلب شره على خيره . اهـ
    ومن الخلاف هنا : هل هذا خاص بزمن الصحابة أم أنه عاما للمؤمنين في كل زمان ؟
    الصحيح المختار : أنه عاما ولكن في غير زمن الصحابة يحتاج إلى الإجماع ..
    كما قال ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وكذلك من أجمعت الأمة على الثناء عليه فإننا نشهد له بالجنة فمثلا الإمام أحمد رحمه الله الشافعي أبو حنيفة مالك سفيان الثوري سفيان بن عيينة وغيرهم من الأئمة أجمعت الأمة على الثناء عليهم فنشهد لهم بأنهم من أهل الجنة. شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أجمع الناس بالثناء عليه إلا من شذ ومن شذ ، شذ في النار يشهد له بالجنة على هذا الرأي . اهـ والله أعلم .
    أما ما جاء في شرح العقيدة الطحاوية للشيخ خالد بن عبد الله المصلح قال :
    فيرى شيخ الإسلام رحمه الله أن شهادة الأمة لشخص بأنه من أهل الإحسان ، وأنه من أهل الجنة ؛ يسوغ الشهادة له بالجنة كالأئمة الأربعة وغيرهم ممن لهم لسان صدق في الأمة ، وقدموا سبقاً فيها ، لكن هذا خلاف ما عليه الأكثرون من أنه لا يشهد لأحد بالجنة إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن كان له لسان صدق في الأمة فإنه يكفي أن نقول : يرجى له كغيره ؛ لأن شهادتنا لمعين بجنة أو بنار لن تقدم ولن تؤخر ما عند الله جل وعلا ، فإن كان من أهل الجنة فلن تزيده شهادتنا فضلاً ، وإن كان من أهل النار فلن تزيده عذاباً وسخطاً . اهـ
    فرده على شيخ الإسلام غير صحيح لأن ابن تيمية قيده بشهادة الأمة وهي في معنى الإجماع وهو قيد قوي وله مكانته في التشريع ..
    وعليه فرأي الجمهور هو الصواب ، وهو أنه لا يشهد لأحد بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا إذا ورد نص أو إجماع أو ما يقرب منه وهو شهادة الأمة .
    وأعني بالإجماع هنا ما يراد به حكم الجماعة المسلمة في وقت ما على المعين بأنه من أهل الجنة ، فهو من أهل الجنة إن شاء الله تعالى حسب الظاهر للمسلمين وقتئذ ولا يقطع به جزما لأنه ضرب من الغيب ، لذلك نصوب من يقول : هو من أهل الجنة إن شاء الله تعالى ..
    وبان لنا من رواية الحاكم أن هذا الثناء إنما هو من فعل الملائكة على الحقيقة ..
    وعلى هذا نقول : إذا ثبت أن هذا الحديث يتكلم عمن يستحق الجنة من أهل الفضل والصلاح بشهادة المؤمنون ، فلا يصح الاستثناء للمعين بالشهادة فنقول هو شهيد إن شاء الله ، للنهي الوارد فيما ذكرنا أعلاه ، وإنما نقول نرجو له الشهادة أو نقول بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما علمنا أمير المؤمنين عمر : من فعل كذا فهو شهيد .. والله أعلى وأعلم .

    الدليل الثاني على الجواز :
    وهو إقرار النبي للصحابة على قولهم فلان شهيد .
    فأورد مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :
    لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابه النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا فلان شهيد فلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا فلان شهيد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة .. الحديث
    فقال المجوزون :
    في الحديث قد أقرهم على القول بالشهادة لمن هم قبل صاحب البردة ؟
    وفي الحديث نهي عن القول لعلة ، وهي الغلول ، ولم يطلع عليها غيره صلى الله عليه وسلم .
    فيقال : هاهنا ثلاثة مسائل هامة جدا :
    المسألة الأولى : عن قوة سند حديث مسلم .
    ففي حديث مسلم هذا عن عمر وفيه قولهم : فلان شهيد فلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا فلان شهيد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلا .. الخ
    هو من أفراد مسلم ، وليس متفقا عليه كما أوهم البعض أنه في الصحيحين ، ولا حتى رواه البخاري أصلا ، وإنما رواه أحمد وابن حبان والبيهقي وغيرهم من طريق عكرمة بن عمار عن أبي زميل حدثني ابن عباس حدثني عمر بن الخطاب به .
    وعكرمة بن عمار احتج به الجماعة إلا البخاري وهو صدوق يغلط .
    وذكره ابن حجر في طبقات المدلسين (1/42) وقال : وصفه أحمد والدارقطني بالتدليس . وفي جامع التحصيل في أحكام المراسيل للعلائي ( 1/108 ) قال: ذ كره أبو حاتم الرازي بذلك .
    وقال البيهقي في السنن الكبرى (1/134 حديث رقم 634 وفي 8/303 حديث رقم: 17212): وعكرمة بن عمار قد اختلفوا في تعديله ، غمزه يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل وضعفه البخاري جدا. وقال: اختلط في آخر عمره وساء حفظه ، فروى ما لم يتابع عليه . اهـ
    ونقله عنه ابن الكيال في كتابه الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات (1/492) كالمقر له ، ولم يحكي غيره .
    وفي ترجمته في الميزان قال في آخرها : وفي صحيح مسلم قد ساق له أصلا منكرا عن سماك الحنفي عن ابن عباس في الثلاثة التي طلبها أبو سفيان .. اهـ
    قلت رواه مسلم في فضائل أبي سفيان ( رقم: 6565 ) ..
    وقال المعلمي اليماني رحمه الله في الأنوار الكاشفة (1/224) عنه: وفي سنده عكرمة بن عمار موصوف بأنه يغلط ويهم ، فمن أهل العلم من تكلم في هذا الحديث وقال انه من أوهام عكرمة ، ومنهم من تأوله .. اهـ
    الشاهد مما ذكرت : أنه هو نفس السند ها هنا .. فقد رواه عكرمة عن أبي زميل عن ابن عباس .
    وأبي زميل : هو سماك بن الوليد الحنفي ، وهو الآخر قد ضعفه أحمد ووثقه ابن معين ، وخلاصة رتبته عند الذهبي وابن حجر : صدوق لا بأس به .
    ولذلك غمزه النووي في شرحه على مسلم فقال : في الإسناد أبو زميل .
    وعكرمة بن عمار شيخ من شيوخ أهل السنة منافحا عن العقيدة محاربا للقدرية وقالوا انه كان مستجاب الدعاء .. إلا أننا يهمنا هنا حفظة وضبطه لما يروي ، وهو وإن وثقه موثق فقد ضعفه آخرين ، ومن توسط ، قال هو صدوق يغلط ..
    وعموما .. الحديث لا نجازف بضعفه ، وإنما نشير إلى تفاوت قوته عن غيره من الأحاديث ، لأن كثيرا من الأخوة جعلوه الدليل الوحيد على الجواز ..
    المسألة الثانية : هل النهي كان لعلة الغلول فقط ؟
    قالوا : في الحديثين نهى عن القول بشهادة الغال ولا حرج في القول بها لغيره ..
    فيقال لهم : ومن يعلم الغال من غيره وهو غيب ؟
    ويقال أيضا : من قال أن الغال فقط هو من لا يستحق أن يقال عنه شهيد تعيينا ؟
    فالمسألة برمتها تقضي بظاهرها على عدم الجزم للمعين بأنه شهيد ، واستثناء الغال إنما هو دليل لنا لا علينا ، لأن مساق الحديث على الأصل جاء لهذا الغرض كما هو واضح ، ويكفي أن راويه هو عمر الذي نهى على المنبر بتسمية من قتل بالشهيد كما سيأتي .
    المسألة الثالثة :
    قالوا بأن إقراره صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لمن قال منهم " فلان شهيد ، فلان شهيد " كاف في الجواز ، لأن إقراره صلى الله عليه وسلم لهم هو إقرار للأمة ؟
    فيقال لهم : هذا في حضوره ، وإقراره صلى الله عليه وسلم من سنته ولأنه نبي يوحى إليه ، أما بعد وفاته فلا يجزم به لانقطاع الوحي كما هو ظاهر.
    ونتفق معكم أن إقراره صلى الله عليه وسلم للصحابة هو إقرار للأمة .. وهذا أمر بدهي لا يختلف عليه ، إن شاء الله تعالى .. ولكن في القضية نصوص صريحة جازمة - كما مر معنا – وأهمها ما جاء عن عمر رضي الله عنه في النهي عن تسمية المعين بالشهيد على المنبر بحضور الصحابة !! ومثله عن ابن مسعود رضي الله عنهما .. ولا مخالف لهما من الصحابة .
    بل جاء عند ابن عبد البر في التمهيد قوله : وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب من يسمعه يقول : من قتل في سبيل الله فهو شهيد ، ويقول لهم : " قولوا من قتل في سبيل الله فهو في الجنة ". اهـ
    وأزيد هذه المسألة بيانا فأقول : أن قول الرهط من الصحابة " فلان شهيد ، فلان شهيد " مع الإقرار النبوي ، هو بمثابة الإجماع على تعيين الشهيد ، وهو ما تمسك به جمهور أهل السنة فقالوا : إلا بنص ... كما مر .
    وتقييدنا الجواز بالنص والإجماع .. ليس هو الإجماع الأصولي وما يدور حوله من إشكالات وقيود ، وإنما أعني بالإجماع هو ما ذكره شيخ الإسلام وأسماه " شهادة الأمة " أي شهادة أهل العدل والصلاح ..
    أمر آخر : وهو النصوص الكثيرة المذكورة في النهي عن الجزم للمعين بالجنة فضلا عن الشهادة .. كما مرت مفصلة مرتبة .
    ولو لم يكن إلا قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار .. الحديث
    فما " يبدو للناس " ليس حكما على نية الرجل وحقيقة مآله ، وإنما ما ظهر لهم من التقوى والصلاح والخير والعبادة يشهدوا به ، ويتوقفوا في الشهادة له بالجنة أو أن يطلقوا عليه شهيدا ، لأنه غيب عنهم ، ويصح فقط عندما تشهد له الأمة بصورة يستحيل نقضها .
    ثم ماذا نفهم من مساق الحديث على الأصل .. ماذا نستنتج بداهة إذا علمنا أن الراوي هو عمر ، وأن آخر الحديث ينفي الجزم لقتيل في المعركة بالشهادة .
    ولنقل جدلا أن الإقرار على هذه الصورة المذكورة في الحديث .. يثبت جواز القول للمعين المقتول في المعركة بأنه شهيد .. هل يقارن بالنصوص الكثيرة المذكورة في النهي عن الجزم بمآل المسلم ؟
    وهل يتساوى الإقرار السكوتي في حديث واحد حول ثبوته كلام ، بالسنة القولية الصحيحة والمذكورة في أحاديث كثيرة ؟
    وإذا كان الحديث يفهم منه بعض العلماء ما ذكر من الجواز ، فهل لا ينهض نهي عمر وابن مسعود رضي الله عنهما - ولا مخالف لهما من الصحابة والتابعين- في فهم خلاف ما هو متبادر على رأي بعض العلماء الأجلاء ؟
    والنص من الصحابة على تسمية معين بأنه شهيد ، قد يكون في حكم المرفوع إن كان ما قالوه لا يقال بالرأي ، ولو في زمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، واضرب لهذا النوع بمثل : وهو حديث طلحة بن عبيد الله الذي سماه النبي شهيدا يمشي على الأرض ، وما مات إلى في الفتنة يوم الجمل ، فلا يشك عاقل أنه من الشهداء ..
    وقد يقال من الصحابة بالرأي والاجتهاد ، والحكم هاهنا هو القرينة الظاهرة ..
    فهل إطلاق الصحابة على تعيين أشخاص بعينهم أنهم شهداء ، يساوي شهادة من بعدهم على المعين بذلك ؟
    هل يتساوى حكم الصحابة على بعضهم ، بحكم من بعدهم على من في زمنهم ؟
    إن كان الجواب بنعم .. فقد أهدرت نصوص لا تحصى كثرة وشهرة في الفرق بين الصحابة ومن بعدهم ..
    وإن كان الجواب بالنفي .. فقد التئم الصدع وزال الخلاف وثبت المراد والحمد لله ..

    الدليل الثالث على الجواز :
    قول الإمام ابن حجر : ولذلك أطبق السلفُ على تسميةِ المقتولين في بدرٍ وأحدٍ وغيرهما شهداء .. اهـ
    قلت : هذا صحيح ، ومن أكمل كلام ابن حجر سيعرف أنه إنما ذهب إلى ترجيح النهي عن تسمية المقتول في الجهاد والمعارك بأنه شهيد ولكن يأخذ أحكام الشهداء كما مر نص كلامه في الفتح على شرح حديث أبي هريرة ..
    والكلام على هذا الاعتراض من ناحيتين :
    الناحية الأولى : أن يقال هذه التسمية كانت مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم نص على ذلك وأقر ولأن هذا لا يعلم إلا بالوحي .. فلا يقاس عليه غيره بعد انقطاع الوحي.
    ولذلك كلام جمهور أهل السنة : لا يقطع لأحد بالجنة إلا بالنص ، كما ذكرنا .
    فأما النص على أن أهل بدر شهداء ، ففي قوله صلى الله عليه وسلم : لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ..
    وأما أهل أحد فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد .. وقال : أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة .. رواهما البخاري .
    فهذان نصان لبدر وأحد خاصة ، ولا يحتملا التأويل ولا يقاس عليهما لانقطاع الوحي .
    الناحية الثانية : أن يقال على شهداءُ أحدٍ ، وشهداءُ بدرٍ ، وشهداءُ اليمامة ، وشهداء اليرموك ، والقادسية ، ومعركة الجسر ، وحطين .. الخ
    أن هذا إجماع صحيح على الجملة .. وكذلك نقول على الجملة مثلا : قتلى حروب المسلمين أهل السنة المشهورة في تاريخ الأمة إلى عصرنا كلهم شهداء ..
    لأن الجمهور منهم شهداء ما خرجوا إلا ابتغاء وجه الله ونصرة دينه ، فتصح تسمية الجميع شهداء على الغالب ..
    فمثلا قوله صلى الله عليه وسلم : نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب .. كما في الصحيح .. لا يراد به الحصر وإنما كما قال ابن حجر : المراد أهل الإسلام الذين بحضرته عند تلك المقالة وهو محمول على أكثرهم .
    وما استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علمناه يقينا أنه ليس بشهيد لفعل فعله .
    وعلينا القياس الصحيح فنقول الشهيد هو من خرج بنية الجهاد في سبيل الله ونصرة دينه لا يبتغي غير ذلك ، ومن فعل فعلة كالغلول أو غيره مما نص عليه فلا يقال عنه شهيد كما صحت به الأحاديث ..
    ونقاشنا على المعين أو المعينين من الأفراد .. لا مجموع من خرج في معركة من معارك الإسلام ..
    فلا يصح أن نقول عن شخص بعينه : فلان شهيد .. إلا إذا جاء تعيينه بنص أو إجماع وأعني به اتفاق الأمة على أنه شهيد .

    الدليل الرابع على الجواز :
    شهادة السلف لعددٍ من الصحابة منهم : هشام بن العاص ، وقُثَم بن العباس ، والبراء بن مالك والنعمان بن مقرن بالشهادة ، وكذا ما ذكره الذهبي في السير قول يحيى بن معين عن أحمد بن نصر المروزي : ختم الله له بالشهادة .. وغير ذلك .
    أقول : بإمكاني القول للمعترض : أيهما أولى بالإتباع ، كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام عمر وابن مسعود الصحابيان أم كلام غيرهما ؟ وكلامي صحيح جملة وتفصيلا .
    ولكنني أبين أن ظاهر هذه الأقوال محض اجتهاد لا يقف أمام النهي الصريح فيما مر معنا من أدلة إن شاء الله تعالى .
    ويضاف أن هذا على أفراد معدودين وليس إجماعا يستحيل نقضه .
    والصحيح كما قررنا أنه إن شهدت الأمة بهذا للمعين واتفقت عليه فهو مرادنا ، لأنا قيدنا الجواز بشهادة الأمة ، وأنه يساوي الإجماع .

    الدليل الخامس على الجواز :
    أن البعض استشهد بحديث حرام بن ملحان في قصة شهداء بئر معونة ، وقوله بعدما قتله أحد المشركين : فزت ورب الكعبة .. وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك ..
    فنقول : هذا وصف منه لحاله ، ومعلوم أنه أراد بقوله فزت : أي بالشهادة ، وهو رضي الله عنه يقولها وهو مطعون في الرمق الأخير ، فلما عاين ما عاين شهد لنفسه..
    أما عن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم فإنما هو لإخبار جبريل عليه السلام له أن السبعين من أصحابه قد لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم .. كما في نص رواية أنس في الصحيحين .
    والتقرير هو أحد وجوه السنة وهو بالوحي وفي عصره ، والآن قد انقطع ، فلا يقاس عليه غيره إلا بإجماع الناس على شخص بعينه ..

    الدليل السادس على الجواز :
    اعتراض ابن عاشور على تبويب البخاري
    وهو ما نقله الشيخ بكر أبو زيد – رحمه الله – في معجم المناهي اللفظية ( ص320) عن قول محمد الطاهر بن عاشور - رحمه الله - في كتابه : النظر الصحيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح ( ص 118 ) عن ترجمة البخاري في الصحيح : باب لا يقال فلان شهيد .. قال ابن عاشور :
    هذا تبويب غريب ، فإن إطلاق اسم الشهيد على المسلم المقتول في الجهاد الإسلامي ثابت شرعًا ، ومطروق على ألسنة السلف فمن بعدهم ... والوصف بمثل هذه الأعمال يعتمد على النظر إلى الظاهر الذي لم يتأكد غيره ، وليس فيما أخرجه البخاري هنا إسناد وتعليق ما يقتضي منع القول بأن فلانًا شهيد ، ولا النهي عن ذلك . فالظاهر أن مراد البخاري بذلك أن لا يجزم أحد بكون أحد قد نال عند الله ثواب الشهادة ؛ إذ لا يدري ما نواه من جهاده ، وليس ذلك للمنع من أن يقال لأحد : إنه شهيد ، وأن يجرى عليه أحكام الشهداء ، إذا توفرت فيه ، فكان وجه التبويب أن يكون : باب لا يجزم بأن فلانًا شهيد . اهـ
    فأقول بعون الله وتأييده : في كلامه - رحمه الله - ثلاثة مسائل :
    الأولى على قوله : إطلاق اسم الشهيد على المسلم المقتول في الجهاد الإسلامي ثابت شرعًا ، ومطروق على ألسنة السلف فمن بعدهم .. اهـ
    قلت : الثبوت شرعا من ناحيتين ، ناحية نوع الشهادة وهو الوارد ، وناحية التعيين والتخصيص ، فلم يطلق بلا قيد . وتسمية السلف ليست شرعا يتبع لا سيما إذا وجد النص المخالف ، وإن أريد به اتفاقهم على الشهادة للمعين ، فهو مرادنا لأننا قيدنا جواز الشهادة للمعين بالنص واتفاق الأمة ..
    الثانية على قوله : وليس فيما أخرجه البخاري هنا إسناد وتعليق ما يقتضي منع القول بأن فلانًا شهيد ، ولا النهي عن ذلك .. اهـ
    قلت : ولكنه لو قرأ شرح ابن حجر لعلم أن البخاري رحمه الله يشير بذلك إلى النهي الوارد عن أمير المؤمنين عمر - كما مر – وما ذكره في الباب فيه النهي عن القطع لأحد بالجنة كما هو ظاهر ، وهو ما رجحه ابن حجر في الفتح .
    الثالثة على قوله : وليس ذلك للمنع من أن يقال لأحد : إنه شهيد ، وأن يجرى عليه أحكام الشهداء ، إذا توفرت فيه ... اهـ
    قلت : المنع تحقق بنصوص صريحة ومنها ما ورد عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما ، أما أن تجري أحكام الشهادة على من توفرت عنده أسباب الشهادة فهو الوارد شرعا فيؤخذ به ونكل نيته إلى خالقه ..

    الدليل السابع على الجواز :
    الاستدلال بالظاهر للشهيد كالإيمان والإسلام
    أن من الأخوة من قال : بقياس إطلاق اسم الإسلام على المسلم مع عدم العلم بباطنه فكذلك الشهيد .. وهو قياس ليس في محله .. وأولى به أن يقيس اسم الإيمان على المسلم ، والآية تقول : ( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) [ الحجرات -14] ومسألة الاستثناء في الإيمان مشهورة عن السلف .
    ولا يقاس هذا أيضا على الوصف للمعين بالشهادة فيقال مؤدى الإيمان والإسلام الجنة ، ومؤدى الشهادة الجنة أيضا ، فهما سواء ..
    لأن للشهادة فضائل وخصوصيات معلومة في الشرع ، ولا تخفي حتى على العوام من الناس كما هو معلوم .
    فإن قال قائل : لماذا تمنعون من تسميته شهيدا ، وتعطونه حكم الشهيد فيدفن بثيابه ولا يغسل ؟
    فالجواب : أن الشريعة فيها من يتسمى بالاسم ولا يأخذ حكمه ، ومن يأخذ حكم الشيء ولا يتسمى باسمه .. وهذا كثير ..
    ثم المسألة مركبة على الإتباع دون الاعتراض .. فقد جاء النص على دفن المقتول في المعركة بثيابه ( زملوهم بدمائهم ، وفي رواية : في ثيابهم ) وكذلك المحرم ( يكفن في ثوبيه ) كما لم يثبت غسل شهيد المعركة ، وثبت لغيره ، وجاء النهي في عدم الجزم بمآله وأن حكمه إلى الله .. فمرجع الأمر على إتباع الوارد شرعا ، والله أعلم .


    الدليل الثامن على الجواز :
    أن البعض يستشهد بالفتاوى والآراء لبعض الأجلة من العلماء ..
    ونقول أن الفتاوى ولو كانت لشيخ الإسلام يجب النظر في أدلتها ووجه الفتوى .. لأن فتوى العلماء لا تضاهي فتوى الصحابة والتي لها مكانة في التشريع ..
    ونحن في موضوعنا نتعامل مع نصوص شرعية ، وهي كفيلة أن تعطي لنا حكما شرعيا بالجواز أو المنع .. ومع ذلك نعلق على بعض الفتاوى وأشهرها .
    فمنها فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية عن شهيد البحر ..
    فجوابه كان عن حكم الفعل نفسه ، نعم الغريق شهيد للحديث الوارد فيه بلا منازعة .. فهي فتوى عامة وحقها أن تخصص عن هذا الغريق بعينه هل يقال له شهيد أم لا ؟
    والمتأمل في إجابته يجده قد وضع قيدا غفل عنه من استشهد بكلامه ، وهو بالقيد المذكور يرجع المسألة إلى الغيب والذي لا يعلمه إلا الله .
    وكذلك فتوى الإمام ابن باز رحمه الله تعالى وقوله : كل من سماه النبي صلى الله عليه وسلم شهيدا فإنه يسمى شهيدا .. الخ
    فهذا هو الحق الذي لا يراد غيره ، وهو مرادنا قطعا ، وفتواه ليس فيها إشارة للقول بها للمعين .. وقوله في الفتوى الأخرى عمن قتل في مكافحة المخدرات :
    ومن قتل في سبيل مكافحة هذا الشر وهو حسن النية فهو من الشهداء . الخ
    فتقييده بحسن النية يفهم منه أنه أراد الحكم على هذا العمل كليا بأنه شهادة وليس يفهم منه القول للمعين أنه شهيد لأنه قتل في مكافحة المخدرات ، وتقييده بحسن النية لا يفهم منه غير ذلك لأن النية محلها القلب ولا يعلمها إلا علام الغيوب .
    ويضاف إلى ذلك أيضا ، ما جاء في مجموع فتاوى الإمام ابن باز رحمه الله تعالى (13/121) وقد سئل : من مات من المعركة متأثرا بجراحه هل يغسل ويكفن ويصلى عليه ؟
    فأجاب بقوله : نعم يغسل ويكفن ويصلى عليه , ويرجى له أجر الشهيد إذا خلصت نيته . اهـ
    فهاهو يرجى لمن وصف الشهادة ، وقيده بحسن النية ، وحسن النية هنا يراد به على جهاده وهل كان حسن النية أم لا ؟
    ولماذا لا نأخذ بفتاوى من قال بالمنع وهم أكثر عددا مثل الإمام الألباني وابن عثيمين وغيرهما رحمة الله على الجميع ..
    وأذكر ما قاله الشيخ مقبل بن هادي الوادعي - رحمه الله - في كتابه مقتل جميل الرحمن - رحمه الله – وهو من أعلام السلفية وإمام من أئمة الحديث .
    قال : ولذلك فإن أولياء الشيخ جميل الرحمن - رحمه الله تعالى- وجماعة الدعوة لا يسمحون للناس ، بنشر صور الشيخ ولا بوصفه بالشهيد ، فالله أعلم بمن يكلم في سبيله ، ولكننا ندعوا الله له بالرحمة والشهادة وأن يتقبل عمله ، ويجعله في جنان فردوسه. اهـ
    وقس على هذه فتوى اللجنة الدائمة ، مع أنها أشارت إلى حكم الغسل أكثر منها على حكم القول للمعين بأنه شهيد .
    والفتاوى العارية عن النصوص المستشهد بها لا تؤخذ قبل معرفة الدليل ، وإن وجد فلينظر إلى وجه الاستدلال منها وهل هو صحيح أم لا .. والله المستعان .

    الخاتمة ونتائج البحث

    تبين من هذا العرض للموضوع : أن أدلة المانعين مع صحتها قطعية الدلالة ، غاية في الوضوح .. أما أدلة القائلين بالجواز فما هي إلا فهم من بعض النصوص وقياس بنوا عليه حكمهم .
    ومعنا النهي الصريح في السنة عن الجزم للمعين كما مر وبينا الأحاديث ، وتقرر هذا بفعل الصحابة وأقوالهم كما نقلنا قول عمر وابن مسعود وهما من هما ، مع عدم العلم بالمخالف لهما .. مع اعتقاد الكثير من أئمة السلف .
    وبالنسبة للفتاوى .. فمنالأدب واحترام وإجلال العلماء ألا نضرب رأي ابن عثيمين بابن باز ولا نرجح ما رجحه الألباني لمحبتنا له ، وإنما لإتباع الحق .
    فالدليل فوق كل كبير من عالم وخبير ، وهو مما تقرر بداهة في منهج السلفية الحقة.
    فهم قالوا ما فهموه من النصوص وعليه بنوا أصل فتاواهم ، وكل مأجور بإذن الله تعالى ..

    محاولات التوفيق بين الفريقين
    وقد حاول الكثير التوفيق بين الرأيين .. فمن محاولات التوفيق :
    1- قول من قال : القول أنفلان شهيد ، لا يلزم أن يكون شهيداً في الآخرة ، إنما يكون شهيداً في الدنيا بمايظهر للناس . اهـ
    قلت : هذا التفصيل خلاف الظاهر، والكلمة عند الإطلاق ، لا تعني إلا الشهادة ومرتبتها العظيمة في الآخرة ، وهو المعلوم عند الإطلاق بداهة ، وعلى من فرق أن يأتي بالدليل .
    فمقولة شهيد الدنيا وشهيد الآخرة أظنها حادثة والعلم عند الله تعالى .
    2- أنَّ اسم الشهيد يجوز إطلاقُهُ اسمًا دنيويًّا ، كما يُحكم له بجميع أحكام الدنيا ، وأمَّا إطلاقُه اسمًا أخرويًّا فإن كان على وجه الجزم فهو المحرَّم الّذي جاءت فيه النصوص ، وهو كالشهادة بالجنَّة له ، وإن كان على وجه الفأل فالأولى تقييدهُ بالمشيئةِ احترازًا من توهُّم التزكيةِ الممنوعةِ . اهـ
    قلت : هذا القول قريب مما سبقه ، إلا أنه احترز أكثر ، فعلقه على المشيئة ، وتعليقه على المشيئة لم يرد في السنة وفعل السلف ، وإن كان هذا من أفضل الأقوال وأقربها إن شاء الله تعالى .
    3- قول من قال : إن مات بأحد أسباب الشهادة فيقال عنه شهيد .
    قلت : الظاهر والمتعارف عليه ، أن من يسمى شهيدا لا يسميه الناس بذلك إلا لأحد أسباب الشهادة ، ومع ذلك فالأسباب كانت متحققة فيمن نفى عنه نبينا الشهادة في الأحاديث المشهورة الصحيحة كحديث صاحب الشملة وغيره ، كما ذكرنا .

    وبقي أن نقول : أي القولين أبعد عن الشبهة
    لا شك أن الافتئات على الله فيه ما فيه ، والخروج منه إنما هو باستخدام الألفاظ التي ليس فيها نهي كما مر أثر عمر وابن مسعود ..
    ولنا الترحم عليهم والدعاء لهم وحسن الظن بهم .. وهو مستفيض في الأدلة ..
    كما في الحديث : من هذه المتألية على الله ؟ وقد مر معنا .
    وبهذا يتبين أنه لا يجوز أن نشهد لشخص بعينه أنه شهيد ، إلا بنص أو إجماع ..
    ومن كان ظاهره الصلاح والتقوى ، فإننا نرجو له الخير كما سبق ، وهذا كاف في منقبته ، وعلمه عند الله خالقه سبحانه وتعالى .

    استهانة الناس بهذه المسألة
    وقد استهان كثير من الناس بهذه المسألة ، وخبطوا فيها خبط عشواء ، وأمر الشهيد لأنه غيب عنا ولأنه مقام عال رفيع لا يعلوه إلا مقام الأنبياء والصديقين ، فالأولى ألا يستهين به الناس لا سيما مع التوسع الحادث في هذه المسألة ، فكل علماني زنديق قد يطلقوا عليه شهيد ..
    ورحم الله ورضي عن الصحابي الجليل أنس بن مالك عندما قال : إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر ، كنا نَعُدُّها على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات .
    رواه البخاري (6492) وأحمد في المسند (12625) .

    نتائج البحث :
    فأخلص من هذه البحث بهذه النتائج :
    1- الخلاف ليس خلافا يعتد به لأنه خلاف النص .
    2- الفتاوى لأجلة العلماء لا تناهض النصوص الصريحة في الموضوع .
    3- النهي عن إطلاق اسم الشهيد على المعين إلا بنص أو إجماع .
    4- الإجماع هو ما يتماشى مع الحديث السابق : أنتم شهداء الله في الأرض .
    5- لا يصح الاستثناء فيقال: هو شهيد إن شاء الله لمجرد أنه مات بأحد أنواع الشهادة ، لأنه لم يعرف عن السلف أولا ، ولأنه جزم سبق الاستثناء ثانيا .
    6- التفرقة بين الشهادة للمؤمن ظاهر الصلاح والتقوى بالجنة ، ومن مات بصورة من صور الشهادة ، فالأولى محتملة للنص عليها ، والثانية مردودة لوجود النص .

    وهذا آخر المستطاع ، وغاية الجهد ، فإن كان ما فيه صوابا فبفضل الله وكرمه ومَنِّهِ ، وإن كان من خطأ ، فنشهد الله أن ليس للشيطان فيه نصيب ، وإنما هو من عجز الإنسان ، وهو الظلوم الجهول ..
    والله من وراء القصد وهو يهدي سواء السبيل .

    وكتبه / عادل سليمان القطاوي
    في مدينة الدوحة – قطر
    بتاريخ: 22 ربيع الآخر 1430 هـ

    تعليق

    يعمل...
    X