إعـــــــلان

تقليص
1 من 3 < >

تحميل التطبيق الرسمي لموسوعة الآجري

2 من 3 < >

الإبلاغ عن مشكلة في المنتدى

تساعدنا البلاغات الواردة من الأعضاء على منتدى الآجري في تحديد المشكلات وإصلاحها في حالة توقف شيء ما عن العمل بشكل صحيح.
ونحن نقدّر الوقت الذي تستغرقه لتزويدنا بالمعلومات عبر مراسلتنا على بريد الموقع ajurryadmin@gmail.com
3 من 3 < >

فهرسة جميع الشروح المتوفرة على شبكة الإمام الآجري [مبوبة على حسب الفنون] أدخل يا طالب العلم وانهل من مكتبتك العلمية

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه - وعلى آله ومن ولاه وبعد :

فرغبة منا في تيسير العلم واشاعته بين طلابه سعينا لتوفير جميع المتون وشروحها المهمة لتكوين طلبة العلم ، وقد قطعنا شوطا لابأس به في ذلك ولله الحمد والمنة وحده ، إلا أنه إلى الآن يعاني بعض الأعضاء والزوار من بعض الصعوبات في الوصول للشروح والمتون المرادة لتداخل الشروح أو لقلة الخبرة التقنية .

من أجل هذا وذاك جاء هذا الموضوع ليكون موضوعا مرجعا جامعا مرتبا بإذن الله لكل المواد العلمية الموضوعة حاليا في شبكتنا ومرتبا على حسب أبواب الفنون العلمية (العقيدة، الفقه، الحديث،...)وسنحاول أيضا ترتيبها على مستويات الطلب (المبتدئ ، المتوسط ، المنتهي) سيتم تحديثه تبعا بعد إضافة أي شرح جديد .

من هـــــــــــنا
شاهد أكثر
شاهد أقل

لماذا قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه؟ (تلخيص من كتاب فتنة مقتل عثمان) رسالة دكتوراه - توجد للتحميل بداخل الموضوع

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • [مقال] لماذا قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه؟ (تلخيص من كتاب فتنة مقتل عثمان) رسالة دكتوراه - توجد للتحميل بداخل الموضوع

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد ،في هذا الموضوع سنتعرض لذكر دوافع الخوارج لقتل عثمان رضي الله عنه ، ونقض شبههم وافترائتهم بالدليل العلمي.
    وهذا البحث مستل من كتاب :فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه
    لمؤلفه الدكتور: محمد بن عبد الله غبان الصبحي.
    مع بعض التصرف اليسير


    تمهيد:
    قبل الخوض في تفاصيل الفتنة، أود أن القي نظرة فاحصة على ما تناقلته المصادر، والمراجع حول مسوغات خروج الخارجين على الخليفة عثمان رضي الله عنه، فإن سبر هذه المسوغات التي ذاعت بين الناس يصنفها إلى ثلاثة أصناف من حيث صحة وضعف وقوعها من الخارجين عليه.
    الأول: معايب صح أن الخارجين عليه أظهروا تسويغهم الخروج عليه بها أو عابوها عليه فقط.
    الثاني: معايب لم يصح أن الخارجين عليه سوغوا بها خروجهم عليه، وورد ذكرها في روايات ضعيفة الأسانيد.
    الثالث: معايب لم أقف على إسناد لها، واشتهر في المصادر والمراجع المتأخرة عن الحادثة دون إسناد أن الخارجين عليه سوغوا خروجهم بها عليه.
    وهذه المعايب - بأصنافها الثلاثة- منها ما هو مفترى عليه، ومنها ما هو منقبة له قلبتها القلوب الحاقدة إلى مثلبة، والباقي منها أمور لا يعيبه بها إلا من فسدت طويته، وقصد التسويغ لباطل أراد تنفيذه.
    وفيما يلي حديث مفصل عن هذه الأصناف الثلاثة، والمسوغات التي تندرج ضمنها:
    المبحث الأول: ما صح أن الخارجين سوغوا خروجهم عليه به أو عابوه عليه :


    أولاً: عدم شهوده غزوة بدر
    كانت غزوة بدر في العام الثاني من الهجرة، وذلك لما ندب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى الخروج إلى عير لقريش، وتعجل بمن كان مستعداً، دون أن ينتظر أهل العوالي لاستعجاله بالخروج1.
    ووافق ذلك أن كانت رقية -رضي الله عنها- ابنة النبي صلى الله عليه وسلم مريضة، قعيدة الفراش، وفي أمس الحاجة إلى من يمرضها ويرعى شؤونها، وخير من يصلح لذلك هو زوجها؛ لأن الزوجة لا تكتمل حريتها عند غير زوجها؛ لذلك كله أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه بالبقاء في المدينة بجانب زوجته ليقوم بتمريضها، وضرب له بسهمه في غزوة بدر فقال عثمان: وأجري يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "وأجرك" 2.
    __________
    1 انظر عن هذه الغزوة: (مرويات غزوة بدر للعليمي)، و (المجتمع المدني -الجهاد ضد المشركين ـ للدكتور / أكرم العمري (ص:39، 59).
    2 البخاري، الجامع الصحيح، فتح الباري (7/ 54، 363)، والترمذي، السنن (5/629) وأحمد، المسند (بتحقيق: أحمد شاكر 8/ 101-102، 199-200)، ويعقوب بن سفيان، المعرفة والتاريخ (3/160)، والطيالسي، المسند (264)، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (254-256)، وذكره المحب الطبري، الرياض النضرة (3/ 24-25)، وانفرد بقول عثمان رضي الله عنه: "وأجري يا رسول الله؟" ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (ص30)، انظر الملحق الرواية رقم: [22].
    ********************************
    وبذلك يتبين أن عثمان رضي الله عنه لم يشهد غزوة بدر، ولكنه كمن شهدها لضرب النبي صلى الله عليه وسلم له بسهم فيها، من الغنيمة والأجر.
    وعلم ذلك الصحابة رضوان الله عليهم فلم يصح عن أحد منهم أنه عابه بعدم شهوده بدراً، واستمر الأمر على ذلك.
    حتى انفجرت ينابيع الفتنة، وبدأ الخارجون على عثمان رضي الله عنه يتلمسون ما يظهرون للناس أنهم سوغوا به الخروج عليه، فعابوه بعدم شهوده بدراً.
    ولكن ذلك لا ينطلي إلا على الجهلة من الناس، فإن أهل البصيرة يعلمون أن عدم شهوده رضي الله عنه هذه الغزوة إنما كان بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم ومن شهد بدراً لم يحصّل ذاك الأجر العظيم إلا لامتثاله أمره صلى الله عليه وسلم فالمتخلف بأمره والشاهد بأمره سواء بسواء.
    وبناء على ذلك ذكره الزهري1 وعروة بن الزبير2 وموسى بن عقبة3 وابن إسحاق4 وغيرهم5 فيمن شهد بدراً.
    __________
    1 ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (ص29، 31).
    2 المصدر السابق : (ص30).
    3 المصدر السابق : (ص29-31).
    4 ابن هشام، تهذيب سيرة ابن إسحاق (2/ 678-679)، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (29-30).
    5 يعقوب بن سفيان البسوي، المعرفة والتاريخ (3/ 159-160)
    ************************************
    ولما جاء أحدهم1 إلى ابن عمر رضي الله عنهما يسأله عن حضور عثمان بدراً، أجابه بأنه لم يشهدها، فكبر السائل فرَحاً وشماتةً بعثمان، فناداه ابن عمر رضي الله عنهما وبيّن له أن تخلف عثمان هذا لم يكن من قِبله، إنما كان بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يُعدّ عيباً فيه، فقال له: وأما تغيبه عن بدر، فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه" 2.
    فلم يتخلف عثمان عن غزوة بدر رغبة عن الأجر، ولا جُبناً، ولا خوفاً، وإنما تديناً وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
    كما أن النفير -كما تقدم- لم يكن عاماً، وبسبب ذلك تخلف عن بدر كثير من الصحابة رضوان الله عليهم ممن كانوا في العوالي، وممن لم يحضروا ساعة الاستعداد للرحيل، لشدة استعجال النبي صلى الله عليه وسلم؛ خشية أن تفوت العير فلا يدركونها.
    فعدم حضور بدر ليس بعيب في آحاد الصحابة رضوان الله عليهم
    __________
    1 يحتمل أنه العلاء بن عرار (ابن حجر، فتح الباري 7/ 364)، وتصرح بعض الروايات بأنه من أهل مصر (فتح الباري 7/ 54، 59.
    2 البخاري، الجامع الصحيح، فتح الباري (7/ 54، 363)، والترمذي، السنن (5/629)، وأحمد، المسند (بتحقيق أحمد شاكر 8/ 101-102، 199-200)، ويعقوب بن سفيان، المعرفة والتاريخ (3/ 160)، والطيالسي، المسند (264)، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (254-256)، وذكره المحب الطبري الرياض النضرة (3/ 24-25)، انظر الملحق الرواية رقم: [22].
    **************************************
    الذين لم يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقعود في المدينة؛ فكيف يكون عيباً فيمن قعد لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ومما يكشف زيف استساغتهم الخروج عليه، بعدم شهوده بدراً، عدم عيبهم لسائر المتخلفين عنها الذين لم يتهيأ لهم الخروج إليها، وإن كان ذلك لعذر، فإن عذر عثمان رضي الله عنه أقوى من عذرهم، فلم ينقل لنا شيء من هذا، مما يؤكد لنا أن القوم يتصيدون ما يمهدون به للخروج على الخليفة فحسب.
    والتخلف عن شهود غزوات النبي صلى الله عليه وسلم مع العذر، ممن لديه رغبة صادقة في شهودها، لا يوقع حرجاً على صاحبه، إذا كان ناصحاً لله ورسوله، وقد بين الله جل وعلا ذلك في قوله:
    {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} 1.
    فليس على هؤلاء سبيل، بل شهد الله لهم بالإحسان.
    أما الذين يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم للقعود عن القتال، وهم أغنياء
    __________
    1 سورة التوبة، الآيتان (91-92).
    ******************************

    مستطيعون، ليس لهم عذر، ولكن رضوا بأن يكونوا مع المتخلفين، فهؤلاء هم الآثمون الذين يعاقبهم الله بالطبع على قلوبهم.
    كما في قوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1.
    فمن يتخلف عن غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم بأمر منه، ويضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم في الغنيمة وفي الأجر، فإنه أولى بأن لا يكون عليه سبيل ممن تخلف عنها لعدم الاستطاعة والقدرة.
    ثم لو كان قد أخطأ فتخلف عن غزوة بدر بدون عذر، فإن ذلك لا يسوغ قتله صبراً، ولا يسوغ الخروج عليه وهو خليفة؟!
    ولو كان عثمان رضي الله عنه آثما لتخلفه عن غزوة بدر؛ فلم لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ؟ فهل هؤلاء الطاعنون فيه بهذا السبب أعرف بدين الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
    وهم أوباش الناس، ليست لهم صحبة ولا فضل، ولم يعرفوا بخير قط، ولولا الفتنة ما عرفوا ولا ذكروا.
    ويستنبط المتجرد من الهوى والتعصب ضد عثمان رضي الله عنه مِنْ عدم شهوده بدراً، فضلاً ومزيَّة له على من شهدها، وذلك من جهة أن له
    __________
    1 سورة التوبة، الآية (93).
    ******************************************
    مثل ما لهم من الأجر الدنيوي والأخروي، ومن جهة امتثاله لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقعود عنها، ومن جهة قيامه بعمل من أفضل القربات، وهو تمريض زوجته ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    يقول أبو نعيم: "وإن طُعن عليه بتغيبه عن بدر، وعن بيعة الرضوان، قيل له: الغيبة التي يستحق بها العيب: هو أن يقصد مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفضل الذي حازه أهل بدر في شهود بدر؛ طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعته، ولولا طاعة الرسول ومتابعته لكان كل من شهد بدراً من الكفار كان لهم الفضل والشرف، وإنما الطاعة التي بلغت بهم الفضيلة، وهو كان رضي الله عنه خرج فيمن خرج فردَّه الرسول صلى الله عليه وسلم للقيام على ابنته، فكان في أجلِّ فرض؛ لطاعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتخليفه، وقد ضرب له بسهمه وأجره، فشاركهم في الغنيمة والفضل والأجر، ولطاعته الله ورسوله وانقياده لهما"1.
    __________
    1 أبو نعيم، الإمامة والرد على الرافضة، بتحقيق: الدكتور/ علي ناصرالفقيهي (ص:301-302)
    ***********
    يتبع إن شاء الله تعالى

    *****************
    وهذا الكتاب كاملاً لمن أراد تحميله
    الملفات المرفقة
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو عمر محمد الفلسطيني; الساعة 31-Jul-2011, 02:32 PM.

  • #2
    ثانياً: توليه يوم أحد عن المعركة :
    ومنها توليه عن القتال، في معركة أحد التي وقعت في شهر شوال من العام الثالث للهجرة، بين المسلمين، والمشركين بالقرب من جبل أحد، الذي يقع شمال المدينة النبوية.
    وكان المسلمون قد انتصروا في أول المعركة، وقتلوا عدداً من المشركين، وفي ذلك يقول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} سورة آل عمران، جزء من الآية (152).
    ونتيجة لمخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم من بعض المقاتلين فقد المسلمون مواقعهم، وأخذوا يقاتلون دون تخطيط، فلم يستطيعوا تمييز بعضهم من بعض وأسقط في أيديهم، ففر كثيرون منهم من ميدان القتال، وانتحى بعضهم جانباً دون قتال، في حين آثر آخرون الموت على الحياة فقاتلوا حتى الموت(1 )
    وقد ذكر الله جل وعلا خبر فرار من فر، وعفوه عنهم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ
    بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} سورة آل عمران، الآية (155).
    فبين الله أنه قد عفا عن جميع المتولين يوم أحد، فدخل فيهم من هو دون عثمان في الفضل والسابقية، فكيف لا يدخل هو مع فضله، وسابقته، وكثرة حسناته(2 )
    ولكن الخارجين عليه لم يعبؤوا بهذا العفو من الله، بل أظهروا وأشاعوا أنهم نقموا عليه فراره يوم أحد، مما يدل دلالة واضحة على أن تسويغهم ليس بتسويغ مجتهد مخطئ، أو تسويغ متحمس ضال، إنما هو تسويغ مضل مفسد يتلمس ما يسوغ به إفساده.
    وإلا لما عابوا عليه أمراً قد عفا الله عنه وغفره، ولما أشاعوا ذلك بين المسلمين على ولي أمرهم أمير المؤمنين خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    كما أن فراره يوم أحد لا يُحل قتله، فكيف وقد غفر الله له، ولو استحق ذلك لما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم معاقبته، ولما بايعه الصحابة جميعاً بالخلافة.
    فلم ير الصحابة رضي الله عنهم في موقفه بأحد ما يستوجب التردد في بيعته بعد عفو الله عنه وعن سائر الفارين.
    بل رأوا في مواقفه الأخرى، ما يقدمه إلى أعظم مسؤوليات الدولة، وهي: الخلافة.
    ولكن الخارجين عليه كانوا يفتشون عن مسوغات للفتنة، والتمرد، وقتل الخليفة، فتشبثوا بهذا الأمر وبغيره من المسوغات الواهية الأخرى.
    مما يبين جلياً أن الشيطان قد استحوذ عليهم، حتى أنساهم ذكر الله(كما في قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} سورة المجادلة، الآية (19) ) وزين لهم أعمالهم فأضلهم عن السبيل، وهم يحسبون أنهم مهتدون.
    ولما سأل ذلك الخارجي( 3 ) ابن عمر رضي الله عنهما عن فرار عثمان يوم أحد، شهد ابن عمر على فراره؛ فكبر الخارجي شماتة بعثمان، فقال له ابن عمر: تعال لأخبرك، ولأبين لك عما سألتني عنه: أما فراره يوم أحد، فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له... اذهب بها الآن معك ( 4 ).
    __________




    ثالثاً: تخلفه عن بيعة الرضوان:
    ومنها تخلفه عن بيعة الرضوان(5 ) وقد كانت بيعة الرضوان في مستهل ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة، تحت شجرة سمرة في مكان بالقرب من مكة يسمّى بالحديبية( 6 ).
    دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أرسل عثمان رضي الله عنه إلى أهل مكة يفاوضهم، ويبين لهم هدف المسلمين من قدومهم، وأنه العمرة وليس القتال، فلما استبطأ النبي صلى الله عليه وسلم عثمان، وبلغه أن المشركين قد قتلوه، بايع أصحابه على قتال المشركين ثأراً لعثمان رضي الله عنه.
    ونظراً لاحتمال عدم صدق الخبر بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيده على اليد الأخرى عن عثمان رضي الله عنه.
    وقد بيّن الله جل وعلا فضل أصحاب هذه البيعة، في آيات عديدة، كما بينه أيضا الرسول صلى الله عليه وسلم.
    فمن الآيات قوله جل وعلا: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} سورة الفتح، الآية (18، وانظر تفسيرها في تفسير ابن كثير (4/190-191).
    ومن الأحاديث قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية لمن شهدها: "أنتم خير أهل الأرض" (7).
    وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها" (8 ).
    ومنذ أداء تلك البيعة للنبي صلى الله عليه وسلم، ظلت مفخرة لمن شهدها، يعرف الناس فضلهم وقدرهم، ومكانتهم، ولا يعاب من لم يشهدها ممن كان في المدينة، وغيرها من المسلمين، ولما بدأ الناس في الطعن على عثمان رضي الله عنه، وتلمسوا ما يعيبونه به، أظهروا أنهم استساغوا الخروج عليه بعدة أمور: منها المفتراة، ومنها ما هو منقبة له في الحقيقة.
    وعدم شهوده بيعة الرضوان هو من هذا الصنف الأخير، فإن عدم شهوده إياها فيه ما يدل على سموّ مكانته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيه منقصة له.
    لكن أفهام القوم قاصرة، وقلوبهم حاقدة، حتى إن أحدهم جاء إلى ابن عمر -رضي الله عنهما - يناشده: أَشَهِد عثمان رضي الله عنه بيعة الرضوان؟.
    فقال له ابن عمر: لا، وقبل انصراف الرجل، بيّن له ابن عمر رضي الله عنهما أن عدم شهوده البيعة لا يعدّ عيباً فيه، بل منقبة له، فإن سبب تغيبه عنها هو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى أهل مكة، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم بإحدى يديه لعثمان( 9) فَيَدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من يد من بايع بيده.
    وفي ذلك يقول أبو نعيم: "وأما بيعة الرضوان فلأجل عثمان رضي الله عنه وقعت هذه المبايعة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه رسولاً إلى أهل مكة لِمَا اختص به من السؤدد والدين، ووفور العشيرة، وأُخبِر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله، فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون له على الموت ليوافوا أهل مكة(10).
    فعدم حضور عثمان رضي الله عنه بيعة الرضوان يُعَدّ منقبة له وليس مثلبة فيه، ولكن القلوب الحاقدة قلبتها إلى مثلبة وعابته بها.
    وتتلخص هذه المنقبة في أمور أربعة:
    الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم اختاره لأداء تلك المهمة، وهذا دليل على فضله رضي الله عنه وصلاحيته لها.
    الثاني: أنه من أهل بيعة الرضوان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بايع له بإحدى يديه على الأخرى.
    الثالث: أنه رضي الله عنه امتاز على باقي أصحاب الشجرة بأن النبي بايع عنه بيده الأخرى، فيد النبي صلى الله عليه وسلم خير من أيديهم رضي الله عنهم أجمعين.
    الرابع: أن البيعة إنما عقدت من أجله مما يبين مكانته عند النبي صلى الله عليه وسلم.
    ************************************************** **********
    الحواشي:
    1-انظر عن هذه الغزوة: (المجتمع المدني -الجهاد ضد المشركين ص: 65، 86)، ومرويات غزوة أحد لحسين الباكري.
    2- ابن تيمية، منهاج السنة النبوية (6/ 29
    3- جاء في إحدى روايات البخاري أنه رجل من أهل مصر (الفتح 7/ 54، وذكر الحافظ ابن حجر أنه العلاء بن عرار (الفتح 7/ 364
    4-البخاري، الجامع الصحيح، فتح الباري (7/ 54، 363)، والترمذي، السنن (5/629)، وأحمد، المسند (بتحقيق: أحمد شاكر 8/ 101-102، 199-200)، ويعقوب بن سفيان، المعرفة والتاريخ (3/ 160)، والطيالسي، المسند (264)، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان ( 254-256)، وذكره المحب الطبري، في الرياض النضرة (3/ 24-25)، انظر الملحق الرواية رقم: [22].

    5- عن بيعة الرضوان وتفاصيلها؛ انظر : مرويات غزوة الحديبية، للدكتور/ حافظ الحكمي (ص:148-157) والمجتمع المدني (الجهاد ضد المشركين، للدكتور/ أكرم العمري (ص: 127-135).
    6- قال مجد الدين ابن الأثير: "مخففة وكثير من المحدثين يشددها" النهاية في غريب الحديث والأثر (1/349.
    7- رواه البخاري، الجامع الصحيح، فتح الباري (7/443)
    8- رواه مسلم، الجامع الصحيح، (163) وأحمد، المسند (6/420)
    9- صحيح البخاري، فتح الباري (7/54، 363) والترمذي، السنن (5/629) وابن أبي شيبة، المصنف (14/442-443)، وأحمد، المسند، بتحقيق أحمد شاكر (8/101-102، 199، 200) وأبوداود الطيالسي، المسند (264)، ويعقوب بن سفيان، المعرفة والتاريخ (3/160)، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (254-256)وذكره المحبّ الطبري، الرياض النضرة (3/ 24-25) وانظر: الملحق، الرواية رقم: [22]
    10- الإمامة (304 بتحقيق) الدكتور علي ناصر فقيهي.
    **************************************
    يتبع إن شاء الله تعالى

    تعليق


    • #3
      رابعاً:حميه الحمى:
      ومنها حميه الحمى (1 ) فلما قدم أهل مصر المدينةَ، واستقبلهم عثمان رضي الله عنه قالوا له: ادع بالمصحف، فدعا به، فقالوا: افتح السابعة - وكانوا يسمون سورة يونس السابعة - فقرأ حتى أتى قوله تعالى: { قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} سورة يونس، الآية (59)
      فقالوا له: قف، أرأيت ما حميت من الحمى، آلله أذن لك أم على الله تفتري؟.
      فقال عثمان رضي الله عنه: امضه نزلت في كذا وكذا(2 ) فأما الحمى، فإن عمر حماه قبلي لإبل الصدقة، فلما وليت زادت إبل الصدقة، فزدت في الحمى لِما زاد من إبل الصدقة، امضه..( 3).
      ورُوي أن عائشة رضي الله عنها قالت للخارجين على عثمان رضي الله عنه: اسمعوا نحدثكم عما جئتمونا له: إنكم عبتم على عثمان في ثلاث خلال.. وذكرت منها، وموضع الغمامة، أي الحمى(4 ).
      فبذلك يظهر أن الخارجين أظهروا أنهم سوغوا الخروج على عثمان بحميه الحِمى إلا أنهم لم يفصحوا عن المكان الذي حماه عثمان رضي الله عنه ويظهر ردّ عثمان رضي الله عنه أن المقصود حميه الحِمى لإبل الصدقة، فلم يعترضوا عليه بعد ردّه عليهم.
      ويذكر المحب الطبري أن المقصود: هو بقيع المدينة، وأنه منع الناس منه، وزاد في الحمى أضعاف البقيع، ولكنه لم يسنده ولم يعزه( 5 )وهو متأخر بعيد عن الأحداث فقد توفى سنة 694?.
      وفي رد عثمان رضي الله عنه على أهل مصر كفاية، وغنية، فقد ألقمهم حجراً فخرسوا عن الجواب، فإن عثمان رضي الله عنه لم يبتدع في حمي الحمى، بل سبقه إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عمر رضي الله عنه، فقد حمى عمر رضي الله عنه الشرف، والرّبذة( 6 ) لنعم الصدقة(7 ) وهذا يدل على جواز أصل حمي الحمى للخليفة، وهو مذهب الشافعية، ومنهم من ألحق به ولاة الأقاليم( 8 )
      فالزيادة للحاجة جائزة -أيضاً- لجواز الأصل، وقد احتاجت إبل الصدقة في عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه إلى زيادة الرقعة المحمية لزيادة عدد إبل الصدقة، مما يدل على كثرة الخيرات في خلافته رضي الله عنه.
      ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمى في قوله: "لا حمى إلا لله ولرسوله" ( 9 ) إنما هو نهي عن حمى الجاهلية الذي يخص به رئيس القبيلة نفسه دون غيره( 10 )
      أما ما فعله عثمان رضي الله عنه فإنما كان لمصلحة المسلمين عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته؛ فالإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راعٍ، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيّده راعٍ، وهو مسؤول عن رعيته... فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته" (11)
      ومما يذكر أنهم عابوه عليه في حمي الحمى إلا أنه لم يرد فيه إسناد( 12)ما ذكره المحب الطبري: من أنهم نقموا عليه حميه لسوق المدينة في بعض ما يباع ويشترى، فقالوا: لا يشتري منه أحد النوى حتى يشتري وكيله من شراء ما يحتاج إليه عثمان رضي الله عنه لعلف إبله( 13).
      ثم ردّ على ذلك بقوله: "وهذا مما تُقُوِّل عليه واختلق، ولا أصل له، ولم يوجد له إسناد، وعلى تقدير صحة ذلك، يحمل على أنه فعله لإبل الصدقة، وألحقه بحمى المرعى لها ؛ لأنه في معناه".
      كما ذكر أيضاً أنهم سوغوا خروجهم عليه بحميه البحر من أن تخرج فيه سفينة إلا في تجارته، ثم قال: "ولا يقول بذلك عاقل، وغاية ما يقال على تقدير صحة النقل في ذلك يحمل على أنها كانت ملكاً له، لأنه كان منبسطاً في التجارات، متسع المال في الجاهلية والإسلام، فما حمى البحر، وإنما حمى سفنه أن يحمل فيها متاع غير متاعه"( 14).
      وهذه ردود منه -رحمه الله- على فرض صحة النقل، ولكن لم يثبت لأي شيء منها إسناد يعتد به.
      __________
      1 الحمى: هو المكان المحمي، وهو خلاف المباح، ابن حجر، فتح الباري (5/44)
      2- هكذا في الرواية.
      3- خليفة بن خياط، التاريخ (168-169 والبزار، كشف الأستار (4/ 90-91)، وابن أبي شيبة، المصنف (15/ 215-220)، والطبري، تاريخ الأمم والملوك (4/354-356)، وإسحاق بن راهويه، كما في المطالب العالية (4/ 354-356) وذكره المحب الطبري، الرياض النضرة (3/ 60)، وإسناده صحيح، انظر الملحق الرواية رقم: [64].
      4-رواه عبد الله بن أحمد، فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (1/ 452، وإسناده ضعيف، ففيه عبد الملك بن عمير، وقد اختلط، ولم تتميز رواية الراوي عنه أكانت قبل اختلاطه أم بعده، وفيه أيضاً عنعنة عبد الملك وهو مدلس، ذكره الحافظ في المرتبة الثالثة من المدلسين. انظر الملحق الرواية رقم: [61].
      5- الرياض النضرة (3/ 83، 93).
      6- رواه البخاري في صحيحه تعليقاً (فتح الباري 5/ 44)؛ والشرف: موضع بالقرب من مكة، والرّبذة موضع بين مكة والمدينة، ابن حجر، فتح الباري (5/ 45).
      7-رواه ابن أبي شيبة بإسناد صححه الحافظ ابن حجر، (فنح الباري 5/ 45).
      8- ابن حجر، فتح الباري (5/ 44- 45).
      9- رواه البخاري، الجامع الصحيح، فتح الباري (5/ 44).
      10- ابن حجر، فتح الباري (5/ 44- 45).
      11- رواه البخاري، الجامع الصحيح (فتح الباري 5/181).
      12- والأصل أن أذكر ذلك في المبحث الثالث من هذا الفصل، ولكن آثرت أن أذكره في هذا الموضع لدخوله في حمي الحمى عموماً، وقد نقموا عليه ذلك فلعل هذه الأوجه من الحمى تدخل فيه.
      13- الرياض النضرة (3/83 ).
      14- المصدر السابق : (3/ 93).

      ************************************************** **


      خامساً: جمع القرآن:
      ورد بإسناد صحيح ما يدلّ على أن الخارجين على عثمان رضي الله عنه كانوا يعيبون عليه جمعه للمصاحف، وأن علياً رضي الله عنه كان يقول لهم: "يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيراً، أو قولوا له خيراً في المصاحف، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منّا"1.
      وورد بإسناد صحيح أيضاً إلى أبي مجلز المتوفي سنة 106 أو سنة 109هـ أنه قال: "عابوا على عثمان تمزيق المصاحف، وآمنوا بما كتب إليهم"2.
      وذكر المحبّ الطبري: أن مما نقم على عثمان رضي الله عنه إحراقه مصحف ابن مسعود، ومصحف أُبَيٍّ، وجمعه الناس على مصحف زيد بن ثابت3ثم ردّ عيهم4.
      وذكر أبوبكر بن العربي: أنهم قالوا: "وابتدع في جمع القرآن وتأليفه، وفي حرق المصاحف"5 ثم ردّ عليهم6.
      وقبل بيان بطلان هذا العيب الذي ألصق بعثمان رضي الله عنه، أسوق قصة جمع القرآن من بدايتها في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى نهايتها في عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه ليتضح الأمر وينجلي.
      فلنعد إلى أعقاب معركة اليمامة، وذلك عندما علم عمر رضي الله عنه أن عدداً من القراء قد استشهدوا في هذه المعركة، ففكر بعقله الواعي المتميز ببعد النظر، وسلامة التفكير في أثر هذا الحادث على الأمة الإسلامية، فخشي أن يستحر(7 )القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، فجاء إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وهو الخليفة يومئذ وأبلغه بما يخشاه، ثم اقترح عليه أن يأمر بجمع القرآن، ولكن أبا بكر الصديق تردد في قبول ذلك، وقال:كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر:هذا والله خير، ولم يزل يراجعه حتى شرح الله صدره، ورأى رأي عمر.
      فأرسل إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه وأخبره بالحوار الذي دار مع عمر، فقال زيد رضي الله عنه: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فلم يزل يراجعه أبوبكر حتى شرح الله صدره للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر.
      وبيَّن أبوبكر لزيد سبب اختياره للقيام بهذه المهمة العظيمة بأنه شاب عاقل لا يتهمه، وقد كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
      ثم أمره بتتبع القرآن وجمعه، وبلغ الأمر عند زيد مبلغاً عظيماً، حتى إنه كان يقول: "فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن".
      فانطلق زيد يتتبع القرآن يجمعه من العُسُب( واللِّخاف(9 ) وصدور الرجال حتى أتم جمعه".
      فبقيت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر، وبعد وفاته انتقلت إلى عمر رضي الله عنه وبعد استشهاده انتقلت إلى ابنته حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم( 10 )
      واستمر الأمر على ذلك حتى مضت سنة كاملة من خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه(11 )حين قام الجيش الإسلامي العراقي، والشامي بفتح أرمينية وأذْرَبيجان.
      وكان في هذا الجيش العظيم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فرأى في صفوف الجيش وبين الجند اختلافاً في قراءة القرآن، حتى إنه سمع من اختلافهم ما يكره(12 )كما رأى أيضاً في البصرة نحواً من ذلك(13 )
      وركب رضي الله عنه إلى عثمان بن عفان( 14 )فقال له: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى في الكتب، ففزع لذلك عثمان بن عفان، وجمع الصحابة - وفيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم فقال:
      ما تقولون في هذه القراءة، فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفراً؟.
      فقالوا: ما ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة، ولا يكون اختلاف، فقالوا: فنعم ما رأيت.
      فأرسل إلى حفصة -رضي الله عنها- أن أرسلي إلينا بالصحف التي جُمع فيها القرآن؛ لننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها إليه.
      فقام يحث الناس على تسليم ما لديهم من القرآن قائلاً: أيها الناس، عهدكم بنبيكم صلى الله عليه وسلم منذ ثلاث عشرة سنة( 15 )وأنتم تمترون في القرآن، وتقولون: قراءة أبيّ، وقراءة عبد الله، يقول الرجل: والله ما تقيم قراءتك، فأعزم على كل رجل منكم، ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به.
      فاستجاب الناس، فكان الرجل يجيء بالورقة، والأديم فيه القرآن حتى جمع من ذلك كثرة.
      ثم دخل عثمان رضي الله عنه فدعاهم رجلاً رجلاً، وناشدهم بالله: لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أمله عليك؟ فيقول: نعم.
      ثم قال: من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت.
      قال: فأي الناس أعرب؟ قالوا: سعيد بن العاص( 16 )فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها، وقال للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا( 17 )ونسخوا الصحف في المصاحف، ثم رد عثمان الصحف إلى حفصة.
      وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق، فذلك زمان حرقت فيه المصاحف بالنار( 18 )
      وبعد أن سردت قصة جمع القرآن منذ بدايتها وحتى انتهائها، نعود إلى ما نُقل عن بعضهم من تحويل هذه الفضيلة من فضائل عثمان رضي الله عنه إلى عيب يعاب به.
      فإنَّ عثمان رضي الله عنه لم يبتدع في جمعه المصاحف؛ بل سبقه إلى ذلك أبوبكر الصديق رضي الله عنه كما أنه لم يصنع ذلك من قبل نفسه، إنما فعله عن مشورة للصحابة رضي الله عنهم وأعجبهم هذا الفعل، وقالوا: نعم ما رأيت، وقالوا أيضاً: قد أحسن؛ أي: في فعله في المصاحف.
      فقد أدرك مصعبُ بن سعد صحابةَ النبي صلى الله عليه وسلم؛ حين مشق( 19 )عثمان رضي الله عنه المصاحف فرآهم قد أُعجبوا بهذا الفعل منه(20 )
      وكان علي رضي الله عنه ينهى من يعيب على عثمان رضي الله عنه بذلك ويقول: يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيراً –أو قولوا خيراً- فوالله ما فعل الذي فعل -أي في المصاحف- إلا عن ملأ منا جميعاً أي الصحابة... والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل(21 )
      وبعد اتفاق هذا الجمع الفاضل من خيرة الخلق، على هذا الأمر المبارك، يتبين لكل متجرد عن الهوى، أن الواجب على المسلم الرضا بهذا الصنيع الذي صنعه عثمان رضي الله عنه وحفظ الله به القرآن.
      ولم يثبت أن ابن مسعود رضي الله عنه خالف عثمان في ذلك، وكل ما روي في ذلك ضعيف الإسناد، -حسب ما وقفت عليه من الروايات-.
      كما أن هذه الروايات الضعيفة التي تتضمن ذلك، تثبت أن ابن مسعود رجع إلى ما اتفق عليه الصحابة في جمع القرآن، وأنه قام في الناس وأعلن ذلك، وأمرهم بالرجوع إلى جماعة المسلمين في ذلك.
      وقال: إن الله لا ينتزع العلم انتزاعاً، ولكن ينتزعه بذهاب العلماء، وإن الله لا يجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، فجامعوهم على ما اجتمعوا عليه، فإن الحق فيما اجتمعوا عليه... وكتب بذلك إلى عثمان( 22 )
      وأما ما ذُكر من أن ابن مسعود رضي الله عنه خطب بالكوفة فقال: "أما بعد: فإن الله قال: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وإني غال مصحفي، فمن استطاع منكم أن يغل مصحفه فليفعل"(23 )
      فإني لم أقف على إسناده، وأقدم من ذكره ابن العربي المتوفى سنة 543?، وبينه وبين الحادثة ما يزيد على خمسة قرون.
      وهل يتوقع حصول ذلك ممن ترك القصر في منى خشية من الخلاف والفتنة ومتابعة للخليفة؟ لا والله، لا يتوقع منه أن يصعد المنبر، ويحرض الناس على الخلاف.
      مع أن القصر في منى عليه أدلة واضحة، تؤيد مذهب ابن مسعود فيه، بخلاف جمع القرآن فإنَّ الصحابة أجمعوا عليه، فهل يعقل أن يتابع ابن مسعود عثمان رضي الله عنهما فيما يدل على خلافه دليل واضح خشية الخلاف، ثم يخالفه فيما أجمع عليه إخوانه الصحابة رضوان الله عليهم بل ويحرض الناس على الخلاف بواسطة منبر الكوفة، وهو القائل: "إن الخلاف شر". فما أوهن هذه القصة، وما أحمق من لفقها.
      وأما حرق أو خرق ما سوى مصحف عثمان رضي الله عنه، فإنه جائز إذا كان في بقائها فساد، أو كان فيها ما ليس من القرآن، أو ما نسخ منه، أو على غير نظمه، وقد سلم بذلك الصحابة كلهم(24)
      فما أتمه عثمان رضي الله عنه من جمع المصحف وتثبيته وتوحيد رسمه فإنَّ له به أعظم المنة على المسلمين، وبه حقق الله وعده في قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} سورة الحجر، الأية (9).وأقر على عمله، وأمضاه برسمه وتلاوته في جميع أمصار ولايته، وبذلك انعقد إجماع المسلمين في الصدر الأول على أن ما قام به من أعظم حسناته، كما أن البغاة أنفسهم الذين عابوا عليه ذلك، كانوا في خلافته وبعدها يقرؤون في مصاحف عثمان التي أجمع الصحابة عليها(25 )
      والمقصود من كان منهم على بعض الخير ممن غرر به، أما أولئك المغرضون الزنادقة أمثال ابن سبأ، فلا تتوقع منهم قراءة قرآن، ولا فعل أي عبادة إلا نفاقاً وتستراً بها، وتغريراً لمن لا يعرف حقيقتهم، فإنهم إن قرأوا القرآن فإنهم لا يتجاوز حناجرهم كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصفه للخوارج.
      ويظهر من قصة جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه مدى فهم الصحابةرضي الله عنهم لآيات النهي عن الاختلاف، حيث إن الله نهى عن الاختلاف وحذر منه، فلعمق فهمهم لهذه الآيات ارتعد حذيفة رضي الله عنه عندما سمع بوادر الاختلاف في قراءة القرآن، فرحل فوراً إلى المدينة النبوية، وأخبر عثمان رضي الله عنه بما رأى وبما سمع، فسرعان ما قام عثمان يخطب الناس؛ يحذرهم من مغبة هذا الخلاف، ويشاور الصحابة رضوان الله عليهم في الحل لهذه المحنة التي بدأت بالظهور، وفي مدة قصيرة يحسم الأمر ويغلق باب الخلاف الذي كاد أن ينفتح، بجمع الصحف ونسخها في مصحف واحد من المصادر الموثوقة جداً.
      وبإغلاق باب الفتنة هذه فرح المسلمون، بينما اغتاظ المنافقون الذين كانوا قد استبشروا ببوادر الخلاف التي كانوا ينتظرونها بفارغ الصبر، ويسعون إلى تحقيقها.
      ولما حسم الخلاف، ولم يجد أولئك طريقاً إلى استنهاضه، ازداد حقدهم على حاسمه ومغلق بابه وسعوا في التشنيع عليه وتصوير حسنته هذه سيئة، وتلمسوا في سبيل إثبات ذلك خيوط العنكبوت الواهية، ليطعنوا فيه ويسوغوا خروجهم عليه بها، مظهرين للناس أن هذه الحسنة سيئة تستوجب الخروج عليه.
      وهذا ينبه المسلمين في كل زمان، ويعتبر به عقلاؤهم، فيسارعوا إلى رقع كل خلاف بينهم على أساس صحيح، مع المحافظة على أصول الإسلام، دون التنازل عن الحق، أو التسامح في شيء من الأصول عقيدة وشريعة.

      __________
      1 رواه ابن أبي داود، (المصاحف 28029العلمية انظر الملحق الرواية رقم: [44]
      2 رواه ابن أبي شيبة (المصنف 15/ 210)، انظر الملحق الرواية رقم: [ 133]
      3 الرياض النضرة (3/87).
      4 المصدر السابق : (3/ 99).
      5 العواصم من القواصم (76 ).
      6 المصدر السابق : (80-85).
      7- يستحر: استحر القتل أي؛ اشتد (القاموس المحيط للفيروز آبادي 2/8.
      8- العسب: جمع عسيب، أي جريدة من النخل، وهي السعفة مما لا ينبت عليه الخوص (النهاية في غريب الحديث والأثر، لمجد الدين ابن الأثير 3/234
      9- اللخاف: جمع لخفة، وهي حجارة بيض رقاق (النهاية في غريب الحديث والأثر، لمجد الدين ابن الأثير 4/244.
      10- صحيح البخاري، فتح الباري (8/344)، (9/10-11).
      11- ابن حجر، فتح الباري (9/17).
      12- صحيح البخاري، فتح الباري (9/ 11)، والطبراني (كما في تاريخ دمشق لابن عساكر)، ترجمة عثمان، 234 وإسناده من الطبراني صحيح، انظر الملحق الروايتين: [30 و45].
      13- ابن أبي داود، المصاحف، (ط العلمية 18، ومن طريقه ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (233- 234)، وفيه رجل لم يوثقه غير ابن حبان، انظر الملحق الرواية رقم: [172].
      14- الطبراني، كما في تاريخ دمشق لابن عساكر، ترجمة عثمان (234)، والإسناد من الطبراني
      15- انظر فتح الباري (9/ 17).
      16- ابن أبي داود، المصاحف (23- 24)، ط قرطبة، 31 ط العلمية، وفي الإسناد مجهول، انظر الملحق الرواية رقم: [143].
      17- صحيح البخاري، فتح الباري (9/ 9) وهو في الملحق الرواية رقم: [29].
      18- رواه الطبراني في الرواية التي تقدم تخريجها، وأصله في صحيح البخاري، الفتح (9/11، انظر الملحق الرواية رقم: [30].
      19- المشق هو: الحرق (ابن منظور، لسان العرب 10/ 344.
      20- البخاري، التاريخ الصغير (1/ 94)، وإسناده حسن لغيره، انظر الملحق الرواية رقم: [142].
      21- ابن أبي داود، المصاحف (28- 30)، العلمية، ومن طريقه ابن عساكر (241- 242)، ورواه أيضاً من غير طريقه (237- 239)، وإسناده صحيح، وقد صححه الحافظ ابن حجر (فتح الباري 9/ 18، انظر الملحق الرواية رقم: [44].
      22- ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (239- 240) من رواية سيف بن عمر التميمي، وهو ضعيف، انظر الملحق الرواية رقم: [290].
      23- العواصم من القواصم (84، وانظر المسند لأحمد (1/ 414) والمصاحف لابن أبي داود، طبعة العلمية (ص: 21- 23) فقد روي فيهما أن ابن مسعود قال ذلك، وليس في الرواية أنه خطب به في الكوفة.
      24- ابن العربي، العواصم من القواصم (83).
      25- ذكر ذلك محب الدين الخطيب، العواصم والقواصم (ص: 82) حاشية (80)

      تعليق


      • #4
        المبحث الثاني:ما روي في ذلك ولم يصح إسناده:
        أما المعايب التي رويت بأسانيد ضعيفة تفيد أن الخارجين على عثمان رضي الله عنه سوغوا خروجهم بها عليه، فمنها:
        أولاً: إتمام الصلاة في منى.كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الرباعية في الحج في منى ركعتين، وتبعه على ذلك الخليفتان أبوبكر وعمر رضي الله عنهما أما عثمان ففعل ذلك في السنوات الست الأولى من خلافته، ثم اجتهد بعدها فأتهما أربعاً.
        وخالفه في ذلك عدد من الصحابة رضي الله عنهم منهم ابن عمر الذي أوضح أن السنة القصر، كما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأبوبكر وعثمان صدراً من إمارته1.
        ورُوي أن الناس أنكروا على عثمان ذلك، فبيّن لهم سبب إتمامه2وحجته في ذلك3 وتذكر الروايات عدة اعتذارات منها:
        الأول: أنه اعتذر لذلك بأنه تأهل بمكة منذ أن قدم إليها، وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من تأهل ببلد، فليصل صلاة المقيم" ، فاعتبر نفسه متخذاً لمكة وطناً، فأخذ لنفسه حكم المقيم(4)
        وقد ورد لهذا الاعتذار عدة طرق عن عثمان رضي الله عنه يقوي بعضها بعضاً، إلا أن المتن فيه نكارة؛ فإنَّ عثمان رضي الله عنه مهاجريٌّ، والإقامة في مكة عليه حرام(5 )
        وهو -بلا شك- يعلم ذلك، فلما قال له المغيرة بن شعبة -أثناء الحصار-: "اركب رواحلك إلى مكة قال: لن أفارق دار هجرتي"( 6 ).
        الثاني: أنه اعتذر بأنه اتخذ الأموال بالطائف، وأراد أن يقيم بها( 7 ) وهذا ضعيف الإسناد، ويرد متنه بما رُد به القول الأول.
        كما أن أهل الطائف لا يُعتبرون من أهل مكة، فاتخاذ الأموال في الطائف لا يجعل صاحبه من أهل مكة، فلا يتوقع أن يعتذر عثمان بهذا العذر.
        الثالث: أنه اعتذر بأنه سمع بأن الأعراب الذين حجوا معه العام الماضي قصروا الصلاة في أوطانهم، واحتجوا بمنى فأتم ليعلمهم أن الصلاة أربع، وذلك خوفاً من أن يستنوا به، وخطب الناس، وأعلمهم بأن السنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة صاحبيه، ولكنه حدث من الناس فخاف أن يستنوا( 8 )
        وذكر الحافظ ابن حجر: أن الزهري قال: "إنما صلى عثمان بمنى أربعاً؛ لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام، فأحب أن يعلمهم أن الصلاة أربع"( 9 )
        وعن ابن جريج أن أعرابياً ناداه في منى: يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين.
        واختار ذلك الحافظ ابن حجر، ثم قال بعد أن ذكر بعض هذه الطرق: "وهذه طرق يقوي بعضها بعضاً، ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام"( 10 )
        الرابع: قيل إن سبب إتمامه: أنه كان يرى القصر مختصاً بمن كان شاخصاً سائراً، وأما من كان أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم.
        واختاره الحافظ ابن حجر، واستدل له بما رواه عباد بن عبد الله بن الزبير قال: "لما قدم علينا معاوية حاجاً، صلى بنا الظهر ركعتين بمكة، ثم انصرف إلى دار الندوة، فدخل عليه مروان، وعمرو بن عثمان، فقالا: لقد عبت أمر ابن عمك، لأنه كان قد أتم الصلاة، قال: وكان عثمان رضي الله عنه حيث أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر، والعصر، والعشاء أربعاً أربعاً، ثم إذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج، وأقام بمنى أتم الصلاة"(11 )
        ولم ير الحافظ أن اختياره لهذا القول معارض لاختياره للقول الثالث، بل يقويه من حيث إنّ حالة الإقامة في أثناء السفر أقرب إلى قياس الإقامة المطلقة عليها بخلاف السائر، ثم قال: وهذا ما أدى إليه اجتهاد عثمان رضي الله عنه( 12).
        الخامس: قال ابن بطال: "الوجه الصحيح في ذلك أن عثمان وعائشة رضي الله عنهما كانا يريان أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر؛ لأنه أخذ بالأيسر من ذلك على أمته، فأخذا لأنفسهما بالشدة".
        قال الحافظ: "وهذا رجحه جماعة من آخرهم القرطبي، لكن الوجه الذي قبله( 13 )أولى لتصريح الراوي بالسبب".
        والذي يظهر لي -والله أعلم- أن اختيار الحافظ ابن حجر اختيار قوي تدل عليه الروايات المقبولة.
        وهو: أن عثمان رضي الله عنه أتم ليعلم الأعراب أن الصلاة الرباعية أربعاً، وفعل ذلك في منى؛ لأنه مقيم فيها نوع إقامة، وغير جاد في السير، وبذلك يتوفق بين القولين الثالث والرابع.
        وقال الحافظ معلقاً على قول ابن مسعود: "فليت حظي من أربع ركعتان": قال الداودي: خشي ابن مسعود أن لا تجزئ الأربع فاعلها، وتبع عثمان كراهة لخلافه، وأخبر بما يعتقده.
        وقال غيره: يريد أنه لو صلى أربعاً تكلفها، فليتها تقبل الركعتان.
        والذي يظهر أنه قال ذلك على سبيل التفويض إلى الله، لعدم اطلاعه على الغيب، وهل يقبل الله صلاته أو لا؟ فتمنى أن يقبل منه الأربع التي يصليها ركعتين ولم يقبل الزائد.
        وهو يشعر بأن المسافر عنده مخير بين القصر والإتمام، والركعتان لا بد منهما، ومع ذلك فكان يخاف أن لا يقبل منه شيء.
        فحاصله: أنه قال: إنما أتم متابعة لعثمان، وليت قُبل مني ركعتين من الأربع( 14 )
        إذاً: فعثمان رضي الله عنه مجتهد، ومعه حجة، وهو فقيه من كبار فقهاء الصحابة خاصة في علم المناسك، حتى قال محمد بن سيرين: "كان أعلمهم بالمناسك ابن عفان، وبعده ابن عمر"( 15)
        وعلى فرض احتمال أن اجتهاده بغير حجة، فإن ذلك لا يسوغ الخروج عليه، فضلاً عن قتله.

        __________
        1 رواه البخاري في صحيحه، فتح الباري (2/ 563، 3/ 509)، ومسلم في صحيحه أيضاً (ص: 482)، ومالك في الموطأ (ص: 149، 402)، والدارمي في السنن (2/ 56)، وانظر الملحق الروايات رقم: [24] [27] [28] [36] [63].
        2 رواه أحمد، المسند، بتحقيق أحمد شاكر (1/ 351)، ومن طريقه ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (249- 250، وفيه عكرمة بن إبراهيم الباهلي، وهو ضعيف، وعبد الرحمن بن أبي ذباب، لم يوثقه غير ابن حبان، انظر الملحق الرواية رقم: [155].
        3 ابن حجر، فتح الباري (2/ 571).
        4- روى ذلك أحمد، المسند بتحقيق أحمد شاكر (1/ 351)، ومن طريقه ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (249- 250)، من رواية عبد الرحمن بن أبي ذباب، وإسناده ضعيف. انظر الملحق الرواية رقم: [155].
        وأبو داود (السنن 2/ 199)، من رواية إبراهيم النخعي، وإسناده ضعيف، انظر الملحق الرواية رقم: [240].
        وأبو داود (السنن 2/ 199) بإسناد صحيح إلى الزهري، والإسناد منقطع بينه وبين عثمان، فإن الزهري لم يدرك عثمان رضي الله عنه. انظر الملحق الرواية رقم: [192].
        وذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2/ 175)، وعزاه إلى عبد الرزاق وقال عنه: مرسل. وبمجموع هذه الروايات يرتقي إلى درجة "الحسن".
        5- فتح الباري (2/ 571).
        6- أحمد، المسند بتحقيق أحمد شاكر (1/ 369)، ومن طريقه ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (387- 388، وفيه انقطاع، انظر الملحق الرواية رقم: [170]، وذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري وصدره بقوله: "ثبت" (فتح الباري (2/571).
        7- ذكره الحافظ ابن حجر (فتح الباري 2/ 571) وعزاه إلى البيهقي.
        8- رواه أبو داود، (السنن 2/ 199 بإسناد صحيح إلى الزهري، انظر الملحق الرواية رقم: [193].
        9- ذكره الحافظ ابن حجر (فتح الباري (2/ 571)، وعزاه إلى البيهقي.
        10- ابن حجر (فتح الباري 2/ 571).
        11- رواه أحمد، المسند (4/94 بإسناد حسنه الحافظ ابن حجر(فتح الباري 2/ 571)
        12- ابن حجر (فتح الباري 2/ 571)
        13- أي: القول الرابع.
        14- ابن حجر (فتح الباري 2/ 572)
        15- رواه ابن سعد (الطبقات 3/ 60) بإسناد صحيح، انظر الملحق الرواية رقم: [89].
        ************************************************** **

        ثانيا ً: ضرب عمار بن ياسررضي الله عنه:ومنها اتهامهم له بضرب عمار بن ياسر، فلم أقف على رواية صحيحة الإسناد تدل على أن عثمان ضرب عماراً، ولا أنهم سوغوا خروجهم عليه بذلك.

        ورُوي بإسناد ضعيف أن سعداً، وعماراً رضي الله عنهما أرسلا إلى عثمان رضي الله عنه أن ائتنا، فإنا نريد أن نذكر لك أشياء أحدثتها، أو أشياء فعلتها، فاعتذر عثمان رضي الله عنه، عن المجيء لشغل كان مشغولاً به، وأمرهما بالانصراف، وعقد لهما موعداً، ليستعد فيه لخصومتهما، فانصرف سعدٌ، وأبى عمار أن ينصرف، فتناوله رسول عثمان رضي الله عنه وضربه.
        فلما اجتمعوا مع عثمان رضي الله عنه قالوا له: ننقم عليك ضربك
        عماراً، فأخبرهم بالقصة وأنه لم يأمر بضربه، ولكن رسوله تناوله من غير أمره، ثم أقسم لهم أنه ما أمر، ولا رضي، وقال: فهذه يدي لعمار فليقتص1.
        هذا ما ورد في ضرب عمار، وهو ضعيف الإسناد، وعلى فرض صحته، وأن عثمان رضي الله عنه ضرب عماراً رضي الله عنه فإن ذلك لا يقدح في أحد منهما، ونشهد أنهما في الجنة، وأنهما من أكابر أولياء الله المتقين، وولي الله قد يصدر منه ما يستحق عليه العقوبة الشرعية فكيف بالتعزير.
        وقد ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب بالدرَّة، لمّا رأى الناس يمشون خلفه، فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين؟! قال: هذا ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع2.
        فإذا كان عثمان رضي الله عنه أدب عماراً رضي الله عنه فإما أن يكون مصيباً في تعزيره، لاستحقاق عمار ذلك، وإما أن يكون ذلك الذي عزره عليه تاب منه، أو كفّر عنه بالتعزير وغيره من المصائب، أو بحسناته العظيمة، أو بغير ذلك.
        أما أن يقال: كان مظلوماً مطلقاً، فالقول في عثمان رضي الله عنه كالقول فيه وزيادة، فإنه أفضل منه، وأحق بالمغفرة والرحمة.
        وقد يكون الإمام مجتهداً في العقوبة مثاباً عليها، وعمار مجتهد فيما فعله لا يأثم به، بل يثاب عليه لاجتهاده( 3 )
        وبذلك تبين أنه لم يصح أن عثمان ضرب عماراً، ولا أن الخارجين سوغوا الخروج عليه بذلك، وغاية ما في ذلك أنه رُوي بسند ضعيف أن رسول عثمان ضرب عماراً دون علمه، وأنه أخبر بأنه لم يأمر رسوله بذلك، ولم يرض عن فعله هذا، وطلب من عمار أن يقتص منه تنازلاً منه، ليكف الخلاف.
        فإذاً لا حجة في ضرب عمار على عثمان رضي الله عنهما ولو قدر أنه ضرب عماراً يعزره بذلك، فتقدم أن ذلك له، ولا يقدح فيه، ولا في عمار رضي الله عنهما.
        ولو فرض أنه ضربه دون اجتهاد منه، فأسباب المغفرة كثيرة، وعثمان من الصحابة رضي الله عنهم الذين هم أولى الناس بها( 4 ).
        وذلك لا يسوغ الطعن فيه، ولا الخروج عليه فضلاً عن قتله.
        وأما ما قيل: من أنه اجتمع خمسون من المهاجرين والأنصار؛ فكتبوا أحداث عثمان رضي الله عنه وما نقموا عليه في كتاب، وقالوا لعمار: أوصل هذا الكتاب إلى عثمان رضي الله عنه، ليقرأه فلعله يرجع عن هذا الذي ينكر، وخوفوه فيه بأنه إن لم يرجع خلعوه واستبدلوا غيره.
        وأن عثمان رضي الله عنه طرح الكتاب بعدما قرأه، فقال له عمار: لا ترم بالكتاب، وانظر فيه، فإنه كتاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا - والله - لك ناصح، وخائف عليك، فقال: كذبت يا ابن سمية، وأنه أمر غلمانه فضربوه حتى وقع لجنبه وأغمي عليه، وقام عثمان رضي الله عنه فوطئ بطنه، ومذاكيره حتى أصابه الفتق، وأغمي عليه أربع صلوات ثم قضاها بعد الإفاقة، واتخذ لنفسه تباناً تحت ثيابه، وأنه أول من لبس التبان لأجل الفتق، وأن بني مخزوم غضبوا له، وقالوا: والله لئن مات عمار من هذا لنقتلن من بني أمية شيخاً عظيماً -يعنون عثمان رضي الله عنه- وأن عماراً لزم بيته إلى أن كان من أمر الفتنة ما كان( 5 )
        فإن كل ذلك لم أقف على إسناد له، لتنكشف به درجة صحته، والذي ذكر هذه التفاصيل هو المحب الطبري المتوفى سنة 694?، ولم يسندها ولم يعزها إلى أحد، بل طعن في صحتها، وقال: "سياق هذه القصة لا يصح".
        ثم ذكر بعض مضمون الرواية الضعيفة السابقة الذكر، التي فيها أن عثمان رضي الله عنه عرض على عمار رضي الله عنه؛ أن يقتص منه، ثم قال: "وهذا من أبلغ ما يكون في الإنصاف، وأنه روي أن عماراً رضي عن عثمان لما أنصفه بحسن الاعتذار"، ثم قال: "فما بال أهل البدعة لا يرضون، وما مثله فيه إلا كما يقال: رضي الخصمان، ولم يرض القاضي".
        واستدل على رضاء عمار عن عثمان رضي الله عنهما بما رواه أبو هريرة أن عثمان رضي الله عنهما لما حصر ومنع الماء قال لهم عمار رضي الله عنه: سبحان الله! قد اشترى بئر رومة وتمنعونه ماءها! خلُّوا سبيل الماء، ثم جاء إلى علي، وسأله إنفاذ الماء إليه، فأمر براوية ماء( 6 )
        وذكر ابن العربي: أنه مما نقم على عثمان رضي الله عنه ضربه عماراً رضي الله عنه حتى فتق أمعاءه( 7 ) ثم قال: "إن ذلك زور( 8 ) وإفك". ولو فتق أمعاءه ما عاش أبداً، إن العلماء اعتذروا عن ذلك بوجوه لا ينبغي أن يشتغل بها: لأنها مبنية على باطل، ولا يبنى حق على باطل، وعلى الإنسان أن لا يذهب الزمان في مُماشاة الجهال؛ لأن ذلك لا آخر له( 9 )
        وصدق والله فإن ضرب عمار رضي الله عنه لا أصل له، ولكن لما كان هناك مروجون للباطل على عامة الناس، وسذاجهم الذين لا يميزون الصحيح من السقيم، وجب على أهل الحق والعلم كشف هذا الباطل، ليزداد الناس مناعة من أن يقبلوا باطلهم، ولينكشف أمرهم وينجلي، ويتضح بطلان معتقدهم لدى الناس؛ عالمهم وجاهلهم.
        وروى الطبري(10 )بإسناد ضعيف أن سائلاً سأل سعيد بن المسيب عن السبب الذي دعا عمار بن ياسر إلى الخروج على عثمان فقال: كان بينه وبين عباس بن عتبة بن أبي لهب كلام، فضربهما عثمان رضي الله عنه فأورث ذاك بين آل عمار وآل عتبة شراً حتى اليوم، وكنى عما ضُربا عليه وفيه.
        وهذه الرواية كما أسلفت ضعيفة الإسناد غير صالحة للاحتجاج، فلا تدل على خروج عمار على عثمان رضي الله عنهما ولا على ضرب عثمان عماراً، ولا على سبب هذا الضرب.

        __________
        1 رواه ابن أبي شيبة، المصنف (15/ 220- 222)، وفيه حصين بن عبد الرحمن، اختلط، والراوي عنه حصين بن نمير، روى عنه بعد اختلاطه، كما أن فيه نصباً، وفيه أيضاً جهيم الفهري، لم يوثقه غير ابن حبان، انظر الملحق الرواية رقم: [218].
        2 الدارمي (السنن 1/ 132- 133، وفي إسناده سليم بن حنظلة لم أجد له ترجمة، وفيه هارون بن عنترة، قال عنه الحافظ في التقريب: "لا بأس به" وذكر المزي في تهذيب الكمال (3/ 1430خ) أنه يروي عن سليم بن حنظلة البكري، ولم أجد له ترجمة أيضاً.
        3- ابن تيمية، منهاج السنة النبوية (6/ 255- 256).
        4- انظر بعضاً من أسباب المغفرة هذه في منهاج السنة النبوية لابن تيمية (6/205-23.
        5- المحب الطبري، الرياض النضرة (3/ 85).
        6- المحب الطبري، الرياض النضرة (3/ 85)، وحديث أبي هريرة هذا لم يسنده، ولم أقف عليه عند غيره.
        7- العواصم من القواصم (76).
        8- المصدر السابق (77).
        9- المصدر السابق (78- 79).
        10- تاريخ الأمم والملوك (4/ 399، وفيه شعيب بن إبراهيم، الذي يروي ما فيه تحامل على السلف، وسيف بن عمر التميمي الذي ضعفه الأئمة. انظر الملحق الرواية رقم: [303].

        تعليق


        • #5
          المبحث الثالث:ما اشتهر من ذلك وليس له إسناد.
          تنفرد بعض الكتب التي لا تستند رواياتها بعدة معايب سوغ بها الخارجون على عثمان رضي الله عنه الخروج عليه، وعدم وجود أسانيد لها يشكك في صحة صدورها من الخارجين عليه، ولعلها صدرت من أعداء عثمان رضي الله عنه المتأخرين من الرافضة، وغيرهم؛ ومن هذه المعايب:
          أولاً: عدم إقامة الحد على عبيد الله بن عمر.
          أقدم من ذكر أن ذلك مما عيب على عثمان رضي الله عنه هو المحب الطبري (1 )ولم يسنده، والمحب الطبري متأخر توفي سنة 694?.
          ثم تلاه ابن المطهر الحلي الرافضي؛ المتوفي سنة 726?. فقد قال في كتابه "منهاج الاستقامة في إثبات الإمامة" عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: "إنه ضيع حدود الله، فلم يقتل عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان مولى أمير المؤمنين بعد إسلامه..."(2 )
          وقبل طرح مناقشة المحب وابن تيمية لهذه المعيبة الملصقة بعثمان رضي الله عنه أود أن أنبه إلى أن ما نقلته عن المحب لا يثبت أن الخارجين قد عابوا على عثمان رضي الله عنه ذلك، وأنهم سوغوا خروجهم به، وقصارى ما يثبت من كلام المحب، أن هذا وقع فعلاً، دون الجزم بأصحابه ولا بعصرهم، فيحتمل أن يكون قد وقع من الرافضة بعد الفتنة بمئات السنين.
          وعدم إقامة حد القتل على عبيد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يعد عيباً في عثمان رضي الله عنه فإن ابنة أبي لؤلؤة؛ ابنة لمجوسي تابعة له، لا قود فيها، ومثلها جفينة، فإنه نصراني من أهل الحيرة، وقد اتهم بالمشاركة في قتل عمر رضي الله عنه لما كان بينه وبين أبي لؤلؤة من مجانسة، وقد ذُكر لعبيد الله بن عمر: أنه رؤي عند الهرمزان حين قتل عمر، فاتهم بمشاركة أبي لؤلؤة وممالأته والمُعين على قتل الإمام العادل يرى جماعة من الأئمة قتله، بل أوجب كثير من الفقهاء القود على الآمر والمأمور.
          واعتذر عبيد الله بن عمر بذلك وقال: "إن عبد الرحمن بن أبي بكر أخبره، أنه رأى أبا لؤلؤة، والهرم-زان، وجفينة يدخلون في مكان يتشاورون، وبينهم خنجر له رأسان مقبضه في وسطه، وقُتل عمر صبيحة تلك الليلة، فاستدعى عثمان رضي الله عنه عبد الرحمن فسأله عن ذلك، فقال: انظرو إلى السكين، فإن كانت ذات طرفين فلا أرى القوم إلا وقد اجتمعوا على قتله، فنظروا إليها فوجدوها كما وصف عبد الرحمن، فلذلك ترك عثمان رضي الله عنه قتل عبيد الله بن عمر، لرؤيته عدم
          وجوب القود لذلك، أو لتردده فيه لم ير الوجوب بالشك(3 )
          ولو ثبت ذلك عند عثمان رضي الله عنه وانتفى الشك، فلترك قتله عذر، وذلك خوفاً من أن يثير قتله فتنة عظيمة، فقد كان فريق من الصحابة رضي الله عنهم لا يرون قتله، حتى قال له عمرو بن العاص رضي الله عنه: قتل أمير المؤمنين بالأمس، ويقتل ابنه اليوم؟! لا والله لا يكون هذا أبداً، فقال عثمان رضي الله عنه: أمره إليّ وسأرضي أهل الهرمزان عنه(4 )فسكَّن بذلك الفتنة التي كادت أن تقع( 5 )
          ولم يكن للهرمزان أولياء، وإنما وليه ولي الأمر، وقدر عثمان أن يعطى قدر الدية لآل عمر، لما كان على عمر من الدين، فإنه كان عليه ثمانون ألفاً، وأمر أهله أن يقضوا دينه من أموال عصبته؛ عاقلته بني عدي وقريش، فإن عاقلة الرجل هم الذين يحملون الدين كله، والدية لو طلب بها عبيد الله، أو عصبة عبيد الله إذا كان قتله خطأ، أو عفا عنه إلى الدية، فهم الذين يؤدون دين عمر، فإذا أعان بها في دين عمر كان هذا من محاسن عثمان التي يمدح بها.
          قد كانت أموال بيت المال في زمن عثمان كثيرة، وكان يعطي

          الناس عطاءً كثيراً أضعاف هذا، فكيف لا يعطي هذا لآل عمر(6 )
          وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر، كان من المفسدين في الأرض المحاربين، فيجب قتله لذلك، ولو قدر أنه معصوم الدم يحرم قتله، فإن عبيد الله بن عمر متأول يعتقد حل قتله وشبهته ظاهرة، فإن ذلك شبهة تدرأ عنه حد القتل، كما أن أسامة بن زيد لما قتل ذلك الرجل بعد أن قال: لا إله إلا الله، لاعتقاده أن هذا القول لا يعصمه، عزره النبي صلى الله عليه وسلم بالكلام ولم يقتله؛ لأنه كان متأولاً.
          فهذه الشبهة يجوز للمجتهد جعلها مانعة من وجوب القصاص، فإن مسائل القصاص، فيها مسائل كثيرة اجتهادية(7 )وإذا ثبتت إعانته على قتل عمر وجب قتله على الأئمة وإليهم قتله.
          وعبيد الله بن عمر افتأت(8 )بقتله، وقتله كان إلى الخليفة، وليس إلى أبناء عمر رضي الله عنه، ولكن للإمام أن يعفو عمن افتأت عليه، وقد عفا عثمان رضي الله عنه عن افتآت عبيدالله بن عمر عليه(9 )
          والهرمزان معصوم الدم قبل اشتراكه في مؤامرة قتل عمر رضي الله عنه لأنه كان من الفرس الذين استنابهم كسرى على قتال المسلمين، فأسره المسلمون وقدِموا به على عمر، فأظهر إسلامه، فمنَّ عليه عمر رضي الله عنه فأعتقه، فأصبح مولى للمسلمين.
          ولما قال عمر لعبد الله بن عباس رضي الله عنهم: " قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة لعبد الله، قال: إن شئت أن نقتلهم"، فهذا ابن عباس وهو أفقه من عبيد الله بن عمر وأدين وأفضل بكثير يستأذن عمر رضي الله عنهم في قتل علوج الفرس مطلقاً الذين كانوا بالمدينة، لما اتهموهم بالفساد، واعتقد جواز مثل هذا، فكيف لا يعتقد عبيد الله جواز قتل الهرمزان الذي تلبس بتهمة المشاركة في التخطيط لقتل الخليفة.
          ولعل سبب رفض بعض الصحابة رضي الله عنهم قتل عبيد الله، أن تكون وقعت لهم شبهة في عصمة الهرمزان، وهل كان من الصائلين الذين كانوا يستحقون الدفع؟ أو من المشاركين في قتل عمر الذين يستحقون القتل؟.
          وقد تنازع الفقهاء في المشتركين في القتل إذا باشر بعضهم دون بعض، فقيل: لا يجب القود إلاَّ على المباشر خاصة، وهو قول أبي حنيفة، وقيل: إذا كان السبب قوياً وجب على المباشر والمتسبب: كالمُكْرِهِ والمُكْرَهِ وكالشهود بالزنا والقصاص إذا رجعوا، وقالوا: تعمدنا وهذا مذهب الجمهور كمالك والشافعي وأحمد.
          قال شيخ الإسلام: "وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر جاز قتله في أحد القولين قصاصاً، وعمر هو القائل في المقتول: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأقدتهم به"( 10 )
          كما أنه تنازع الناس في قتل قاتل الأئمة، هل يكون حداً أو قصاصاً؟ فقال قوم: إنه يقتل حداً كما يقتل القاتل في المحاربة حداً، لأن قتل الأئمة فيه فساد عام، أعظم من فساد قطاع الطريق، فكان قاتلهم محارباً لله ورسوله، ساعياً في الأرض فساداً.
          كما أن الهرمزان لم يكن له أولياء يطلبون دمه، وإنما وليه وليُّ الأمر، فله أن يقتل قاتله، وله أن يعفو عنه إلى الدية لئلا تضيع حقوق المسلمين، وقد عفا عثمان رضي الله عنه عن قاتله ورأى قدر الدية أن يعطيها لآل عمر، لما كان على عمر من الدين، معونة منه لأهله، فهذه من محاسن عثمان رضي الله عنه التي يمدح بها ولا يذم –كما تقدم-.
          فإن الدية للمسلمين، وللحاكم أن يصرفها في مصارف الأموال، وتركها لآل عمر وهو بعض ما يستحقونه على المسلمين.
          وبكل حال فكانت مسألة اجتهادية، فلا ينكر على عثمان رضي الله عنه ما فعله باجتهاده(11 ).
          وأما خوف عبيد الله من علي رضي الله عنهما أن يقتله بعد قتل عثمان رضي الله عنه فليس بصحيح، فلم يرد فيه إسناد صحيح فيما اطلعت عليه من مصادر، ولا يتوقع ذلك من علي رضي الله عنه، لأنه قد حُكِمَ الحكم في هذه المسألة بعصمة الدم، فلا يتوقع من علي رضي الله عنه استحلال نقضه، كما أن علياً رضي الله عنه ليس ولياً للمقتول، ولم يطلب ولي المقتول القود لأنه لا ولي له، فليس بعد عفو عثمان رضي الله عنه وحكمه بحقن دمه يباح قتله، ولم يعلم ابن تيمية في ذلك نزاعاً بين المسلمين.
          وهل يباح دم الخليفة الثالث المبشَّر بالجنة، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يُقم الحد على رجل قتل رجلاً مشكوكاً في دينه متهماً بالنفاق، والمحاربة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والسعي في الأرض بالفساد.
          ومعلوم أن عثمان رضي الله عنه كان من أكف الناس عن الدماء، ومن أصبرهم على ما يُنال من عرضه وعلى من سعى في دمه -كما سيأتي- وقد رفض قتال الخارجين عليه مع علمه بأنهم يريدون قتله، وأنه على الحق، وأنهم على الباطل، ورفض عروض المناصرين له، كل ذلك خشية أن يكون أول من خلف محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته بالسيف وسفك الدماء.
          وبذلك يتبين بطلان اتهام عثمان رضي الله عنه بأنه كان يستحل إراقة دماء المسلمين بتعطيل حدود الله، كما زعم من قال ذلك(12 )
          ___________________________________
          1 الرياض النضرة (3/ 87، 100).
          2 ابن تيمية، منهاج السنة (6/ 276).
          3- ابن تيمية، منهاج السنة النبوية (6/ 280).
          4- سيأتي بأنه لم يكن للهرمزان أولياء يطلبون دمه.
          5- المحب الطبري، الرياض النضرة (3/ 87، 100).
          6- ابن تيمية، منهاج السنة النبوية (6/ 281).
          7- المصدر السابق (6/ 280).
          8- افتأت: أي اختلق (ابن منظور، لسان العرب 2/ 64).
          9- ابن تيمية، منهاج السنة النبوية (6/ 284).
          10- المصدر السابق (6/ 280).
          11- المصدر السابق (6/ 277- 282).
          12- المصدر السابق (6/ 284).

          *************************************************
          ثانياً: ضياع الخاتم.
          لقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب -أو فضة- وجعل فصه مما يلي كفه، ونقش فيه: محمد رسول الله، فاتخذ الناس مثله، فلما رآهم قد اتخذوها ألقاه، وقال: لا ألبسه أبداً، ثم اتخذ خاتماً من فضة فاتخذ الناس خواتيم الفضة.
          وتوارث لبس هذا الخاتم الخلفاء من بعده؛ أبوبكر، ثم عمر، ثم عثمان، رضي الله عنهم حتى وقع منه في بئر أريس( 13 )
          ويبين لنا أنس رضي الله عنه قصة ضياعه والبحث عنه، فيقول: إن عثمان رضي الله عنه جلس على بئر أريس، فأخرج الخاتم فجعل يعبث به، فسقط، فاختلفنا( 14 )ثلاثة أيام مع عثمان رضي الله عنه ننزح البئر، فلم نجده(15 )
          وفي رواية لمسلم(16 ) إن الذي أسقطه هو: معيقيب( 17 )
          وتبين لنا رواية ابن سعد والنسائي، تأريخ وقوع الخاتم، وأنه كان
          في يد عثمان رضي الله عنه ست سنين، أي إنه وقع بعد تولي عثمان رضي الله عنه الخلافة بست سنين.
          قال الحافظ ابن حجر: "قال بعض العلماء: كان في خاتمه صلى الله عليه وسلم من السر شيء مما كان في خاتم سليمان عليه السلام، لأن سليمان لما فقد خاتمه ذهب ملكه، وعثمان لما فقد خاتم النبي صلى الله عليه وسلم انتقض عليه الأمر، وخرج عليه الخارجون، وكان ذلك مبدأ الفتنة التي أفضت إلى قتله، واتصلت إلى آخر الزمان"(18 ).
          وكل ذلك يحتاج إلى دليل صحيح، وإلا فلا عبرة فيه ولا فائدة، لأن خلافة النبي صلى الله عليه وسلم لم تضع بقتل عثمان رضي الله عنه بل جاء بعده خلفاء أجلاء في مقدمتهم علي ثم معاوية رضي الله عنهما.
          ولم أقف على رواية مسندة تبين أن الخارجين على عثمان رضي الله عنه عابوه بذلك، وسوغوا خروجهم عليه به.
          وليس في ضياع خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب الخروج على الإمام، فضلاً عن قتله، هذا إن صحّ أنهم سوغوا خروجهم عليه بضياع الخاتم، وإلا فكما تقدم لم أقف على ما يدلّ على ذلك.

          __________
          13- مسلم، الجامع الصحيح (3/ 1656)؛ والأريس : بفتح الهمزة، وتخفيف الراء، هي بئر معروفة قريباً من مسجد قباء في المدينة (ابن منظور، لسان العرب 6/ 6).
          14- أي: في الذهاب والرجوع والنزول إلى البئر والطلوع منها، وفي رواية ابن سعد "فطلبناه مع عثمان ثلاثة أيام، فلم نقدر عليه" (ابن حجر، فتح الباري 10/ 329).
          15- البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري (10/ 32.
          16 الجامع الصحيح (3/ 1656).
          17- معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي، حليف بني عبد شمس، من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين، وشهد المشاهد، وولي بيت المال لعمر، ومات في خلافة عثمان أو علي رضي الله عنهم (التقريب/6825)، وكان على خاتم عثمان رضي الله عنه (ابن حجر، الإصابة 3/ 451).
          18 الحافظ ابن حجر، فتح الباري (10/ 32.

          تعليق


          • #6
            ثالثاً: رده للحَكَم وابنه مروان إلى المدينة.
            فلم يثبت أن الخارجين على عثمان رضي الله عنه سوغوا خروجهم عليه بذلك، إنما ورد في بعض الكتب المتأخرة، فقد ذكره الرافضي المغالط، ابن المطهّر الحلي المتوفي سنة 726?.
            فقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية عنه أنه قال: "وطرد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الحَكَمَ بن أبي العاص؛ عم عثمان رضي الله عنه من المدينة، ومعه ابنه مروان، فلم يزل هو وابنه طريدين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما ولي عثمان رضي الله عنه آواه ورده إلى المدينة، وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره، مع أن الله قال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1 ).
            ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية من وجوه متعددة، أُجملها فيما يلي:
            أ - أن كثيراً من أهل العلم طعن في صحة نفي النبي صلى الله عليه وسلم للحَكَم وقالوا: ذهب باختياره وليس لقصة نفيه سندٌ يعرف.
            ب - أنه إن كان قد طرد النبي صلى الله عليه وسلم الحكم فلا يكون ذلك من المدينة، كما قال الرافضي، بل يكون من مكة؛ لأن الطلقاء لم تسكن بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة، وليس أحد من الطلقاء الذين منهم الحكم هاجر إلى المدينة.
            ج - أن مروان كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم طفلاً صغيراً في أول سن التمييز، إما سبع سنين أو أكثر بقليل، أو أقل بقليل، فلم يكن له ذنب يطرد بسببه.
            د - أنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم عزر رجلاً بالنفي، لم يلزم أن يبقى منفياً طول الزمان، فإن هذا لا يُعرف في شيء من الذنوب، ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه منفياً دائماً، بل غاية النفي المقدر سنة، وهو نفي الزاني والمخنَّث حتى يتوب من التخنيث، فإذا كان تعزير الحاكم لذنب حتى يتوب، فإذا تاب سقطت العقوبة عنه، وإن كانت على ذنب ماض فهو أمر اجتهادي لم يقدَّر فيه قدر، ولم يوقَّت فيه وقت.
            وإذا كان كذلك، فالنفي كان في آخر الهجرة، فلم تطل مدته في زمن أبي بكر وعمر، فلمّا كان عثمان طالت مدته، وقد كان عثمان شَفَعَ في عبد الله بن أبي سرح إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما أهدر دمه لردته، فقبل شَفَاعة عثمان فيه، وبايعه، فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم.
            بل قد رووا أن عثمان سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يرده فأذن له في ذلك، وذَنْبُه دون عبد الله بن سعيد بن أبي سرح، وقصة عبد الله ثابتة معروفة بالإسناد الثابت، وأما قصة الحكم فعامة من ذكرها، إنما ذكرها مرسلة، وقد ذكرها المؤرخون، الذين يكثر الكذب فيما يروونه، وقل أن يسلم لهم نقلهم من الزيادة والنقصان، فلم يكن هنا نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان...."(2 )
            فيظهر مما تقدم أن عيب عثمان رضي الله عنه بذلك إنما ورد متأخراً، ولم يثبت أنه صدر من الخارجين عليه، بل صدر من أعدائه بعد استشهاده.
            وتقدم رد ابن تيمية المفصل في ذلك، الذي لا يبقي أدنى شبهة في قلب كل متجرد مريد للحق.


            رابعاً: نفي أبي ذر رضي الله عنه.

            ومن هذه الأمور التي لم أقف على إسناد لها مما اشتهر أن الخارجين سوغوا خروجهم بها على عثمان رضي الله عنه ما زعموه من نفيه أبا ذر رضي الله عنه من المدينة إلى الربذة.
            وذلك أن أبا ذر رضي الله عنه خرج من المدينة إلى الشام، عملاً بوصية من النبي صلى الله عليه وسلم له بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعاً، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم له: "إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج منها" (3 ) أي: من المدينة.
            وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم حدد له الوجهة التي يخرج إليها بأن أشار بيده إلى الشام(4 )
            وهذه الرواية صحيحة الإسناد إلى محمد بن سيرين، ولكنه لم يلق أبا ذر فقد ولد في السنة الثالثة والثلاثين من الهجرة تقريباً(5 )وهي السنة التي توفي فيها أبوذر رضي الله عنه(6 ).
            ومع ذلك فإن هذه الرواية هي أقوى ما في الباب مع ما فيها من ضعف، فإنها تنفرد بتفسير سبب خروج أبي ذر رضي الله عنه من المدينة إلى الشام، وفي الشام انفرد أبو ذر برأي في المال عن باقي الصحابة رضي الله عنهم فإنه كان يرى أنه لا يجوز للمسلم أن يدخر شيئاً من المال.
            يقول ابن عبد البر: "وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يَفْضُل عن القوت وسداد العيش فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك"(7 )
            وآية الوعيد هي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} سورة التوبة، الآية (34).
            وخالفه في ذلك الصحابة كلهم رضي الله عنهم يقول ابن عبد البر: "وخالفه جمهور الصحابة، ومن بعدهم، وحملوا الوعيد على مانعي
            __________

            الزكاة، وأصح ما تمسكوا به؛ حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي، حيث قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع"(8 ).
            ويرى بعض العلماء أن ما استدل به أبو ذر رضي الله عنه على أنه كان في أول الأمر، واستدلوا بقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} ( 9 ).
            فقد ذكر الحافظ ابن حجر: أن وجوب إنفاق ما فَضُلَ على الكفاية كان في أول الأمر ثم نسخ، ونقل عن ابن عبد البر أن الجمهور على أن الكن-ز المذموم ما لم تؤد زكاته، ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعاً: "إذا أديت زكاة مالك فقد أديت ما عليك"، فذكر بعض ما تقدم من الطرق، ثم قال: ولم يخالف في ذلك إلا طائفة من أهل الزهد كأبي ذر..."( 10 )
            ويظهر أن أبا ذر رضي الله عنه لم يعلم بالناسخ، وفي ذلك يقول أوس رضي الله عنه: "كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الشدّة ثم يخرج إلى قومه، ثم يُرخِّص فيه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمع الرخصة، ويتعلق بالأمر الأول"(11 ).
            وفي ذلك بيان لشدة حرصه رضي الله عنه ومسارعته بتبليغ الحديث إلى الناس، ولعل أوساً يشير إلى قوله في هذه المسألة، والله أعلم.
            وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمس أواقي صدقة(12 )
            قال الحافظ: "ومفهوم الحديث أن ما زاد على الخمس ففيه صدقة، ومقتضاه أن كل مال أخرجت منه الصدقة، فلا وعيد على صاحبه، فلا يسمى ما يَفْضُل بعد إخراجه الصدقة كنزاً، وقال ابن رشيد(13 ) فإن ما دون الخمس لا تجب فيه الزكاة وقد عفي عن الحق فيه فليس بكنز قطعاً، والله قد أثنى على فاعل الزكاة، ومن أثنى عليه في واجب حق المال لم يلحقه ذم من جهة ما أثنى عليه فيه، وهو المال.
            ثم عقب الحافظ بقوله: ويتخلص أن يقال: ما لم تجب فيه الصدقة لا يسمى كنزاً؛ لأنه معفو عنه، فليكن ما أخرجت منه الزكاة كذلك لأنه عفي عنه بإخراج ما وجب منه فلا يسمى كنزاً(14 ).
            عودة أبي ذر إلى المدينة:
            وفي الشام حدث الخلاف بين أبي ذر ومعاوية رضي الله عنهما في ذلك، فكان معاوية يقول في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} نزلت في أهل الكتاب، بينما أبو ذر رضي الله عنه يرى أنها نزلت في المسلمين وفي أهل الكتاب.
            ورُوي أن أبا ذر رضي الله عنه كان يرى أن كل مال بقي عند صاحبه سواء أدى زكاته أم لم يؤدها، فإنه كنز يعاقب عليه، فلا يرى ادخار شيء أصلاً.
            وأما معاوية رضي الله عنه فقد كان يخالف أبا ذر، ويرى أن ما أُدِّي زكاته فلا عقاب عليه(15 ).
            ومثله باقي الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم من العلماء يرون أن المراد بالكنز في الآية ما لم تؤد زكاته، أما إذا لم يبلغ الخمسة أوسق أو بلغ، وأُدِّيت زكاته فليس بكنز بالمعنى الشرعي، وليس على كانزه شيء(16)
            قال ابن عبد البر: "وخالفه -أي أبا ذر- جمهور الصحابة ومن بعدهم وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة، وغيره في قصة الأعرابي حيث قال: هل عليّ غيرها، قال: لا إلا أن تطوع"(17 )
            ورجح الحافظ أن ذلك كان في أول الأمر، وقد استدل له ابن بطال بقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} أي ما فَضُل عن الكفاية فكان ذلك واجباً في أول الأمر ثم نسخ"(18 )
            وعلى إثر هذا الخلاف كتب معاوية إلى عثمان رضي الله عنهما يقص عليه ما حدث بينه وبين أبي ذرّ رضي الله عنه، فأرسل عثمان إلى أبي ذرّ يطلب منه القدوم إلى المدينة، درءاً للفتنة(19 )وليجاوره فيها( 20 ).
            فلما قدم أبو ذرّ رضي الله عنه المدينة دخل على عثمان رضي الله عنه فقال له: أخفتني فوالله لو أمرتني أن أتعلق بعروة قتب حتى أموت لفعلت( 21)
            وتخوف أبو ذرّ من أن عثمان رضي الله عنه يحسبه من الخوارج الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم وأن سيماهم التحليق(22 )
            لذا فقد رفع عمامته عن رأسه وقال: إني -والله- يا أمير المؤمنين ما أنا منهم، ولا أدركهم، ولو أمرتني أن أعضّ على عرقوبتي قتب لعضضت عليها، حتى يأتيني الموت وأنا عاضّ عليها(23 )
            قال عثمان رضي الله عنه صدقت يا أبا ذرّ، إنما أرسلنا إليك لخير؛ لتجاورنا بالمدينة.
            ولكنّ أبا ذر رضي الله عنه مُوصى من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج من المدينة إذا بلغ البناء سلعاً، وقد خرج لما بلغ البناء سلعاً إلى الشام كما تقدم، فلما أعيد إليها، لا بد وأن يخرج من المدينة ولو إلى غير الشام.
            لذا فقد قال لعثمان: لا حاجة لي في ذاك إيذن لي في الربذة(24 )فقال عثمان: نعم، ونأمر لك بنعم من نعم الصدقة تغدُو عليك وتروح فتصيب
            من رسلها، قال أبو ذر: لا حاجة لنا في ذاك، يكفي أبا ذر صرمته ثم خرج.
            وفي رواية أنه لما قدم المدينة كثر عليه الناس حتى إنهم كأنهم لم يروه من قبل، فذَكر ذلك لعثمان رضي الله عنه كأنه يشكو إليه ذلك؛ فقال له عثمان: إن شئت تنحيت فكنت قريباً، فهذا الذي أنزله الربذة، ولما سُئل عن سبب نزوله الربذة ذكر ذلك، وقال: ولو أمرّوا عليَّ حبشياً لسمعت ولأطعت(25 ).
            هذه هي الحقيقة التي لا مرية فيها، فلم ينف عثمان أبا ذر رضي الله عنهما إنما استأذنه، فأذن له.
            ولكن أعداء عثمان رضي الله عنه كانوا يشيعون عليه بأنه نفاه؛ ولذلك لما سأل غالبُ القطان، الحسنَ البصري: عثمان أخرج أبا ذر؟ قال الحسن: لا، معاذ الله(26 )
            وكل ما روي في أن عثمان نفاه إلى الربذة، فإنه ضعيف الإسناد لا يخلو من علة قادحة، مع ما في متنه من نكارة لمخالفته للروايات الصحيحة والحسنة.التي تبين أن أبا ذر استأذن للخروج إلى الربذة وأن عثمان أذن له(27 )
            بل إن عثمان أرسل يطلبه من الشام، ليجاوره بالمدينة، فقد قال له عندما قدم من الشام: "إنا أرسلنا إليك لخير، لتجاورنا بالمدينة"( 28 ).
            وقال له أيضاً: "كن عندي تغدو عليك وتروح اللقاح"(29 )أفمن يقول ذلك له ينفيه؟!.
            ولم تنص على نفيه إلا رواية رواها ابن سعد، وفيها بريدة بن سفيان الأسلمي؛ الذي قال عنه الحافظ ابن حجر: "ليس بالقوي، وفيه رفض" فهل تقبل رواية رافضي -يعتقد بغض الصحابة- لرواية فيها فِرية باطلة على صحابي تعارضها الروايات الصحيحة والحسنة.
            واستغل الرافضة هذه الحادثة أبشع استغلال، فأشاعوا أن عثمان رضي الله عنه نفى أبا ذر إلى الربذة، وأن ذلك مما عيب عليه رضي الله عنه من قِبل الخارجين عليه، ولم أقف على ما يدل على أنه عيب عليه من قبل الخارجين عليه أو أنهم سوغوا الخروج عليه به.
            وأقدم من ذكر ذلك هو: ابن العربي -المتوفى سنة 542?( 30 )- المحب الطبري المتوفى سنة 694?( 31 ) وردا على هذه الفرية.
            وعاب عثمان رضي الله عنه بذلك ابن المطهر الحلي الرافضي المتوفى سنة 726? بل زاد أن عثمان رضي الله عنه ضرب أبا ذر ضرباً وجيعاً( 32 )
            ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، رداً جامعاً قوياً( 33 ).
            وكان سلف هذه الأمة يعلمون هذه الحقيقة، فإنه لما قيل للحسن البصري: عثمان أخرج أبا ذر؟ قال: لا، معاذ الله(34 )
            وكان ابن سيرين إذا ذُكر له أن عثمان رضي الله عنه سيَّر أبا ذر، أخذه أمر عظيم، ويقول: هو خرج من قبل نفسه، ولم يسيره عثمان(35 ).
            وكما تقدم في رواية صحيحة الإسناد: أن أبا ذر رضي الله عنه لما رأى كثرة الناس عليه خشي الفتنة، فذكر ذلك لعثمان كأنه يستأذنه في الخروج، فقال له عثمان رضي الله عنه: "إن شئت تنحيت فكنت قريباً".

            __________
            1- ابن تيمية، منهاج السنة النبوية (6/ 265- 269)، والآية في سورة المجادلة، الآية (22).
            2- ابن تيمية، منهاج السنة النبوية (6/ 267).

            3- رواه الحاكم، المستدرك (3/ 344)، من طريق عبد الله بن الصامت عن أم ذر عن أبي ذر به، وصححه الحاكم، وسكت عنه الذهبي.ورواه ابن سعد، الطبقات (4/ 226- 227)، وابن شبة، تاريخ المدينة (1037)، كلاهما من طريق ابن سيرين عن أبي ذر، وذكره الذهبي من طريق زيد بن خالد الجهني عن أبي ذر رضي الله عنه. انظر الملحق الرواية رقم: [178].
            وذكره الحافظ ابن حجر عن أبي يعلى من طريق زيد بن وهب عن أبي ذر (الفتح 3/ 274)، وسكت عنه، ولم أجده في المطبوع من مسند أبي يعلى، فلعله في الكبير أو في ما لم يطبع من الصغير، وذكره المحب الطبري في الرياض النضرة (3/ 94).
            4- جاء ذلك في رواية ابن سيرين، وفي رواية زيد بن وهب نص بالقول، ففيه: "فارتحل إلى الشام"، وفيه يقول أبو ذر: "فلما بلغ البناء سلعاً قدمت الشام فسكنت بها".
            5- قال المزي: "ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان" (تهذيب الكمال 3/ 1209).
            6- ابن حجر، تقريب التهذيب (8087).
            7- ابن حجر، فتح الباري (3/ 273)، ولم أقف على قول ابن عبد البر هذا في كتابه الاستيعاب.
            8- ابن حجر، فتح الباري (3/ 273).
            9- سورة البقرة، الآية (219).
            10- ابن حجر، فتح الباري (3/ 273).
            11-المصدر نفسه (3/ 273).
            12- رواه مسلم في صحيحه (2/ 673).
            13- محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن رشيد الفهري السَّبتي، ولد سنة 657? وتوفي سنة 721? ، له كتاب: ترجمان التراجم على أبواب البخاري أطال فيه النفس ولم يكمل (ابن حجر، الدرر الكامنة 4/ 229- 231).
            14- فتح الباري (3/ 272).
            15- البخاري، الجامع الصحيح، (مع فتح الباري 3/ 271)، وابن سعد، الطبقات (4/226)، وابن شبة، تاريخ المدينة (1073- 103، وإسناده صحيح، انظر الملحق الرواية رقم: [173].
            16- فتح الباري (3/ 273).
            17- المصدر السابق.
            18- البخاري، الجامع الصحيح (مع فتح الباري 3/ 271)، وابن سعد، الطبقات (4/226)، وابن شبة، تاريخ المدينة (1037- 103، وإسناده صحيح، انظر الملحق الرواية رقم: [173].
            19- البخاري، الجامع الصحيح، (مع فتح الباري3/ 271 وابن سعد في الطبقات (4/226)، وابن شبة، تاريخ المدينة (1037-103 وإسناده صحيح، انظر الملحق الرواية رقم: [ 173]، [178].
            20- ابن شبة، تاريخ المدينة (1036-1037) وإسناده حسن انظر الملحق الرواية رقم: [ 177].
            21- عبد الرزاق، المصنف (11/332) وابن أبي شيبة، المصنف (15/225)، وإسناده صحيح، انظر الملحق الرواية رقم: [ 176]
            22- ابن سعد ، الطبقات (4/232) وابن شبة، تاريخ المدينة (1035-1036)، وإسناده صحيح، انظر الملحق الرواية رقم: [ 175] و [177].
            23- المصادر السابقة.
            24- ابن شبة، تاريخ المدينة (1036- 1037)، وإسناده حسن، انظر الملحق الرواية رقم: [177].
            25- ابن سعد، الطبقات (4/ 226، وابن شبة، تاريخ المدينة ( 1037- 103، وإسناده صحيح، انظر الملحق الرواية رقم: [174].
            26- ابن شبة، تاريخ المدينة (1037)، وإسناده صحيح، انظر الملحق الرواية رقم: [179].
            27- انظر الروايات الضعيفة في ذلك، وعللها في الملحق الروايات رقم:[236- 240].
            28- ابن شبة، تاريخ المدينة (1036- 1037)، وإسناده حسن، انظر الملحق الرواية رقم: [177].
            29- ابن سعد، الطبقات (4/ 226- 227)، صحيح إلى ابن سيرين، وقد ولد سنة 33? فلم يدرك الفتنة، انظر الملحق الرواية رقم: [178].
            30- العواصم من القواصم (ص:76)، والرد في (ص: 85- 8.
            31- الرياض النضرة (3/ 83، والرد في (3/ 94).
            32- ابن تيمية، منهاج السنة النبوية (6/ 183).
            33- المصدر السابق : (6/ 271، 355).
            34- ابن شبة، تاريخ المدينة (1037)، وإسناده صحيح. انظر الملحق الرواية رقم: [179].
            35- ابن شبة، تاريخ المدينة (1037)، وإسناده صحيح، انظر الملحق الرواية رقم: [178].
            التعديل الأخير تم بواسطة أبو عمر محمد الفلسطيني; الساعة 10-Aug-2008, 10:27 PM.

            تعليق

            يعمل...
            X