بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

مِن وسائلِ تحصيلِ العلمِ
إِعْمَالُ الذِّهْنِ

للشيخ الفاضل الأُستاذ الدُّكتور
سُليمان الرُّحيلي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

وهذا المقطع الصَّوتي الرَّابع من سلسلة:

مِن وسائلِ تحصيلِ العلمِ وفيه وضَّح الشيخُ سليمان الرَّحيلي ـ حفظه اللهُ ـ

ـ أهميَّة " إعمال الذهن "

وهذه الوصية من الشيخ - حفظه الله - فرع عن الوصية السابقة المتعلقة بالمراجعة ومقصد الشيخ والله أعلم هو كثرة تقليب النظر في المتون والمسائل والغوص في معاني الفوائد ومحاولة ربطها بما استفدته قديما وهكذا حتى تعيش العلم وحتى يصير سلسا تستحضره متى شئت وتستظهره أنى شئت أترككم للاستماع مع وصية الشيخ حفظه الله
مُدَّة المقطع: 06 دقائق وثانية
للاستِماع والتَّحميل


التَّفريغ

وإنَّ مِن وسائل تحصيل العلم إعمال الذِّهن فهمًا وحفظًا، وهذا الأمر قد فقدهُ طلبة العلم في هذا الوقت المُعاصر.
فإنَّا نجد أنَّ كثيرًا مِن طلبة العلم اليوم قد عطَّلُوا أذهانَهم، واعتمدُوا على الأوراق، فهم كثيرًا ما يحضرون الحلقات لكنَّهم قلَّما يستفيدُون؛ لأنَّ الواحد مِنهم إذا حضر الحلقة لم يُشغل ذِهنَه بِمَا يسمع، وإنَّما يُشغِلُ قلَمه، فيكتبُ في الأوراق، ثُمَّ إذا انتهى مِنها؛ نسِيَها لينتقل إلى الدَّرس غدا، وهكذا، وهكذا، ولا يُراجع ما في هذه الأوراق، ولا يُثبِّتُ ما في هذه الأوراق في ذهنِه، فلا يُحصِّل العلمَ في نفسه. وإنَّما تكُون طريقته أنَّه قد أخرج العلمَ مِن الأوراق إلى الأوراق عن طريق الشَّيخ، ولم يُثبِّتْ علمًا في نفسه؛ ولا شكَّ أنَّ هذا يجعل طالبَ العلم لا يُحصِّل علمًا في نفسه مهما قرأ، ومهما حضر، ومهما درس.

فينبغي على طالب العلم أنْ يجعل الأوراق وسيلةً لتثبيت العلم في النَّفس، وأنْ يُعمِل ذِهنَه في فهم ما يُقال، وفي حِفظ ما يُقال.

وإذا نظرنا إلى السَّلف الصَّالح رِضوان الله عليهم وجدنا عجبًا عجيبًا في حفظهم واستِحضارهم، وأذكُر مِن ذلك ويحضُرُني: أنّ الإمام أبا عيسى التِّرمذيّ ذكر أنَّه كتب عن شيخٍ جُزءين في الحديث، فلقِيَه في سفر، فطلب مِن الشَّيخ أنْ يقرأ عليه الجُزءين، وهو يظنُّ أنَّهما معه، ومعه أوراقٌ بيضاء، ليس فيها شيء، فأخذ الشَّيخ يقرأ عليه بألفاظه، ويُلقي عليه الأحاديث بألفاظه، فلمَّا انتهى الشَّيخ، نظر إلى الأوراق فإذا هي بيضاء، فقال: أتضحك مِنِّي؟ أتضحك مِنِّي؟ تطلبُ مِنِّي أنْ أقرأ عليك، وتُوهمِني أنَّها معك، وليس معك شيء.
فقال له التِّرمذيُّ: قد حفظتُها، فقال: اقرأ.
فقرأها عليه واحدًا واحدُا بأسانيدِها، لم يُخطئ مِنها حرفًا، فقال له الشَّيخ: قد استحضرتَ قبل أنْ تأتي، قد حفظتها قبل أنْ تأتي؛ لتُرِيَنِي أنَّك حافظٌ.
فقال له الإمام التِّرمذِيَُّ: اقرأ علَيَّ غيرَها.
قال: فقرأ عليَّ أربعين حديثًا بأسانيدها، فأعدتُها عليه باأسانيدها، لم أُخطىء مِنها حرفًا واحدًا.
سمِعها في المجلس، فردَّها أربعين بأسانيدها، لم يُخطىء مِنها واحدًا، ومِن قبلِها قد حفظ الجُزءين عندما قرأهما عليه الشَّّيخُ في السَّفر.

وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللهُ عزَّ وجلَّ كثيرًا ما نجد أنَّه في مجموع الفتاوى يُجيب على سُؤال في مائة صفحة أو يزيد بترتيب عجيب، ويُورد الأدلَّة مِن القُرآن ومِن السُّنَّة، ومِن أقوال السَّلف بألفاظهم، ومِن أقوال الأئمَّة، فإذا انتهى ظننتَه ينقل مِن كتب؛ فإذا به يقُول: والمسألة تحتاج إلى بسطٍ أكثر لكن صاحب المسألة مُستوْفِزٌ عجلان، فيكتبُها والسَّائل بين يديْه مُستوْفِزٌ عجلان، يُريد أنْ يذهب لكنَّه الحفظ.

فكان السَّلف الصَّالح رِضوان اللهُ عليهم يُعْمِلُون أذهانَهم، ويجعلُون الكتابة وسيلة لحفظ ما يعلمُون، أمَّا أنْ تُجعل الكتابة هي الغاية؛ فلا شكَّ أنَّ ذلك مِن الخطأ، وأنِّ ذلك يُؤدِّي إلى عدم تحصيل العلم.
واعلم يا طالب العلم أنَّ الذِّهن كالطِّفل إذا عوَّدته على الحفظِ حفظ، وإذا عوَّدته على الكسلِ كسل، الذِّهن كالطِّفلِ الصَّغيرإذا كُنت تُعلِّمُه؛ فإنَّه يتعلَّم، وإذا كُنت تترُكُه؛ فإنَّه لا يتعلَّم.
وطلبة العلم هُنا على طرفيْن:
فبعضُ طلبة العلم لا يُعوِّدُ نفسَه على الحفظ أبدًا، وبعضُهم يُريد مِن ذِهنه أنْ يحفظ فوق ما يُطيق، وكلاهما لنْ يُحصِّل العلم، وإنَّما ينبغي لطالب العلم أنْ يُدرِّب ذِهنه ويُعوِّده، فيبدأ معه بما يستطيع أنْ يحفظ، ثُمَّ يتربَّى معه شيئًا فشيئًا.

وأضربُ لك مِثالاً بالطِّفلِ، الطِّفل إذا طلبتَ مِنه أنْ شيئًا كثيرًا لنْ يستطيع أنْ يحفظ القليل، أمَّا إذا بدأتَ معه بالقليل؛ فإنَّه سيتعوَّد أنْ يحفظ، ثُمَّ ينتقل إلى حفظ الكثير.
لو أنَّك جئتَ إلى ابنك الصَّغير، فقُلتَ له: احفظ الفاتحة، فإنَّك لو أسمعته اليوم وغدًا وبعد غدٍ؛ لنْ يحفظ الفاتحة، لكنَّك إذا جئته اليوم: فقُلتَ له: قُلْ الحمد لله ربِّ العالَمِين، الحمد لله ربِّ العالَمِين، وتجدُ أنَّه يُردِّدُها كُلّما ذهب: الحمد لله ربِّ العالَمِين، الحمد لله ربِّ العالَمِين. جئتهُ غدًا، فقُلتَ له: قُلْ كذا قُلْ كذا قُلْ كذا إلى آخر السُّورة، ستجد أنَّه في كُلِّ يوم يحفظ الآية، فإذا انتهيْتَ؛ فإذا به يحفظ السُّورة كاملةً، ثُمَّ بعد فترة تجدُ أنَّه يستطيع أنْ يحفظ آيتيْن، ثُمَّ ثلاثًا وأربعًا وهكذا، وهكذا ذهنك يا طالبَ العلم، ابدأ معه بِمَا يستطيع، ثُمَّ يتمرَّنُ معك شيئًا فشيئًا، ثُمَّ تُحصِّل الخيرَ في ذلك.

فهرسة سلسلة " مِن وسائل طلب العلم "
للشيخ سليمان الرحيلي - حفظه الله - :

1ـ وضوح الهدف
2ـ الإخلاص لله
3ـ المُراجعة

4- إعمال الذهن

الملفات المرفقة