إعـــــــلان

تقليص
1 من 3 < >

تحميل التطبيق الرسمي لموسوعة الآجري

2 من 3 < >

الإبلاغ عن مشكلة في المنتدى

تساعدنا البلاغات الواردة من الأعضاء على منتدى الآجري في تحديد المشكلات وإصلاحها في حالة توقف شيء ما عن العمل بشكل صحيح.
ونحن نقدّر الوقت الذي تستغرقه لتزويدنا بالمعلومات عبر مراسلتنا على بريد الموقع ajurryadmin@gmail.com
3 من 3 < >

فهرسة جميع الشروح المتوفرة على شبكة الإمام الآجري [مبوبة على حسب الفنون] أدخل يا طالب العلم وانهل من مكتبتك العلمية

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه - وعلى آله ومن ولاه وبعد :

فرغبة منا في تيسير العلم واشاعته بين طلابه سعينا لتوفير جميع المتون وشروحها المهمة لتكوين طلبة العلم ، وقد قطعنا شوطا لابأس به في ذلك ولله الحمد والمنة وحده ، إلا أنه إلى الآن يعاني بعض الأعضاء والزوار من بعض الصعوبات في الوصول للشروح والمتون المرادة لتداخل الشروح أو لقلة الخبرة التقنية .

من أجل هذا وذاك جاء هذا الموضوع ليكون موضوعا مرجعا جامعا مرتبا بإذن الله لكل المواد العلمية الموضوعة حاليا في شبكتنا ومرتبا على حسب أبواب الفنون العلمية (العقيدة، الفقه، الحديث،...)وسنحاول أيضا ترتيبها على مستويات الطلب (المبتدئ ، المتوسط ، المنتهي) سيتم تحديثه تبعا بعد إضافة أي شرح جديد .

من هـــــــــــنا
شاهد أكثر
شاهد أقل

فتوح الشام

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • [مقال] فتوح الشام

    توطئة:
    كانت معركة اليرموك بابا انفتح بانفتاحه الطريق إلى بلاد الروم، كما كانت القادسية بالنسبة لبلاد الفرس، فكلتا المعركتين شجعتا المسلمين على الاستمرار في الفتح والغزو وقد تم النصر في المعركتين في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- فقد سبق القضاء بوفاة الخليفة أبي بكر – رضي الله عنه - قبل أن يحرز المسلمون النصر في معركة اليرموك وحمل البريد في ذهابه أسوأ نبأ سمعه المسلمون بعد وفاة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ألا وهو نبأ وفاة أبي بكر، كما حمل في إيابه نبأ عزى المسلمين في مصابهم، وسلاهم عن وفاة خليفتهم، ذلكم هو نبأ انتصار المسلمين في اليرموك.
    إن اليرموك حسنة في ميزان الخليفة الأول، فهو الذي عبأ لها، وهو الذي أمد جندها بالقائد المظفر، عبقري الحرب، خالد بن الوليد، فكيف لا يفرح المسلمون بالانتصار فيها؟ وكيف لا يتسلون بأنبائها عن وفاة الخليفة وهي ثمرة جهده، وثقل في ميزانه؟

    وعاد البريد يحمل إلى الخليفة الثاني أنباء النصر، ففرح الخليفة به، وترضى عن أبي بكر، وحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وأقر الأمراء الذين ولاهم أبو بكر على ما كانوا عليه في عهد سلفه الراحل، واستثنى منهم أميرين: أما الأول فخالد بن الوليد فقد عزله الخليفة عن إمرة الجيش، وضمه إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح بعد أن أسند إليه قيادة جيوش الروم، وأما الثاني فعمروا بن العاص وقد أمره الخليفة أن يعين الناس حتى إذا انتهوا من فتح دمشق وفحل تولى أمر الحرب في فلسطين.

    آل أمر جيوش الشام إلى قيادة أبي عبيدة، فأخبر أبو عبيدة خالدا بما أحدث أمير المؤمنين بعد انتهاء خالد من فتح دمشق، فقال خالد: يرحمك الله! ما منعك أن تعلمني حين جاءك؟ فقال أبو عبيدة: كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا أريد، ولا للدنيا أعمل، وما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن أخوان وما يضر الرجل أن يليه أخوة في دينه ودنياه [1].

    عزم أبو عبيدة –رضي الله عنه- على مواصلة الزحف على بلاد الروم، ولكنه تردد، ولم يدر بماذا يبدأ؟ أيتوجه إلى دمشق؟ وحينئذ يكون قد ترك خلفه بفحل جيشا لجبا للروم يقدر بثمانين ألف مقاتل لا يأمن أن يبغته من ورائه.

    أم يتوجه إلى فحل، فهو يخشى أن يتجمع الروم بدمشق، ويقوي أمرهم، ولا يستطيع المسلمون فتحها إلا بجهد ومشقة وشدة، وحينئذ قطع هذا التردد، وأرسل إلى الخليفة يستشيره بأيهما يبدأ.
    ورد عليه الخليفة قائلا: أما بعد، فابدؤوا بدمشق، فانهدوا لها، فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم، واشغلوا عنكم أهل فحل بخيل تمون بازائهم في نحورهم، وأهل فلسطين وأهل حمص، فإن فتحها الله قبل دمشق فذاك الذي نحب، وإن تأخر فتحها حتى يفتح الله دمشق فلينزل في دمشق من يمسك بها ودعوها، وانطلق أنت وسائر الأمراء حتى تغيروا على فحل، فإن فتح الله عليكم فانصرف أنت وخالد إلى حمص، ودع شرحبيل وعمرا وأخلهما بالأردن وفلسطين [2].

    فتح دمشق:

    بهذا الرد أنهى الخليفة تردد القائد، وأمن مخاوفه، حيث أمره يبدأ بدمشق لأنها عاصمة البلاد، وسقوط العاصمة يؤدي دائما إلى ضعف المقاومة في الأطراف وكثيرا ما تكون المقاومة بعد سقوط العاصمة من أجل الحصول على الأمان، أما استرداد العاصمة، أو إعادة مكانتها إليها فقلما يخطر ذلك على بال المقاومين، وإن حصل ذلك أحيانا فإنما يكون رمية من رام لظروف طرأت فغيرت مجرى الأوضاع.
    وأمن الخليفة خوف القائد مما يجد فحل حين أمره بإرسال خيل تقف بازائهم فتشغلهم بأنفسهم عن التفكير في مباغته المسلمين، ولم ينس الخليفة أهل حمص وأهل فلسطين وما بين أهل دمشق من علاقات تفرض عليهم مساعدة الدمشقيين فذكر القائد بذلك حتى لا يؤتي من قبل ما لا يتوقع.
    وصدع القائد بأمر الخليفة وعبأ جيشه، وتوجه به نحو دمشق، وقبل أن ينطلق بجيشه أرسل إلى فحل عشرة قواد، ومعهم جيش عظيم، وأمر عليهم عمارة بن مخشى الصحابي ووجه جيشا بقيادة علقمة بن حكيم ومسروق العكي ليشغل أهل فلسطين عن مساعدة دمشق، وبعث ذا الكلاع في جيش ليحول بين أهل حمص وإمدادهم لأهل دمشق.
    واطمأن أبو عبيدة للخطة، فلم يعد هناك ما يشغله، ولا يهدد أمن الجيوش الزاحفة نحو دمشق، إن تلك الخطة قد قطعت كل أمل في مساعدة الدمشقيين، ولا شك أنهم سيقفون وحدهم في مواجهة المسلمين، وحينئذ لن يعجز المسلمين أمرهم وستكون الدائرة عليهم.

    لقد كانت فحل مصدر خطر عظيم حيث يعسكر فيها جيش قوامه ثمانون ألفا مدججون بالسلاح والعتاد، وهم على استعداد لنجدة قوات دمشق إذا اقتضى الأمر، ولكن عمارة بن مخشى وجيشه قد فاجئوا الجيش المدل بعدته وعتاده فسقط في يد الروم، وبثقوا المياه فأوحلت الأرض راجين أن يحول ذلك بينهم وبين الجيش الذي قدم لمحاصرتهم، واغتم المسلمون لتلك المكيدة الخبيثة ولم يدر قط بخلدهم أن الله –غز وجل- قد قضى أن يكون ذلك من أعظم أسباب نصرهم، ورابط الجيش في مكانه محاصرا جيش الروم بفحل من أرض الأردن.

    وكذلك كانت حمص مركزا رئيسيا لقوات الروم، وكان هرقل قد فر إليها بعد اليرموك حين علم بأن قوات المسلمين يستعدون لغزو دمشق، ولما حاصر المسلمون دمشق استغاث أهلها بهرقل، واستمدوه، ولم يخيب هرقل أملهم فيه، فأمدهم بجيش على خيل ليضمن وصول المدد في أسرع وقت، ولكن ذا الكلاع وجيشه قد رصدوا تحركاتهم، ووقفوا في وجه المدد، وحالوا بينه وبين الوصول إلى دمشق، فلم يتمكن المدد من الوصول، وظل أهل دمشق تحت رحمة جيش المسلمين.

    توجه أبو عبيدة بجيشه نحو دمشق، وكان الأمير يزيد بن أبي سفيان، فجعل خالدا على القلب، وأبا عبيدة وعمرا على المجنبتين، عياض بن غنم على الخيل، شرحبيل بن حسنة على الرجالة، فلما نزلوا الغوطة وجدوا دورها وبساتينها خاوية على عروشها، ليس بها ديار ولا نافخ نار، لقد فر القوم إلى دمشق ليحتموا بأسوارها المنيعة وحصونها الشامخة، فنزل المسلمون بها وسكنوا دورها واستمتعوا بخيرات بساتينها، وكان ذلك عونا لهم على محاصرة المدينة العتيدة.

    كانت أسوار دمشق ترتفع في الهواء ستة أمتار أو تزيد، وكان عرضها ثلاثة أمتار بل تزيد وأما حصونها فكانت شاهقة شامخة كثيرة الشرفات، وكان لأسوارها أبواب ضخمة ترد من يريدها بسوء،وأحيطت تلك الأسوار بخندق عرضه ثلاثة أمتار، تملؤه مياه بردى لتحمي المدينة من المهاجرين أو على الأقل تعوق مسيرتهم حتى يستعد حراس الأسوار للقاء الغزاة.

    ورغم كل ذلك أصر أبو عبيدة على محاصرة دمشق، وتقدم الجيش الظافر إلى دمشق، وكانت نشوة النصر في اليرموك لا تزال تهزه وتدفعه لطلب المزيد من النصر واشتغل القائد العظيم طرب الناس بنشوة النصر، كما استعان بشوقهم إلى رؤية دمشق التي كثيرا ما سمعوا عنها ما يشجعهم على التضحية لفتحها، وأصدر أبو عبيدة أمره بمحاصرة المدينة، وعين لكل فريق بابا من أبوابها الكثيرة المنتشرة في سورها الحصين.

    محاصرة دمشق:

    نزل أبو عبيدة على باب الجابية، ونزل عمرو بن العاص على باب توماء، ونزل شرحبيل بن حسنة على باب الفراديس، ونزل يزيد بن أبي سفيان على باب كيسان، ونزل خالد بن الوليد على بابها الشرقي [3].

    وعلم المسلمون أن الحصار سيطول، وبخاصة أن زمن الشتاء قد اقترب والبرد هناك يمزق الجلود، ويقطع الأوصال، وكان جيش الروم المحاصر في داخل العاصمة يعتمد على بردها القارص، وطقسها الذي لا يتحمله سكان جزيرة العرب الشديدة الحرارة، ولهذا ظل جيش دمشق معتصما بها رغم خيبة أمله في وصول إمدادات هرقل إليه، إن قادة الجيش وإن خاب أملهم في هرقل فلن يخيب في برد الشتاء ورده لهؤلاء الأعداء، فكم حاصر المدينة معتدون وكان الشتاء وحده كفيلا بطردهم وردهم على أعقابهم.

    استعد المسلمون لذلك كله فنصبوا المناجيق، وأعدوا الدبابات، فأما طول الحصار فلهم في بساتين الغوطة وأنهارها ما يكفل لهم حياة رغدة هنيئة، وأما شدة البرد فقد هيئوا أنفسهم بالصبر وقوة التحمل، وأما مناعة العاصمة فإن تشديد الحصار وتضييق الخنادق جديران بتحطيم معنويات المتحصنين بها، ولهم بعد ذلك وفوق ذلك كله تأييد الله –عز وجل- ونصره فما لهم لا يصبرون؟

    بدأ المسلمون يهاجمون دمشق، ويضربونها بالمناجيق، ويقتربون من أسوارها بالدبابات، ولكن ذلك لم يغن شيئا، واستطاع جيش الروم أن يصبر لذلك ويرد هجمات المسلمين، ولكنه يخش الخروج إليهم، فلا تزال النهاية المؤلمة في معركة اليرموك عالقة بأذهانهم، وطال الحصار فعلا حتى بلغ ستة أشهر عند بعض المؤرخين، وانتهى فصل الشتاء، وخاب الأمل الوحيد الذي كانوا لا يشكون في عونه لهم، ووقوفه إلى جوارهم.
    وبدأ أهل دمشق يطلبون الصلح على لسان أسقف منهم [4]، وأجابهم المسلمون على أن يكون للمسلمين نصف ما بأيدي الروم من الأموال والأملاك، ولكن الروم ترددوا وأبوا [5].

    فتح دمشق:

    وظل الحال على ما هو عليه، المسلمون يشددون الحصار، والروم لا يعرفون سبيلا للخروج من ذلك الحصار، حتى كانت ليلة استطاع خالد بن الوليد الذي كان يراقب الموقف بدقة وعناية فائقتين أن يعبر الخندق هو وجماعة من جيشه منهم القعقاع بن عمرو، ومذعور ابن عدي سباحة بالقرب نفخوها وعلقوها في أعناقهم، وتسلقوا السور الشاهق بالحبال والأوهاق، وانحدروا إلى داخل بالحبال نفسها، وكبروا فاجتمع المسلمون حول السور والباب، وعالج خالد ومن معه الباب بالسيوف ففتحوها بعد أن قتلوا البوابين، ودخل المسلمون المدينة عنوة، وذعر أهل دمشق فهرعوا إلى الأبواب الأخرى يطلبون الصلح فوافق المسلمون، وعقدوا معهم الصلح ما عدا خالدا فقد دخلها عنوة، والتقى القواد المسلمون في وسط المدينة عند كنيسة المقسلاط بالقرب من درب الريحان [6].

    يقول صاحب الفتوح: وهو موضع النحاسين بدمشق، وهو البريص الذي ذكره حسان ابن ثابت في شعره حين يقول:

    يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل [7]

    والرواية هذه متفق عليها بين المؤرخين في فتح دمشق إلا من شذ منهم فقلب الكلام وعكس الوضع وادعى أن خالدا دخلها صلحا وأبا عبيدة أو يزيد دخلها عنوة.

    ولكن كيف عرف خالد بانشغال الروم في تلك الليلة حتى أقدم على اقتحام العاصمة؟ تجري الروايات بأن خالد كان يقظا مهتما بالأمر، وأنه كان لا ينام ولا يترك أحدا ممن معه ينام، وفي تلك الليلة لاحظ هدوء السور وخلوه من الحراس، فما أسباب ذلك؟ يقول الطبري وابن كثير وغيرهم: بأنه ولد للبطريق مولود فصنع لأهل دمشق طعاما اجتمعوا عليه،وأكلوا وشربوا وغفلوا عن واجبهم وشغلوا عن مواقفهم فلاحظ ذلك خالد فانتهز الفرصة وكان الاقتحام.

    ويقول البلاذري: "إن رجلا منهم أتى خالدا، وأخبره أن هناك هذه الليلة ليلة عيد لأهل المدينة، وأنهم في شغل، وأن الباب الشرقي قد ردم بالحجارة وترك وأشار عليه بأن يلتمس سلما، فأتاه قوم من أهل الدير الذي عند عسكره بسلمين فرقى جماعة من المسلمين عليهما إلى أعلا السور، ونزلوا إلى الباب وليس عليه إلا رجل أو رجلان، فتعاونوا عليه وفتحوه وذلك عند طلوع الشمس" [8].
    والروايتان تؤديان إلى نتيجة واحدة هي أن خالدا فتح دمشق من بابها الشرقي عنوة، وأن أهلها كانوا عنها غافلين، وأن خالدا استعمل في الوصول إلى غايته السلاليم سواء كانت من الحبال أم منن غيرها، وأنه غامر ودخل المدينة وهي مغلقة الأبواب وهو الذي فتحها لجيشه.
    ولكنهما تختلفان مع هذا في شيء آخر وهو أن خالدا في الرواية الأولى عرف انشغال الدمشقيين بفطنته ويقظته، وأن خالدا قد أعد الحبال والأوهاق [9] ليستعملها عندما تحين الفرصة، وفي الرواية الثانية عرف انشغال الناس بواسطة واحد منهم، وأنه استعار السلاليم من أهل الدير القريب منه.

    والذي تميل إليه النفس هو الرواية الثانية، فقد حدث ذلك كثيرا في البلاد التي فتحها المسلمون بعد أن استعصت عليهم، وبخاصة وأن الروم كانوا قد ظلموا الرعية، وأرهقوا الناس بالضرائب الباهظة، وكان الناس قد ملوهم وملوا حكمهم، وضاقوا بأساليب ظلمهم، وقد حدث ذلك فعلا عند فتح الإسكندرية.

    وإلا فإن هدوء السور وخلوه من الحراس لا يدلان على انشغال الناس فقد يكون ذلك مكيدة للتغرير بالمسلمين وإيقاعهم في حبائلهم، ومثل ذلك لا يغيب عن فطنة خالد العبقري، ولا يعزب عن ذهنه.

    والرواية الثانية على ما هي عليه لا تقلل من عبقرية خالد العسكرية، ولا تهون شأن الدور الذي قام به خالد في فتح المدينة الحصينة، بل إنها لتعطي إلى جانب القدرة العسكرية الفائقة حنكة سياسية بارعة، حيث استطاع خالد –رضي الله عنه- أن يكسب عطف الناس، ويستميل قلوبهم إليه حتى انتهز ذلك الرجل انشغال الناس بعيدهم، وقصد خالدا، وأخبره بما عليه أهل دمشق وأغراه بالفتح.

    فبينما نرى خالدا سياسيا بارعا أقام علاقات حسنة مع أحد الأساقفة، وكسب عطف الناس واستمال قلوبهم، نراه هو وأصحابه وقد نفخوا القرب، وعلقوها في أعناقهم، وعبروا بها الخندق المحيط بالسور، ولا يكاد يعبر حتى ينصب السلاليم ويرقى عليها ثم يستعملها في الهبوط إلى داخل المدينة، وصيحات التكبير تملأ الفضاء، ويقتل الحراس، وينشر الرعب في أنحاء العاصمة الحالمة الوديعة التي كان أهلها بالأمس يلهون آمنين.

    إنها حنكة خالد السياسية شدت أزر عبقريته الحربية فكانت الثمرة فتح دمشق العتيدة الحصينة، ما أروع الحنكة السياسية حين تتعاون مع الخبرة العسكرية، وأعظم من ذلك وأروع أن تجتمع الصفتان في رجل واحد قادر على استخدامهما متى شاء لا حين تجبره الظروف وتضطره الأوضاع.

    كان فتح دمشق عند بعض المؤرخين بعد اليرموك وفي السنة نفسها بعد حصار دام سبعين يوما أو أربعة أشهر أو ستة أشهر، وكان ذلك كله ولم تخرج سنة ثلاث عشرة للهجرة النبوية، والرأي الذي رجحه ابن كثير هو أنه فتحت في رجب سنة 14 هـ وقال: "هو رأي الجمهور" [10].

    واتفاق المؤرخين على أن دمشق وإن كان بعضها فتح عنوة وبعضها فتح صلحا إلا أنه قد أجرى عليها جميعا حكم الصلح، وكان الصلح عند أكثر المؤرخين على المقاسمة أي أن المسلمين قاسموا سكان دمشق كل ما كان في أيديهم حتى الكنائس، وكان عددها خمس عشرة كنيسة أخذ المسلمون منها سبعة وقاسموهم أكبر الكنائس وأضخمها كنيسة القديس يوحنا المعمدان [11]، فأخذ المسلمون نصفها وجعلوه مسجدا وتركوا لهم نصفها الغربي كنيسة يقيمون فيها شعائرهم [12]، وقد أخذ الوليد بن عبد الملك منهم النصف الذي بأيديهم وأدخله في المسجد المعروف بالمسجد الأموي اليوم [13].

    وتضمن هذا الصلح فرض الجزية على سكان دمشق، وقد جعلها أبو عبيدة دينارا على كل رأس وشيئا من الحنطة والزيت والخل يقتات به المسلمون، وكتب أبو عبيدة بذلك إلى عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- فكأن عمر لم يرض بذلك بل نظر إلى طبقات الناس واختلافهم في اليسار وعدمه [14]، كما فرضها على الذكور البالغين القادرين على تأديتها دون غيرهم [15].

    روى البلاذري أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد يأمرهم أن يضربوا الجزية على كل من جرت عليه الموس، وأن يجعلوها على أهل الورق أربعين درهما، وعلى أهل الذهب أربعة دنانير، وعليهم من أرزاق المسلمين مدان من حنطة، وثلاثة أقساط زيتا، وجعل عليهم ودكا وعسلا [16]


    المسلمون في دمشق:

    استقر الأمن للمسلمين في دمشق، وطاب لهم فيها المقام، فعاشوا بين قصور وأنهار وورود وأزهار، ونظر أبو عبيدة فإذا كثير من أهل دمشق يتركون بيوتهم ويفرون إلى إنطاكية، حيث يقيم هرقل، ورأى المسلمين يسكنون هذه الدور، وينعمون بتلك القصور فخاف أن يخلدوا إلى الدعة والنعيم، وأن ينسوا من خلفوا وراءهم من المقاتلين فذكرهم بهم حين عمد إلى قسم الغنائم، فقسم معهم لذي الكلاع وجنوده، ولأبي الأعور ورجاله، ولبشير ومن معه، كما قسم للجنود الذي يحاصرون فحلا.

    وبهذا يكون أبو عبيدة –رضي الله عنه- قد ذكر المسلمين بإخوانهم الذين دفعوا عنهم، وينتظرونهم ليكملوا معهم المشوار الذي بدءوه.
    وأما هذه الدور وتلك القصور التي تركها أهلها وفروا منها، فلا ينبغي أن تشغلهم عن مسيرة الجهاد في سبيل الله حتى لا يحل بهم ما أحل بأهلها الذين فروا منها إلى غير رجعة، وليكن للمسلمين فيهم عبرة فالسعيد من وعظ بغيره.


    هرقل يودع دمشق:

    وأما هرقل إمبراطور الروم، وصاحب البلاد، فكان كلما سمع بانتصار المسلمين يبتعد عن الموطن الذي فتحوه، وظل يفر من بلد إلى بلد، وينتقل من مكان إلى مكان يطلب النجاة، وينتظر الفرج، حتى سقطت دمشق. ثم حمص وقنسرين في أيدي المسلمين حينئذ فر هرقل إلى القسطنطينية، وأشرف على نشز من الأرض والتفت إلى الشام وقال: "السلام عليك يا سورية سلام لا اجتماع بعده" [17].
    ويقول أبو جعفر: "لما فصل هرقل من شمشاط وأخلا الروم التفت إلى سورية فقال: قد كنت سلمت عليك تسليم المسافر، فأما اليوم فعليك السلام يا سورية تسليم المفارق، ولا يعود إليك رومي أبدا إلا خائفا [18].

    وكتب أبو عبيدة بالفتح إلى الخليفة فسر به،وكتب إلى أبي عبيدة أن اصرف جند العراق إلى العراق، فأخرج أبو عبيدة جند العراق، وهم الذين قدموا مع خالد بن الوليد، وأمّر عليهم هاشم بن عتبة المرقال، وعوضه عمن قتل منهم، وأمرهم بالسير واللحوق بسعد بن أبي وقاص، وخرج هو وبقية الأمراء متجهين إلى فحل [19].


    من دمشق إلى فحل:

    لا يزال القواد العشرة الذين أرسلهم أبو عبيدة لمحاصرة فحل مرابطين عندها وكلما هم المسلمون بغزو المدينة حال الوحل بينهم وبين ما يريدون، ذلك لأن جيش الروم لما علم بقدوم جيش المسلمين إليهم فزعوا أشد الفزع، وفكروا كيف يدفعون هذا الموت الزاحف عليهم؟ فبثقوا مياه نهر الأردن ومياه بحيرة طبرية فغرقت الأرض بالمياه، وكانت الأرض سبخة فتحول ترابها إلى وحل وطين لم يتمكن الجيش بسببه من اقتحام المدينة.

    وكان أبو عبيدة قد انتهى من دمشق، وعقد الصلح مع أهلها، ونظر فإذا هرقل يحرض الناس عليهم، والروم يجتمعون حوله في إنطاكية، وفكر القائد ماذا يصنع؟ أيذهب إلى هرقل ليقضي عليه، ويريح المسلمين من تحريضه وشره؟ أم يذهب إلى فحل ليؤمن ظهر الناس، وتصير الشام بعدها سلما للمسلمين؟

    وسرعان ما تذكر أبو عبيدة رسالة الخليفة وأمره بالتوجه إلى فحل بعد فتح دمشق فلم يعد هناك مجال للتردد والتفكير، فليذهب أبو عبيدة وجيشه إلى فحل، وليكن من أمر هرقل بعد ذلك ما يكون.
    استعد أبو عبيدة للمسير إلى فحل، وخلّف يزيد بن أبي سفيان في خيله على دمشق حتى لا تنتقض أو ترتد، وتقلب للمسلمين ظهر المجن.

    وكان شرحبيل بن حسنة هو أمير الجيش حسبما وصى الخليفة، ورتب شرحبيل جيشه، فجعل خالدا على المقدمة، وأبا عبيدة وعمرا على المجنبتين، وضرار بن لأزور على الخيل، عياض بن غنم على الرجل [20].

    سار الجيش على بركة الله، يحده أمل كبير في فتح هذه البلاد حتى تهدأ بلاد الشام كلها، ويصبح فيها المسلمون آمنين، واتجه شرحبيل بجيشه نحو الجنوب حتى انتهى إلى الجيش المحاصر وعليه أبو الأعور السلمي، فوجده وقد حال الوحل والماء بينه وبين جيش الروم.
    وأراد شرحبيل أن يحرك الجيش الذي حاصر فحل تلك الفترة الطويلة دون أن يستطيع فتحها ليجدد نشاطه، ويحفزه للعمل بعد طول توقف فبعثه إلى طبرية فخرج أبو الأعور السلمي بجيشه متوجها إلى الشمال حيث تكون طبرية.

    ونزل شرحبيل بجيشه الذي ضم خيرة قواد المسلمين على فحل، فوجد الأرض لا زالت غارقة بالوحل والماء، وبحث المسلمون حولهم فوجدوا أنفسهم بأطيب مقام، الأرض خصبة، والخيرات كثيرة، والعيش رغد، والروم محصورون لا يصلهم مدد ولا يسعفهم عون، فلماذا يتعجلون؟

    وكتب القائد إلى الخليفة يخبره بموقف الجيش، ذلك لأن عمر –رضي الله عنه- كان يوصي القواد دائما بالكتابة له بكل ما يكون عليه الجيش حتى يكون بقلبه وروحه دائما مع المجاهدين وما كان يحب أن يخفى عليه شيء من أحوالهم، ولم يكن هناك ما يدعو للعجلة فأقام الجيش حتى يأتيه أمر الخليفة.


    مغامرة يائسة:

    رأى سقلاّر قائد جيش الروم وجوها جديدة تحاصر المكان، ورأى في تصرفاتهم عدم الاكتراث بطول الحصار، فتأكد أن القوم جادون في حصارهم، وأنهم لن يبرحوا الأرض –مهما طال وقوفهم- حتى يفتحوها، فماذا يفعل؟ وكيف يتصرف؟؟
    لقد كانت هزيمتهم في اليرموك لا زالت تقض مضاجعهم، وتفت في أعضادهم ثم بلغتهم أخبار دمشق ذات الحصون والأسوار فزادت في فزعهم واضطرابهم وهاهي ذي الأنباء تترى بأن هرقل يتأهب لمغادرة بلاد الشام إلى غير رجعة.

    لم يكن أمام جيش الروم إزاء تلك الأحداث الجسام، وبعد تلك المواقف المفزعة إلا أن يغامر بخوض معركة مع المسلمين وليكن الموت فهو على كل حال خير من الأسر وإن كان مشوبا بعار الهزيمة.
    عزم سقلار على مباغتة المسلمين وتبييتهم، فأرسل فرقة من جنوده ليكتشفوا له من خلال الوحل طريقا بها يهاجم منه المسلمين، معتقدا أنه سيأخذهم على غرة وهم نائمون، ولكن شرحبيل قائد قوات المسلمين كان دائما على استعداد، لأنه كان يتوقع أن يهاجمه الروم في أي لحظة، ولهذا فإنه كان يمسي ويصبح على تعبئة وجيشه في غاية اليقظة والحذر.

    وتخير سقلار بن مخراق القائد اليائس ليلة ليبيت فيها المسلمين، فلما جن الليل عبر تحت ستار ظلامه ذلك المكان الوحل إلى حيث يعسكر المسلمون، وهو مطمئن تماما إلى غفلة المسلمين وعدم انتباههم له، ولكنه لم يكد يواجه الجيش الإسلامي حتى فوجئ باستعدادهم لملاقاته، وخاب أمله في كل ما كان يتوقعه من غفلة المسلمين وعدم انتباههم، فلم يكن بد من المعركة.
    وتلقاه شرحبيل هو وجنوده، فقاتلوا أشد القتال، وقاوموا أعنف مقاومة أعادت إلى أذهان الروم استبسال المسلمين في معركة اليرموك، واستبسل الروم في القتال فلم تكن لهم رغبة في الحياة بعد قتلى اليرموك واستسلام دمشق وفرار هرقل.

    واستمرت المعركة بتلك الشراسة طول الليلة التي هاجم فيها سقلار، وتنفس الصبح والقتال لا يزال مستمر الأوار، والموت يتخطف الناس من كل جانب، وأيقن المسلمون أن ما بين النصر والهزيمة هو صبر ساعة فصبروا محتسبين، وانتصف النهار والمعركة تزداد شراسة وفتكا، وتحمس المسلمون فبعد الزوال ينزل نصر الله كما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وازدادت ثقتهم بهزيمة عدوهم فقد بدا على جيش الروم إعياء شديد، ولولا تشبث النفس الإنسانية بالحياة لألقوا بأيديهم منذ الجولة الأولى.


    اللحظة الحاسمة:

    ولمس خالد بن الوليد وضرار بن الأزور ما أصاب جيش الروم من الفشل والوهن فشدا عليه شدة حطمت معنوياته، وأحدثت فيه من الخلل والاضطراب ما لم يعد في الإمكان تلافيه، وأقبل الليل بظلامه المخيف وسيوف المسلمين تنهبهم نهبا، فتزلزلت قلوبهم في صدورهم، واضطربت مع شدة الضربات صفوفهم، فحسبوا الليل فرصة للهروب من سيوف المسلمين فانهزموا حيارى خائفين، فضلوا الطريق، وأسلمتهم الهزيمة إلى الوحل الذي صنعوه بأيديهم ليمنع عنهم زحف المسلمين وقتل سقلار ورديفه نسطورس، وظفر المسلمون أحسن ظفر وأهنأه [21].

    ولحق بهم المسلمون وقد حال الوحل بينهم وبين الفرار، فتناولوهم بأطراف الرماح وقتلوا منهم ثمانين ألفا لم يفلت منهم إلا الشريد، وهكذا بدأت الهزيمة في فحل، ووقع القتل في الرداغ [22]


    إن تنصروا الله ينصركم:

    وهكذا بدت للمسلمين آيات الله تعالى فقد كان سبحانه يهيئ لهم أسباب النصر في شيء كرهوه وبرموا به، لقد كان انبثاق الماء، وتوحل الأرض مكيدة اتخذها الروم ليعوقوا تقدم جيش المسلمين، وأراد الله أن يكون الماء والوحل سببا في انتصارهم وهزيمة عدوهم {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال الآية 30). فانقلبت المكيدة على من اتخذها، وكانت عونا للمسلمين على عدوهم، وأناة من الله ليزدادوا بصيرة وجدا [23].

    وغنم المسلمون من الروم في تلك المعركة مغانم لم يقدرها المؤرخون، فاقتسموها بينهم، واطمأنت نفوسهم إلى موعود الله لهم، وانصرف أبو عبيدة وخالد بن الوليد إلى حمص تنفيذا لأمر الخليفة، وصحبا معهما سمير بن كعب وذا الكلاع الحميري ومن معه وخلفا شرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص ليتمما فتح الأردن وفلسطين.





    ________________________________________

    [1] ابن كثير 7/320.
    [2] الطبري 3/437-438.
    [3] هيكل: الفاروق عمر 1/128.
    [4] البلاذري ص128.
    [5] الطبري 3/440.
    [6] ابن كثير 7/20.
    [7] البلاذري ص128.
    [8] البلاذري ص128.
    [9] الأوهاق: الحبال في أطرافها عقد تطرح على الشيء فتمسك به.

    [10] ابن كثير 7/22.

    [11] الفاروق عمر/هيكل 1/133.

    [12] ابن كثير 7/21.
    [13] البلاذري ص132.
    [14] نفسه ص132.
    [15] أبو يوسف ص132.
    [16] البلاذري ص131.
    [17] ابن كثير 2/494.
    [18] الطبري 3/603.
    [19] ابن الأثير 2/429.
    [20] الطبري 3/442.
    [21] الطبري 3/443 وابن كثير 2/430.
    [22] ابن الأثير 2/430 والرداغ الطين والوحل.

    [23] الطبري 3/443.

    ************************************

    للدكتور محمد السيّد الوكيل

    وكيل كلية الحديث الشريف

    المصدر :

    مجلة الجامعة الاسلامية – المدينة النبوية – العدد 53
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو عمر محمد الفلسطيني; الساعة 31-Jul-2011, 12:26 PM.

  • #2
    جهود طيبة نافعة طيب الباري قلبك ونوره بالايمان الكامل

    تعليق


    • #3
      آمين

      بارك الله فيك أخي عماد

      تعليق


      • #4
        جزاكم الله خيراً على جهودكم الطيبة

        تعليق

        يعمل...
        X