إعـــــــلان

تقليص
1 من 3 < >

تحميل التطبيق الرسمي لموسوعة الآجري

2 من 3 < >

الإبلاغ عن مشكلة في المنتدى

تساعدنا البلاغات الواردة من الأعضاء على منتدى الآجري في تحديد المشكلات وإصلاحها في حالة توقف شيء ما عن العمل بشكل صحيح.
ونحن نقدّر الوقت الذي تستغرقه لتزويدنا بالمعلومات عبر مراسلتنا على بريد الموقع ajurryadmin@gmail.com
3 من 3 < >

فهرسة جميع الشروح المتوفرة على شبكة الإمام الآجري [مبوبة على حسب الفنون] أدخل يا طالب العلم وانهل من مكتبتك العلمية

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه - وعلى آله ومن ولاه وبعد :

فرغبة منا في تيسير العلم واشاعته بين طلابه سعينا لتوفير جميع المتون وشروحها المهمة لتكوين طلبة العلم ، وقد قطعنا شوطا لابأس به في ذلك ولله الحمد والمنة وحده ، إلا أنه إلى الآن يعاني بعض الأعضاء والزوار من بعض الصعوبات في الوصول للشروح والمتون المرادة لتداخل الشروح أو لقلة الخبرة التقنية .

من أجل هذا وذاك جاء هذا الموضوع ليكون موضوعا مرجعا جامعا مرتبا بإذن الله لكل المواد العلمية الموضوعة حاليا في شبكتنا ومرتبا على حسب أبواب الفنون العلمية (العقيدة، الفقه، الحديث،...)وسنحاول أيضا ترتيبها على مستويات الطلب (المبتدئ ، المتوسط ، المنتهي) سيتم تحديثه تبعا بعد إضافة أي شرح جديد .

من هـــــــــــنا
شاهد أكثر
شاهد أقل

فتاوى الكبار في الرد على من يقول أن الإسلام انتشر بالسيف

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • [شرح متن] فتاوى الكبار في الرد على من يقول أن الإسلام انتشر بالسيف

    بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه




    كما يمكنكم مشاهدة المزيد من فتاوى الكبار على قناتي الجديدة في اليوتوب
    ۩۩۩ المنتقى من فتاوى الكبار ۩۩۩



    فتاوى الكبار في الرد على من يقول أن الإسلام انتشر بالسيف

    *******************************

    منسقة على صوتي واحد

    للتحميل الأسئلة والأجوبة في مقاطع صوتية على رابط واحد


    كما يمكنكم الاستماع والتحميل المباشر من موقع Archive



    الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله

    بيان كيفية انتشار السنة الالباني



    الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله

    بيان خطأ من يقول إن الإسلام انتشر بالسيف العثيمين

    الدعوة إلى الله بالسيف والقتال العثيمين




    الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله

    الرد على من قال أن الاسلام انتشر بالسيف صالح آل الشيخ




    الشيخ عبد العزيز ابن باز حفظه الله
    الدعوة إلى الله وأثرها في انتشار الإسلام

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
    فإني أشكر للمسئولين في الرابطة ما تكرموا به من تقديم الدعوة إلي للمشاركة في موسم الرابطة الثقافي لهذا العام 1391 هـ.
    وأسأل الله عز وجل أن ينفع المسلمين بهذا الموسم، وأن يكلل جهود القائمين عليه بالنجاح. وأن يجزل لهم المثوبة، إنه خير مسئول. وقد رأى المسئولون في الرابطة أن تكون المحاضرة في (أثر الدعوة في انتشار الإسلام) وقد أجبتهم إلي ذلك، ورأيت أن يكون العنوان ما سمعتم وهو فضل الدعوة. ومن هذا يعلم أن هذه المحاضرة ذات شقين: أحدهما: يتعلق بفضل الدعوة، والثاني: يتعلق بأثرها في انتشار الإسلام.
    أما ما يتعلق بفضل الدعوة، فكل من له أدنى إلمام بالعلم، يعرف أن الدعوة شأنها عظيم، وهي مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام، والرسل عليهم الصلاة والسلام هم الأئمة في هذا الشأن، وهم الأئمة في الدعوة، وهي وظيفتهم؛ لأن الله جل وعلا بعثهم دعاة للحق، وهداة للخلق عليهم الصلاة والسلام، فكفى الدعوة شرفاً، وكفاها منزلةً عظيمةً أن تكون وظيفة الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة. قال الله تعالى في كتابه المبين: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ واجتنبوا الطاغوت[1]،فبين سبحانه وتعالى أن الرسل جميعاً بعثوا بهذا الأمر العظيم الدعوة إلى عبادة الله وحده، واجتناب الطاغوت.
    والمعنى أنهم بعثوا لدعوة الناس إلى إفراد الله بالعبادة، وتخصيصه بها، دون كل ما سواه، وتحرير الناس من عبادة الطاغوت، إلى عبادة الله وحده.
    والطاغوت كل ما عبد من دون الله من شجر وحجر، أما ما عبد من دون الله من الأنبياء والصالحين والملائكة فليس المعبود منهم طاغوتاً، ولكن الطاغوت هو الشيطان الذي دعا إلى ذلك وزين ذلك، وإلا فالرسل والملائكة والصالحون يبرءون إلى الله عز وجل من عبادة من عبدهم. فالطاغوت كل ما عبد من دون الله من الجمادات، ومن العقلاء الذين يرضون بذلك كفرعون وأشباهه، أما من لا يرضى بذلك فالطاغوت هو الشيطان الذي دعا إلى عبادته وزينها.
    وقال عز وجل: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ[2]،فبين سبحانه وتعالى أن الرسل بعثوا مبشرين ومنذرين، مبشرين من أطاعهم بالنصر والتأييد والجنة والكرامة، ومنذرين من عصاهم بالخيبة والندامة والنار.
    وفي بعثتهم إقامة الحجة، وقطع المعذرة، حتى لا يقول قائل ما جاءنا من بشير ولا نذير فالله سبحانه وتعالى بعث الرسل إقامة للحجة، وقطعاً للمعذرة، وهداية للخلق، وبياناً للحق، وإرشاداً للعباد إلى أسباب النجاة، وتحذيراً لهم من أسباب الهلاك عليهم الصلاة والسلام، فهم خير الناس وأصلح الناس، وأنفع الناس للناس، وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا[3]،فأخبر سبحانه أنه بعث هذا الرسول الكريم محمداً عليه الصلاة والسلام شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله، فعلم بذلك أن وظيفة الدعوة إلى الله هي تبليغ الناس الحق، وإرشادهم إليه، وتحذيرهم مما يخالفه ويضاده. وهكذا أتباعهم إلى يوم القيامة. مهمتهم الدعوة إلى الله وإرشاد الناس إلى ما خلقوا له، وتحذيرهم من أسباب الهلاك، كما قال عز وجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[4]،فأمر الله نبيه أن يبلغ الناس أن سبيله التي هو عليها الدعوة إلى الله عز وجل، وهكذا أتباعه هم على ذلك.
    والمعنى: قل يا محمد، أو قل يا أيها الرسول للناس: هذه سبيلي أنا ومن اتبعني. فعلم بذلك أن الرسل وأتباعهم هم أهل الدعوة، وهم أهل البصائر، فمن دعا على غير بصيرة فليس من أتباعهم، ومن أهمل الدعوة فليس من أتباعهم، وإنما أتباعهم على الحقيقة هم الدعاة إلى الله على بصيرة، يعني أتباعهم الكُمّل الصادقين الذين دعوا إلى الله على بصيرة، ولم يقصروا في ذلك، وعملوا بما يدعون إليه، وكل ما حصل من تقصير في الدعوة، أو في البصيرة كان نقصاً في الإتباع، ونقصاً في الإيمان وضعفاً فيه، فالواجب على الداعية إلى الله عز وجل، أن يكون ذا بصيرة، أي ذا علم، فالدعوة على جهل لا تجوز أبداً، لأن الداعية إلى الله على جهلٍ يضر ولا ينفع، ويخرب ولا يعمر، ويضل ولا يهدي، فالواجب على الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى التأسي بالرسل بالصبر والعلم والنشاط في الدعوة: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ[5]،فالدعوة إلى الله عز وجل هي سبيل الرسل وطريقهم عليهم الصلاة والسلام، وفي ذلك غاية الشرف والفضل للدعاة أتباع الرسل، المقتدين بهم، السائرين على منهاجهم عليهم الصلاة والسلام، ومن شرط ذلك أن يكون الداعية على بصيرة وعلم وبينة، بما يدعو إليه، ومما يحذر منه حتى لا يضر الناس، وحتى لا يدعو إلى ضلالة وهو لا يدري، أو يدعو إلى باطل وترك حق وهو لا يدري، حتى يكون على بينة ليعرف ما يدعو إليه، وما يدعو إلى تركه.
    وقال عز وجل: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[6]،هذا الأمر العظيم وإن كان موجهاً إلى الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، فهو أمر للأمة جميعاً، وإن خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم فهو الأصل والأساس، وهو القدوة عليه الصلاة والسلام، ولكنه مع ذلك موجه للأمة جميعاً، لأن القاعدة الشرعية أن أمته تابعة له في الأمر والنهي إلا ما دل الدليل على أنه خاص به عليه الصلاة والسلام، فالدعوة إلى الله فرض كفاية على الجميع، وواجب على الجميع، قال الله جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[7]،فعلى المسلمين أن يتأسوا بنبيهم عليه الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله، والتوجيه إليه، وإرشاد العباد إلى أسباب النجاة، وتحذيرهم من أسباب الهلاك، وفي هذه الآية العظيمة بيان كيفية الدعوة وأسلوبها ونظامها وما ينبغي للداعي أن يكون عليه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ[8]،قال جماعة من علماء التفسير: معنى ذلك: بالآيات والأحاديث، يعني ادع إلى الله بآيات الله وبسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام. لما فيها من الحكمة، ولما فيها من الفقه والردع والبيان والإيضاح، والكلمة الحكيمة هي التي فيها الردع عن الباطل، والتوجيه إلى الخير، وفيها الإقناع والتوجيه إلى ما فيه السعادة.
    فالداعي إلى الله جل وعلا، ينبغي له أن يتحرى في دعوته ما يقنع المدعو، ويوضح الحق، ويردعه عما يضره، بالأسلوب الحسن الطيب، اللين الرقيق، ولهذا قال بعده: وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ،فليكن الداعي ذا حكمة، وذا موعظة حسنة، عند الحاجة إليها، فهو يوضح الحق ويبينه، ويرشد إليه بالآيات والأحاديث الواضحة البينة الصحيحة، حتى لا يبقي شبهة للمدعو.
    ومن الحكمة إيضاح المعنى وبيانه بالأساليب المؤثرة التي يفهمها المدعو، وبلغته التي يفهمها حتى لا تبقى عنده شبهة، وحتى لا يخفى عليه الحق بسبب عدم البيان، أو بسبب عدم إقناعه بلغته، أو بسبب تعارض بعض الأدلة وعدم بيان المرجح، فإذا كان هناك ما يوجب الموعظة وعظ وذكر بالآيات الزواجر، والأحاديث التي فيها الترغيب والترهيب، حتى ينتبه المدعو ويرق قلبه وينقاد للحق، فالمقام قد يحتاج فيه المدعو إلى موعظةٍ وترغيبٍ وترهيب على حسب حاله، وقد يكون مستعداً لقبول الحق، فعند أقل تنبيه يقبل الحق، وتكفيه الحكمة، وقد يكون عنده بعض التمنُّع وبعض الإعراض فيحتاج إلى موعظة وإلى توجيه، وإلى ذكر آيات الزجر والترغيب وأحاديث الزجر والترغيب والترهيب حتى يلين قلبه، ويقبل الحق.
    وقد يكون عنده شبه فيحتاج إلى جدال بالتي هي أحسن. حتى تزاح الشبهة، ويتضح الحق ولهذا قال جل وعلا: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[9]. فإذا كان المدعو عنده بعض الشبه. فعليك أيها الداعي أن توضح الحق بدلائله. وأن تزيح الشبهة بالدلائل التي تزيحها، حتى يبقى معك المدعو على أمر بين واضح، وليكن هذا بالتي هي أحسن؛ لأن العنف والشدة قد يضيعان الفائدة. وقد يقسو قلب المدعو بسبب ذلك ويحصل له به الإعراض والتكبر عن القبول فعليك بالرفق والجدال بالتي هي أحسن حتى يقبل منك الحق، وحتى لا تضيع الفرصة. وتذهب الفائدة سدى. بسبب العنف والشدة، ما دام صاحبك يريد منك الحق. ولم يظلم ولم يتعد. أما عند الظلم والتعدي فله نهج آخر. وسبيل آخر، كما قال جل وعلا: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ[10]،فإذا كان أهل الكتاب يجادلون بالتي هي أحسن، فالمسلمون من باب أولى أن يجادلوا بالتي هي أحسن، لكن من ظلم ينتقل معه إلى شيء آخر، فقد يستحق الظالم الزجر، والتوبيخ، وقد يستحق التأديب والسجن، إلى غير ذلك على حسب ظلمه.
    والآيات في فضل الدعوة، والحث عليها كثيرة، ولكن من أهم ذلك وأوضحه ما بينا. ومن هذا قوله سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[11]،ففي هذه الآية الكريمة بيان أنه لا أحسن قولاً ممن دعا إلى الله، وفي ذلك غاية الحث على الدعوة، وغاية التحريض عليها، إذا كان لا أحسن قولاً. ممن دعا إلى الله، فحقيق بالمؤمن.
    وحقيق بطالب العلم أن يبادر ويسارع إلى هذا المقام العظيم، مقام الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو الدعوة إلى الله والإرشاد إلى دينه الحق، وهذه الطائفة رأسها وأئمتها الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم أحسن الناس قولاً، وهم أئمة الهدى والدعوة، وهم أولى الناس بالدخول في هذه الآية الكريمة؛ لأنهم القدوة والأساس في الدعوة إلى الله عز وجل عليهم الصلاة والسلام.
    وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[12]،هذه الآية العظيمة تبين لنا أن الداعي إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون ذا عمل صالح يدعو إلى الله بلسانه، ويدعو إلى الله بأفعاله أيضاً، ولهذا قال بعده: وَعَمِلَ صَالِحًا،فالداعي إلى الله عز وجل يكون داعية باللسان، وداعية بالعمل، ولا أحسن قولا من هذا الصنف من الناس، هم الدعاة إلى الله بأقوالهم الطيبة. وهم يوجهون الناس بالأقوال والأعمال. فصاروا قدوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وسيرتهم. وهكذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام، دعاة إلى الله بالأقوال والأعمال والسيرة، وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة أكثر مما ينتفعون بالأقوال ولاسيما العامة وأرباب العلوم القاصرة، فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها، فالداعي إلى الله عز وجل من أهم المهمات في حقه أن يكون ذا سيرةٍ حسنة وذا عملٍ صالح وذا خلقٍ فاضل حتى يقتدى بفعاله وأقواله وسيرته. وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[13]،يعني الداعي يصرح بما هو عليه ويبين أنه على المنهج الأسمى، على الحق، يقول هذا معتزاً به فرحاً به مغتبطاً به، لا مرائياً ولا مفاخراً ولكنه مبين للحق، يقول: إني على صراط مستقيم، أنا من المسلمين، لست نصرانياً ولا يهودياً ولا وثنياً ولكنني مسلم حنيف أدعو إلى الله على بصيرة، أدعو إلى ديني، أدعو إلى الحق، ويقول هذا عن اغتباط، وعن سرور، وعن اعتراف صادق، وعن إيمان بما يدعو إليه، حتى يعلم المدعوون أنه على بينة، وأنه على طريق واضح ومنهج صحيح، وأنه إذا دعا إلى الإسلام فإنه يدعو إليه وهو من أهله، ليس يدعو إليه وهو من غير أهله، بل هو يدعو إليه وهو عليه آخذ به ملتزم به. وكثير من الدعاة قد يدعون إلى شيءٍ وهم على خلافه، لكن دعوا إليه إما لمالٍ أخذوه وإما رياءٍ وإما لأسبابٍ أخرى، لكن الداعي الصادق إلى الله يدعوا إلى الإسلام؛ لأنه دينه، ولأنه الحق الذي لا يجوز غيره، ولأنه سبيل النجاة وسبيل العزة والكرامة، ولأنه دين الله الذي لا يرضى سواه سجانه وتعالى. فهذه الآية العظيمة فيها الحث والتحريض على الدعوة إلى الله عز وجل وبيان منزلة الدعاة، وأنهم أحسن الناس قولاً إذا صدقوا في قولهم وعملوا الصالحات، وهم أحسن الناس قولاً، ولا أحد أحسن منهم قولاً أبداً، وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم أتباعهم على بصيرة إلى يوم القيامة.
    ومن الدعاة إلى الله الداخلين في هذه الآية المؤذنون فإنهم دعاة إلى الله ينادون على رءوس الأشهاد بتكبير الله وتعظيمه والشهادة له بالوحدانية ولنبيه بالرسالة عليه الصلاة والسلام، فهم من الدعاة إلى الله وهم داخلون في هذه الآية الكريمة.
    ومما صح في السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في شأن الدعوة وفضلها قوله عليه الصلاة والسلام لما بعث علياً رضي الله عنه إلى خيبر قال: ((ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)) متفق عليه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
    أقسم عليه الصلاة والسلام وهو الصادق وإن لم يقسم أن هداية رجل واحد على يد عليٍ رضي الله عنه خير له من حمر النعم، فدل ذلك على أن الدعوة إلى الله شأنها عظيم وأنها منزلة عظمى. وفي هذا بيان أن المقصود من الدعوة والجهاد ليس قتل الناس ولا أخذ أموالهم؛ ولكن المقصود هدايتهم وإنقاذهم مما هم فيه من الباطل، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وانتشالهم من وهدة الضلالة وأوحال الرذيلة إلى عز الهدى وشرف التقوى. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)).
    وفيه من الفوائد حث الغزاة وأئمة الغزو على التريث وعدم العجلة في القتال، وأن يجتهدوا في الدعوة وإرشاد المدعوين وتنبيههم على أسباب النجاة لعلهم يرجعون ويجيبون الداعي، ولعلهم يتركون القتال ويدخلون في دين الله سبحانه وتعالى، فليس مقصود المسلمين ولا مقصود الإسلام والجهاد القتل وسبي النساء والذرية والأموال، وإنما المقصود من ذلك هداية الناس وإرشادهم إلى الحق الذي خلقوا له كما سبق، فإذا امتنعوا وأصروا ولم يقبلوا الحق بعد ذلك فالجهاد يفر إليه عند الحاجة، أما إذا كفت الدعوة وقبلوا الحق فلا حاجة إلى الجهاد، وإنما يصار إليه عند امتناع المدعو وعدم قبوله الحق، فعند هذا شرع الله الجهاد بالسلاح لقمع المبطلين وإزاحتهم عن طريق الدعوة، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وفتح الطريق أمام الدعوة إلى الله عز وجل حتى ينتشر الإسلام في أرض الله.
    وفيه من الفوائد أيضاً الدلالة على أن هداية واحدٍ خير من حمر النعم، يعني: أن الهداية لواحدٍ من الكفار على يدك أيها الداعي أو أيها الأمير فيه خير عظيم وفضل كبير. قال بعض الأئمة: معنى ذلك: خير من الدنيا وما عليها؛ لأن الدنيا زائلة والآخرة باقية فخيرها ولو كان قليلاً خير من الدنيا وما عليها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها)).
    وإنما ذكر صلى الله عليه وسلم حمر النعم لأن حمر النعم أنفس أموال العرب وأرفعها عندهم فمثل بها، وإلا فالمقصود أن هداية رجل واحد أو أكثر من ذلك خير من الدنيا وحطامها الزائل الفاني.
    وقال عليه الصلاة والسلام: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله)) أخرجه مسلم في الصحيح، وهو يدل على أن من دعا إلى الخير وأرشد إليه كان له مثل أجر فاعله، وهذه فضيلة عظيمة للدعوة وشرف عظيم للدعاة أن الله - سبحانه وتعالى - يعطيهم مثل أجور من هداه الله على أيديهم.
    فيا له من خير، ويا له من فضل، ويا لها من منزلة. فيا أخي ادع إلى ربك وإلى دينك وإلى إتباع نبيك عليه الصلاة والسلام يحصل لك مثل أجور من هداه الله على يديك، هذه مزيةٍ عظيمة وفضل كبير، وفي ذلك حث وتحريض للدعاة على الدعوة والصبر عليها إذا كنت تحصل بذلك على مثل أجور من هداه الله على يدك، فحقيق بك أن تشمر وأن تسارع إلى الدعوة وأن تصبر عليها وفي هذا خير عظيم، وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم أيضاً في الصحيح: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً))،وهذا أيضاً فضل عظيم: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه))،وهذا مثل ما تقدم في حديث: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله)).
    وهذه الأحاديث وما جاء في معناها فيها الحث والتحريض على الدعوة وبيان فضلها وأنها في منزلة عظيمة من الإسلام، وأنها وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وقد بعث الله تعالى الرسل جميعاً دعاة لله عز وجل، ومبشرين بدينه، ومنذرين من عصاه، فحقيق بك أيها المؤمن أن تسير على منهاجهم الصالح، وأن تستمر على طريقهم الواضح بالدعوة إلى الله والتبشير بدينه، والتحذير من خلافه، وإنما يتم هذا الفضل ويحصل هذا الخير ويتضاعف بالصبر والإخلاص والصدق، فمن ضعف صبره أو ضعف صدقه أو ضعف إخلاصه لا يستقيم مع هذا الأمر العظيم، ولا يحصل به المطلوب كما ينبغي، فالمقام يحتاج إلى إخلاص، فالمرائي ينهار ولا يثبت عند الشدائد، ويحتاج إلى صبر، فذو الملل وذو الكسل لا يحصل به المقصود على التمام، فالمقام يحتاج إلى إخلاص وإلى صدق وإلى صبر، كما قال سبحانه وتعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ[14]،وكما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[15]،وقال عز وجل: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[16]،فلا بد من الصدق كما قال عز وجل: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ[17]،ولا بد من الصبر كما قال جل وعلا: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[18]،وكما قال سبحانه: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[19]،فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين. فالدعاة إلى الله عز وجل إذا صبروا وصدقوا وكانت دعوتهم على علم وعلى بصيرة، صاروا أئمة للناس يقتدى بهم في الشدة والرخاء، والعسر واليسر، كما سبق في قوله تعالى وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[20].
    فعليك يا عبد الله بالصبر على دعوتك وإيمانك وعملك الصالح، وعليك باليقين في أعمالك. كن على بصيرة. تعلم وتفقه وتثقف في الدين، وكن على بينة في أمورك حتى تكون دعوتك عن صبر وعن يقين، وبهذا تكون إماماً يقتدى به، وتكون إماماً وقدوة وأسوة صالحة في أعمالك الطيبة وسيرتك الحسنة، وبهذا ينتهي الكلام على فضل الدعوة وهو الشق الأول.
    أما الشق الثاني: وهو أثرها في انتشار الإسلام. فنقول: إن الله جل وعلا بعث الرسل كما سبق عليهم الصلاة والسلام دعاة للحق وهداة للخلق، ولم يبلغنا أن الرسل الأولين كانوا يجاهدون على دعوتهم، وإنما ذكر الله الجهاد بعد بعث موسى عليه الصلاة والسلام.
    ومن وقت آدم إلى نزول التوراة كان الرسل دعاة فقط ليس هناك جهاد، فانتشر الإسلام بالدعوة والبيان والكتب المنزلة من السماء، فكان الرسل عليهم الصلاة والسلام يدعون إلى الله وينذرون الناس فانتشر دينهم وإسلامهم بالدعوة من عهد آدم إلى أن بعث الله موسى عليه الصلاة والسلام.
    والإسلام هو دين الله، قال جل وعلا: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ[21]،فهو دين الله لجميع المرسلين وجميع الأمم؛ كما قال سبحانه وتعالى عن نوح: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ[22]،وهو أول الرسل، وقال عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: (كان بين آدم ونوح عليهما الصلاة والسلام عشرة قرون كلهم على الإسلام)،حتى وقع الشرك في قوم نوح، وقال جل وعلا في قصة إبراهيم وإسماعيل وهما يعمران الكعبة: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[23]،فطلبا أن يكونا مسلمين.
    وقال في قصة يوسف: أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ[24]،وقال في قصة موسى: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ[25]،وقال عن بلقيس: وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[26]،فالدين عند الله هو الإسلام، ولكن الله بعث محمداً عليه الصلاة والسلام بأكمله وأتمه، بعثه بالإسلام وبشريعةٍ كاملةٍ في الإسلام، فالذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم هو أكمل الدين وأتمه، بعثه بالإسلام الذي هو دين الله، وبعثه بشريعة كاملة صالحة لجميع الزمان والمكان حتى تقوم الساعة، أما ما بعث الله به الأنبياء الماضين فهو دين الإسلام؛ ولكن بشرائع خاصة لأقوامهم خاصة، شرائع خاصة لأقوامهم، كل رسول بعثه الله إلى قومه بشريعة خاصة، والدين هو الإسلام، وهو توحيد الله؛ كما قال سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ[27]،فكل أمة بعث إليها رسول ليدعوهم إلى الإسلام، والاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، فكل رسول بعثه الله بهذا الإسلام وهو دين الله وتوحيده بإفراده بالعبادة، وترك عبادة ما سواه، وبعث معه شريعة خاصة تلائم زمانه وتناسب وقته وقومه، حتى ختم الله جل وعلا الشرائع والنبوات ببعث محمد عليه الصلاة والسلام، وبشريعةٍ كاملةٍ ودينٍ شامل ونظامٍ عام لجميع الأمة في حاضرها وقت نزول القرآن وفي مستقبلها إلى يوم القيامة. وجعله ديناً شاملاً لجميع الشئون؛ شئون الدين والدنيا، شئون العبادة وشئون المعاملة، وشئون الأحوال الشخصية وشئون الجنايات، وغير ذلك في جميع الأمور، جعله ديناً شاملاً منظماً لجميع مصالح العباد، منظماً لجميع ما يحتاجون إليه في شئونهم العاجلة والآجلة، مفصلاً لكل ما يتطلبه العاقل وتقتضيه الحاجة. وبهذا يعلم أن انتشار الإسلام في عهد آدم وما بعده وعهد نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب -وهو إسرائيل- ويوسف عليهم الصلاة والسلام جميعاً والأنبياء بعدهم كان بالدعوة، انتشر الإسلام بالدعوة وظهر بالدعوة. كان الرسل يدعون وهكذا أنصارهم وأتباعهم يدعون إلى الله جل وعلا.
    فانتشر الإسلام في أممهم بالدعوة لا بالجهاد ولا بالسيف، فلم يذكر الله في كتابه العزيز عن أولئك أنهم جاهدوا بالسيف، وإنما دعوا إلى الله وأنذروا الناس وبشروهم فقبل الدعوة من هداه الله وأباها من سبقت له الشقاوة نعوذ بالله من ذلك.
    وكانت الأمم قبل موسى عليه الصلاة والسلام إذا عاندوا الرسول وأبوا إتباعه جاءهم العذاب فأهلكوا عن آخرهم إلا من آمن بالله. فآدم عليه الصلاة والسلام ومن كان في زمانه من ذريته إلى عهد نوح كانوا على الإسلام والهدى، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون فيهم معصية، فقد عصى قابيل وقتل أخاه هابيل بغير حق ولكنهما كانا على الإسلام.
    ثم زيّن الشيطان لقوم نوح الغلو في الصالحين في قالب المحبة لهم، ودعاهم إلى تصوير صورهم ونصبها في مجالسهم، ثم بعد ذلك زين لمن بعدهم التعلق بها وعبادتها حتى وقع الشرك في قوم نوح بسبب الغلو في الصالحين، وتصوير الصور والابتداع في الدين.
    ولهذا حذّر الرسول عليه الصلاة والسلام من الصور، وحذر من البدع؛ لأن البدع والصور من وسائل الشرك نسأل الله العافية، ولما أخبرته أم حبيبة وأم سلمة بالكنيسة التي رأتاها في الحبشة وما فيها من الصور، قال: ((أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله))،فأخبر عليه الصلاة والسلام أنهم شرار الخلق بسبب غلوهم في صالحيهم باتخاذ المساجد على قبورهم، وتصوير الصور عليها، وهكذا وقع في قوم نوح، فالإسلام انتشر بالدعوة فلما أبى قوم نوح إلا العناد والشرك ولم يستجيبوا لداعيهم نوح عليه الصلاة والسلام ألف سنة إلا خمسين عاماً أرسل الله عليهم الطوفان فأهلكهم عن آخرهم بالغرق إلا من كان مع نوح في السفينة، نسأل الله العافية.
    وقوم هود هلكوا بريحٍ عقيم، وقوم صالح بالرجفة والصيحة حتى هلكوا عن أخرهم، هكذا عاقب الله كثيراً من الأمم بأنواع من العقوبات بسبب كفرهم وضلالهم وامتناعهم عن قبول الدعوة الإسلامية.
    ثم شرع الجهاد في عهد موسى عليه الصلاة والسلام لنصر الحق وقمع الباطل، ثم شرع الله الجهاد على يد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل، ونبينا عليه الصلاة والسلام لما بعثه الله مكث في مكة بضعة عشر عاماً يدعو إلى الله عز وجل ولم يكن هناك جهاد بالسيف ولكنه الدعوة والتبشير بالإسلام.
    وقد أنكر قومه دعوته وآذوه وآذوا أصحابه ولكنه صبر على ذلك عليه الصلاة والسلام وكان مستترا بها أولا، ثم أمره الله بالصدع فأظهر الدعوة وصبر على الأذى، وهكذا أصحابه، وكان من السابقين إلى ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه، سبق إلى الإسلام والدعوة، وخديجة رضي الله عنها، وعلي رضي الله عنه، وزيد بن حارثة، هؤلاء الأربعة هم السابقون إلى الإسلام والدعوة، ثم تابعهم الناس.
    وكان الصديق رضي الله عنه شريفاً في قومه معظماً مألوفاً ذا معروف وإحسان وذا تجارةٍ ومال، وذا خلقٍ كريم، فكان يدعو إلى الله سراً ويبشر بالإسلام حتى أسلم على يديه جم غفير منهم: عثمان رضي الله عنه، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، رضي الله عن الجميع. وأسلم جم غفير في مكة بالدعوة لا بقهر ولا بجهاد ولكن بالدعوة والتوجيه وقراءة القرآن وشرح محاسن الإسلام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو ويقرأ عليهم القرآن ويبين لهم ما أشكل عليهم فيتقبلون الحق ويرضون به، ويدخلون في دين الله جل وعلا.
    ثم انتشر الإسلام والدعوة إليه في القبائل والبادية والقرى المجاورة لمكة بسبب الدعوة، وبسبب ما يسمعونه من الصحابة الذين أسلموا وأجابوا النبي عليه الصلاة والسلام. وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج كل عام يطلب منهم أن يجيبوه وأن يؤوه وأن ينصروه حتى يبلغ رسالة ربه عليه الصلاة والسلام، فلم يقدر الله سبحانه ذلك إلا للأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، فأجابه الأنصار واجتمعوا به عند الجمرة في المرة الأولى وكانوا ستة، دعاهم إلى الإسلام فأجابوا وقبلوا الحق وصاروا رسلاً إلى قومهم، فذهبوا إلى المدينة ودعوا إلى الله عز وجل، وبشروا بالإسلام فأجاب إلى الإسلام منهم بشر كثير، ثم قدم منهم في السنة الثانية اثنا عشر منهم الستة الأقدمون ومن جملتهم أسعد بن زرارة رضي الله عنه وجماعة كانوا من الخزرج سوى اثنين من الأوس وقيل ثلاثة، فاجتمعوا به عليه الصلاة والسلام أيضاً في وسط أيام التشريق وتلا عليهم القرآن وبايعوه على الإسلام، ثم رجعوا إلى بلادهم فدعوا إلى الله عز وجل وانتشر الإسلام في بيوت الأنصار إلا قليلا منهم، ودخل في دين الله جم غفير من الأنصار، ثم تعاقدوا على أن يطلبوا من النبي على أن يهاجر إليهم وأن ينقذوه من حال المشركين وأذاهم.
    وكان قد بعث إليهم عليه الصلاة والسلام مصعب بن عمير بعد البيعة الأولى فكان يعلم ويرشد في المدينة، فكان يعلم الناس ويرشدهم، وأسلم على يديه جماعة كثيرة وانتشر الإسلام بسبب ذلك، ومن جملة من أسلم على يديه سيد الأوس سعد بن معاذ، والسيد الثاني من الأوس أسيد بن الحضير، وبسبب إسلامهما انتشر الإسلام في الأوس، وبسبب إسلام أسعد بن زرارة هو وسعد بن عبادة وجماعة من الخزرج انتشر الإسلام في الخزرج، وظهر دين الله هناك، ثم قدموا في السنة الثالثة، قدم منهم سبعون رجلاً من الأنصار، وقيل: ثلاثة وسبعون، وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام والنصرة والإيواء، وتم ذلك بحضرة عمه العباس رضي الله عنه، ثم شرع المسلمون في الهجرة إلى المدينة بإذنه عليه الصلاة والسلام، ثم هاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وقام بالدعوة إلى الله هناك ونشر الإسلام، وهكذا المسلمون الذين أسلموا من الحاضرة والبادية نشروا الإسلام بالدعوة ومن جملتهم أبو ذر الغفاري وعمرو بن عبسة السلمي وغيرهما.
    ثم شرع الله الجهاد على أطوار ثلاثة:
    أولاً أذن فيه، ثم أمروا أن يقاتلوا من قاتلهم ويكفوا عمن كف عنهم، ثم شرع الله الجهاد العام طلباً ودفاعاً، وهذه الأطوار باقية على حسب ضعف المسلمين وقوتهم، فإذا قوي المسلمون وجب عليهم الجهاد طلباً ودفاعاً، وإذا ضعفوا عن ذلك وجب عليهم الدفاع وسقط عنهم الطلب حتى يقدروا ويستطيعوا.
    والمقصود من الجهاد كما تقدم هو نشر الإسلام وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وإزاحة العقبات من طريق الدعوة، والقضاء على العناصر الفاسدة التي تمنع الدعوة وتحول بين الدعاة إلى الله وتبيين مقاصدهم الطيبة، ولهذا شرع الله الجهاد لإزاحة العراقيل عن طريق الدعوة، ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وانتشالهم من الباطل إلى الحق والهدى، وإخراجهم من ظلم الأديان وضيق الدنيا إلى سعة الإسلام وعدل الإسلام، ومضى على ذلك نبي الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام وأتباعهم بإحسان حتى ظهر دين الله وانتشر الحق بالدعوة الصحيحة الإسلامية، وبالجهاد الذي يناصرها ويؤيدها إذا وقف في طريقها أحد، حتى أزاحوا الروم عن الشام، واستولوا على مملكة الفرس، وانتشر الإسلام في اليمن وغيره من أنحاء الجزيرة العربية بسبب الدعوة إلى الله والجهاد الصادق في سبيل الله، وأزيحت العقبات عن طريق الدعوة.
    وبهذا يعلم أن انتشار الإسلام بالدعوة كان هو الأساس وهو الأصل، وأما الجهاد بالسيف فكان منفذا للحق وقامعاً للفساد عند وجود المعارضين الواقفين في طريق الدعوة. وبالجهاد والدعوة فتحت الفتوحات بسبب أن أكثر الخلق لا يقبل الدعوة بمجردها لمخالفتها لهواه، ولما في نفسه من حب للشهوات المحرمة ورياسته الفاسدة الظالمة، فجاء الجهاد يقمع هؤلاء ويزيحهم عن مناصبهم التي كانوا فيها عقبة كأداء في طريق الدعوة، فالجهاد مناصر للدعوة ومحقق لمقاصدها، ومعين للدعاة على أداء واجبهم.
    والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى على حالين:
    إحداهما: فرض عين، والثانية: فرض كفاية، فهي فرض عين عند عدم وجود من يقوم باللازم كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا كنت في بلد أو قبيلة أو منطقة من المناطق ليس فيها من يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأنت عندك علم؛ فإنه يجب عليك عيناً أن تقوم بالدعوة، وترشد الناس إلى حق الله، وتأمرهم بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر.
    أما إذا وجد من يقوم بالدعوة ويبلغ الناس ويرشدهم فإنها تكون في حق الباقين العارفين بالشرع سنةً لا فرضاً.
    وهكذا الجهاد كله، فرض كفاية عند وجود من يكفي، فيسقط الجهاد والأمر والنهي والدعوة عن الباقين ويكون في حقهم سنة مؤكدة، وعند عدم وجود من يكفي يتعين الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عليك حسب طاقتك وحسب إمكانك، كما قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ[28]،وقال جل وعلا: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا[29]،وقد قام الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بالدعوة والجهاد بعد نبيهم عليه الصلاة والسلام قياماً عظيماً، فأبو موسى ومعاذ وعلي رضي الله عنهم بعثوا إلى اليمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقاموا بالدعوة هناك، ثم رجع معاذ في عهد الصديق، ورجع علي وأبو موسى في حجة الوداع، فقام خلفاؤهم بالدعوة هناك ونشر الإسلام.
    وقام الصحابة الذين سافروا إلى العراق والشام بالدعوة إلى الله هناك ونشر الإسلام، ثم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قاموا بالدعوة والجهاد والتعليم والتفقيه في الشام والعراق واليمن ومصر وغير ذلك، وفي شرق وشمال أفريقيا، ثم لم تزل الدعوة تنتشر في أفريقيا كلها، وفي الشرق والغرب كله، حتى ظهرت الدعوة وانتشرت في أقصى المغرب والمشرق.
    وفي وقتنا هذا ضعف أمر الجهاد لما تغير المسلمون وتفرقوا وصارت القوة والسلاح بيد عدونا، وصار المسلمون الآن إلا من شاء الله لا يهتمون إلا بمناصبهم وشهواتهم العاجلة وحظهم العاجل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلم يبق في هذه العصور إلا الدعوة إلى الله عز وجل والتوجيه إليه، وقد انتشر الإسلام بالدعوة في هذه العصور في أماكن كثيرة في أفريقيا شرقها وغربها ووسطها وفي أوربا، وفي أمريكا وفي اليابان، وفي كوريا، وفي غير ذلك من أنحاء آسيا، وكل هذا بسبب الدعوة إلى الله، بعضها على أيدي التجار، وبعضها على أيدي من قام بالدعوة وسافر لأجلها وتخصص لها.
    وبهذا يعلم طالب العلم ومن آتاه الله بصيرة أن الدعوة إلى الله عز وجل من أهم المهمات وأن واجبها اليوم عظيم لأن الجهاد اليوم مفقود في غالب المعمورة والناس في أشد الحاجة إلى الدعاة والمرشدين على ضوء الكتاب والسنة، فالواجب على أهل العلم أينما كانوا أن يبلغوا دعوة الله، وأن يصبروا على ذلك، وأن تكون دعوتهم نابعة من كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة عليه الصلاة والسلام، وعلى طريق الرسول وأصحابه، ومنهج السلف الصالح رضي الله عنهم، وأهم من ذلك الدعوة إلى توحيد الله وتخليص القلوب من الشرك والخرافات والبدع؛ لأن الناس ابتلوا بالبدع والخرافات إلا من رحم الله، فيجب على الداعية أن يهتم بتنقية العقيدة، وتخليصها مما شابها من خرافات وبدع وشركيات، كما يقوم بنشر الإسلام بجميع أحكامه وأخلاقه، والطريق إلى ذلك هو تفقيه الناس في القرآن والسنة، فالقرآن هو الأصل الأصيل في دعوة الناس إلى الخير، ثم السنة بعد ذلك تفسر القرآن، وتدل عليه، وتعبر عنه، وتوضح معناه وتبينه، وخلق النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يتأسى المسلمون به ويقتدوا به عليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ[30]،قالت عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن)،فالداعية إلى الله ينبغي له أن يهتم بالقرآن الكريم وأن يعنى به تلاوةً وتدبراً وقراءة على الناس وتوجيهاً لهم إليه؛ حتى يدرسوه ويتعلموه ويعملوا به. وهكذا السنة يعلمهم إياها ويبشرهم بها ويحثهم عليها، ويوضح سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه حتى يسيروا على طريقهم الصالح وعلى نهجهم الطيب، وهذا هو الطريق والسبيل إلى نشر الإسلام، وتخليص الناس من الشرك والخرافات والبدع، وهو دعوتهم إلى الله وإرشادهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن على ضوء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والطريقة السلفية التي سار عليها رسول الله عليه الصلاة والسلام، وسار عليها أصحابه الكرام وأتباعهم بإحسان.
    وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعاً لما فيه رضاه، وأن يهدينا صراطه المستقيم وأن يمن علينا وعلى المسلمين جميعاً بسلوك طريق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وطريق أصحابه والثبات عليه والدعوة إليه والذب عنه والتحذير من خلافه.
    كما نسأله سبحانه أن يصلح ولاة أمر المسلمين وأن يمن عليهم بالتوفيق والهداية، وأن يجمعهم وشعوبهم على الحق والهدى، وأن ينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل، وأن يقيم بهم علم الجهاد لنصر دين الله، الجهاد الصالح الشرعي حتى يكونوا دعاةً إلى الله ومرشدين إليه سبحانه وتعالى إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.



    المصدر






    اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء


    المبادئ الحربية: آراء متعارضة وشهادات منصفة!

    هنا نصل إلى القضية الأساسية حول النظرية الحربية في الإسلام ، حيث نجد الكثير من الكتابات التي تتحدث عن الإسلام بأنه دين السيف ، وما زالت هذه الكتابات هي الرائجة في الدراسات
    الغربية أو غير الإسلامية عموما حول الإسلام.

    وبالرغم من مبالغة المسلمين في الدفاع عن هذه القضية ، الأمر الذي أدى إلى إنكار بعضهم لحقائق تاريخية ثابتة في الإسلام ! فنحن لا يمكننا أن ننكر أن تلك الفتوحات الإسلامية كانت بالسيف، والتي كانت - ولا شك - أحد أسباب انتشار الإسلام؛ إلا أننا لا بد أن نشير إلى أن هذه الحروب لم تكن أمرًا تفرد به الإسلام عن غيره من الديانات والحضارات، بل هو فاتح ، لكنه من نوع أخلاقي، رسم منهجية حربية جديدة على التاريخ أجمع، وهو الأمر الذي يتميز به سيف المسلمين عن غيرهم. وفي الوقت نفسه لم يكن السيف هو الذي أدى إلى انتشار الإسلام بشكل سريع جدا، إذ كانت تعاليمه السمحة مثار إعجاب الأمم المغلوبة، كما سيأتي تفصيله.

    ومع هذه السماحة فإن ذلك لم يَرُقْ لكثيرٍ من الدارسين لعلوم الإسلام ، إما جهلا بحقيقته ، وإما استعمالا لمناهج غير علمية مع الإسلام . ولذا ما زالوا يتحدثون على أن الإسلام هو دين الدم والسيف ، ولم يكن هدفه إلا بناء إمبراطورية عظمى!

    أولا: الهجمة على الحرب الإسلامية

    تقول المستشرقة الإسرائيلية " حافا لزروس " مكررة تلك الآراء غير الدقيقة حول الإسلام: ( وكلنا يعرف أن الإسلام حاول نشر دينه بالقوة على وجه الخصوص ، وإلى درجة كبيرة ، ومن خلال رغبته في تخليص العالم من الضلال الذي يعيش فيه ، ولم يستنكف عن
    استخدام أية وسيلة لنشر دينه ، سواء بالقوة أم بالتبشير) .استخدام أية وسيلة لنشر دينه ، سواء بالقوة أم بالتبشير) .

    وتضيف قائلة: (لقد احتل الإسلام عالما كبيرا، ولكنه لم ينجح في أسلمة كل السكان بالسرعة نفسها التي استولى بها على الأرض )

    وهذا النص ربما قد يستفز بعضا من المسلمين الذين لا يريدون أن يسمعوا عن الإسلام كل ما يخالف التوجهات المعاصرة في السلام، ونحن نقول إن هذا الرأي هو في الحقيقة مُجمل مُبهم ، إلا أنه يُساق في سياق ذم، وإلا فهناك عدد من المفكرين والعلماء الغربيين وغيرهم أثنى على الفتوحات الإسلامية من خلال رحمتها وقدرتها على استيعاب تعددية الشعوب، وسيأتي توضيح أكثر لذلك قريبًا.

    لكننا نجد آراء أكثر حدة من سابقها ، وأكثر بُعدًا عن الحقيقة، حيث يقول " شالوم زاوي " : ( يفرق المسلمون بين دار الإسلام ودار الحرب . ويجب أن تُسلم كل الشعوب بالسيف والجهاد إذا لم يقبلوا دين محمد رسول الله طواعية )

    وتتحدث " أفيفا شوسمان " عن الحروب الإسلامية مع اليهود،

    (الجزء رقم : 93، الصفحة رقم: 294)

    بما يشير إلى حجم جهل هؤلاء بالواقع الحقيقي لموقف المسلمين من اليهود، فتقول: ( ... وأُعلنت الحرب الدموية كوسيلة لأسلمة كل السكان )

    أقول: وهذه الآراء حول أهداف الحروب الإسلامية ، وأن المراد بها إجبار الشعوب على الإسلام؛ هي فكرة مرفوضة أصلا من نصوص القرآن ، والتي لا تجد لها مثيلا لا في نصوص التوراة ولا في الإنجيل أو غيرهما. وهذا واضح في عدد من النصوص القرآنية ، ومن ذلك: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ يونس : 99، وقوله: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ البقرة: 256، وسورة كاملة تبين ذلك: قل قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ الكافرون : 1- 6.

    وأما مسألة نشر الإسلام بالسيف فليس مما انفرد به الإسلام، بل المسيحية نُشرت بقوة السيف وفي التوراة اليهودية الأوامر بإبادة

    الشعوب ، ولا تكاد تجد أمرا واحدا بدعوتها للدين وحفظ دمائها بذلك

    ثانيا : شهادات منصفة

    نجد شهادات متعددة لعدد من المستشرقين تعترف بوجود مفاهيم مغلوطة عن دوافع الحرب في الإسلام، وتثني على السياسة الأخلاقية للحروب الإسلامية وأنها كانت عادلة ، وفي هذا يقول " مونتجمري وات " (أضحى الغرض من الجهاد لا تحويل أهلها [أي البلاد المفتوحة] عن ديانتهم إلى الإسلام ، وإنما إخضاعهم للحكم الإسلامي باعتبارهم من أهل الذمة ويقول أيضا: (إن الجهاد قد أدى - عسكريا - إلى توسيع رقعة الدولة الإسلامية ، غير أنه لم يؤد بصورة مباشرة إلى تحويل شعوب الأقطار المفتوحة عن دينها. وقد بقيت الإدارات المحلية لجماعات الذميين قائمة لم تُمس في معظم الحالات )


    (الجزء رقم : 93، الصفحة رقم: 296)

    ويقول " إميل درمنغم " : (وما أكثر ما في القرآن والحديث من الأمر بالتسامح ، وما أكثر عمل فاتحي الإسلام بذلك ، ولم يروِ التاريخ أن المسلمين قتلوا شعبًا ، وما دخول الناس أفواجًا في الإسلام إلا عن رغبة فيه)

    ويقول " غوستاف لوبون " وهو الذي لا يجهل حضارة المسلمين ، إذ هو متخصص فيها: (لم تقلَّ براعة الخلفاء الراشدين السياسية عن براعتهم الحربية التي اكتسبوها على عجل ، فقد اتصلوا منذ الوقائع الأولى بسكان البلاد المجاورة الأصليين الذين كان يبغِي عليهم قاهروهم منذ قرون كثيرة. . . فكانت الطريق التي يجب على الخلفاء أن يسلكوها واضحة ، فعرفوا كيف يحجمون عن حمل أحد بالقوة على ترك دينه ، وعرفوا كيف يبتعدون - خلافا لمزاعم الكثيرين - عن إعمال السيف فيمن لم يُسلم ، وأعلنوا في كل مكان أنهم يحترمون عقائد الشعوب وعرفها وعاداتها)

    ويقول مؤكدا خطأ نظرية السيف الدموية التي يُتهم به الإسلام: (كان يمكن أن تُعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم. . . ويسيئوا معاملة المغلوبين ، ويكرهوهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم. . . ولكن العرب اجتنبوا ذلك ، فقد أدرك الخلفاء السابقون

    (الجزء رقم : 93، الصفحة رقم: 297)

    الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما قلّ وجوده في دعاة الديانات الجديدة؛ أن النظم والأديان ليست مما يُفرض قسرا، فعاملوا - كما رأينا - أهل سوريا ومصر وإسبانيا ، وكل قُطر استولوا عليه بلطف عظيم، تاركين لهم قوانينهم ومعتقداتهم ، غير فارضين عليهم غير جزية زهيدة في الغالب إذا ما قيست بما كانوا يدفعونه سابقا ، في مقابل حفظ الأمن بينهم.

    فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب ، ولا دينا مثل دينهم، وما جهل المؤرخون من حكم العرب الفاتحين كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثير من الأمم لدينهم ونظمهم ولغتهم، التي رسخت وقاومت جميع الغارات وبقيت قائمة حتى بعد أن توارى سلطان العرب عن العالم

    ويؤكد " توماس آرنولد " هذا المبدأ بكلام صريح وحوادث واضحة: ( ومن هذه الأمثلة التي قدمناها آنفا عن ذلك التسامح الذي بسطه المسلمون الظافرون إلى العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة ، واستمر في الأجيال المتعاقبة ؛ نستطيع أن تستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة ، وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا

    (الجزء رقم : 93، الصفحة رقم: 29

    هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح

    وتشير الكاتبة البريطانية ( الراهبة المسيحية سابقا ) " كارين آرمسترونج " إلى العقدة الغربية حول السيف الإسلامي ، وتقول في ذلك: ( إننا في الغرب بحاجة إلى أن نخلِّص أنفسنا من بعض أحقادنا القديمة ، ولعل شخصًا مثل محمد [صلى الله عليه وسلم] يكون مناسبًا للبدء! فقد كان رجلاً متدفق المشاعر... وقد أسس دينًا وموروثًا حضاريًا لم يكن السيف دعامته ، برغم الأسطورة الغربية ، ودينًا اسمه الإسلام ؛ ذلك اللفظ ذو الدلالة على السلام والوفاق.

    إن من يعيش في هذا العصر قد يخيَّل له أن منهج الإسلام في العلاقات الدولية وما يقتضيه من مبادئ حاكمة سواء في الحروب التي قامت ، أو في عمليات السلم ، وما بين ذلك؛ منهج مثالي لا يقبل التطبيق في عالم الواقع، على الرغم من أن هذا المنهج كان يُطبق من جانب واحد ، إذ طبقه المسلمون - كما يشهد تاريخهم - على مساحة واسعة في الزمان والمكان.


    (الجزء رقم : 93، الصفحة رقم: 299)

    وبالرغم من الظروف القاهرة التي كان يعيشها العرب في الجزيرة العربية، وظروف النشأة الصعبة للدولة الإسلامية، واضطرارها - مع عدم تكافؤ القوى - إلى أن تقاتل في وقت واحد في جبهتين أكبر قوتين في العالم في ذلك الوقت؛ لم تتمكن من الانتصار العسكري والسياسي فحسب، بل أمكنها تغيير حياة الشعوب بصورة جذرية وشاملة، حيث تحولت تلك الشعوب - خلال مدة قصيرة - إلى الإسلام، وقامت حضارة إنسانية من أروع ما شهده التاريخ من حضارات.

    وحتى الآن لا يزال المؤرخون في حيرة لتفسير سر هذه الظاهرة المدهشة، التي تستعصي على التفسير الذي تعوّده الناس لأحداث التاريخ، فكيف إذ أضيف إلى هذه؛ القيمة الممتهنَة للعرب عند فارس والروم

    وقد عبرت المستشرقة الإيطالية " لورافيشيا فاغليري " عن ذلك بقولها: ( لا يزال العقل البشري يقف ذاهلاً دون اكتشاف القوى السّريّة التي مكنت جماعة من المحاربين الجفاة من الانتصار على شعوب متفوقة عليها تفوقًا كبيرًا في الحضارة، والثروة، والخبرة، والقدرة على شن الحرب. ومن أدعى الأمور إلى الدهشة أن نلاحظ كيف استطاع

    (الجزء رقم : 93، الصفحة رقم: 300)

    أولئك الناس أن يحتلوا تلك المناطق كلها)

    وتقول أيضا متعجبة من الجاذبية التي كانت للإسلام التي تؤكد بطلان مقولة السيف: (كيف نفسر مواصلة الإسلام - على الرغم من الحرية الدينية الممنوحة في البلدان الإسلامية للمواطنين غير المسلمين، ومن فقدان أيما منظمة تبشيرية حقيقة - تقدُّمه الحثيث في آسية وأفريقية في وجه الانحطاط العام الذي أصاب الفكرة الدينية في السنوات الأخيرة؟ إن أحدا لا يستطيع اليوم أن يزعم أن سيف الفاتح هو الذي يُمهد السبيل أمام الإسلام، على العكس، ففي الأصقاع التي كانت في يوم من الأيام دولا إسلامية، تولت مقاليد السلطة حكومات جديدة تنتسب إلى أديان أخرى، وعملت في أوساط المسلمين طوال فترات عديدة منظمات تبشيرية قوية، ومع ذلك فإن الحكومات وتلك المنظمات لم توفق إلى زحزحة الإسلام وإقصائه عن حياة الشعوب الإسلامية. أي قوة عجيبة تكمن في هذا الدين؟)

    ثالثا: المبادئ الحربية في الإسلام

    عندما نتكلم عن حالة الحرب في الإسلام، فإننا نتكلم عن دين له قواعد قانونية ثابتة تحكمه، كان مصدرها القرآن والسنة النبوية، وقد كانت مُطبقة قولا وعملا. فلم تكن نظريةً لا تقبل التطبيق، وهي في

    (الجزء رقم : 93، الصفحة رقم: 301)

    الوقت نفسه مبادئ أخلاقية لم يعرف التاريخ مثيلا لها. ومن تلك المبادئ:

    أولا: أن يكون مقصد القتال خالصا لله، لنشر الدين. والمبدأ الثاني: أن يكون هذا القتال صالحًا أخلاقيا وليس للجبروت والبطر.

    المبدأ الأول: أن يكون القتال في سبيل الله، ولإبلاغ دينه

    والمراد بهذا أن يخلص المجاهد إلى أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن ينتشر دين الله بين الشعوب. فالمصلحة الشخصية أو القومية لا تبرز الحرب، بل تجعل الحرب غير شرعية في حكم الإسلام.

    وأهمية هذا المبدأ تظهر أن لفظ القتال أو الجهاد نادرًا ما يرد في القرآن دون تقييده بأن يكون في سبيل الله، وأحيانًا يكون مقرونًا بالأمر بالتقوى.

    إن أول ما أصّله الإسلام في أمر القتال؛ هو أن يكون لسبب مشروع ولمقصود حسن، وبهذا ألغى الإسلام جميع الحروب التي لا يُقصد من ورائها إلا إظهار الشجاعة، أو كسب السمعة، أو الحصول على الأموال، أو تملك الأراضي، أو الحفاظ على العصبية الوطنية. فلا يُشرع القتال في الإسلام إلا لإعلاء كلمة الله والدفاع عن حوزة

    (الجزء رقم : 93، الصفحة رقم: 302)

    الإسلام والمسلمين، والدفاع عن النفس والأرض والعرض ضد الظلمة والمعتدين. والأحاديث النبوية في ذلك كثيرة، ومنها:

    يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذِكْر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه. فمن في سبيل الله؟ قال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله

    وفي حديث آخر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذِكر ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا شيء له "، فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا شيء له "، ثم قال: " إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا، وابتُغِي به وجهه

    فالحروب المنبثقة من معاداة على الدنيا، أو عصبية قومية أو قبلية، وهدفها العلو والمفاخرة والاستعباد التوسعي؛ تلك حروب لا علاقة لها بالجهاد في الإسلام: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ القصص: 83

    والمقصود من الجهاد أمران :

    الأول: الدفاع عن الإسلام أو الدولة الإسلامية إن هجم عليها

    (الجزء رقم : 93، الصفحة رقم: 303)

    عدو المسلمين يريد استباحتها، وإلى ذلك أشار القرآن بقوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الحج: 39.

    وقوله: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ البقرة: 190

    الثاني: دفع الظلم والفتنة، وكسر شوكة الكفر التي تحول دون الدعوة الإسلامية وقبولها، وإليه أشار القرآن الكريم بقوله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ الأنفال: 39

    وأيضا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا البقرة: 217.

    وهنا إشكال أثير حول مقصد الإسلام من القتال مع كونه يبيح المغانم لجنوده، بل هي مما يريده عدد من المقاتلين، الأمر الذي حدث فعلا، فكيف يكون ذلك في سبيل الله؟

    نجد أن علماء الإسلام تحدثوا عن مثل هذه النقاط قبل أن تثار في كتابات المستشرقين وغيرهم، ومن ذلك ما قال ابن حجر شارحا قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي سبق قبل قليل: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ، قال: ( المراد بكلمة الله؛ دعوة الله إلى الإسلام، ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يكون في سبيل الله إلا من

    (الجزء رقم : 93، الصفحة رقم: 304)

    كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة الله فقط، بمعنى أنه لو أضاف إلى ذلك سببا من الأسباب المذكورة أخلّ بذلك. ويحتمل ألا يخل إذا حصل ضٍمْنًا لا أصلا أو مقصودا، وبذلك صرح الطبري، فقال: " إذا كان أصل الباعث هو الأول لا يضره ما عرض له بعد ذلك "، وبذلك قال الجمهور.

    لكن روى أبو داود والنسائي من حديث أبي أمامة بإسناد جيد قال: جاء رجل فقال يا رسول الله: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذِّكر ، ما له؟ قال: " لا شيء له " فأعادها ثلاثا كل ذلك يقول: " لا شيء له "، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه .

    ويمكن أن يحمل هذا على من قصد الأمرين معا على حد واحد، فلا يخالف المرجح...

    والمطلوب: أن يقصد الإعلاء صرفا، وقد يحصل غير الإعلاء وقد لا يحصل، ففيه مرتبتان أيضا. قال ابن أبي جمرة : " ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره

    (الجزء رقم : 93، الصفحة رقم: 305)

    ما انضاف إليه ")

    لذا نجد أن القرآن ذم المنافقين لكونهم لا يخرجون للجهاد إلا إن كان هناك مكاسب مادية يأخذونها من هذا القتال: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ التوبة: 41 - 42

    فقضية الحرب من أجل الغنائم في الإسلام قضية مرفوضة، وقد كان المنافقون يريدون الغنائم فحسب، والله يريد الجهاد في سبيله لنشر دينه، ولا مانع أن تؤخذ الغنيمة تبعا لذلك.

    إن غزوات المسلمين في عهد النبوة والخلافة الراشدة لم يكن هدفها حمل المكاسب المادية إلى الدولة الإسلامية، يشهد لذلك تلك المحاورة بين الصحابي " عبادة بن الصامت " وبين الحاكم المصري " المقوقس "، حيث يقول عبادة : (همتنا الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدوا ممن حارب الله لرغبة في الدنيا ولا حاجة للاستكثار منها، إلا أن الله عز وجل قد أحل ذلك لنا وجعل ما غنمنا من ذلك حلالا، وما يبالي أحدنا أكان له قناطير من ذهب أم كان لا يملك إلا درهما، لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها، يسد بها

    (الجزء رقم : 93، الصفحة رقم: 306)

    جوعته ليلته ونهاره، وشملة يلتحفها، وإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله تعالى واقتصر على هذه بيده، ويبلغه ما كان في الدنيا، لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، بذلك أمرنا الله وأمرنا به نبينا وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا في الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضاء ربه وجهاد عدوه.

    فلما سمع المقوقس ذلك منه قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط ! لقد هبت منظره، وإن قوله لأهيب عندي من منظره، إن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض، وما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها)

    المبدأ الثاني: إصلاح طرق القتال، وعدم تجاوز ضرورات الحرب

    وهذا هو المبدأ الأخلاقي الواضح التميز في تشريعات الإسلام الحربية. فمع كثرة ما يثير القرآنُ المسلمين للجهاد في سبيل الله، إلا

    (الجزء رقم : 93، الصفحة رقم: 307)

    أننا نجد أنه يؤكد أيضا على مبادئ شريفة في هذه الحرب التي سيخوضها المسلمون مع أعدائهم. ولئن كانت تلك الأمم لا تعترف بمثل المبادئ الإسلامية، فالمسلمون لا بد أن يتمسكوا بها. ولذا نجد في هذه المسألة نصوصا متعددة تتحدث عن ابتكارٍ إسلامي فريد لمبادئ القانون الإنساني الدولي، ذلك أن المسلمين وضعوا قواعد وضوابط تدل على عناية الفاتح المسلم بمبادئ الحرب.

    من الأركان المهمة في الفتوحات الإسلامية " عدم تجاوز ضرورات الحرب"، وعندما يُقعّد الإسلام لمبدأ المعاملة بالمثل كما في الآية الكريمة: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ النحل: 126، فإن هذا المبدأ " عدم تجاوز ضرورات الحرب" يُعد قيدا مهما على قاعدة " المعاملة بالمثل "، إذ لا خيار للمسلم في عدم الالتزام بالمعايير الأخلاقية الإسلامية في معاملة العدو، وإن كان العدو لم يلتزم بها. ولا خيار للمسلم في عدم الوقوف عند حدود الله، وإن كان عدوه المحارب تجاوز هذه الحدود، فإذا مثَّل محاربو المسلمين بالقتلى؛ فلا يجوز للمسلمين معاملتهم بالمثل، وإذا قتل الأعداء نساء المسلمين وصبيانهم أو غير المقاتلين منهم؛ فلا يجوز للمسلمين أن يقتلوا نساء الأعداء أو صبيانهم أو غير المقاتلين منهم.

    وقد أفاض المفسرون عند تفسيرهم للآية السابقة في ذكر ما

    (الجزء رقم : 93، الصفحة رقم: 30

    ورد من النصوص عن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه تطبيقًا لهذه الآية

    عن يحيى الغساني قال: كتبت إلى الخليفة الأموي العادل: عمر بن عبد العزيز، أسأله عن قوله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ البقرة: 190، قال: (إنّ ذلك في النساء والذريّة ومن لم يَنصِبْ لك الحرب منهم)

    وروى عن ابن عباس في تفسير الآية نفسها: (لا تقتلوا النساء ولا الصِّبيان ولا الشيخ الكبير وَلا منْ ألقى إليكم السَّلَمَ وكفَّ يَده، فإن فَعلتم هذا فقد اعتديتم)

    وفي تفسير الآية الكريمة: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا المائدة: 2، قال ابن كثير : (معناها ظاهر، أي: لا يحملكم بغض قوم قد كانوا صدُّوكم عن المسجد الحرام، عن أن تعتدوا حكم الله فيهم، فتقتصوا منهم ظلما وعدوانًا، بل احكموا بما أمركم الله من العدل في حق كل أحد. . وهذه الآية كما سيأتي في قوله: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى المائدة: 8، أي: لا يحملكم بغض

    (الجزء رقم : 93، الصفحة رقم: 309)

    قوم على ترك العدل، فإنَّ العدل واجبٌ على كلِّ أحدٍ لكلِّ أحدٍ في كلِّ حال . وقال بعض السلف: ما عاملتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، والعدل به قامت السماوات والأرض)

    وقال القرطبي في تفسير الآية [ المائدة 2 ] التي مرت قبل قليل: (ودل الآية أيضًا على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه، وأن يُقتصر بهم على المستحق من القتال والاسترقاق، وأن المُثلة [ التمثيل بجثث الأموات] بهم غير جائزة، وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا، وغمّونا بذلك؛ فليس لنا أن نقتلهم بمثله قصدًا لإيصال الغم والحزن إليهم)

    ويدلُّ تاريخ الإسلام في كل العصور على أنَّ المسلمين الملتزمين طبَّقوا هذا المبدأ دون استثناء.

    هذا هو المفهوم الإسلامي الذي تصوره علماء الإسلام، وطبقه المسلمون في حروبهم.
    المصدر



  • #2
    رد: فتاوى الكبار في الرد على من يقول أن الإسلام انتشر بالسيف



    الشيخ علي الحذيفي حفظه الله


    دعواهم أن الإسلام انتشر بالسيف

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
    فهذه هي الحلقة الثالثة من حلقات (شبهات حول الإسلام) وفي هذه الحلقة نستعرض الرد على قولهم: إن الإسلام انتشر بالسيف، وهي شبهة متهافتة كما سيرى القارئ.
    وللناس أقوال منحرفة في هذه المسألة:
    الأول:من ينادي بحرية الاعتقاد على الإطلاق، وهؤلاء قسمان: قسم بعضهم محسوب على الإسلام وهم من المنبهرين بالحضارة الغربية، حيث زعموا أن هذه الآية: (لا إكراه في الدين) ناسخة لآيات جهاد الطلب، بل وناسخة لـ"حد الردة" على حد زعمهم، وأن الإسلام دعا إلى حرية الاعتقاد، ويستدلون بمثل قوله تعالى: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).
    وهم كثير اليوم على الفضائيات العربية وغيرها، تحت اسم "الباحث الإسلامي" و "المفكر الإسلامي" ولاسيما وقد انهزموا أمام القوانين الوضعية التي تكفل للكافر حق المواطنة كما يعيشها المسلم !!
    وقسم آخر هم من المستشرقين، اندسوا بين المسلمين ساعين إلى أهداف خبيثة منها نزع كلمة الجهاد من قاموس المسلمين، حيث يدعون أن الإسلام لم ينتشر بالسيف، وإنما انتشر بالدعوة البريئة من كل قوة.
    الثاني: من يقول إن الإسلام انتشر بقوة السيف: ويريد أن يوهم الآخرين أن الإسلام أجبر الناس على الدخول فيه، وهذا قول لبعض الغربيين الذين يفترون على الإسلام بكل ما يقدرون عليه من التهم والافتراءات، وقد دفعهم إلى هذا ما يرونه من الآيات الدالة على أن الإسلام حق، وأن محمد صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه، لأنهم رأوا أنه استطاع أن يجمع الجزيرة العربية بعد تفرقها وكثرة ضغائنها وأحقادها، ثم قامت على يديه الفتوحات العظيمة وبسرعة فائقة فقاموا يعللون هذه الفتوحات بأنه قامت بقوة السيف لا عن قناعة الناس.
    وهناك قول ثالث هو أوسط الأقوال: وهم أهل الحق الذين ساروا على هدى الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح حيث قالوا: إن الإسلام لم يجبر أحداً على الدخول فيه بغير رضى واختيار منه، ولكن ليس معنى هذا أن الإسلام لا جهاد فيه، بل فيه جهاد تفتح به البلدان، غايته إخراج الناس من الظلمات من النور، وهدم معالم الطاغوت وقيام معالم التوحيد وقيام القسط والعدل بين الناس، ثم من شاء أن يدخل في الإسلام فهذا خير عظيم ومن لم يدخل فيقر على دينه بمعنى أنه يترك ولا يؤذى، ويعامل بما أمر به الإسلام من السماحة والرفق، ولكنه على خطر عظيم ولا نقول: إن له حق اختيار العقيدة التي يريدها لأن معنى هذه الكلمة هو أنه في دائرة المباح، فلا يستحق العقاب.
    وتتكون هذه الحلقة من عدة مباحث:
    الأول: الغاية من الجهاد في سبيل الله.
    الثاني: الجهاد ليس للدفاع فقط.
    الثالث: الفرق بين أدب الإسلام، وهمجية الكفار.
    الرابع: تكذيب الشرع والواقع.
    الخامس: الرد على ما يستدل به في هذا الموضع.
    أسأل الله أن يكتب لهذه الحلقات القبول، وينفع بها الكاتب والقارئ في الدارين.


    المبحث الأول: الغاية من الجهاد في سبيل الله:
    لو ألقينا نظرة في تاريخ المجتمعات قبل الإسلام، لوجدناها كانت تعيش حالة رديئة، فالمجتمعات مظلمة بظلمات الشرك من عبادة الأوثان والأصنام، ومليئة بأنواع الظلم، مع ما تعانيه هذه المجتمعات من الجهل والفرقة.
    فشرع الله الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته وإظهار دينه وعبادته وحده لا شريك له وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ولن تتحقق هذه الغاية مع وجود الطواغيت الجاثمة على الصدور، كأهل الرئاسة والأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل.
    قال تعالى: (يأيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله).
    وفي الآية إشارة إلى فساد مجتمعاتهم من حيث الدنيا والدين، ففساد الدنيا حاصل بأكل الأموال، وفساد الدين حاصل بالصد عن سبيل الله،
    فهؤلاء الطواغيت لهم مصالح عظيمة من بقاء أممهم على الكفر، فهم قطاع طريق ما بين الناس وربهم سبحانه، فشرع الله الجهاد لإزالة هذه الموانع وإزاحة هذه الطواغيت، ونقل العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
    قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز كما في "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة": (فهؤلاء الكفرة من الكبراء والأعيان يعرفون الحق وأن ما جاءت به الرسل هو الحق، ولكن تمنعهم الرئاسات والتسلط على العباد وظلم العباد والاستبداد بالخيرات يمنعهم ذلك من قبول الحق، لأنهم يعرفون أنهم إذا قبلوا صاروا أتباعاً وهم لا يرضون بذلك إنما يريدون أن يكونوا متبوعين ورؤساء ومتحكمين ومتسلطين، فالإسلام جاء ليحارب هؤلاء ويقضي عليهم ليقيم دولة صالحة بقيادة صالحة) أ.هـ
    والخلاصة أن الإسلام جاء بالسيف لكسر الطواغيت، ولم يأت بالسيف لإجبار الناس على الإسلام.

    المبحث الثاني: الجهاد ليس للدفاع فقط:

    1- الجهاد ليس لدفع العدو فقط:

    يقع الكثير من الدعاة في حبائل الكفار عندما ينفي فريضة جهاد الطلب، ويزعم أن الله إنما شرع الجهاد لدفع العدو فقط !! وهذا عين ما يريده أعداء الإسلام، إذ أنهم يثيرون مثل هذا الشيء لنزع لفظة (الجهاد) من قاموس المسلمين، أو على الأقل لتشكيكهم في شرعيته.
    والحق أن الجهاد نوعان:
    الأول: جهاد لدفع العدو، وهذا شيء جاءت به الشريعة بل دعت إليه الشرائع كلها، مع كونه مستقراً في النفوس ومعروفاً في قوانين الناس، إذ أن الأمم لا تنكر على من دفع العدو عن نفسه ورد الصائل عليه، بل هو معدود من كمال القوة وتمام الشجاعة0
    والثاني: جهاد الطلب، وهذا هو الذي نتكلم عنه، وقد جاءت به الشريعة لغاية واحدة وهي إعلاء كلمة الله.
    قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (28/263): (فالمقصود أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الله اسم جامع لكلماته التي تضمنها كتابه، وهكذا قال الله تعالى: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" فالمقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط في حقوق الله وحقوق خلقه ثم قال تعالى: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب" فمن عدل عن الكتاب قوّم بالحديد، ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف.
    وقد روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا - يعنى السيف - من عدل عن هذا - يعنى المصحف-) أ.هـ
    وقال ابن القيم رحمه الله في "الفروسية": (وبعثه الله تعالى بالكتاب الهادي والسيف الناصر بين يدي الساعة حتى يعبد سبحانه وحده لا شريك له، وجعل رزقه تحت ظل سيفه ورمحه ...
    فإن الله سبحانه أقام دين الإسلام بالحجة والبرهان والسيف والسنان، كلاهما في نصره أخوان شقيقان) أ.هـ
    أقول: وأما استدلالهم بالآية: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) فقد أجاب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن ذلك فقال كما في "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة":
    (قال بعض السلف في هذه الآية: "إنه أمر في هذه الآية بقتال من قاتله والكف عمن كف عنه"، وقال آخرون في هذه الآية: "إن هذه الآية ليس فيها ما يدل على هذا المعنى وإنما فيها أنه أمر بالقتال للذين يقاتلون أي من شأنهم أن يقاتلوا إلخ، ويصدوا عن سبيل الله وهم الرجال المكلفون القادرون على القتال بخلاف الذين ليس من شأنهم القتال كالنساء والصبيان والرهبان والعميان والزمناء وأشباههم فهؤلاء لا يقاتلون لأنهم ليسوا من أهل القتال.
    وهذا التفسير كما سيأتي إن شاء الله تعالى أظهر وأوضح في معنى الآية، ولهذا قال بعدها بقليل: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله" فعلم بذلك أنه أراد قتال الكفار لا من قاتل فقط) أ.هـ

    2- الإسلام والسيف:

    وقولنا: إن الإسلام لم يكره أحداً على الدخول فيه ليس معناه نفي السيف وتعطيله مطلقاً، و ليس معناه أن الشرع لم يأت بالسيف، بل جاء الشرع بالسيف ليقوم الدين ويعبد الله وحده.
    1- قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).
    قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (10/12): (فذكر تعالى أنه أنزل الكتاب والميزان وأنه أنزل الحديد لأجل القيام بالقسط، وليعلم الله من ينصره ورسله ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر "وكفى بربك هادياً ونصيراً").
    وقال كما في "مجموع الفتاوى"(28/232): (فأخبر أنه أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنه أنزل الحديد كما ذكره، فقوام الدين بالكتاب الهادي والسيف الناصر "وكفى بربك هادياً ونصيراً"، والكتاب هو الأصل، ولهذا أول ما بعث الله رسوله أنزل عليه الكتاب، ومكث بمكة لم يأمره بالسيف حتى هاجر وصار له أعوان على الجهاد).
    2- وقد روى أحمد في "مسنده" ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم).
    والحديث قد حسنه شيخ الإسلام والحافط العراقي والحافظ ابن حجر والشيخ الألباني رحمة الله عليهم جميعاً.
    قال الشيخ الألباني في "إرواء الغليل": (قلت: وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات غير ابن ثوبان هذا ففيه خلاف وقال الحافظ في "التقريب": "صدوق يخطئ وتغير بآخره") أ.هـ

    3- استدلال خاطئ ومناقشته:

    وهناك من يرى أن معنى لا إكراه في الدين أن الدين يدعو إلى حرية العقيدة، فيستدل على ذلك بأن القرآن خيّر الناس بين الكفر والإيمان وأن لكل واحد من الناس الحق في اختيار الطريق الذي يريده ويحتج بقوله تعالى: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) !! حتى قال بعضهم: إن الآية نص في أن من اختار الإيمان فله اختياره، ومن اختار الكفر فله اختياره فلا إكراه.
    وهذا الاستدلال غلط لأن الآية سيقت مساق التهديد لا مساق التخيير والإباحة، ويدل على المعنى الذي ذكرناه قوله: (إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها).
    نعم شريعة الإسلام في الدنيا تأمر بإقرار الكافر على ما هو عليه إذا دفع الجزية أو عاهد المسلمين، ونعني بإقراره أي: بتركه دون التعرض له كما هو تعبير الفقهاء، لكن هناك فرق بين أن يقال: إن القرآن أعطى الحق في اختيار العقيدة ويستدل بالآية على ذلك، وبين أن يقال: إن الشريعة أمرت بترك الكافر إذا دفع الجزية.

    المبحث الثالث: الفرق بين أدب الإسلام، وهمجية الكفار:

    1- الفرق بين ديننا وبينهم في الوسيلة والغاية:

    الذي يقارن بين أدب الإسلام وهمجية الكفار – ولا مقارنة – يجد الفروق الكثيرة والعظيمة بين الأمرين، كالفرق بين الظلمات والنور، والظل والحرور، ونلخصها في وجهين لعل الله أن يبصر المتأثرين ببريق الغرب الكاذب فنقول وبالله التوفيق:

    1- الغاية:

    فالكفار إذا قاتلوا فغاية قتالهم هي في الغالب مطامع دنيوية، فهذه الدول العظمى ما قامت مجتمعاتها، ونهضت حضارتها، إلا على أنقاض دول وشعوب أخرى، غزتها وأعملت فيها السلاح مستغلة تأخرها المادي وفقرها الشديد، فبسطت على أراضيها ونهبت ثرواتها وخيراتها من الذهب والبترول والمعادن وأنواع الكنوز، وصدرتها إلى دولها البعيدة.
    فما تراه من تطور وتحضر في الدول الغربية فإنه إنما بني على أنقاض وجثث ودماء وأشلاء، واعتداء على حقوق كثيرة من الأموال والثروات.
    في الوقت الذي تعتبر فيه غاية الجهاد الوحيدة في الإسلام هي إعلاء كلمة ونصرة دينه، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور كما قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) وقال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) والفتنة هنا هي الشرك، أي: قاتلوهم حتى لا يوجد شرك، وإذا كانت غاية الجهاد هي تطهير المجتمعات من مظاهر الشرك والخرافة ودعوة الناس إلى عبادة الله وحده فلا شك أن هذه غاية عظيمة وهي رأس الحق العدل.
    وقال صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) رواه الشيخان.
    وما يحصل من عشوائية من قتل وتدمير وسفك للدماء باسم "الجهاد" !! فهو انحراف مرفوض في ديننا وشريعتنا، ولا يضر الإسلام أن هؤلاء الظالمين لأنفسهم ينسبونه للإسلام، فقد بين العلماء وحذروا من ذلك بما يكفي، فلا يحق لأحد أن ينسب هذه الأفعال إلى الإسلام، مع أن هذه الأشياء بالنسبة إلى جرائم هؤلاء الكفار شيء لا يذكر.

    2- الوسيلة:

    فالكفار قد استخدموا كل وسيلة ليصلوا إلى غاياتهم ومقاصدهم الدنيئة، فاستخدموا القتل والتشريد وانتهاك الأعراض وسَجْن الأبرياء ومداهمة البيوت وتخويف الصبيان والنساء والشيوخ، واستخدموا أنواع التعذيب وإبادة كل من يقف في طريقهم، دون التفريق بين الرجل والمرأة، والصغير والكبير، والقادر والعاجز، ولم يفرقوا بين الأشهر الحرم وغيرها، ولم يفرقوا بين شهر صيام المسلمين وغيره.


    2- شيء يسير من التاريخ الأسود للغرب:

    1- ويقول ابن الأثير في "الكامل": (خلال ثلاثة أيام أعملت الفرنجة السيف في المسلمين فقتلت أكثر من مائة ألف شخص، كانت تطرح جثثهم في الخنادق بعد أن مثلوا بها، والتهموا جزءاً منها بشراهة هذا بالإضافة إلى أعداد الأسرى).
    2- ويصف ابن الأثير في "الكامل" الاستيلاء على القدس فيقول: (ولبث الفرنج في البلدة أسبوعاً يقتلون فيه المسلمين، وقتل الفرنج في المسجد الأقصى ما يزيد على السبعين ألفاً منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الأوطان وجاور ذلك الموضع الشريف، ثم بدأ النهب والسلب).
    3- يقول الفرنسي جان كلود جويبو في كتابه "على خطى الصليبيين": (تحت ضغط الحجاج قرر رايموند دي سال جيل بدءً من 23 نوفمبر محاصرة "معرة النعمان" بسوريا كان الحصار طويلاً صعباً لكن الصليبيين أفلحوا في الاستيلاء على المدينة وذبحوا سكانها).
    4- ويذكر الكثيرون ماذا فعل ريتشارد قلب الأسد في الحملة الصليبية الثالثة عند احتلاله لمدينة "عكا" بأسرى المسلمين فقد ذبح 2700 أسير من أسرى المسلمين الذين كانوا في حامية "عكا" وقد لقيت زوجات وأطفال الأسرى مصرعهم إلى جوارهم.
    5- أما المسيحيون الأسبان فكانوا إذا دخلوا بلداً يتفننون ويبتدعون ويتسلون بعذاب البشر وقتلهم، كانوا يجرون الرضيع من بين يدي أمه ويلوحون به في الهواء, ثم يخبطون رأسه بالصخر أو بجذوع الشجر, أو يقذفون به إلى أبعد ما يستطيعون، وإذا جاعت كلابهم قطعوا لها أطراف أول طفل هندي يلقونه, ورموه إلى أشداقها ثم أتبعوها بباقي الجسد، وكانوا يقتلون الطفل ويشوونه من أجل أن يأكلوا لحم كفيه وقدميه قائلين: أنها أشهى لحم الإنسان.
    6- وكان الأسبان باسم الدين المسيحي - الذي يبرأ منه المسيح عليه السلام - يسفكون دم الأندلسيين المسلمين الذين ألقوا سلاحهم وتجردوا من وسائل الدفاع عن حياتهم وحرماتهم، لقد ظلوا يسومون المسلمين أنواع العذاب والتنكيل والقهر والفتك طوال مائة سنة.
    7- أما فاسكو دي جاما فقد ضرب "كلكتا" - من مدن الهند - بالقنابل حينما تبين له أن أهلها كانوا مسلمين، كما أمر بإحراق مجموعة من السفن التجارية الإسلامية كانت محملة بالأرز، وقطع أيدي وآذان وأنوف بحَّارتها.
    8- كما أغرق فاسكو دي جاما سفينة فى خليج عُمان تنقل الحجاج من الهند إلى مكة وعلى ظهرها مائة حاج حيث أعدمهم جميعاً.
    9- حاول ماجلان سنة 1519م تنصير أهل الجزر من المسلمين، وحينما فشل فى مهمته لتمسك أهلها المسلمين بالإسلام أحرق مساكنهم ومثل بهم، وقد أطلق على هذه الجزر التى أشهرها مندناوا، اسم الفليبين (نسبة إلى فيليب الثاني ملك أسبانيا).
    10- وسار الكابتن هنس البريطاني على نفس المنوال في احتلاله فقط لمدينة عدن في اليمن، دع عنك ما فعله البريطانيون بعد ذلك طوال سني احتلالهم، بل زور الكابتن هنس وثيقة مكذوبة على سلطان عدن ولحج وهو السلطان العبدلي فزعم أن العبدلي باعه أرض عدن، وهذا كذب كما حققه د/ القاسمي في كتابه حول هذا الموضوع.
    فدخل مدينة عدن فقتل أهلها من الصيادين وغيرهم وعاثوا في الأرض فساداً، ولم يخرجوا إلا بعد قرابة مائة وثلاثين عاماً.
    11- أما عن جرائم انجلترا وفرنسا وهولندا والدانمارك وألمانيا وإيطاليا فى البلاد الإسلامية التى اغتصبوها فحدِّث ولا حرج.
    12- ناهيك عن اختطاف المسلمين الأفارقة وبيعهم لخدمة البيض فى المستعمرات التابعة لهم، الذى يبلغ عدد من نقل منهم إلى أمريكا فقط بأكثر من مليونين وثلث مليون، تبعا لتقدير أحد المؤرخين البرتغاليين.
    13- فهذا النقيب الفرنسي "دي ليل" يحكى أهوال غرف التعذيب التى عثروا عليها فى أحد الأديرة: (رأينا غرفاً صغيرة فى حجم جسم الانسان، بعضها عمودي وبعضها أفقي، فيبقى سجين الغرف العمودية واقفاً على رجليه مدة سجنه حتى يموت، ويبقى سجين الغرف الأفقية ممدوداً بها حتى يموت. وتبقى الجثث فى السجن الضيق حتى تبلى، ويتساقط اللحم عن العظم وتأكله الديدان، ولكى تُصرَف الروائح الكريهة المنبعثة من جثث الموتى فتحوا نافذة صغيرة إلى الفضاء الخارجي، وقد عثرنا فى هذه الغرف على هياكل بشرية ما زالت فى أغلالها.
    ثم انتقلنا إلى غرف أخرى، فرأينا فيها ما تقشعر لهوله الأبدان، عثرنا على آلات رهيبة للتعذيب، منها آلات لتكسير العظام، وسحق الجسم البشرى، كانوا يبدؤون بسحق عظام الأرجل، ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجياً، حتى يهشم الجسم كله، ويخرج من الجانب الآخر كتلة من العظام المسحوق، والدماء الممزوجة باللحم المفروم.
    14- وقد صرح الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران في شهر ديسمبر لسنة 1992 بشأن جرائم الصرب في البوسنة والهرسك: (إنني لا أرضى على ما يحدث فى البوسنة من جرائم بشعة، لكنني لن أسمح بأن تكون البوسنة دولة إسلامية فى قلب أوروبا).
    15- وفي أيامنا هذه قد نقلت وسائل الإعلام العالمية ما يفعله الجيش الأمريكي في العراق من الجرائم والعنف والوحشية، فقد استخدم الأسلحة الممنوعة فيما يسمى بـ"حرب المطار" واستخدم الفوسفور الأبيض في مداهمته للفلوجة، وفعل بالمساجين في سجن أبي غريب ما عرفه العالم كله من أنواع التعذيب، واعتدى على النساء العراقيات بأنواع من الاغتصاب والاعتداء كما صورته الصحف العالمية.
    16- وكذلك ما يفعله اليهود في فلسطين طوال هذه السنين الطويلة، فقد ارتكبوا المجازر في المخيمات وقصفوا المدن بأكملها وهدموا المنازل وقتلوا الأبرياء، وآخرها ما حدث من اعتداء مجرم على المسلمين في غزة بما لم يشهد له التاريخ مثيلاً إلا في النادر.
    ثم العجيب أنهم بعد كل هذا يأتون ليثيروا على الإسلام هذه الشنشنة المعروفة، بل ولا يستحيون من الكلام على الإرهاب والعنف !! فيالها من مهزلة وياله من استخفاف بعقول الناس.
    ولما هدم بعض الأفغان صنماً كبيراً في أفغانستان قامت الدنيا وما قعدت وتكلمت عنه الصحف وتحدثت عنه القنوات تعاطفاً مع هذه الحجر الجامد بحجة أنه من التراث، ولم يظهروا أي تعاطف مع قضية المسلمين الضعفاء في غزة فقاتل الله مدنية الغرب الزائفة !!
    17- وفي عام 1992م وبمناسبة مرور 500 عام على اكتشاف أمريكا واستعمارها، زار "البابا يوحنا بولس الثاني" جنوب أمريكا، فقوبل بمظاهرات دامية مندّدة وبتحطيم تماثيل قادة المستكشفين والقديسين، لأنهم فعلوا في أمريكا ما لا يخفى.


    3- ما يفعلونه من الجرائم إنما هو باسم الدين المسيحي:

    1- هذا ما اغتصبه المحتل الأوروبى باسم الدين المسيحي، ولقد أكد ملك إسبانيا ذلك أمام البابا قائلاً: "إن إسبانيا قد جندت نفسها لحرب المسلمين فى أفريقيا حرباً لا تنفك عنها حتى تغرس الصليب فى ديار المسلمين وتجعل أتباع محمد يخضعون له قهراً".
    2- ويقول أيوجين روستو رئيس قسم التخطيط فى وزارة الخارجية الأمريكية، ومستشار الرئيس جونسون لشؤون الشرق الأوسط حتى سنة 1967: (يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية).
    3- وقد صرح جورج بوش الابن بنحو هذه العبارة في أثناء رئاسته لأمريكا قبيل احتلاله لأفغانستان.
    وكل ما تقدم إنما هو قطرة من جرائم هؤلاء المجرمين في حق البشرية عموماً، وفي حق الإسلام خصوصاً.

    4- الأدلة على أدب الإسلام:

    لابد بعد هذه الجولة من عقد مقارنة ولو سريعة بين هذه الهمجية التي سار عليها الغربيون في حروبهم، وبين أدب الإسلام، ليستبين الجاهل والمنبهر بحضارة الغرب الفرق بين الأمرين.
    فوسيلة الإسلام في الجهاد هي كما يلي:
    1- الدعوة إلى الإسلام أولاً وقبل كل شيء، فإن رفضوا الإسلام فالجزية، فإن رفضوا الجزية فالقتال.
    2- مقاتلة من يقاتل فقط، وترك الراهب في صومعته، والمرأة والشيخ الكبير وغيرهم ممن لم يقاتل.
    3- عدم التمثيل بالجثث إلا على سبيل المقابلة على أحد قولي الفقهاء.
    4- ترك انتهاب الأموال من الغنائم، والغلول منها حتى تقسم بالعدل.
    5- عدم تحريق البيوت والأشجار ونحو ذلك إلا في حالات خاصة.
    6- قبول الجزية منهم إن أرادوا ذلك، وهذا فيه دليل على أن الإسلام لا يجبر أحداً بالدخول فيه، بل فيه إعطاء فرصة عظيمة لهذا الكافر ليدرس الإسلام عن قرب، ويتأمل في محاسنه ومصالحه، فلعله يدخل في الإسلام عن قناعة.
    دلت على ذلك عدة أدلة منها:
    1- ففي "الصحيحين" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان).
    2- وما رواه مسلم في "صحيحه" عن بريدة قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجرى عليهم حكم الله الذى يجرى على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا).
    قال النووي في "شرح مسلم": (وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها وهي: تحريم الغدر وتحريم الغلول وتحريم قتل الصبيان إذا لم يقاتلوا وكراهة المثلة).
    2- وروى ابن ماجه في "السنن" عن حنظلة الكاتب قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فمررنا على امرأة مقتولة قد اجتمع عليها الناس فأفرجوا له فقال: "ما كانت هذه تقاتل فيمن يقاتل" ثم قال لرجل: "انطلق إلى خالد بن الوليد فقل له: إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرك يقول: لا تقتلن ذرية ولا عسيفاً").
    والحديث حسنه الشيخ الألباني في "الصحيحة" (701) و"صحيح أبي داود" برقم: (2395).
    والعسيف: الأجير.
    4- وفي العهدة العمرية عهد عمر مع نصارى القدس ونصها: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء (وهي القدس) من الأمان أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملّتها، أنّه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيّزها، ولا من صليبهم، ولا شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم .. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله، وذمة الخلفاء، وذمة المسلمين).
    ذكره ابن جرير الطبري في تاريخ "الأمم والملوك".

    5- أدب المسلمين:

    1- اعترف المؤرخ جوستاف لوبون بتسامح صلاح الدين وعدله فقال: (وتم طرد الصليبيين من القدس على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي، ولم يشأ صلاح الدين أن يفعل فى الصليبيين مثل ما فعله الأولون من ضروب التوحش فيبيد النصارى عن بكرة أبيهم، فقد اكتفى بفرض جزية طفيفة عليهم مانعاً سلب شىء منهم).
    2- وأشار المؤرخ "أيوركا" بما لقيه الصليبيون من حسن معاملة صلاح الدين لهم يوم فتح القدس، فقال: (لقد أظهر الجند المسلمون الذين رافقوا المطرودين من أهل الصليب شفقة مؤثرة، ولاسيما على النساء والأطفال، ولا يوجد دليل على ذلك أكبر من تهديد صلاح الدين لأصحاب السفن من رعايا الجمهوريات الإيطالية لنقل هؤلاء البائسين من الصليبيين).
    3- ولما علم صلاح الدين بمرض خصمه ريتشارد قلب الأسد، وبأنه بحاجة إلى بعض الفاكهة والثلج، فبعث إليه صلاح الدين بحاجته، وأرفقها بالدواء والشراب، ولم يكد ريتشارد يشفى من مرضه حتى عاد مرة أخرى إلى قتال صلاح الدين !!
    يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في الشرح الممتع (5/85): (إن المسلمين لم يفتحوا البلدان إلا بعد أن فتحوا القلوب أولاً بالدعوة إلى الإسلام، وبيان محاسنه بالقول وبالفعل) أ.هـ


    المبحث الرابع: تكذيب الشرع والواقع:


    1- تكذيب الشرع والواقع لهذه الدعوى:

    دعواهم أن الإسلام انتشر بالسيف شيء يكذبه الشرع والواقع الملموس بل وشهادة الكفار أنفسهم.

    أولاً تكذيب الشرع:

    وفي ذلك عدة أدلة تدل عل ما ذكرناه، منها:
    1- قوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).
    قال ابن كثير: (أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بيّنه، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً) أ.هـ
    ونحب أن نبين أن قتل المرتد ليس داخلاً في الآية لأن بين الأمرين فرقاً، فقد ذكر الطاهر بن عاشور في "تفسيره" أن حكمة تشريع قتل المرتد - مع أن الكافر أصلاً لا يقتل - هو أن المرتد بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه ينادي على أنه خالط هذا الدين فوجده غير صالح فهذا تعريض بالدين واستخفاف به، ففيه تمهيد طريق لمن يريد أن ينسل من هذا الدين وذلك يفضي إلى انحلال الجامعة، فلو لم يجعل لذلك زاجر ما انزجر الناس ولا نجد شيئا زاجرا مثل توقع الموت، فلذلك جعل الموت هو العقوبة للمرتد حتى لا يدخل أحد في الدين إلا على بصيرة، وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه، وليس هذا من الإكراه في الدين المنفي بقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) على القول بأنها غير منسوخة، لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديانهم والدخول في الإسلام وأما هذا فهو من الإكراه على البقاء في الإسلام.
    2- قوله تعالى عن نوح أنه قال لقومه: (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون).
    3- وقال تعالى : (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين).
    قال الطاهر بن عاشور في "تفسيره": (والاستفهام في "أفأنت تكره الناس" إنكاري، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم لحرصه على إيمان أهل مكة وحثيث سعيه لذلك بكل وسيلة صالحة، منزلة من يحاول إكراههم على الإيمان حتى ترتب على ذلك التنزيل إنكاره عليه).
    4- قوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن).
    والشاهد أن الله أمر بدعوة أهل الكتاب بالتي هي أحسن ليدخلوا عن قناعة.
    5- وثمامة بن أثال الحنفي من بني حنيفة أسره المسلمون وهم لا يعرفونه، فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه وأكرمه وأبقاه عنده ثلاثة أيام، وكان في كل يوم يعرض عليه الإسلام عرضاً كريماً فيأبى ويقول: (إن تسأل مالاً تُعطه، وإن تقتل تقتل ذا دمٍ، وإن تنعم تنعم على شاكر، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أطلق سراحه).
    تأثر ثمامة بهذه السماحة وهذه المعاملة الكريمة فذهب واغتسل، ثم عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً مختاراً وقال له: يا محمد، والله ما كان على الأرض من وجه أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلىّ، والله ما كان على الأرض من دين أبغض إلىَّ من دينك، فقد أصبح دينك أحب الدين إليَّ، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فقد أصبح أحب البلاد إلي، ثم أسلم بإسلامه كثير من قومه، وقد سر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه سروراً عظيماً، ولما ارتد كثير من قومه مع مسيلمة لم يرتد ثمامة بن أثال مع قومه بل ظل ثابتاً لأنه دخل عن قناعة.
    ولم يقف أثر تسامح النبي صلى الله عليه وسلم في المعاملة عند إسلام ثمامة وقومه، فقد ذهب مكة معتمراً فهمَّ أهلها أن يؤذوه ولكنهم ذكروا حاجتهم إلى حبوب اليمامة، فآلى على نفسه أن لا يرسل لقريش شيئاً من الحبوب حتى يأذن محمد صلى الله عليه وسلم) والقصة إلى هنا في "الصحيحين".
    قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": (زاد ابن هشام: "ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنك تأمر بصلة الرحم فكتب إلى ثمامة أن يخلى بينهم وبين الحمل إليهم") أ.هـ
    6-أسلم المهاجرون والأنصار قبل نزول آيات الجهاد بوقت كثير لأن الجهاد شرع في المدينة ولم يشرع في مكة، وآيات الأمر بالجهاد كلها مدنية، فدل على أن إسلامهم كان عن قناعة.
    بل وأسلم بعض الناس باختيارهم دون أن تفتح بلادهم ودون أن يدخلها المجاهدون في سبيل الله كأهل اليمن كما هو معلوم ومعروف.

    ثانياً تكذيب الواقع:

    ومن نظر إلى واقع الناس اليوم يرى كذب هذه الدعوى ويدل على ذلك أمور:
    1- أننا نجد الكثير من الناس من يدخل في الإسلام اليوم مع عدم وجود الجهاد الشرعي الصحيح، ولاسيما الذين أسلموا في بلاد الكفر اليوم - ومنها أوروبا وأمريكا – فإنهم يدخلون في دين الله أفواجاً، لما يرون فيه من محاسن عظيمة، وعقيدة سهلة صحيحة، ودين يحل مشاكلهم، ويجيب على إشكالاتهم المحيرة التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم في الأديان الأخرى، حتى اعترف الرئيس الأمريكي السابق "بل كلينتون" بأن الإسلام هو أسرع الأديان انتشارًا الآن فى الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا من أقوى المؤكدات على أن الناس يدخلون في دين الإسلام عن قناعة ودراسة لجوانب الإسلام وحباً لمحاسنه.
    2- أن كثيراً ممن أسلم صرح مبيناً سبب إسلامه، فقد ذكر بعضهم أن السبب أنه وجد القرآن ينهى عن كل قبيح ويأمر بكل جميل، وآخر ذكر أنه تأثر بقصة عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن الطلقاء، وآخر يقول: إن الحقائق العلمية العصرية قد دل عليها القرآن قبل كذا وكذا عام، إلى غير ذلك من القصص.
    3- لو كان الإسلام انتشر بالسيف لما بقي المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها أناس متمسكون بهذا الدين في أنفسهم ويعلمونه أبناءهم إلى يومنا هذا، فقد مرت بهم ظروف قاسية ومحن شديدة وقرون كثيرة وهم ثابتون على دينهم، ولو دخلوا في الإسلام بإكراه لكانت هناك فرصة للإنسلاخ من هذا الدين والتخلص منه، لكنهم دخلوا عن قناعة فصبروا عليه، وضربوا أروع الأمثلة في الثبات على الدين مما يدل على أنهم راغبون فيه ومحبون له.
    4- لو كان الإسلام قد انتشر بالسيف، ودخل الناس في الإسلام عن طريق الإجبار لاعتناقه، لما بقي كتابي واحد في أرض الإسلام قديماً ولا حديثاً في مختلف أقطار الشرق، وإن وجود هذه الأقليات الكتابية وغيرهم في مجتمعات المسلمين وهي تنعم بالرخاء والثراء لأكبر دليل على سقوط هذا الدعوى.
    5- إن بعض الفتوحات التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده رضي الله عنهم تدل على أن الجيوش التي خرجت من المدينة خرجت هادية للناس وداعية إلى دين الله وناشرة له، وليست جيوش تخرج لاحتلال بلاد وإجبار أهلها على دخول دين لا يرغبون فيه لأنها قليلة في كثير من الأحيان، وغالباً ما تدخل البلاد بعد عودتها من بلاد أخرى منهكة القوى ومتعبة في نفسها.

    ثالثاً شهادة الكفار وآخرين من غيرهم:

    1- يقول شارلكن: (إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وأنهم مع امتشاقهم السيف نشراً لدينهم، تركوا من لم يرغبوا فيه أحراراً فى التمسك بتعاليمهم الدينية).
    2- ويستشهد الدكتور أ. س. ترتون مؤلف "أهل الذمة فى الإسلام" بشهادة البطريرك النصراني (عيشويابه): (إن العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون، إنهم ليسوا بأعداء للنصرانية بل يمتدحون ملتنا، ويوقرون قديسينا وقسيسينا، ويمدون يد المعونة إلى كنائسنا وأديرتنا).
    3- يقول المؤرخ الشهير (ولز) فى صدد بحثه عن تعاليم الإسلام: (إنها أسست فى العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل الكريم، وإنها لتنفخ فى الناس روح الكرم والسماحة، كما أنها إنسانية السمة، ممكنة التنفيذ، فإنها خلقت جماعة إنسانية يقل ما فيها مما غمر الدنيا من قسوة وظلم اجتماعي عما فى أية جماعة أخرى سبقتها ...... إنه مليء بروح الرفق والسماحة والأخوة).
    5- ويقول (رينو) فى كتابه تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط: (إن المسلمين فى مدن الأندلس كانوا يعاملون النصارى بالحسنى، كما أن النصارى كانوا يراعون شعور المسلمين فيخنتون أولادهم ولا يأكلون لحم الخنزير).
    6- ويقول (أرنولد) وهو يتحدث عن المذاهب الدينية بين الطوائف المسيحية: (ولكن مبادئ التسامح الإسلامي حرَّمت مثل هذه الأعمال التى تنطوي على الظلم، بل كان المسلمون على خلاف غيرهم، إذ يظهر لنا أنهم لم يألوا جهداً فى أن يعاملوا كل رعاياهم من المسيحيين بالعدل والقسطاس، مثال ذلك: أنه بعد فتح مصر استغل اليعاقبة فرصة إقصاء السلطات البيزنطية ليسلبوا الأرثوذكس كنائسهم، ولكن المسلمين أعادوها أخيراً إلى أصحابها الشرعيين بعد أن دلَّلَ الأرثوذكس على ملكهم لها).
    7- ويقول كاتب غربي كبير هو "توماس كارليل" صاحب "كتاب الأبطال" ترجمه الكاتب الصحفى أنيس منصور تحت عنوان: "العظماء مائة أعظمهم محمد" فإنه اتخذ نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام مثلاً لبطولة النبوة، فقال ما معناه: (إن اتهامه - أي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم - بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم، إذ ليس مما يجوز في الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس ويستجيبون له، فإذا آمن به من لا يقدرون على حرب خصومهم، فقد آمنوا به طائعين مصدقين، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها).
    من كتاب "حقائق الإسلام وأباطيل خصومه" للعقاد.
    8- الدكتور نبيل لوقا بباوي الذى أصدر مؤخرًا دراسة تحت عنوان : "انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء" رد فيها على الذين يتهمون الإسلام بأنه انتشر بحد السيف وأجبر الناس على الدخول فيه واعتناقه بالقوة.
    9- ذكر المؤرخ النصراني "فيليب فارج" والمؤرخ "يوسف كرباج" في كتاب "المسيحيون في التاريخ الإسلامي العربي والتركي" (ص 25، 46، 47) أن عدد سكان النصارى واليهود في مصر إبان خلافة معاوية حوالي 2500.000 نسمة، وبعد نصف قرن أسلم نصف هذا العدد في عهد هارون الرشيد بسبب عدالة وسماحة الإسلام.
    10- تقول بوجينا غيانا ستشيجفسكا المستشرقة البولونية في كتابها "تاريخ التشريع الإسلامي":
    (ومع هذا فلما انتصر عليهم يوم فتح مكة عفا عنهم وأحسن إليهم، ولذلك أحبوه وأسلموا طواعية واختيارا، والقول أن الإسلام انتشر بالسيف كلام يكذبه التاريخ ويكذبه الواقع).
    11- يقول د. مراد هوقمان فى كتابه: "الإسلام عام 2000": (ولكن حتى اليوم - لحفظ ماء الوجه - يُصر العالم الغربي على الأسطورة التى اخترعها، أن الإسلام انتشر بالسيف والنار)
    ثم قال: (ويعجب المرء أشد العجب من استمرار تلك الأسطورة حتى اليوم، حيث المسلمون مستضعفون فى مشارق الأرض ومغاربها، ومع هذا يزيد تمسكهم بالإسلام فى بلاد مثل كشمير والبوسنة والهرسك وشيشان وغيرها، بل ويدخل الآلاف الأمريكيون والأوروبيون فى الإسلام سنوياً، ناهيك عن البلاد التى دخلت الإسلام بأكملها دون أن يصلها جندي مسلم واحد!!. ومثال ذلك أندونيسيا وماليزيا وتايلاند والفلبين، فيها عدد من المسلمين يتجاوز المسلمين العرب، كذلك كل إفريقيا المسلمة إذا استثنينا شمال إفريقيا) أ.هـ

    2- لو فرضنا أن الدين انتشر بالسيف لم يكن في هذا عيب لأنه لمصلحة البشرية:

    غاية الجهاد هي تطهير المجتمعات من مظاهر الشرك والخرافة ودعوة الناس إلى عبادة الله وحده وليقوم الناس فيما بينهم بالقسط والعدل، وهذه غاية عظيمة وهي رأس الحق العدل وهي لمصلحة البشرية كلها.
    سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (ما رأيكم في قول من قال: إن الإسلام انتشر بالسيف، ونريد أن نرد عليهم رداً منطقيا ؟
    فقال: هذا القول على إطلاقه باطل، فالإسلام انتشر بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وأيد بالسيف، فالنبي صلى الله عليه ويسلم بلغه بالدعوة بمكة ثلاثة عشر عاماً ثم في المدينة قبل أن يؤمر بالقتال، والصحابة والمسلمون انتشروا في الأرض ودعوا إلى الله ومن أبى جاهدوه لأن السيف منفذ، قال تعالى: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس) وقال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) فمن أبى قاتلوه لمصلحته ونجاته، كما يجب إلزام من عليه حق لمخلوق بأداء الحق الذي عليه ولو بالسجن أو الضرب، ولا يعتبر مظلوما فكيف يستنكر أو يستغرب إلزام من عليه حق لله بأداء حقه فكيف بأعظم الحقوق وأوجبها وهو توحيد الله سبحانه وترك الإشراك به، ومن رحمة الله سبحانه أن شرع الجهاد للمشركين وقتالهم حتى يعبدوا الله وحده ويتركوا عبادة ما سواه، وفي ذلك سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة. والله الموفق) أ.هـ

    المبحث الخامس: الرد على ما يستدل به في هذا الموضع:

    استدل هؤلاء على دعواهم أو استدل لهم من تأثر بقولهم بأن الإسلام انتشر بالسيف ببعض الأدلة، فنحن نذكرها ونبين الجواب عن هذه الاستدلالات.
    استدلالهم على ذلك بحديث: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف" وفي الحديث كذلك: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي):
    هذا الحديث صحيح كما تقدم، وليس فيه ما يدل على ما ذكروه لا من قريب ولا من بعيد، وإنما غاية ما يدل عليه هو أن الإسلام يدعو إلى الجهاد في سبيل الله ولإعلاء كلمة، ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
    وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي) فليس فيه أن الاسلام أجبر الناس على الدخول فيه من غير أي شيء يدل على رضاهم، وإنما فيه إثبات الجهاد وأن الله أباح الغنائم لأمة الإسلام، فهي لهم حلال بخلاف الأمم السابقة.

    استدلالهم بحديث: "جئتكم بالذبح":

    روى أحمد في "المسند" عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قلت له ما أكثر ما رأيت قريشا أصابت من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما كانت تظهر من عداوته قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا لقد صبرنا منه على أمر عظيم أو كما قالوا، قال فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفاً بالبيت فلما أن مر بهم غمزوه ببعض ما يقول قال: فعرفت ذلك في وجهه ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجهه ثم مضى ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فقال: تسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه وصاه قبل ذلك ليرفأه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم انصرف راشداً فوالله ما كنت جهولاً قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه و سلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون له أنت الذي تقول كذا وكذا لما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم قال فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أنا الذي أقول ذلك قال: فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه قال وقام أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه دونه يقول وهو يبكى (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) ثم انصرفوا عنه فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا بلغت منه قط).
    وسنده حسن وقد صححه ابن حبان فرواه في "صحيحه" وحسنه الشيخ الألباني في "صحيح موارد الظمآن" و "صحيح السيرة" وأحمد شاكر في "تحقيق المسند".
    وتوجيه الحديث هو أن يقال: إن هذه الكلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قالها بعد أن استهزؤوا به ثلاثاً وهم جلوس في الحجر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، وبعد أن وجد منهم العناء الشديد، فمقولته صلى الله عليه وسلم هذه إنما قالها على أنها عقوبة من الله لا ليدخلهم في الدين بالإكراه وقد خاطبهم صلى الله عليه باللين واللطف بما فيه الكفاية، والسياسة تقتضي أن تتغير اللهجة فتارة تكون لهجة فيها لين وتارة تكون لهجة شديدة كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) وقال تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم).
    قال ابن القيم رحمه الله في "الصواعق المرسلة": (فذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو:
    1- فإنه إما أن يكون طالباً للحق راغباً فيه محباً له مؤثراً له على غيره إذا عرفه، فهذا يدعى بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظة ولا جدال.
    2- وإما أن يكون معرضاً مشتغلاً بضد الحق ولكن لو عرفه لآثره واتبعه، فهذا يحتاج مع الحكمة إلى الموعظة بالترغيب والترهيب.
    3- وإما أن يكون معانداً معارضاً فهذا يجادل بالتي هي أحسن فإن رجع إلى الحق وإلا انتقل معه من الجدال إلى الجلاد) أ.هـ
    وقيل: إنه قالها بعد أن أطلعه الله على ما سيكون من مصارعهم، وقد ثبت عنه أنه قد أخبر بمصارع القوم في غير هذه المناسبة.
    ولقد قال بعضهم: إنه يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها لهم لأنهم ليسوا من أهل الكتاب بل هم وثنيون والوثنيون لا يخيرون ما بين القتال والجزية على قول للفقهاء، بل يلزمون بالإسلام أو القتال، ولكن هذا القول غير مقبول عند من يرى أنه لا فرق بين الكتابيين والوثنيين فكلهم تقبل منهم الجزية وهو الصحيح.
    استدلالهم بأن "النبي خطب على معتمداً على سيف":
    قال ابن القيم في "زاد المعاد": (ولم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف، وكثير من الجهلة يظن أنه يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف وهذا جهل قبيح من وجهين:
    أحدهما: أن المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم توكأ على العصا وعلى القوس.
    الثاني: أن الدين إنما قام بالوحي وأما السيف فلمحق أهل الضلال والشرك ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب فيها إنما فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف) أ.هـ
    هذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

    كتبه: أبو عمار علي الحذيفي
    عدن/ اليمن.


    تعليق


    • #3
      رد: فتاوى الكبار في الرد على من يقول أن الإسلام انتشر بالسيف

      الملفات المرفقة

      تعليق

      يعمل...
      X