هل يشترط تقدُّمُ النفي أو الاستفهام في الابتداء بالوصف؟
قال ابن مالك في شرح التسهيل (1/ 273- 274): «الوصف المشار إليه لا يحسن عند سيبويه الابتداء به على الوجه الذي تقرر إلا بعد استفهام أو نفي، وإن فُعِل به ذلك دون استفهام أو نفي قَبُحَ عنده دون منع. هذا مفهوم كلامه في باب الابتداء، ولا معارض له في غيره. ومن زعم أن سيبويه لم يجز جعله مبتدأ إذا لم يل استفهاما أو نفيا فقد قوّله ما لم يقل.
وأما أبو الحسن الأخفش فيرى ذلك حسنا، ويدل على صحة استعماله قول الشاعر:
خَبيرٌ بنو لِهْبٍ فلاتك مُلْغيا ... مقالةَ لِهْبِيٍّ إذا الطيرُ مَرَّتِ
ومنه قول الشاعر:
فخيرٌ نحن عند الناس مِنكم ... إذا الدّاعي المُثَوِّبُ قال: يا لا
فخيرٌ مبتدأ، ونحن فاعل، ولا يكون "خير" خبرا مقدما، ونحن مبتدأ؛ لأنه يلزم في ذلك الفصل بمبتدأ بين أفعل التفضيل ومِنْ، وهما كمضاف ومضاف إليه، فلا يقع بينهما مبتدأ، كما لا يقع بين مضاف ومضاف إليه، وإذا جعل "نحن" مرتفعا بخير على الفاعلية لم يلزم ذلك، لأن فاعل الشيء كجزء منه.
والكوفيون كالأخفش في عدم اشتراط الاستفهام والنفي في الابتداء بالوصف المذكور...».
علق أبو حيان في «التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل» (3/ 272- 276) قائلا: «...ونحن نسرد ما ذكره سيبويه في كتابه لننظر فيه.
قال في باب الإبتداء: "وزعم الخليل- رحمه الله- أنه يستقبح أن تقول: قائم زيد، وذلك إذا لم تجعل قائمًا مقدمًا مبنيًا على المبتدأ كما تؤخر وتقدم، فتقول: ضرب زيدًا عمرو، و "عمرو "على "ضرب "مرتفع، وكان الحد أن يكون مقدمًا، ويكون "زيد "مؤخرًا. وكذلك هذا، الحد فيه أن يكون الإبتداء مقدمًا، وهذا عربي جيد، وذلك قولك: تميمي أنا، ومشنوء من يشنؤك، وأرجل عبد الله، وخز صفتك. فإذا لم يريدوا هذا المعنى، وأرادوا أن يجعلوه فعلاً كقولك: يقوم زيد، وقام زيد، قبح لأنه اسم، وإنما حسن عندهم أن يجري مجرى الفعل إذا كان صفة جرى على موصوف، أو جرى على اسم قد عمل فيه، كما أنه لا يكون مفعولاً في "ضارب "حتى يكون محمولاً على غيره، فتقول: هذا ضارب زيدًا، وأنا ضارب زيدًا، ولا يكون "ضارب زيدًا "على قولك: ضربت زيدًا، وضربت عمرًا، فكما لم يجز هذا كذلك استقبحوا أن يجري الاسم الذي في معنى الفعل مجرى الفعل المبتدأ، وليكون بين الفعل والاسم الذي في معنى الفعل فصل وإن كان موافقًا له في مواضع كثيرة، وقد يوافق الشيء الشيء، ثم يخالفه لأنه ليس مثله "انتهى ما نقلناه من كتاب سيبويه في باب الابتداء، وليس فيه أن سيبويه يستحسن ذلك بعد استفهام أو نفي، بل فيه أن الخليل قد استقبح "قائم زيد "على أن لا يكون "قائم "خبرًا مقدمًا. وكذلك نص سيبويه على أنه إذا جعل "قائم " في معنى "يقوم "أو "قام "قبح، وأنه لا يحسن أن يعمل إلا إذا كان صفة أو خبرًا. هذا ملخص كلامه.
وقد استدل المصنف على صحة مذهب الأخفش بقول الشاعر:
خبير بنو لهب، فلا تك ملغيًا ... مقالة لهبي إذا الطير مرت
وبقول الآخر:
فخير نحن عند الناس منكم ... إذا الداعي المثوب قال: يا لا
وما استدل به المصنف لا حجة فيه: أما "خبير بنو لهب "فـ "خبير "خبر مقدم، و"بنو لهب " مبتدأ، ولا يحتاج إلى المطابقة في الجمع لأن خبيرًا فعيل، يصح أن يخبر به عن المفرد والمثنى والمجموع، ولاسيما ورود ذلك في الشعر، كما أخبروا بـ "فعول "، قال تعالى {هُمُ الْعَدُوُّ}، وقال بعض العرب:
...................... ... ........................ هنَّ صديق
فأخبر عن ضمير جمع النساء بـ "صديق ".
وأما قوله "فخير نحن "فخير: خبر مقدم، ونحن: مبتدأ، وعلى ما قررناه ونصرناه من مذهب الكوفيين أن الخبر هو رافع المبتدأ، فالمبتدأ معمول له، كما أن "من "الداخلة على المفضل عليه متعلقة به، فلم يفصل بينهما بأجنبي.
وأما قوله "إن أفعل التفضيل ومن كمضاف ومضاف إليه "إلى آخره، فليس بصحيح، لو كان كذلك لما جاز الفصل بينهما بالتمييز وبالفاعل وبالظرف وبالمجرور؛ لأنه لا يفصل بشيء من هذه بين المضاف والمضاف إليه، فلم يجريا مجراهما. ولو سلمنا أن المبتدأ ليس معمولاً للخبر لما ضر هذا الفصل لأنه وقع في شعر. وأيضًا فقد خرج الأستاذ أبو الحسن بن خروف قوله "نحن "على أنه تأكيد للضمير المستكن في قوله "فخير "، وخير: خبر مبتدأ محذوف، التقدير: فنحن خير نحن، كما تقول: أنت قائم أنت...».
وفي تـخليص الشواهد وتلخيص الفوائد (ص: 185): «(خيرٌ) فيه مبتدأ، و (نحن) فاعل، وفيه شذوذان، أعمال الوصف غير معتمدٍ، ورفع اسم التفضيل للظاهر في غير مسألة الكحل، ولا يكون (خيرٌ) خبرًا مقدمًا لئلا يلزم الفصل بين اسم التفضيل و (من) بالأجنبي، وهو المبتدأ، وقد يؤول هذا البيت على تقدير (خير) خبرًا لنحن محذوفة، وجعل (نحن) المذكورة مؤكدة للضمير المستتر في (خير) العائد على (نحن) المحذوفة، والمثوب الذي يدعو الناس يستنصر بهم دعاء يكرره، ومنه التثويب في الصبح».
وقال ابن هشام في أوضح المسالك (1/ 188- 192):
«ولا بد لوصف المذكور من تقدم نفي أو استفهام...، خلافا للأخفش والكوفيين، ولا حجة لهم في نحو: (خبيرٌ بنو لهب فلا تك ملغيا)
خلافا للناظم وابنه؛ لجواز كون الوصف خبرا مقدما، وإنما صح الإخبار به عن الجمع لأنه على فعيل، فهو على حد: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}.
وإذا لم يطابق الوصف ما بعده تعيَّنت ابتدائيته، نحو: "أقائم أخواك"، وإن طابقه في غير الإفراد تعينت خبريته، نحو: "أقائمان أخواك"، و"أقائمون إخوتك"، وأن طابقه في الإفراد احتملهما، نحو: "أقائم أخوك"».
وفي شرح الأشمونى على ألفية ابن مالك (1/ 93): (وَقَدْ يَجُوزُ) الابتداء بالوصف المذكورمن غير اعتماد على نفي أو استفهام (نَحْوَ فَائِزٌ أُوْلوُ الرَّشَدْ) وهو قليل جداً خلافاً للأخفش والكوفيين، ولا حجة في قوله: (خَبيرٌ بَنُو لهبٍ ) لجواز كون الوصف خبراً مقدماً على حد: {والملائكة بعد ذلك ظهير} اهـ باختصار
وفال صاحب تـخليص الشواهد (ص: 185): «وقد ظفرت بذلك في لفظه خبير نفسها، قال: (إذا لاقيتِ قومي فاسأليهمْ ... كفى قومًا بصاحبهم خبيرًا)».
فظهر بذلك أن مذهب البصريين في هذه المسألة أقرب. والله أعلم.


كتبه
علي المالكي