إعـــــــلان

تقليص
1 من 3 < >

تحميل التطبيق الرسمي لموسوعة الآجري

2 من 3 < >

الإبلاغ عن مشكلة في المنتدى

تساعدنا البلاغات الواردة من الأعضاء على منتدى الآجري في تحديد المشكلات وإصلاحها في حالة توقف شيء ما عن العمل بشكل صحيح.
ونحن نقدّر الوقت الذي تستغرقه لتزويدنا بالمعلومات عبر مراسلتنا على بريد الموقع ajurryadmin@gmail.com
3 من 3 < >

فهرسة جميع الشروح المتوفرة على شبكة الإمام الآجري [مبوبة على حسب الفنون] أدخل يا طالب العلم وانهل من مكتبتك العلمية

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه - وعلى آله ومن ولاه وبعد :

فرغبة منا في تيسير العلم واشاعته بين طلابه سعينا لتوفير جميع المتون وشروحها المهمة لتكوين طلبة العلم ، وقد قطعنا شوطا لابأس به في ذلك ولله الحمد والمنة وحده ، إلا أنه إلى الآن يعاني بعض الأعضاء والزوار من بعض الصعوبات في الوصول للشروح والمتون المرادة لتداخل الشروح أو لقلة الخبرة التقنية .

من أجل هذا وذاك جاء هذا الموضوع ليكون موضوعا مرجعا جامعا مرتبا بإذن الله لكل المواد العلمية الموضوعة حاليا في شبكتنا ومرتبا على حسب أبواب الفنون العلمية (العقيدة، الفقه، الحديث،...)وسنحاول أيضا ترتيبها على مستويات الطلب (المبتدئ ، المتوسط ، المنتهي) سيتم تحديثه تبعا بعد إضافة أي شرح جديد .

من هـــــــــــنا
شاهد أكثر
شاهد أقل

من كُتُب علوم القرآن : " من كلّ سورة فائدة " للشيخ عبد الملك رمضاني حفظه الله [ موضوع متجدّد ]

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    سورةُ الأنْعَام


    أحسنُ ردٍّ قُرآنيٍّ على أهل الكلامِ في خَبَرِ الآحَاد




    قال الله تعالى : ﴿ سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَ لاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم منْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَ إِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ( الأنعام : 148 ) .
    معلومٌ أنّ أهل الكلام لا يأخذون بخبر الآحاد في العقيدة ، و يأخذون به في الأحكام ؛ مستدلّين على ذلك بأنّ خبر الآحاد يفيد الظّنّ ، و زعموا أنّ كلّ الآيات الّتي ذمّت الأخذ بالظّنّ وردت في العقائد !
    و هاتان مقدّمتان غيرُ مسلَّمَتَيْن ؛ لأنّ إفادة الظّنّ لو سُلِّم لهم لكان على قول بعضهم : إنّه يفيد الظّنّ الرّاجح ، و قد جاءت شريعتنا بالأخذ بالظّنّ الرّاجح و هم يسلّمون بهذا ، و لسنا الآن بصدده ، و أمّا المقدّمة الثّانية – و هي زعمهم أنّ الآيات الذّامّة لاتّباع الظّنّ وردت في العقائد دون الأحكام – فمنقوضةٌ أيضاً ، قال الشّيخ الألبانيّ في " الحديث حجّة بنفسه في العقائد و الأحكام " ( ص 26-28 ) :
    " لقد عرضت لهم شبهةٌ ثمّ صارت لديهم عقيدةً ، و هي أنّ حديث الآحاد لا يفيد إلاّ الظّنّ ، و يعنون به الظّنّ الرّاجح طبعاً ، و الظّنّ الرّاجح يجب العمل به في الأحكام اتّفاقاً ، و لا يجوز الأخذ به عندهم في الأخبار الغيبيّة و المسائل العلميّة ، و هي المراد بالعقيدة ، و نحن لو سلّمنا لهم جدلاً بقولهم : ( إنّ حديث الآحاد لا يفيد إلاّ الظّنّ ) على إطلاقه ، فإنّا نسألهم : من أين لكم هذا التّفريق ، و ما الدّليل على أنّه لا يجوز الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة ؟!
    لقد رأينا بعض المعاصرين يستدلّون على ذلك بقوله تعالى في المشركين : ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَ مَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ ( النّجم : 23 ) و بقوله سبحانه : ﴿ إنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقّ شَيْئاً ( يونس : 36 ) ، و نحو ذلك من الآيات الّتي يذمّ الله تعالى فيها المشركين على اتّباعهم الظّنّ ، و فات هؤلاء المستدلّين أنّ الظّنّ المذكور في هذه الآيات ليس المراد به الظّنّ الغالب الّذي يفيده خبر الآحاد – و الواجب الأخذ به اتّفاقاً – و إنّما هو الشّكّ الّذي هو الخَرصُ ، فقد جاء في ( النّهاية ) و ( اللّسان ) و غيرها من كتب اللّغة : ( الظّنّ : الشّكّ يَعْرِض لك في الشّيء فتحقِّقه و تحكم به ) ، فهذا هو الظّنّ الّذي نعاه الله تعالى على المشركين ، و ممّا يؤيّدُ ذلك قولُه تعالى فيهم : ﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ( الأنعام : 116 ) (1) ، فجعل الظّنّ هو الخرص الّذي هو مجرّد الحَزر و التّخمين .
    و لو كان الظّنّ المُنعى على المشركين في هذه الآيات هو الظّنّ الغالب كما زعم أولئك المستدلّون لم يجُز الأخذ به في الأحكام أيضاً ؛ و ذلك لسببين اثنين :
    الأوّل : أنّ الله أنكره عليهم إنكاراً مطلقاً ، و لم يخصّه بالعقيدة دون الأحكام .
    و الآخر : أنّه تعالى صرّح في بعض الآيات أنّ الظّنّ الّذي أنكره على المشركين يشمل القول به في الأحكام أيضاً ، فاسمع إلى قوله تعالى الصّريح في ذلك : ﴿ سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا فهذه عقيدةٌ ، ﴿ وَ لاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ، و هذا حكمٌ ، ﴿ كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم منْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ، و يفسّرها قوله تعالى : ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ ٱلإِثْمَ وَ ٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَق وَ أَنْ تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزلْ بِهِ سُلْطَاناً وَ أَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( الأعراف : 33 ) ، فثبت ممّا تقدّم أنّ الظّنّ الّذي لا يجوز الأخذ به إنّما هو الظّنّ اللُّغويّ المرادف للخرص و التّخمين و القول بغير علم ، و أنّه يحرم الحكم به في الأحكام كما يحرم الأخذ به في العقائد و لا فرق ، و إذا كان الأمر كذلك فقد سلم لنا القول المتقدّم : إنّ كلّ الآيات و الأحاديث المتقدّمة الدّالّة على وجوب الأخذ بحديث الآحاد في الأحكام ، تدلّ أيضاً بعمومها و شمولها على وجوب الأخذ به في العقائد أيضاً ، و الحقّ أنّ التّفريق بين العقيدة والأحكام في وجوب الأخذ فيها بحديث الآحاد فلسفةٌ دخيلةٌ في الإسلام ، لا يعرفها السّلف الصّالح و لا الأئمّة الأربعة الّذين يقلّدهم جماهير المسلمين في العصر الحاضر " .
    لقد حرصتُ على نقل كلام الشّيخ رحمه الله ، لأنه احتجَّ على المتكلّمينَ بآيةٍ عظيمةٍ لا قبل لهم بها ، و لم أرَ من سبق الشّيخ إلى التّنبيه على هذه الآية ، و على هذا ، فإن استدلّوا بآية الباب لزمهم أن يَدَعوا الاستدلال بحديث الآحاد في الأحكام أيضاً لما سبق في كلام الشّيخ ، و هو مذهبٌ لا يقولون به ، و قد نسبه شيخنا الشّيخ أحمد محمود عبد الوهّاب الشّنقيطي - حفظه الله - في كتابه " خبر الواحد و حجّيّته " ( ص 141 ) إلى قومٍ من الرّافضة و المعتزلة ، و لمّا كانت نصوص السّنّة المتواترة أقلّ من نصوص الآحاد ، فإنّ المتكلّمين لو امتنعوا من الأخذ بخبر الآحاد ، فإنّ المتكلّمين لو امتنعوا من الأخذ بخبر الآحاد في الأحكام أيضاً لأسقطوا أكثر الشّريعة بعد أن أسقطوا كثيراً منها في أصلها الأصيل ، ألا و هو العقيدة الصّحيحة ، و إنّا لله !!

    __________________
    (1) : ذكر هنا الشّيخ الألبانيّ رحمه الله الآية 116 من سورة الأنعام ، و لا شكّ أنّه أراد ذكر الآية 148 و هي آية الباب بدليل كلام الشّيخ في السّياق و السّباق ، إلاّ أنّها جاءت في كتابنا هذا مرقّمةً برقم 148 و لا أدري إن كان الوهمُ من النّاسخ أو أنّه من المؤلّف حفظه الله ، فصححّتُ ذلك في نقلي ، و ذكرت هذا ليُعلم أنّهما آيتان و من نفس السّورة ، و حتّى لا يحسب أحدٌ أنّي أخطأت التّرقيم أو أنّي تصرّفتُ فيه ، والخطب في هذا سهلٌ ، و الله أعلم . [ أبو حاتم ]

    تعليق


    • #17
      الدّليلُ على أنّ سورَةَ الأنْعَام نَزلَتْ قبل النَّحلِ




      استدلّ أهل العلم بآية الباب – أي الآية السّابقة – على أنّ سورة الأنعام نزلت قبل سورة النّحل ، قال العلاّمة محمّد الأمين الشّنقيطي في " العَذْب النَّمير من مجالس الشّنقيطي في التّفسير " ( 2/625-626 ) : " أمّا جُلُّ سورة الأنعام فهي نازلةٌ في مكّةَ قبل الهجرة بلا خلافٍ بين العلماء ، و هي نازلةٌ قبل النّحل بلا شكٍّ ، و النّحل من القرآن المكّيِّ على التّحقيق ، و قد دلّ القرآنُ في موْضِعَين أنّ سورة الأنعام نزلت قبل سورة النّحل :
      أحدهما : قوله في سورة النّحل : ﴿ وَ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ( النّحل : 118 ) ، فهذا المحرّم المقصوص من قبل المُحال عليه هو النّازلُ في سورة الأنعام بالإجماع في قوله : ﴿ وَ عَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ ٱلْبَقَرِ وَ ٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ ( الأنعام : 146 ) .
      الثّاني : أنّ الله قال في سورة الأنعام هذه : ﴿ سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا ( الأنعام : 148 ) ، فبيَّن أنّهم سيقولونه في المستقبل بدلالة حرف التّنفيس الّذي هو السّين ، ثمّ بيّن في سورة النّحل أنّ ذلك الموعودَ به في المستقبل وَقَع و ثبتَ في سورة النّحل ؛ حيثُ قال : ﴿ وَ قَالَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ( النّحل : 35 ) ، فدلّ على أنّها بعدها " .

      تعليق


      • #18


        سورةُ الأعرَاف
        مُطابَقَةُ حديثِ الوليِّ للكِتاب الكرِيم



        يقول الله تعالى : ﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ . وَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَ لاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ . وَ إِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ . إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَٱدْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ . أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ . إِنَّ وَلِيّـيَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّالِحِينَ . وَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لاۤ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ . وَ إِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لاَ يَسْمَعُواْ وَ تَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ( الأعراف : 191-198 ) .
        للسّائل أن يسألَ : لماذا ذكر الله هنا أنّه ليس للأصنام أرجلٌ و لا أيدٍ و لا أعينٌ و لا آذانٌ ينتفعون بها مع أنّه معروفٌ مشاهدٌ ؟
        و الجواب يتبيّنُ من خمس فوائدَ عزيزةٍ :
        1 – أن يُعلم بادئ ذي بدءٍ أنّ هذه الآيات هي آياتُ الوَلاَية ؛ بدليل أنّه تخلّلها الكلامُ عن ولاية الله لعبده ، و هو الآية الكريمة : ﴿ إِنَّ وَلِيّـيَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّالِحِينَ ، و معلومٌ أنّ من اتّخذ الله وليًّا بصدقٍ اتّخذه الله وليًّا في الدّنيا و الآخرة ؛ فعن شَيْبَةَ الخُضَرِيّ قال : كنّا عند عمرَ بن عبد العزيز ، فحدّثنا عروةُ بن الزّبير عن عائشةَ أنّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم قال : " ثلاثٌ أحلِف عليهنّ : لا يجعل الله من له سهمٌ في الإسلام كمن لا سهم له ، فأسهمُ الإسلام ثلاثةٌ : الصّلاة و الصّوم و الزّكاة ، و لا يتولّى الله عزّ وجلّ عبداً في الدّنيا فيولّيه غيرَه يوم القيامة ، و لا يحبّ رجلٌ قوماً إلاّ جعله الله عزّ و جلّ معهم ، و الرّابعة لو حلفت عليها رجوت أن لا آثَمَ : لا يستر الله عزّ و جلّ عبداً في الدّنيا إلاّ ستره يوم القيامة ، فقال عمر بن عبد العزيز : إذا سمعتم مثل هذا الحديث من مثل عروة يرويه عن عائشة عن النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم فاحفظوه " أخرجه أحمد ( 6/145 ) ، وصحّحه الألبانيّ في " صحيح التّرغيب و التّرهيب " ( 374 ) ، و من كان وليًّا لله حفظه الله في سمعه و بصره و رِجله و يده ، كما روى البخاريّ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : " إنّ اللَّهَ قال : من عادَى لي وَليًّا فقد آذَنْته بالحرب ، و ما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليّ ممّا افتَرَضْتُ عليه ، و ما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أُحبّه ، فإذا أحبَبته كنت سمعه الّذي يسمع به ، و بَصرَه الّذي يُبصر به ، و يدَه الّتي يَبطِش بها ، و رِجله الّتي يمشي بها ، و إنْ سألني لأُعطينّه، و لئن استعاذني لأعيذَنَّه ، و ما تردّدتُ عن شيءٍ أنا فاعله ترَدُّدي عن نفسِ المؤمن ؛ يكرَه الموتَ و أنا أكرَه مَساءته " ، فذكر هذه الأربع : السّمعَ و البصرَ و الرِّجلَ و اليدَ ، كما ذكر هذه الأربع كلَّها في آيات الوَلاية السّابقة ، و ذلك قوله سبحانه : ﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ، إلى قوله : ﴿ إِنَّ وَلِيّـيَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّالِحِينَ ، والمقصود نفي هذه الأربع عن الأصنام ، قال ابن كثير في " تفسيره " : " بل هي جمادٌ لا تتحرّك و لا تسمع و لا تبصر ، و عابدوها أكمل منها بسمعهم و بصرهم و بطشهم ! " ، و هذا التّعبير أبلغُ شيءٍ في بابه ؛ لأنّها تبكيتٌ لمن اتّخذ أصناماً آلهةً و هي لا تملك سمعاً و لا بصراً ، فضلاً عن كونها تحفظ سمع غيرها و بصره ، كما أنّها لا تملك أرجلاً و لا أيدياً ، فضلاً عن كونها تحفظ أرجل غيرها و أيديهم ، فانظر كيف تطابقت الآيتان مع الحديث القدسيّ ، ثمّ وجدتُ ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ( 16/209 ) صرّح بعلاقة هذه الآيات بحديث الوليّ ، فقال بعد ذكر الآيات السّابقة : " و استَفهَم استفهام إنكارٍ و جحودٍ لطرق الإدراك التّام و هو السّمع و البصر ، والعمل التّام و هو اليد و الرّجل ، كما أنّه سبحانه لمّا أخبر فيما روى عنه رسوله عن أحبابه المتقرّبين إليه بالنّوافل ، فقال : و لا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أُحبّه ، فإذا أحبَبته كنت سمعه الّذي يسمع به ، و بَصرَه الّذي يبصر به ، و يدَه الّتي يبطِش بها ، و رِجله الّتي يمشي بها " ، هذه هي الفائدة الأولى .
        2 – و إذا قلت : ما الحكمةُ من ذكر هذه الأربع دون غيرها ؟ قيل لك : إنّ المقصود من ذكر الرّجل و اليد ذكرُ أدوات العمل ، و من ذكر السّمع و البصر ذكرُ أدوات العلم ، وكمال المرء بكمال علمه و عمله ، كما قال تعالى : ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَ عَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ ( البيّنة : 7 ) ، و لا يزال المرء محفوظاً بولاية الله ما حفظ علمه و عمله ، وهذا هو الحفظ الرّبانيّ الكامل ، و العلم هو العلم النّافع ، والعمل هو العمل الصّالح ، هذه هي الفائدة الثّانية .
        3 – و الفائدة الثّالثة هي أنّنا إذا جعلنا آية الولاية هذه برزخاً في ذلك السّياق الكريم بين سياقين ، نتَجَ لدينا قسمان :
        القسم الأوّل : يبدأ من قوله عزّ وجلّ : ﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ ، و ينتهي بقوله : ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَٱدْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ .
        و القسم الثّاني : يبدأ من قوله عزّ وجلّ : ﴿ وَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لاۤ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ، و ينتهي بقوله : ﴿ وَ إِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لاَ يَسْمَعُواْ وَ تَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لاَ يُبْصِرُونَ .
        و إذا تدبّرنا القسمين وجدنا أنّ الكلام فيهما عمّن هو عاجزٌ عن العلم و العمل في نفسه ، فضلاً عن تولّي العباد فيهما ، و ذلك على نحو التّفصيل الآتي :
        أمّا القسم الأوّل : فإنّ فيه تقرير العجز عن العمل عند تلك الآلهة الّتي اتُّخذت من دون الله ، وتولّاها عابدوها و لم يتولّوا الوليّ الحقيقيّ سبحانه ، فبدأ الله عزّ وجلّ بنفي قدرتهم على الخلق ، فقال : ﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ ، و الخلق من خصائص الرّبوبية و لا ريب ، ثمّ نفى عنهم القدرة على النّصر و الانتصار ، فقال تعالى : ﴿ وَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَ لاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ، فالنّصر للغير و الانتصار للنّفس ، و لا ريب أنّ الّذي يعجز عن نصر نفسه و نصر غيره يُعدّ أعجز الخلق عن العمل .
        و أمّا تقرير عجزها العلميّ ، ففي قوله عزّ وجلّ : ﴿ وَ إِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ، فنفى عنهم الاتّباع على الرّغم من أنّهم دُعُوا إلى الهدى ، الأمر الّذي يدلّ على تعطيل وسائل العلم عندهم ، الّتي هي السّمع و البصر ، و لذلك فصّله بعده بقوله : ﴿ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ، فقابل بين الدّاعي و الصّامت ، فيكون الدّاعي إذاً هو المتكلّم ، و معلومٌ أنّ الدّعوة بالكلام توجّه لمن له سمعٌ ، و أمّا الصّامت فهو الدّاعي غيره بالإشارة أو بما يقوم مقامها ، و الدّعوة بالإشارة تكون للأصمّ البصير ، فنفى الله عنهم هذا و هذا ليدلّ على نفي السّمع و البصر عنهم ، و هذا أوجزُ تعبيرٍ و أتمُّه وأحسنُه ؛ لأنّ عدم استجابتهم للدّعوة الصّامتة دليل تعطيل البصر عندهم ؛ إذ لو كانوا يبصرون لفهموا الخطاب ، كما أنّ عدم استجابتهم للدّعوة اللّسانية دليل تعطيل السّمع عندهم ؛ لأنّهم لو كانوا يسمعون لفهموا الخطاب ، و هذا هو واقع الأصنام الّتي تُعبد من دون الله و تُتّخذ أولياء من دونه تعالى ، كما قال الخليل صلّى الله عليه و سلّم : ﴿ يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَ لاَ يَبْصِرُ وَ لاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً ( مريم : 42 ) ، أي نفى وسائل العلم عنها ، كما أنّ قوله : ﴿ وَ لاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً هو كقوله :﴿ وَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَ لاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ، و لذلك فإنّ أهل النّار في الآخرة يَعِدُون ربّهم بالعمل الصّالح إن ردّهم إلى الدّنيا ؛ و يستدلّون على زعمهم هذا بأنّهم أبصروا و سمعوا ، كما قال عزّ وجلّ : ﴿ وَ لَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَ سَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ( السّجدة : 12 ) ، و هذه هي العلاقة الّتي بين العلم والعمل .
        ثمّ ختم الله سياق القسم الأوّل بنفي القدرة الكاملة عن أن يفعلوا لهم شيئاً ممّا يطلبونه منه ، فقال : ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَٱدْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ، و كون الأصنام التي تُدعى عاجزةً عن الاستجابة لداعيها دليلٌ على تعطيل وسائل العمل عندها ، إذاً فهي لا تقدر على علمٍ نافعٍ و لا عملٍ صالحٍ ، فكيف يَطْمَع طامعٌ في أن تكون سمعه الّذي يسمع به ، و بصره الّذي يبصر به ، و رجله الّتي يمشي بها ، و يده الّتي يبطش بها ؟!
        و أمّا القسم الثّاني من السّياق : ففيه نفي القدرة العمليّة أوّلاً عن تلك المعبودات ، بقوله عزّ وجلّ : ﴿ وَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لاۤ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ، ثمّ فصّل في نفي القدرة العلميّة عنها بتعيين وسيلتيه المعطّلتين عندها : السّمع و البصر ، فقال :﴿ وَ إِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لاَ يَسْمَعُواْ وَ تَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لاَ يُبْصِرُونَ .
        و لذلك قال ابن القيّم في " الجواب الكافي لمن سأل عن الدّواء الشّافي " ( ص 221 )عن حديث الوليّ : " و خصّ في الحديث السّمع و البصر و اليد و الرّجل بالذّكر ؛ فإنّ هذه الآلات آلات الإدراك و آلات الفعل ، و السّمع و البصر يورِدان على القلب الإرادة و الكراهة ، و يجلبان إليه الحبّ و البغض ، فيستعمل اليد و الرّجل ، فإذا كان سمع العبد بالله و بصره بالله كان محفوظاً في آلات إدراكه ، و كان محفوظاً في حبّه و بغضه ، فحفظ في بطشه و مشيه ، و تأمّل كيف اكتفى بذكر السّمع و البصر و اليد و الرّجل عن اللّسان ، فإنّه إذا كان إدرك السّمع الّذي يحصل باختياره تارةً ، و بغير اختياره تارةً ، و كذلك البصر قد يقع بغير الاختيار فجأةً ، وكذلك حركة اليد و الرّجل الّتي لا بدّ للعبد منهما ، فكيف بحركة اللّسان الّتي لا تقع إلاّ بقصدٍ و اختيارٍ ؟ و قد يستغني العبدُ عنها إلاّ حيث أُمر بها ، و أيضاً فانفعال اللّسان عن القلب أتمّ من انفعال سائر الجوارح ، فإنّه ترجمانه و رسوله و تأمّل كيف حقّق تعالى كون العبد به عند سمعه و بصره الّذى يبصر به و بطشه و مشيه بقوله : ( كنت سمعه الّذي يسمع به ، و بصره الّذي يبصر به ، و يده الّتي يبطش بها ، و رجله الّتي يمشي بها ) تحقيقاً لكونه مع عبده وكون عبده فى إدراكاته بسمعه و بصره ،و حركاته بيديه و رجله ... كقوله في الحديث الآخر : ( أنا مع عبدى ما ذكرني و تحرّكت بى شفتاه ) (1) ، و هذه المعيّة هي المعيّة الخاصّة المذكورة في قوله تعالى : لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ( التوبة : 40 ) ، و قول النّبىّ صلّى الله عليه و سلّم : ( ما ظنّك باثنين الله ثالثهما ) (2) ، و قوله تعالى : ﴿ وَ إِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ ( العنكبوت : 69 ) ، و قوله : ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَ ٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ( النّحل : 128 ) ، و قوله : ﴿ وَ ٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ ( الأنفال : 46 ) ، و قوله : ﴿ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ( الشّعراء : 62 ) ، و قوله تعالى لموسى و هارون : ﴿ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَ أَرَىٰ ( طه : 46 ) ... فمتى كان العبد بالله هانت عليه المشاقُّ و انقلبت المخاوف في حقّه أماناً ، فبالله يهون كلّ صعبٍ ، و يسهل كلّ عسيرٍ ، و يقرب كلّ بعيد ، و بالله تزول الأحزان و الهموم و الغموم ، فلا همّ مع الله ، و لا غمّ و لا حزن إلاّ حيث يفوته معنى هذه الباء فيصير قلبه حينئذ كالحوت إذا فارق الماء يثب و ينقلب حتّى يعود إليه ، و لمّا حصلت هذه الموافقة مع العبد لربّه تعالى فى محابّه حصلت موافقة الربّ لعبده فى حوائجه و مطالبه ، فقال : ( و لئن سألني لأعطينّه و لئن استعاذني لأعيذنّه ) ، أي كما وافقني في مرادي بامتثال أوامري و التّقرّب إليّ بمحابّي ، فأنا أوافقه في رغبته و رهبته فيما يسألني أن أفعله به ، و يستعيذني أن يناله مكروهٌ ، و قوي أمر هذه الموافقة من الجانبين ... " .
        هذا التّفصيل هو جواب ذلك السّؤال الأوّل ، و هو بيان تطابق حدثي الوليّ لآيات الباب .
        4 – تأمّل التّطابق بين قوله تعالى في أواخر القسم الأوّل : ﴿ فَٱدْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ و قوله في آخر ذلك الحديث القدسي : " و إن سألني لأعطينّه ، ولئن استعاذني لأعيذنّه " ؛ تدرك أنّ الحديث و الآيات السّابقة وحيٌ كلّه ، و هذه هي الفائدة الرّابعة .
        5 – الفائدة الخامسة : في الاقتصار في آيات الباب على الكلام عن العلم والقدرة على الخلق و التّفضل بالاستجابة لطلبات الطّالبين حكمةٌ بالغةٌ ؛ فإنّه من المعلوم أنّ النّاس يتوجّهون عادةً إلى من عنده صفات الكمال ، قال ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى " ( 11/312-313 ) : " صفات الكمال ترجع إلى ثلاثةٍ : العلم ، و القدرة ، و الغنى ، و إن شئت أن تقول : العلم ، و القدرة ، و القدرة إمّا على الفعل و هو التّأثير ، و إمّا على التّرك و هو الغنى ، و الأوّل أجود ، و هذه الثّلاثة لا تصلح على وجه الكمال إلاّ لله وحده ، فإنّه الّذي أحاط بكلّ شيءٍ علماً ، و هو على كلّ شيءٍ قدير ، وهو غنيٌّ عن العالمين ، و قد أمر الرّسولَ صلّى الله عليه وسلّم أن يبرأ من دعوى هذه الثّلاثة بقوله :﴿ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَ لاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَ لاۤ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ( الأنعام : 50 ) ، وكذلك قال نوحٌ عليه السّلام ، فهذا أوّل أولي العزم و أوّل رسولٍ بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض ، و هذا خاتم الرّسل و خاتم أولي العزم ،كلاهما يتبرّأ من ذلك ، و هذا لأنّهم يطالبون الرّسولَ صلّى الله عليه و سلّم تارةً بعلم الغيب ، كقوله : ﴿ وَ يَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( الملك : 25 ) ، و : ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ( الأعراف : 187 ) ، و تارةً بالتّأثير كقوله : ﴿ وَ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً . أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ من نَّخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً . أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً ( الإسراء : 90-92 ) ، إلى قوله : ﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً ( الإسراء : 93 ) ، و تارةً يعيبون عليه الحاجة البشريّة ، كقوله : ﴿ وَ قَالُواْ مَا لِهَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَ يَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً . أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ( الفرقان : 7-8 ) ، فأمره أن يخبرَ أنّه لا يعلم الغيب ، و لا يملك خزائن الله ، و لا هو ملك غنيّ عن الأكل و المال ، إن هو الا متّبعٌ لما أُوحي إليه ، و اتّباع ما أوحي إليه هو الدّين ، و هو طاعة الله و عبادته علماً و عملاً بالباطن و الظّاهر ، و إنّما يَنال من تلك الثّلاثة بقدر ما يعطيه الله تعالى ، فيعلَم منه ما علّمه إيّاه ، و يقدر منه على ما أقدره الله عليه ، و يستغني عمّا أغناه الله عنه من الأمور المخالفة للعادة المطّردة أو لعادة غالب النّاس " إلخ ما ذكر ، و لعلّ من هذا القبيل ما جاء في دعاء الاستخارة ؛ فإنّه قد اجتمعت هذه الثّلاثة فيه ، ثمّ اختصرها في اثنتين في الجملة الثّانية على ما قاله ابن تيمية في أوّل كلامه السّابق ، روى البخاريّ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : " كان رسول الله صلىّ الله عليه وسلم يُعلِّمنا الاستِخارةَ في الأمور كلِّها كما يعلّمنا السُّورة منَ القرآن ، يقول : إذا همَّ أحدُكم بالأمر فلْيَركعْ ركعتين من غير الفريضة ، ثمّ ليقل : اللهمَّ إنّي أستَخيرُكَ بعلمك و أستَقدِرك بقدرتك و أسألكَ من فضلكَ العظيم ؛ فإنّكَ تَقدِرُ و لا أقدِر، و تعلمُ و لا أعلم ، و أنتَ علاّمُ الغيوب " إلخ الدّعاء المشهور ، فاجتماع هذه الثّلاثة ظاهرٌ هنا : العلم و القدرة و الغنى ، ثمّ وجدت ابنَ تيمية أشار إلى هذه الفائدة العزيزة ، فقال في " مجموع الفتاوى " ( 1/33 ) : "جماع هذا أنّك أنت إذا كنت غير عالمٍ بمصلحتك و لا قادرٍ عليها و لا مريدٍ لها كما ينبغي ، فغيرك من النّاس أولى ألاّ يكون عالماً بمصلحتك و لا قادراً عليها و لا مريداً لها ، و الله سبحانه هو الّذي يعلم و لا تعلم ، و يقدر و لا تقدر ، و يعطيك من فضله العظيم ،كما فى حديث الاستخارة ... " ، و قال ( 6/276 ) بعد أن ساق حديث الاستخارة : " فسأله بعلمه و قدرته من فضله ... و هذه الصّفات هي جماع صفات الكمال " ، و كونه صلّى الله عليه و سلّم كرّر اثنتين منها فقط في قوله : " فإنّكَ تَقدِرُ و لا أقدِر، و تعلمُ و لا أعلم ، و أنتَ علاّمُ الغيوب " لا ينافيه ؛ فقد مرّ في كلام ابن تيمية أنّه قد يقتصر عليهما ، و منه قوله رحمه الله في " الاستغاثة في الرّدّ على البكري " ( ص130-دار المنهاج ) : " و بيَّنَ أنّ القدرة على الاختراع من خصائص الرّبّ ، و أخصّ وصف الرّبّ ليس هو صفةً واحدةً ، بل علمه بكلّ شيءٍ من خصائصه ، و خلقه لكلّ شيءٍ من خصائصه " ، و الله أعلم بأسرار تنزيله .

        _____________________
        (1) : علّقه البخاري في " صحيحه " ( 13/499 مع الفتح ) ، و وصله في " خلق أفعال العباد " ( 436 ) ، و كذا ابن ماجه في " سننه " ( 3792 ) ، وصحّحه الألباني فيه .
        (2) : متّفق عليه من حديث أبي بكر رضي الله عنه .

        تعليق


        • #19


          سورةُ الأَنفَال

          حكمةُ استعمالِ الفعل تارةً و اسمِ الفَاعلِ تارةً



          قال الله تعالى : ﴿ وَ إِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً منَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . وَ مَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنتَ فِيهِمْ وَ مَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( الأنفال : 32-33 ) .
          الفائدة الأولى : قال ابن القيّم في " إعلام الموقّعين " ( 1/174 ) : " و تأمّل قوله تعالى لنبيّه : ﴿ وَ مَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنتَ فِيهِمْ ، كيف يُفهمُ منه أنّه إذا كان وجود بدنه و ذاته فيهم دَفَعَ عنهم العذاب و هم أعداؤه ، فكيف و جود سرِّه و الإيمانِ به و محبّتِه و وجود ما جاء به إذا كان في قومٍ أو كان في شخصٍ ؟! أَفَلَيْسَ دفعُه العذاب عنهم بطريق الأولى و الأحرى ؟! " .
          الفائدة الثّانية : قال الشّيخ محمّد بن أحمد السّفّاريني في " غذاء الألباب شرح منظومة الآداب " ( 2/377 ) : " و قرَنَ تعالى الاستغفار ببقاء الرّسول في قوله : ﴿ وَ مَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنتَ فِيهِمْ وَ مَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ، ولذا قال أبو موسى رضي الله عنه : ( كان لنا أمانان ذهب أحدهما ، و بقي الآخر ) ، رواه الإمام أحمد ، قال المحقّق ابن القيّم : الاستغفار الّذي يمنع العذاب هو الاستغفار بالإقلاع عن كلّ ذنبٍ ، و أمّا من أصرّ على الذّنب و طلب من الله المغفرةَ ، فاستغفاره لا يَمنع العذاب ؛ لأنّ المغفرة هي محوُ الذّنب و إزالة أثره و وقاية شرّه ، لا كما ظنّه بعض النّاس أنّها السّتر ، فإنّ الله تعالى يستر على من يغفر له و من لا يغفر له ، فحقيقتها وقاية شرّ الذّنب ، و منه المِغْفَر لما يقي الرّأس من الأذى ، و السّتر لازمٌ لهذا المعنى ، و إلاّ فالعمامة لا تُسمّى مِغفَراً و لا القُبَّعة و نحوُه مع سَتره ، انتهى " .
          الفائدة الثّالثة : الملاحظ في هذه الآية أنّ نفي التّعذيب جاء في الأوّل بصيغة الفعل الّذي هو : ﴿ لِيُعَذِّبَهُمْ ، و جاء في الثّاني بصيغة الاسم الّذي هو : ﴿ مُعَذِّبَهُمْ ، و الفعل يدلّ على التّجدّد و الحدوث ، والاسم يدلّ على الثّبوت و اللّزوم ؛ و ذلك لأنّ نفي تعذيبهم مع وجوده صلّى الله عليه و سلّم فيهم قصيرٌ ؛ لأنّه معلّقٌ بحياته صلّى الله عليه و سلّم إكراماً له ، و حياة البشر جميعاً قصيرةٌ مهما عاشوا ، أمّا مع الاستغفار فإنّه لا يبقى ذنبٌ معه ؛ و لذلك أتى في الموضع الثّاني باسم الفاعل الدّالّ على الوصف و الثّبوت ، وانظر " بدائع الفوائد " لابن القيّم ( 1/137 ) ، و مثله الزّركشي في " البرهان " ( 4/345 ) ، فقد قال : كقوله تعالى : ﴿ وَ مَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنتَ فِيهِمْ ، فجاء بلام الجَحْد حيث كانت نفياً لأمر متوقّعٍ مَخوفٍ في المستقبل ، ثمّ قال :﴿ وَ مَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ، فجاء باسم الفاعل الّذي لا يختصّ بزمانٍ حيث أراد نفي العذاب بالمستغفرين على العموم في الأحوال " ، و نظيره قول الله تعالى عن إبليس في مخادعته آدم صلّى الله عليه وسلّم : ﴿ وَ قَاسَمَهُمَآ إِني لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ ( الأعراف : 21 ) ؛ فإنّه لم يقل : لإنّي لكما أنصح ، ولكن استعمل اسمَ الفاعل ، فقال : ﴿ ٱلنَّاصِحِينَ ، قال ابن القيّم : في " إغاثة اللّهفان " ( 1/113 ) مُعدّداً أنواعَ المحسّنات اللّفظيّة الّتي كادَ بها إبليسُ آدمَ صلّى الله عليه و سلّم : " الرّابع : إتيانُه باسم الفاعل الدّال على الثّبوت و اللّزوم ، دون الفعل الدّال على التّجدّد ، أي النّصح صفتي و سَجِيَّتي ، ليس أمراً عارضاً لي !! " .
          و نظيره قوله تعالى في سورة فاطر (3) : ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُمْ منَ ٱلسَّمَآءِ وَ ٱلأَرْضِ ، قال الزّركشي في " البرهان في علوم القرآن " ( 4/67 ) : " لو قيل : ( رازقكم ) لفات ما أفاده الفعل من تجدّد الرّزق شيئاً بعد شيءٍ ، و لهذا جاءت الحال في صورة المضارع مع أنّ العامل الّذي يُفيدُه ماضٍ ، كقولك : جاء زيدٌ يَضربُ ، و في التّنزيل : ﴿ وَ جَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ ( يوسف : 16 ) ؛ إذ المرادُ أن يريد صورة ما هم عليه وقت المجيء و أنّهم آخذون في البكاء يجدّدونه شيئاً بعد شيءٍ ، وهذا هو سِرُّ الإعراض عن اسم الفاعل و المفعول إلى صريح الفعل و المصدر " .

          تعليق


          • #20
            سورةُ التّوبَة

            حُكمُ القِراءَةِ بالمدِّ المُتَّصِل



            قال الله تعالى : ﴿ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ ( التّوبة : 60 ) .
            عن ابن يزيد الكِندِي قال : " كان ابنُ مسعودٍ يُقرئُ رجلاًَ ، فقرأ الرّجلُ : ﴿ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ مرسلةً ، فقال ابنُ مسعودٍ : ما هكذا أَقْرَأَنِيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، قال : كيف أَقرَأَكَها يا أبا عبد الرّحمن ؟ قال : أقرأنيها : ﴿ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ فمدّها " رواه الطّبراني في " المعجم الكبير " ( 8677 ) ، وابن الجَزَري في " النّشر في القراءات العشر " ( 1/316 ) و قوّاه ، و حسّنه الألبانيّ في " السّلسلة الصّحيحة " ( 2237 ) .
            في هذا الحديث ثلاث فوائد :
            الأولى : فيه الاستدلال للمدّ المتّصل .
            الثّانية : فيه تأييدٌ لما ذهب إليه ابن الجزري في كتابه المذكور ، من وجوب مدّ المتّصل ، بل ذكر أنّ قَصْرَه غيرُ جائزٍ عند جميع القرّاء ، و قال عن بعض القرّاء ( 1/315 ) : " ثمّ ذكر التّفرقة بين ما هو من كلمةٍ فيُمدّ ، و ما هو من كلمتين فيُقصر ، قال : و هو مذهب أهل الحجاز غير ورشٍ و سهلٍ و يعقوبَ ، و اختُلف عن أبي عمرو ، و هذا نصٌّ فيما قلناه ، فوجب أن لا يُعتقد أنّ قصر المتّصل جائزٌ عند أحدٍ من القرّاء ، وقد تتبّعتُه فلم أجده في قراءةٍ صحيحةٍ و لا شاذّةٍ ، بل رأيتُ النّصّ بمدّه عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه يرفعه إلى النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم فيما أخبرني الحسن بن محمّدٍ الصّالحي فيما قُرئ عليه و شافهني به عن عليّ بن أحمدَ المقدسي " ، ثمّ أسنده من طريق الطّبراني ، و قال : " و هذا حديثٌ جليلٌ حجّةٌ و نصٌّ في هذا الباب ، و رجال إسناده ثقاتٌ ... " .
            الثّالثة : أنّ لقاعدة القرّاء : ( القرآن يؤخذ من أفواه أهله ) أصلاً ؛ فإنّ ابنَ مسعود رضي الله عنه أنكر على الرّجل تركَ هذا المدّ ، و استدلّ عليه بما تعلّمه من رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ، و لذلك فإنّ إسناد إقراء القرآن لا ينقطع ، و تجد القرّاء يسندون إلى شيوخهم – و لو في عصرنا هذا – حتّى يبلغوا بالإسناد أصحابَ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ، وهذا من حفظ الله لكتابه ، و الحمد لله .
            فائدة : قد يجتمع في الكلمة المرسومة رسمَ كلمةٍ واحدةٍ مدّانِ : أحدهما منفصلٌ ، و الآخر متّصلٌ ؛ و ذلك إذا كانت الكلمة في أصلها كلمتين ، مثل كلمة ﴿ هَؤُلآء ، فإنّ المدّ الأوّل منفصلٌ و هو ( ها ) و الثّاني متّصلٌ و هو ( أولاء ) ؛ و ذلك لأنّ هذه اللّفظةَ مكوّنةٌ من كلمتين كما هو معلومٌ ، و لذلك فإنّ القرّاءَ الّذين يقتصرون على مدّ المتّصل يمدّون الأوّل مدًّا طبيعيًّا و يزيدون في الثّاني ، و إن شَرطَ بعضهم لذلك شروطاً ، لكن ليس هذا بحثنا .

            تعليق


            • #21
              سورةُ يُونُسَ

              دلالةُ حَذفِ المفعولِ و إثباتِه



              قال الله تعالى : ﴿ وَ ٱللَّهُ يَدْعُوۤ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ وَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( يونس : 25 ) .
              لم يذكر الله تعالى المفعول في الشّطر الأوّل من الآية ، وذكره في الشّطر الثّاني ، أي أبهم الله تعالى المدعوَّ هنا ، فقال : ﴿ وَ ٱللَّهُ يَدْعُوۤ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ ؛ لأنّه يدعو الجميع إلى الجنّة دار السّلام ، ولكنّه عند قوله : ﴿ وَ يَهْدِي أشار إلى المفعول الّذي هو الجملة الاسميّة : ﴿ مَن يَشَآءُ ؛ و ذلك لأنّه يخصّ بهدايته من يشاء ، و ذلك بحكمته و فضله ، هذه الفائدة استفدتها من كتاب " قطف الجنى الدّاني في شرح مقدّمة ابن أبي زيد القيرواني " لشيخنا عبد المحسن العبّاد البدر حفظه الله ، فقد قال ( ص 107 ) : " و الهدايةُ هدايتان : هداية الدّلالة و الإرشاد و هذه حاصلةٌ لكلّ أحدٍ ، و هداية التّوفيق و هي حاصلةٌ لمن شاء الله هدايته ، و من أدلّة الهداية الأولى قول الله عزّ و جلّ لنبيّه صلّى الله عليه و سلّم : ﴿ وَ إِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( الشّورى : 52 ) ، أي إنّك تدعو كلّ أحدٍ إلى الصّراط المستقيم ، و من أدلّة الهداية الثّانيّة قول الله عزّ و جلّ : ﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ ( القصص : 56 ) ، و قد جمع الله بين الهدايتين في قوله : ﴿ وَ ٱللَّهُ يَدْعُوۤ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ وَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( يونس : 25 ) ، فقوله : ﴿ وَ ٱللَّهُ يَدْعُوۤ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ أي كلّ أحدٍ ، فحذف المفعول لإرادة العموم ، و هذه هي هداية الدّلالة و الإرشاد ، و قوله : ﴿ وَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ أظهر المفعول لإفادة الخصوص ، و هي هداية التّوفيق " .
              و قد جمع الله أيضاً بين الهدايتين في آية واحدة ، و هي الآية ما قبل الأخيرة من سورة الشّورى ، و هي قوله عزّ وجلّ : ﴿ وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً منْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَ لاَ ٱلإِيمَانُ وَ لَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( الشّورى : 52 ) ، لكن مع اختلاف الفاعل ؛ فإنّ فاعلَ الهدايتين في سورة يونسَ هو الله ، و أمّا في سورة الشّورى فإنّ فاعل الهداية الأولى هو الله ، ولذلك جاء الفعل بحرف نون العظمة و عُدّي بنفسه إلى المفعول ؛ لأنّها هداية التّوفيق ، و هي قوله : ﴿ نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا ، و أمّا فاعل الهداية الثّانيّة فهو النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم ، و لذلك جاء الفعل بحرف تاء المخاطب و عُدّي ب ( إلى ) ؛ لأنّها هداية الدّلالة و الإرشاد ، و هي قوله : ﴿ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ، هذا ملخّصُ ما سمعته من الشّيخ محمّد العثيمين رحمه الله في شرحه لأصول التّفسير .
              و نظيره من السّنّة قول رسول الله صلّى الله عليه و سلّم : " إذا اختلف البيّعان و ليس بينهما بيّنة ، فهو ما يقول ربّ السّلعة أو يتتاركان " أخرجه أبو داود ( 3511 ) و غيره ، و صحّحه الألبانيُّ فيه ، و الشّاهد منه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذكر هنا اختلاف المتبايعَيْنِ ، لكنّه لم يذكر المختلَف فيه ، قال الشّوكاني في " نيل الأوطار " ( 5/341 ) : " و لم يذكر الأمر الّذي فيه الاختلاف ، و حذفُ المتعلّق مشعرٌ بالتّعميم في مثل هذا المقام على ما تقرّر في علم المعاني ، فيعمّ الاختلاف في المبيع و الثّمن ، و في كلّ أمرٍ يرجع إليهما ، و في سائر الشّروط المعتبرة ، و التّصريح بالاختلاف في الثّمن في بعض الرّوايات كما وقع في الباب لا ينافي هذا العموم المستفاد من الحذف " .

              تعليق


              • #22



                سورةُ هود

                سِرُّ اقترانِ التّوبَة بالاستِغفَار



                قال الله تعالى : ﴿ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ منْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ . وَ أَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُمَتعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَ إِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ( هود : 2-3 ) .
                نكرّر في هذه السّورة قرنُ التّوبة بالاستغفار ، و هذه الآيات هي الموضعُ الأوّل منها ، و فيها أيضاً في قصّة هودٍ صلّى الله عليه و سلّم ، فقد أخبر الله تعالى أنّه قال لقومه : ﴿ وَ يٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مدْرَاراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَ لاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ ( هود : 52 ) ، و الموضع الثّالث في قصّة صالحٍ صلّى الله عليه و سلّم ، فقد أخبر الله تعالى أنّه قال لقومه : ﴿ فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ( هود : 61 ) ، و الموضع الرّابع في قصّة شُعيبٍ صلّى الله عليه و سلّم ، فقد أخبر الله تعالى أنّه قال لقومه : ﴿ وَ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبي رَحِيمٌ وَدُودٌ ( هود : 90 ) ، و قال عزّ و جلّ في سورة المائدة : ﴿أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ ٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( المائدة : 74 ) ، ولعلّ السّرّ في ذلك أنّ المرءَ لمّا كان خطّاءً ، فهو بحاجة إلى أن يستغفر ربّه من أخطائه ، فهذا هو الاستغفار الّذي في الآيات ، كما أنّه بحاجةٍ إلى أن يعزم على عدم العود إلى ذنوبه ، و هذا هو التّوبة الّتي ورد ذكرُها في الآيات ، و الإنسان شديد الغفلة فهو بحاجة إلى أن يُحفظ من سيّئات ماضيه و أن يَحذَرَ سيّئات مستقبله ، فقوله : ﴿ وَ أَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ للماضي ، و قوله : ﴿ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ للمستقبل ، كما حكاه الشّوكانيّ في " فتح القدير " ( 2/481 ) عن بعضهم ، لكن لعلّ طالبَ العلم المتدبّرَ لآيات الباب قد شدّ انتباههه أمرٌ ثالثٌ تكرّر فيها أيضاً سوى الأمر بالاستغفار و الأمر التّوبة ، ألا و هو قوله سبحانه : ﴿ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ ، جاء في الآية (2) و (26) ، و جاء في ثلاثة مواضع أخرى (50) و (61) و (84) بلفظ : ﴿ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ منْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ ، فكان ما ذكر في الأمرين السّابقين خاصًّا بإصلاح وقتٍ مضى و وقتٍ مستقبل ، و معلومٌ أنّ الأوقات ثلاثة ، و الوقت الثّالث المتبقّى هو الوقت الحاضر ، فبكون هذا هو محلّ امتثال الأمر الثّالث المنوّه به قريباً ، نبّهَ عليه ابن القيّم في كتابه الفذّ " الفوائد " فقال ( ص 116-117 ) : " هلّم إلى الدّخول على الله و مجاورته في دار السّلام بلا نصبٍ و لا تعبٍ و لا عناءٍ ، بل من أقرب الطّرق و أسهلها ‏،‏ و ذلك أنّك في وقتٍ بين وقتين و هو في الحقيقة عُمُرك ، و هو وقتك الحاضر بين ما مضى و ما يُستقبل ، فالّذي مضى تصلحه بالتّوبة و النّدم و الاستغفار ، و ذلك شيءٌ لا تعبَ عليك فيه و لا نصبَ و لا معاناةَ عملٍ شاقٍّ ، إنّما هو عمل قلبٍ ‏، و تمتنع فيما يستقبل من الذّنوب ، و امتناعك تركٌ و راحةٌ ليس هو عملاً بالجوارح يشقّ عليك معاناته ، و إنّما هو عزمٌ و نيّةٌ جازمةٌ تريح بدنك و قلبك و سرّك ، فما مضى تصلحه بالتّوبة ، و ما يُستقبل تصلحه بالامتناع و العزم و النّيّة ، و ليس للجوارح في هذين نصبٌ و لا تعبٌ ، و لكن الشّأنُ في عمرك و هو وقتك الّذي بين الوقتين ، فإنّ أضعته أضعتَ سعادتك و نجاتك ، و إن حفِظته مع إصلاح الوقتين اللّذين قبله و بعده بما ذُكر نجوت و فزتَ بالرّاحة و اللّذة و النّعيم ‏،‏ و حفظُه أشقّ من إصلاح ما قبله و ما بعده ، فإنّ حفظه أن تُلزم نفسك بما هو أولى بها و أنفع لها و أعظم تحصيلاً لسعادتها ،‏ و في هذا تفاوتَ النّاس أعظم تفاوت ، فهي - و الله ! - أيّامك الخالية الّتي تجمع فيها الزّاد لمعادك ، إمّا إلى الجنّة ، و إمّا إلى النّار ، فإن اتّخذت إليها سبيلاً إلى ربّك بلغت السّعادة العظمى و الفوز الأكبر في هذه المدّة اليسيرة الّتي لا نسبة لها إلى الأبد ، و إن آثرت الشّهوات و الرّاحات و اللّهو و اللّعب انقضَتْ عنك بسرعةٍ و أعقبَتْك الألمَ العظيم الدّائم الّذي مقاساته و معاناته أشقّ و أصعب و أدوم من معاناة الصّبر عن محارم الله و الصّبر على طاعته و مخالفة الهوى لأجله " ‏.‏
                إنّ هذا الّذي فسّر به ابن القيّم رحمه الله الآيات السّابقة استباطُ عارفٍ بهدي السّلف ، متشبّعٍ بما هدوا إليه من معاني الكتاب الكريم ، فقد جاء في كتاب " الزّهد الكبير " للبيهقي ( 2/196-197 ) آثارٌ في هذا المعنى ، منها ( 477 ) عن الحسن قال : " الدّنيا ثلاثة أيّام : أمّا أمس فقد ذهب بما فيه ، و أمّا غداً فلعلّك أن لا تدركه ، فاليوم لك فاعمل فيه " ، و روى أيضاً ( 478 ) عن عبد الله بن مُنازل قال : " من اشتغل بالأوقات الماضية و الآتية ذهب وقته بلا فائدة " .
                قلتُ : هذا على معنى أنّ من ترك وقته الحاضر اشتغالاً بوساوس الوقت القديم ، فإنّ هذا يقعده عن العمل ، لا سيما إن كان فيه من أهل التّفريط ؛ لأنّه لايزال الشّيطان يذكّره بها حتّى يبعث في نفسه اليأس ، وكذلك من اشتغل بالمستقبل عن حاضره ، فإنّه لا يزال في الأحلام و الخيالات حتّى ينطبع قلبه على طول الأمل ، ولذلك روى أيضاً ( 479 ) عن شميط بن عجلان (1) أنّه قال : " إنّ المؤمن يقول لنفسه : إنّما هي ثلاثةٌ : فقد مضى أمس بما فيه ، و غداً أملٌ لعلّك لا تدركه ، إنّك إن كنتَ من أهل غدٍ ، فإنّ غداً يجيء برزق غدٍ ، إنّ دون غدٍ يوماً و ليلةً تُخترم فيها أنفسٌ كثيرةٌ ، لعلّك المخترمُ فيها ، كفى كلَّ يومٍ همّه " ، وروى أيضاً ( 480 ) عن أبي سعيدٍ الخرّاز أنّه قال : " الاشتغال بوقتٍ ماضٍ تضييعُ وقتٍ ثانٍ " ، و روى أيضاً ( 482 ) عن إبراهيم بن شيبان الزّاهد أنّه قال : " من حفظ على نفسه أوقاتَه فلا يضيّعُها بما لا يرضي الله فيه ، حفظ الله عليه دينه و دنياه " ، و قد قيل :
                فاغنَموا فُرصتي فإنّي فانٍ ..... و استفيدوا ما عِشتُم من عِظاتي
                ما مضى فات و المؤمّلُ غيبٌ ..... و لك السّاعة الّتي أنتَ فيها

                ___________________
                (1) : شُمَيْط ؛ بالمُعجمة مصغّر ، كما في " تقريب التّهذيب ( 1/666 ) [ أبو حاتم ] .

                تعليق


                • #23
                  سورةُ يُوسُفَ

                  أنواعُ تَعبِير الرُّؤيا الصَّالحةِ


                  قال الله تعالى في شأن يوسف صلّى الله عليه و سلّم : ﴿ وَ دَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَ قَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ ( يوسف : 36 ) .
                  ذكر الله ههنا نوعين من الرّؤى ، فلا بدّ أن يكون في ذلك حكمةٌ ؛ لأنّ الله لا يقصُّ علينا ما لا فائدة فيه ، و الجوابُ يُعلم من تأويل يوسف صلّى الله عليه و سلّم لهما ، فقد أخبر الله أنّ يوسف صلّى الله عليه و سلّم عبّرها فقال : ﴿ يٰصَاحِبَيِ ٱلسجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ( يوسف : 41 ) ، فكان تعبيره للأولى مطابقاً لظاهرها ، و أمّا الثّانية فقد كان تعبيره لها على خلاف ذلك ؛ لنستفيدَ نحن أنّ تأويل الرّؤيا على قسمين :
                  - منه ما هو حقيقةٌ ، فيُعبّر على ظاهره ، و من ذلك أيضاً تعبير الخليل إبراهيم صلّى الله عليه و سلم الرّؤيا الّتي قصّها الله علينا في سورة الصّافات بظاهرها ، كما قال الله تعالى : ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ قَالَ يٰبُنَيَّ إِنيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَني أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ( الصّافات : 102 ) ، و معلومٌ أنّ إبراهيم صلّى الله عليه و سلّم ذهب يعمل بحقيقتها ، كما قال سبحانه : ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَ نَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ ( الصّافات : 103-105 ) ، و في هذا ردٌّ على من يعتقد أنّ الرّؤى لا تؤوّل إلاّ بعكسها .
                  - و منه ما هو مثلٌ لا حقيقةٌ ، فيحتاج في تعبيره إلى النّظر في الأمثال و النّظائر ليُخرَّج عليها ، و قد سألتُ عن ذلك شيخَنا الشّيخ عبد المحسن بن حمد البدر ، - حفظه الله من كلّ سوء – فأجابني بما لخّصته آنفا ، و الحقيقة أنّ كلاًّ من النّوعين يحتاج إلى إعمال فكرٍ و رويّة ، و ما يُفسّر بظاهره ليس بأسهل ممّا يؤوّل على غيره ؛ لأنّ أوّل خُطوةٍ تَصعب على المعبِّر هي التّمييز بين الأوّل و الثّاني ، فربّ رؤيا ليس لها تأويلٌ إلاّ ما دلّ عليه ظاهرها يتكلّفُ لها المُعبّر الأمثال فيُبعِد ، ثمّ إنّ ما كان من باب الأمثال بابٌ واسعٌ ، فقد يكون بدلالة القرآن أو بدلالة السّنّة أو بالأمثال السّائرة أو بالموافقات اللّفظيّة أو بقلب الرّؤيا و غيرها ، و سيجد القارئ له أمثلةً عديدةً عند التّعرّض لسورة المنافقون إن شاء الله .

                  تعليق


                  • #24
                    دفعُ إشكالٍ في تنوُّع الضّمائِرِ و الفرحُ بذَلك



                    قال الله تعالى : ﴿ حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ وَ ظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجيَ مَن نَّشَآءُ وَ لاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ ( يوسف : 110 )
                    قال ابن كثيرٍ رحمه الله في تفسيره : " يذكر تعالى أنّ نصره يَنزل على رسله صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين عند ضِيق الحال و انتظار الفَرَج من الله في أحوج الأوقات إليه ، كقوله تعالى: ﴿ وَ زُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ الآية ( البقرة : 214 ) " .
                    قُرئت آية الباب بالتّشديد في قوله تعالى : ﴿ كُذِِّبُواْ ، و جاء تفسيرها في " صحيح البخاري " ( 4695 ) عن عروة " أنّ عائشة رضي الله عنه قالت له – و هو يسألها عن قول الله تعالى : ﴿ حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ – قال : قلتُ : أَ ﴿ كُذِبُواْ أم ﴿ كُذِّبُواْ ؟ قالت عائشة : ﴿ كُذِّبُواْ ، قلت : فقد استيقنوا أنّ قومهم كذّبوهم ، فما هو بالظنّ ، قالت : أجل لَعَمري ! لقد استيقنوا بذلك ، فقلت لها : و ظنّوا أنّهم قد كُذِبوا ؟ قالت : معاذ الله ! لم تكن الرّسل تظنّ ذلك بربّها ، قلت: فما هذه الآية ؟ قالت هم أتباع الرّسل الّذين آمنوا بربّهم و صدّقوهم ، فطال عليهم البلاء و استأخر عنهم النّصر حتّى إذا استيأس الرّسل ممّن كذّبهم من قومهم و ظنّت الرّسل أنّ أتباعهم قد كذّبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك " .
                    كما قُرئت بالتّخفيف : ﴿ كُذِبُواْ ، و قد استشكل بعض النّاس معنى أنّ الرّسل ظنّوا أنّهم قد كُذِبوا ؛ لأنّه فهم من الآية أنّ الرّسل ظنّوا أنّ ربّهم كذبهم حين وعدهم بالنّصر ولم يحصل في زمنٍ ما ، و حاشاهم أن يخطر هذا منهم على بالٍ ، وقد وقع هذا الاستشكال لبعض السّلف حتّى إنّه كان يَضِيق صدره حين يقرأ هذه السّورة من أجل ذلك الإشكال الّذي كان يراوده ، لكنّه سارع إلى سؤال أهل العلم عنه و فرح بما فرّج الله عنه من الفهم الصّحيح بعد ذلك ، فقد روى ابنُ جريرٍ في " تفسيره " ( 13/387-388 ) بسندٍ صحيحٍ عن إبراهيمَ بن أبي حرَّة الجَزَري قال : " سأل فتًى من قريش سعيدَ بنَ جبير ، فقال له : يا أبا عبد الله !كيف تقرأ هذا الحرف ؛ فإنّي إذا أتيت عليه تمنّيتُ أن لا أقرأ هذه السّورة : ﴿ حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ وَ ظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ ؟ قال : نعم ! حتّى إذا استيأس الرّسل من قومهم ، يصدّقوهم و ظنّ المرسَلُ إليهم أن الرّسل كَذَبوا ، قال فقال الضَّحَّاك بن مُزاحِم : ما رأيتُ كاليومَ قطّ رجلاً يدعى إلى علمٍ فيتلكّأ !! لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلاً !! " ، و روى أيضاً بسندٍ حسنٍ عن كَلثوم بن جبرٍ أنّ مُسلمَ بن يسار سأل سعيد بن جبير ، فقال : " يا أبا عبد الله !آية بلغت منّي كلّ مبلغٍ : ﴿ حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ وَ ظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ ، فهذا الموت أن تظنّ الرّسل أنّهم قد كُذِبوا أو أن نظنّ أنّهم قد كُذِبوا ( مخفّفةٌ ) !! قال : فقال سعيد بن جبير : يا أبا عبد الرّحمن ! حتّى إذا استيأس الرّسل من قومهم أن يستجيبوا لهم ، و ظنّ قومهم أنّ الرّسل كذبتهم : ﴿ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَ لاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ ، قال : فقام مسلمٌ إلى سعيد فاعتنقه (1) ، و قال : فرّج الله عنك كما فرّجت عنّي ! " ؛ و ذلك بعود الضّمير في ﴿ ظَنُّوۤاْ على الكفّار ، و لو كان عائداً على الرّسل لأوهم أنّ الرّسل ظنّوا أنّ الله قد كَذَبهم ، و هذا لا يجوز أن يُتصوّر فيهم بحالٍ من الأحوال ، فلا بدّ حينئذٍ من تعدّد الضّمائر هنا ، فيكون فاعل ﴿ ٱسْتَيْأَسَ هو الرّسل أنفسهم ، و فاعل ﴿ ظَنُّوۤاْ هو الضّمير الظّاهر الواو العائد على الكفّار ، نظيره قوله تعالى : ﴿ لتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً ( الفتح : 9 ) ، فإنّ ضمير المفعول في قوله : ﴿ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ عائدٌ على الرّسول صلّى الله عليه وسلّم و أمّا في قوله : ﴿ وَ تُسَبِّحُوهُ فهو راجعٌ إلى الله ؛ لأنّ الرّسول صلّى الله عليه و سلّم لا يُسبَّح كما هو معلومٌ من آيات ٍ من كتاب الله لا تكاد تُحصى ، و يُراجع " تهذيب الأجوبة " للحسن بن حامد المتوفّى سنة ( 403 هـ ) ( 2/745-746 ) و كذا " تفسير الشّوكاني " عند آية الفتح .

                    __________________________________
                    (1) : تأمّل هدي السّلف مع العلماء ، و العالمُ بالشّرع اليومَ لو فسّر آيةً أو شرَح حديثاً نبويّاً أو أصدر فتوى ، لقام إليه الحركيّ لا ليعتنقه بل ليخنقه ! [ أبو حاتم ] .

                    تعليق


                    • #25
                      سورةُ الرَّعدِ

                      دعوَة التّوحيدِ هي دعوةُ الحَقّ




                      قال الله تعالى : ﴿ لَهُ دَعْوَةُ ٱلْحَق وَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَ مَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَ مَا دُعَآءُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ( الرّعد : 14 ) .
                      روى ابن جريرٍ رحمه الله في " تفسيره " ( 13/485-486 ) عن عليّ بن أبي طالبٍ أنّ دعوة الحقّ في الآية هي التّوحيد ، و رواه أيضاً عن ابن عبّاس و قتادةَ و ابن زيدٍ ، و يمكن أن يُراجع له " تفسير عبد الرّزاق " ( 2/334 ) و " الدّعاء " للطّبراني ( 1580-1581 ) و " الفوائد المنتقاة عن الشّيوخ العوالي " لأبي الحسن الحربي ( 82 ) و " الأسماء و الصّفات " للبيهقي ( 204 ) .
                      و هذا التّفسير السّلفيّ المختار واضح المعنى من جهتين :
                      الأولى : السّياق ؛ فإنّ ما بعده يدلّ عليه على وجه المقابلة ، وذلك قوله تعالى : ﴿ وَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الآية .
                      الثّانية : أنّ كلّ دعوةٍ لم تؤصّل على التّوحيد و لم تؤسّس عليه فلا نفع فيها و لا ثبوت لها و لا قرار في الدّنيا ، و لا أجر فيها يوم القيامة ، و لو لم يكن فيها إلاّ مخالفة جميع الرّسل لكفى به إثماً ، قال الله عزّ و جلّ : ﴿ وَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ ( الأنبياء : 25 ) ، و في هذا أبلغ واعظٍ للدّعوات الّتي لا تهتمّ بالتّوحيد أو لا تركّز عليه ، فكيف بدعوة تجهَل التّوحيد من أصله و لا تفرّق بين التّوحيد و الشّرك ؟! فكيف بدعوةٍ تحارب التّوحيد و أهله ؟!
                      و كم هم الّذين لم تنشرح صدورهم لهذه الدّعوة المباركة ؛ بزعم أنّ الدّعوة إلى التّوحيد تنفّر النّاس عن الدّين ، أو أنّ النّاس يملّون خطابها و لا ينفعلون معها ، و أنّ الحكمة تقتضي من صاحبها تأجيلها ، و هؤلاء يخطئون خطأً فاحشاً ؛ لأنّهم بهذا يطعنون على دعوة الأنبياء من حيث لا يشعرون ، و منه جعلُ الأنبياء غير حكماء !!!
                      و إنّه لمن حسن الاختيار أن تسمِّيَ بعض المؤسّساتِ التّعليميةِ الكلّيّةَ المختصّة بالعقيدة : كلّيّة الدّعوة ؛ لأنّ الدّعوة إلى معتقد السّلف الصّالح من المهاجرين و الأنصار و من تبعهم بإحسان هي أصل الدّعوة و ركيزتها الأولى ، و مهما دعت الجماعات و الجمعيّات - فضلاً عن الأفراد – إلى الأبواب الأخرى من علوم الدّين ، فإنّ عملهم لا يُعدّ شيئاً ، حتّى يُعنوا بحقّ الله عزّ و جلّ الّذي هو أن يُفرد سبحانه بالعبادة لا تأخذهم في ذلك لومة لائمٍ ، مقدّمين حقّ الله على جميع الحقوق ، و مقتدين في ذلك برسل الله عزّ و جلّ ، متيقّنين بأنّ هديهم هو أكمل هدي ، وأنّ السّبل الدّعوية الأخرى مهما كثر أتباعها و تمكّن أشياعها فإنّما هي تزيينٌ من الشّيطان ، قال الله تعالى : ﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءَ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ( فاطر : 8 ) ، مدركين بأنّ تَجَمْهُر النّاس حول خطبهم الرّنّانة الغنيّة من كلّ شيءٍ سوى التّوحيد و السّنّة ما هو إلاّ فتنةٌ لهم ؛ كما في سورة الأنبياء ( 111 ) : ﴿ وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَ مَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ، و أنّ جمالها كجمال حسناء توشك أن تسيء الجوار و توحش الدّيار .
                      و قد ذكر الله في كتابه وصيّة لقمان لابنه ، و ذكر أنّ أوّل شيءٍ وعظه به هو التّحذير من الشّرك ، فقال : ﴿ وَ إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان : 13 ) ، و ذكر عزّ و جلّ أنّه آتى لقمان الحكمةَ ، فقال : ﴿ وَ لَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ ( لقمان : 12 ) ، و بعض الدّعوات تدّعي أنّ تأجيل الحديث عن التّوحيد و الشّرك هو الحكمة ؛ بحجّة أنّ مخالفة ما ادَّعَوْهُ ينفّر النّاس الّذين اعتادوا بعض الطّقوس الشّركيّة !! و قارئ هذه الآية الكريمة لو صدّقهم فيما ادّعوه لرمى لقمان الحكيم بمجانبة الحكمة ، و لطعن على كتاب الله من حيث لا يشعر ، فالله يصف الدّاعيَ إلى التّوحيد بل البادئَ به بالحكمة ، و هم يخالفون ذلك ! فليكن هؤلاء المخالفون لحكمة لقمان أوّل المستفيدين من هذه الموعظة ، و سيّد الحكماء رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يقول لمعاذ بن جبلٍ رضي الله عنه لمّا أرسله إلى اليمن داعياً : "إنّكَ تقدَمُ على قومٍ من أهل الكتاب ، فليكن أوّلَ ما تدعوهم إلى أَن يوّحدوا الله تعالى ، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خَمسَ صلواتٍ في يومهم و ليلتهم ، فإذا صلَّوْا فأخبرهم أنَّ الله افترض عليهم زكاةً في أَموالهم تُؤخذ من غنيّهم فتُردّ على فقيرهم ، فإذا أقرّوا بذلك فخذ منهم و توقَّ كرائم أموال النّاس " متّفقٌ عليه من حديث ابن عبّاس .
                      ألا – أيّها المتصدّون لدعوة النّاس !– كونوا متّبعين لا مبتدعين ، و عظّموا حقّ الله تعظُموا في عين الله ، و لا يغرّنّكم تصفيق أتباعكم ، و كثرة أشياعكم ، و جرّ أذيالكم ؛ فإنّهم لن يغنوا عنكم يوم القيامة من الله شيئاً ، و لن تنجح دعوتكم أبداً ما أعرضتم عن دعوة الحقّ ، و كلّ تجربةٍ دعويّةٍ ترونها جميلةً لمّاعة ، و للجماهير جمّاعة ، و للقلوب ميّالة ، و للدّموع سيّالة ، فلا تسلّموا لها حتّى يكون عليها برهانٌ من صاحب الشّريعة ؛ فإنّ الدّعوة -كغيرها من مهمّات الدّين - لا تكون إلاّ بإذن من الله و تشريعه ، لا التّجارب و العواطف و الاستجابة لرغبات العَوَامّ ، قال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ( 15/161-164 ) : " و دعوته إلى الله هي بإذنه ، لم يشرَع ديناً لم يأذن به الله ؛ كما قال تعالى : ﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً . وَ دَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِرَاجاً مُّنِيراً ( الأحزاب : 45-46 ) ، خلاف الّذين ذمّهم في قوله : ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ منَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ ( الشّورى : 21 ) ، و قد قال تعالى : ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِن رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ منْهُ حَرَاماً وَ حَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ ( يونس : 59 ) ، و ممّا يبيّن ما ذكرناه أنّه سبحانه يذكر أنّه أمَرَه بالدّعوة إلى الله تارةً ، و تارةً بالدّعوة إلى سبيله ، كما قال تعالى : ﴿ ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَ ٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ ( النّحل : 125 ) ؛ و ذلك أنّه قد عُلم أنّ الدّاعيَ الّذي يدعو غيرَه إلى أمرٍ لا بدّ فيما يدعو إليه من أمرين : أحدهما : المقصود المراد ، و الثّاني : الوسيلة و الطّريق الموصِل إلى المقصود ، فلهذا يذكر الدّعوة : تارة إلى الله ، و تارة إلى سبيله ، فإنّه سبحانه هو المعبود المراد المقصود بالدّعوة ... و ذلك يتعلّق بتحقيق الألوهيّة لله و توحيده و امتناع الشّرك ، و فسادُ السّموات و الأرض بتقدير إلهٍ غيره ، و الفرق بين الشّرك في الرّبوبية و الشّرك في الألوهيّة ، و بيان أنّ العباد فُطروا على الإقرار به و محبّته و تعظيمه ، و أنّ القلوب لا تصلح إلاّ بأن تعبد الله وحده ، ولا كمال لها و لا صلاح و لا لذّة و لا سرور و لا فرح و لا سعادة بدون ذلك و تحقيق الصّراط المستقيم صراط الّذين أنعم الله عليهم من النّبيّين و الصّدّيقين و الشّهداء و الصّالحين ، وغير ذلك ممّا يتعلّق بهذا الموضع الّذي في تحقيقه تحقيقُ مقصود الدّعوة النّبويّة و الرّسالة الإلهيّة ، و هو لبّ القرآن و زبدته ، و بيان التّوحيد العلميّ القوليّ المذكور في قوله :﴿ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ . ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ ( الإخلاص : 1-2 ) ، و التّوحيد القصديّ العمليّ المذكور في قوله تعالى : ﴿قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ ( الكافرون : 1 ) ، و ما يتّصل بذلك ؛ فإنّ هذا بيانٌ لأصل الدّعوة إلى الله و حقيقتها و مقصودها " .
                      و هذا مقامٌ شريفٌ ، بل هو أشرف مقامٍ قامه الدّاعي إلى سبيل ربّه ، و لو فرغتُ له و جرّدت قلمي له خالصاً ما أدّيتُ ما يجب لله عليّ فيه ، و إنّما أردت بهذه الفائدة أمرين :
                      الأوّل : استنهاض همم الدّاعين إلى الله نحو التّوحيد و تعظيم شأنه ، لا سيما الزّاهدين المزهّدين للأمّة فيه ، و الأمر يشتدّ مع الّذين اتّخذوا من التّقصير في هذا الجانب شعاراً لدعوتهم ؛ زاعمين أنّهم يتجنّبون ما يُملّ النّاس أو يجرح مشاعرهم و لو كان هو حقّ الله الخالص !! فالتّوحيد هو حقّ الله الأعظم ، ففي الصّحيحن عن معاذ بن جبل قال : قال النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم : " يا معاذ ! أتدري ما حقّ الله على العباد ، قال : الله و رسوله أعلم ، قال ، أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئاً ، أتدري ما حقّهم عليه ، قال : الله و رسوله أعلم ، قال : أن لا يعذّبهم " ، و قد نبّه القرطبيّ رحمه الله في " الجامع لأحكام القرآن " ( 2/190 ) على نكتةٍ بديعةٍ في مناسبة قول الله تعالى : ﴿ وَ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ ( البقرة : 163 ) لآيةٍ قبلها ، و هي قوله : ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَينَاتِ وَ ٱلْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ ( البقرة : 159 ) ، فقال : " لمّا حذّر تعالى من كتمان الحقّ بيّن أنّ أوّل ما يجب إظهاره و لا يجوز كتمانه التّوحيد ، و وصل ذلك بذكر البرهان " .
                      الثّاني : التّذكير بأنّ تفسير السّلف هو أحسنُ تفسيرٍ ، و إن نَبَتْ عنه أفهام النّاس ، كما رأينا في تفسير آية الباب ، فهذه هي المحجّة البيضاء ، و هؤلاء هم السّالكون جادّتها ، فخذوا طريقها ، و الزموا فريقها ، و العاقبة للتّقوى .
                      تنبيهٌ : كتب بعض من لا يهتمّ بالتّوحيد ما سمّوه : " التّوحيد أوّلاً لو كانوا يعلمون " ، لكنّ سُداه و لُحمته عندهم الحاكميّة و التّشهير بمثالب السّلاطين ، و كلّ همّهم في ذلك الوصول إلى تكفير الحكّام بلا تفصيلٍ !! و آيتهم الثّرثرةُ بالإرجاء و رميُ كلّ من لا يوافقهم به ، فليحذر هؤلاء ؛ فإنّ الحقّ فيما كتبوا أن يسمّى : التّكفير أوّلاً لو كانوا يعلمون !!

                      تعليق


                      • #26
                        سورةُ إبراهيمَ
                        بعضُ أسرَار تَنوُّع أدواتِ الحصْر





                        قال الله تعالى : ﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي ٱللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَ ٱلأَرْضِ يَدْعُوكُُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ من ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخرَكُمْ إِلَىۤ أَجَلٍ مُّسَـمًّـى قَالُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ . قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مثْلُكُمْ وَ لَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَ علَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ( إبراهيم : 10-11 ) .
                        حرف ( إنّما ) يجيء لقصر الصّفة على الموصوف ، أو الموصوف على الصّفة ، و هو للحصر عند جماعةٍ كالنّفي مع الاستثناء ، كما في " مجموع الفتاوى " لابن تيمية ( 18/266 ) و " البرهان في علوم القرآن " للزّركَشي ( 4/231 ) و " الإتقان " للسُّيوطي ( 2/64 ) ، و المقصود بالنّفي مع الاستثناء أن يكونا في سياقٍ واحدٍ ، مثل استعمال أداة ( لا ) النّافية ، ثمّ إتباعها بأداة الإستثناء ( إلاّ ) ، و قد فرّق البيانيّون بين أداة ( إنّما ) و غيرها من أدوات الحصر بقولهم : الأصل أن تُستعمل ( إنّما ) فيما يعلمه المخاطَب و لا ينكره ، و منه قوله تعالى : ﴿ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِنْدَ ٱللَّهِ ( الملك : 26 ) ، و قوله : ﴿ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ ( هود : 33 ) ، و قوله : ﴿ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي ( الأعراف : 187 ) ، و قوله : ﴿ إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَق ( الشّورى : 42 ) ، و قوله : ﴿ وَ إِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ ( آل عمران : 20 ) ، و قد ذكر السّيوطي في "' الإتقان " ( 2/65 ) أنّ أحسن ما تُستعمل فيه ( إنّما ) هو ما كان من مواقع التّعريض ، نحو قوله تعالى : ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ ( الرّعد : 19 ) ، كأنّه قيل لهم : التّذكّر محصورٌ في أولي الألباب ، و لمّا لم تكونوا منهم لم تتذكّروا . هذا اختصار الكلام في أداة ( إنّما ) ، و أمّا ما يُستعمل له النّفي و الاستثناء فالأصل فيه أن يكون فيما يجهله المخاطَب أو ينكره ، نحو قوله عزّ وجلّ : ﴿ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ( الفرقان : 44 ) ، و قوله حاكياً مَقُولَة الكفّار : ﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَ نَحْيَا وَ مَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ . إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ ٱفتَرَىٰ عَلَىٰ ٱللَّهِ كَذِباً وَ مَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ( المؤمنون : 37-38 ) ؛ و ذلك لأنّ رسولهم جاءهم بإثبات البعث و الرّسالة ، فادَّعَوْا ضدّه و استعملوا لإنكاره أداة النّفي و الاستثناء .
                        و جاء في بعض السّياقات القرآنيّة استعمال الحصر في موضع النّفي و الاستثناء ، و استعمال النّفي و الاستثناء في موضع الحصر ، و منه قول الله عزّ وجلّ في المنافقين : ﴿ وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ( البقرة : 11 ) ، فقد استعملوا أداة ( إنّما ) في ادّعاء أنّهم مصلحون ، كأنّما يخاطبون من يدري في قرارة نفسه أنّهم مصلحون ، مع أنّ العكس هو الصّحيح ؛ لأنّ المنافقين مفسدون و ليسوا من الإصلاح بسبيلٍ ، و قد أعرضوا عن الأسلوب الدّال على واقعهم لادّعائهم أنّ إصلاحَهم معلومٌ ظهوره ، فنسبوا الإصلاح إلى أنفسهم و استعملوا له أداة ( إنّما ) خدعةً لسانيّةً ، و انظر " البرهان " للزَّركشي ( 4/312 ) .
                        و منه ما جاء مجتمعاً من هذا و من هذا ، كقول الله تعالى في سورة الشّعراء ( 153-154 ) عن قوم صالحٍ صلّى الله عليه و سلّم : ﴿ قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ . مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ ، و قوله فيها ( 185-186 ) إخباراً عن ردّ أصحاب الأيكة على نبيّ الله شعيب صلّى الله عليه و سلّم : ﴿ قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ . وَ مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مثْلُنَا وَ إِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ ٱلْكَاذِبِينَ ، فقد عبّروا عمّا ينكره كلّ رسولٍ بأداة ما لا يُنكر و هي ( إنّما ) ، و ذلك في وصفهم للرّسل بالسّحر ؛ لأنّهم ادَّعَوا أنّ هذا الوصف معلومٌ ، فنزّلوا المنكرَ المجهولَ منزلةَ المعروفِ المعلومِ ، و هذا من تعنُّّتهم ، كما أنّهم عبّروا عمّا هو معلومٌ و لا يُنكر باستعمال أسلوب ما يُجهل أو يُنكر ، ألا و هو بَشريَّة الأنبياء ، و هذا من تنزيل المعلوم منزلة المجهول لاعتبارٍ مناسبٍ ، فيستعمل له النّفي و الاستثناء ، و نحوه قوله تعالى في آية الباب : ﴿قَالُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مثْلُنَا ( إبراهيم : 10 ) ؛ فإنّ من يَطَّلعُ على هذا الأسلوب يتوهّمُ أنّ الرّسل عليهم السّلام نَفَوْا البشريّة عن أنفسهم و ادَّعَوا الملائكيّة ، و هذا لم يكن ، لكن الكفّار كانوا يعتقدون أنّ الله لا يرسل إلاّ ملائكةً ، و زعموا أنّ الرّسل بادّعاء النُّبوّة ينفون عن أنفسهم البشريّة ، فأُخرج الكلام مخرج ما كانوا يعتقدون ، و أُخرج الجوابُ أيضاً مخرج ما قالوا ، حكايةً لقولهم كما يحكي المجادِل كلام خصمه ، ثمّ يكرُّ عليه بالإبطال ، و هو قوله عزّ وجلّ : ﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ، فاستعملوا النّفي مع الاستثناء في محلّ استعمال القصر للمناسِبِ المعتبَر ، فكأنّه قيل : ليس الأمر كما زعمتم من اختصاص الملائكة بالرّسالة ، فإنّ الله يبعث من الملائكة رسلاً و من النّاس ، و انظر المصدر السّابق ، و جَعلَه الكِرماني في " تحقيق الفوائد الغيّاثيّة " ( 2/511-512 ) من باب المجاراة و التّماشي مع الخصم و إرخاء العنان له لتبكيته ، و هو قريبٌ ممّا ذكرنا .
                        و الّذي يدلّ على أنّ المقامَ مقامُ جدالٍ أنّه جاء في الآية الأولى قوله تعالى : ﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي ٱللَّهِ شَكٌّ ، و قال في بداية الآية الّتي تليها : ﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مثْلُكُمْ ، فإنّ بينهما زيادة : ﴿ لَهُمْ ؛ لأنّ الجدال يُزيل بعض الحواجز و يجرّئ على العتاب ، كما حصل بين موسى و الخضر عليهما السّلام ، فقد أخبر الله عزّ وجلّ أنّ الخضر صلّى الله عليه و سلّم قال لموسى صلّى الله عليه و سلّم لمّا عصاه أوّل مرّةٍ : ﴿ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ( الكهف : 72 ) ، فلمّا عصاه في المرّة الثّانية ، قال له : ﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ( الكهف : 75 ) ، و الفرق في الجملتين في زيادة لفظ ﴿ لَّكَ في المرّة الثّانية ، و التّي تفيد مواجهة المخاطَب نفسه ؛ كما يفعل مع من يُنهى عن فعلٍ ثمّ يعود إليه ، كذا في " درّة التّنزيل و غرّة التّأويل " للخطيب الإسكافي ( ص 285 ) و " تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان " لنظام الدّين النّيسابوري ( 4/450 ) ، و قال : " و إنّما زاد ههنا ﴿ لَّكَ لأنّ الإنكار أكثرُ و موجبَ العتابِ أقوى ، و قيل : أكّد التّقرير الثّاني بقوله :﴿ لَّكَ كما تقول لمن توبُّخه : ( لك أقول و إيّاك أعني ! ) ... " ، و قال ابن الجوزي في " زاد المسير " ( 5/174 ) : " و سمعت أبا محمّدٍ الخشّابَ يقول : وقَّرَه في الأوّل فلم يواجهه بكاف الخطاب ، فلمّا خالف في الثّاني واجهه بها " ، و انظر " عناية القاضي و كفاية الرّاضي " لشهاب الدّين الخَفَاجي في حاشيته على " تفسير البيضاوي " ( 6/124 ) و " كشف المعاني في المتشابه و المثاني " لابن جماعة ( ص 248 ) و " روح المعاني " للألوسي ( 16/2 ) .
                        و من استعمال النّفي و الاستثناء بدل القصر إخبارُ الله سبحانه عن عيسى صلّى الله عليه و سلّم أنّه يقول يوم القيامة : ﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ ( المائدة : 117 ) ، و لا ريب أنّ المخاطَب هنا هو الله عزّ وجلّ ، و لا ريب أنّه لا يجهل هذا المعنى الّذي ذكره عيسى صلّى الله عليه و سلّم و لا ينكره ، و لكن رُوعيَ في هذا الاستعمال جهة المتكلّم ، و هو عيسى صلّى الله عليه و سلّم ، و المقام مقامُ يومِ القيامة ، كما رُوعي فيه التّهمة الملصقة به من جهة قومه الّذين عبدوه ، و ادَّعَوْا أنّ ذلك هو الدّين الّذي جاءهم به ، و معلومٌ أنّ المتّهَمَ يستعمل أقوى ما يُؤتاه لتخليص نفسه .
                        و منه قوله تعالى : ﴿ وَ مَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ ( آل عمران : 144 ) ، فإنّه خطابٌ للصّحابة رضي الله عنهم ، و هم لم يكونوا يجهلون أنّ النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم ليس إلاّ رسولاً مات من قبله رسلٌ ، لكن نُزّل استعظامُهم موت الرّسول صلّى الله عليه و سلّم منزلةَ من يجهل ذلك ؛ و لأنّ كلّ رسولٍ لا بدّ من موته ، فمن استبعد موته كأنّه استبعد رسالته ، كما في " الإتقان " للسّيوطي ( 2/65 ) و " مجموع الفتاوى " لابن تيمية ( 18/267 ) .
                        و هذا لأنّ قوّة حبّهم لرسول الله صلّى اللّه عليه و سلّم أنْسَتْهُم إمكانيّة فراقه في ذلك الوقت ، لا سيما و أنّه غير منتظَرٍ لعدم إنهائه بعض مهمّاته صلّى الله عليه و سلّم في ظنّ بعض الصّحابة ، كما وقع لعمرَ و كثير ٍمن الصّحابة ، فعن أبي سلَمَةَ : " أنّ عائشةَ أخبرته أنّ أبا بكرٍ رضي الله عنه ، أقبل على فرسٍ من مسكنه بالسُّنح حتّى نزل فدخل المسجد ، فلم يكلّم النّاس حتّى دخل على عائشةَ ، فتيمَّمَ (1) رسولَ الله صلّى الله عليه و سلّم و هو مغشًّى بثوب حِبَرَة (2) ، فكشف عن وجهه ثمّ أكبّ عليه فقبّله و بكى ، ثمّ قال: بأبي أنت و أمّي يا نبيّ الله ! و الله ! لا يجمع الله عليك مَوْتَتَيْن ، أمّا الموتة الّتي كُتبت عليك فقد متَّها ، قال الزّهريّ : و حدّثني أبو سلمة عن عبد الله بن عبّاسٍ أنّ أبا بكرٍ خرج و عمرُ بن الخطّاب يُحدّث النّاس فقال : اجلس يا عمر ! فأبى عمرُ أن يجلس ، فأقبل النّاس إليه و تركوا عمر ، فقال أبو بكرٍ : أمّا بعدُ ، فمن كان منكم يَعبُد محمّداً صلّى الله عليه و سلّم ، فإنّ محمّداً قد مات ، و من كان يعبدُ الله فإن الله حيٌّ لا يموت ؛ قال الله تعالى : ﴿ وَ مَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ إلى قوله : ﴿ ٱلشَّاكِرِينَ ، و قال: و الله ! لَكَأَنّ النّاس لم يعلموا أنّ الله أنزل هذه الآية حتّى تلاها عليهم أبو بكرٍ ! فتلقّاها منه النّاس كلُّهم ، فما أسمعُ بشراً من النّاس إلاّ يتلوها ، فأخبرني (3) سعيدُ بن المسيّب أنّ عمر قال: و الله ! ما هو إلاّ أن سمعتُ أبا بكرٍ تلاها فَعَقِرتُ حتى ما تُقِلُّني رِجلايَ (4) ، و حتّى أهْوَيْتُ إلى الأرض ، حين سمعتُه تلاها علمتُ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم قد مات " .


                        ___________________
                        (1) : أي قصَدَه .
                        (2) : هو ما كان مخطوطاً من الثِّياب .
                        (3) : القائلُ هو الزُّهْريّ رحمه الله .
                        (4) : قال ابنُ حجرٍ في " هدي السّاري " ( ص 159 ) في معنى عقرتُ : " بفتح أوّله و كسر القاف ، و وهم من ضمّه ، أي دهشتُ ، ، والاسم العقر بفتحتين ، و هو فجأة الفزع ، قوله : رفع عقيرته : أي صوته ، قيل : أصله أنّ رجلا قُطعت رجله ، فكان يرفع المقطوعة على الصّحيحة و يصيح " ، و قوله : " فَعَقِرتُ حتى ما تُقِلُّني رِجلايَ " معناه : فدهشُ حتّى ما تحملني رجلاي .

                        تعليق


                        • #27
                          سُورَة الحِجْرِ
                          من فقهِ الجهاد الّذي يخْفَى على جَماعَات الجهادِ اليومَ




                          قال الله تعالى : ﴿ فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ . إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ . ٱلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلـٰهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ . وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبكَ وَ كُنْ منَ ٱلسَّاجِدِينَ . و َٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ ( الحجر : 94-99 ) .
                          في هذه الآيات الكريمات ثلاثة أوامرَ و نهيٌ و وعدٌ ، أمّا الأوامر فهي :
                          الأوّل : الأمر بالدّعوة ؛ و ذلك في قوله : ﴿ فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ .
                          و الثّاني : الأمر بالعبادة ؛ و ذلك في قوله : ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ منَ ٱلسَّاجِدِينَ .
                          و الثّالث : الأمر بالدّيمومَة على العبادة ؛ و ذلك قولُه : ﴿ و َٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ .
                          و أمّا النّهيُ ، فالنّهي عن مواجهة المشركين ؛ و ذلك قوله : ﴿ وَ أَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ .
                          و أمّا الوعدُ ، فوعده سبحانه نبيَّه صلّى الله عليه و سلّم بكفايته المستهزئين و دفع شرّهم عنه ؛ و ذلك قولُه : ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ .
                          و قد كان هذا هو شأن الجهاد عند الاستضعاف في العهد المكّيّ قبل الهجرة النّبويّة ، و كذلك هو الشّأن عند ضعف المسلمين في كلّ زمانٍ و مكانٍ ، فلمّا أمر الله بالصّدع بالدّعوة إلى دينه ، نهى عن التّعرّض للكفّار مع إخباره بأنّهم مستهزئون معتدون ، فكأنّه قيل : إنّهم لن يتركوننا و لو تركناهم ! و لن يتسامحوا معنا و لو تسامحنا معهم ، إنّهم سيقضون علينا إن بقينا مكتوفي الأيدي !فجاء الجواب بالوعد الصّادق : ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ ، أي إنّ الدّفاع عنكم على الله ؛ لأنّكم ضُعفاء ، و خَوْضُكم المعركةَ معهم يؤدّي إلى هَلَكَتِكُم ، فكأنّه قيل بعده : إنّهم يفعلون كذا وكذا من المخالفات و أنواع الظّلم ... !! فجاء الجواب بأنّه لا يخفى علينا ذلك ، بل إنّهم يفعلون شرًّا ممّا تذكرون عنهم ، بل إنّهم مرتكبون لأكبر شرٍّ على الإطلاق ، ألا و هو أنّهم ﴿ يَجْعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلـٰهاً آخَرَ ، فمهما ذكرتم عنهم من المخالفات فلن يبلغوا شرّاً من الشّرك ، فأنتم مأمورون بالإعراض عنهم ما دمتم ضعفاء ، ثمّ جاءت التّسلية من الله لنبيّه صلّى الله عليه و سلّم : ﴿ وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ، لكن المسألةَ ليست مسألةَ انتقامٍ ، كما أنّها ليست مسألة خذلانٍ للحقّ و جُبنٍ ، إنّما هي اتّباعٌ و تحكيمٌ لأمر الله ، فأمره ربّه – زيادةً على ما أمرَه به من الصّبر – أن يفزَع إلى الصّلاة الّتي بها طُمأنينة القلب و راحة النّفس من مكابدة المواجهة المنهيّ عنها عند عدم القدرة ، و كي لا يقول جاهلٌ بفقه الجهاد أو عارفٌ غلب عليه الاستعجال و العناد : إلى متى و نحن صابرون ؟! أو يظنّ آخر أنّ هذه العبادة شُرعت من أجل التّخلّص من كيد العدوّ فحسب ؛ أمر الله بالاستمرار عليها إلى الممات الّذي هو اليقين ، فقال : ﴿ و َٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ .
                          فما أعظمَ هذا البلسم لجراح المسلمين اليوم ، و هم يكابدون من الأعداء ما لا يوصف مع قلّة ذات اليد ! و ما أعظم الحكمة الربّانيّة في هذه الأوامر الثّلاث و النّهي الحكيم و الوعد الصّادق الأمين ! و كذلك يفعل المسلمون كلّما شابهت حالهم تلك الحال ، و لن يضرّهم الأعداء ما تمسّكوا بهدي الكتاب الكريم و تأسَّوا بسنّة النّبيّ الصّابر المطيع المنتصر صلّى الله عليه و سلّم ، و لن يخيب متّبعٌ صادقٌ أمام أيّ عدوٍّ شرسٍ غشومٍ ، و لو كانت الدّنيا له تَبَعٌ ، و النّاس له شِيَعٌ ، و إنّما الخيبة لمن ينطلق من عند نفسه ، و يستجيب لاستفزاز عدوّه ، دون أن يراعي فقه الجهاد كهذا الّذي نحن بصدده ، و تغلبه عاطفة الغضب ، فتعصف به بعيداً عن حكم الله و رسوله و هو يحسب أنّه يحسن صُنعاً ، يحسبها غضبةً لله و هي انتقامٌ للنّفس ، و الله المستعان .
                          و لهذه الآيات نظائر كثيرة في كتاب الله ، أكتفي بسورتين كان رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يقرأ بهما في المحافل العامّة ، الأولى سورة ( ق ) ، و معلومٌ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم كان يقرأ بها في خطبة الجمعة كما في " صحيح مسلم " ( 873 ) ، و الثّانية سورة الغاشية ، و معلومٌ أنّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم كان يقرأ بها في صلاة الجمعة و العيدين كما في " صحيح مسلم " أيضا ( 878 ) .
                          ففي السّورة الأولى قوله تعالى : ﴿ فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( ق : 45 ) ، و في الثّانية قوله : ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ ( الغاشية : 22 ) ، و هما في الأمر بالدّعوة كقوله هنا : ﴿ فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ .
                          و في الأولى قوله : ﴿ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَ مَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ( ق : 45 ) ، و في الثّانية قوله : ﴿ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ ( الغاشية : 22 ) ، كقوله هنا : ﴿ وَ أَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ .
                          و تفصيل الكلام حول هذه الآيات و غيرها يتحمّله موضعٌ آخر إن شاء الله ، و إنّما أردتُ لفت نظر المستفيد و تعجيل بعض الفوائد له ، و الله الموفّق للفقه في كتابه و العمل به .

                          تعليق


                          • #28
                            سورةُ النَّحْل
                            اختِرَاعُ السَّيَّارات و غيرِها في القُرْآن





                            قال الله تعالى : ﴿ وَ ٱلْخَيْلَ وَ ٱلْبِغَالَ وَ ٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( النّحل : 8 ) .
                            امتنّ الله تعالى في هذه الآية على عباده بما خلقه لهم من وسائل النّقل و مركوبات الأسفار ، و ذكَرَ منها نوعين :
                            - نوعٌ رآه النّاس يوم نزول الآية و عرفوه و تمتّعوا به لحاجاتهم ، و هو ما عيَّنه بالخيل و البغال و الحمير .
                            - و نوعٌ لم يعيّنه ؛ لأنّهم لم يَرَوْه و لم يعرفوه يومئذٍ ، و إنّما أشار إليه بأنّه سيخلقه لهم ، و قد تحقّق ذلك بما رآه النّاس في عصورٍ مختلفةٍ ، لا سيما في هذا العصر ؛ حيث خلق الله لعباده عجائب المركوبات ، من سيّاراتٍ و قاطراتٍ و طائراتٍ و سفنٍ بحريّةٍ و فضائيّةٍ و مصاعدَ للبنايات ، في أشياء و أشكالٍ تذهل العقول !! قال العلاّمة محمّد الأمين الشّنقيطيّ رحمه الله في كتابه العظيم " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن " ( 2/334-335 ) : ( ذكر جلّ و علا في هذه الآية الكريمة أنّه يخلق ما لا يعلم المخاطَبون وقت نزولها ، و أبْهَم ذلك الّذي يخلقه لتعبيره عنه بالموصول ، و لم يصرّح هنا بشيءٍ منه ، و لكنّ قرينة ذكر ذلك في معرض الامتنان بالمركوبات تدلّ على أنّ منه ما هو من المركوبات ، و قد شوهد ذلك في إنعام الله على عباده بمركوباتٍ لم تكن معلومةً وقت نزول الآية ، كالطّائرات و القطارات و السّيّارات ، و يؤيّد ذلك إشارة النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم إلى ذلك في الحديث الصّحيح ، قال مسلم بن الحجّاج رحمه الله في صحيحه : حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ : حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ عَطَاءِ بنِ مِينَاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلّى الله عليه و سلّم : " وَ الله ! لََيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَماً عَادِلاً ، فَلْيَكْسرَنَّ الصَّلِيبَ ، وَ لَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ ، وَ لَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ ، وَ لَتُتْرَكَنَّ القِِلاَصُ (1) فَلاَ يُسْعَى عَلَيْهَا ، وَ لَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَ التَّبَاغُضُ وَ التَّحَاسُدُ ، وَ لَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلاَ يَقْبَلُهُ أَحَدٌ " ) اهـ ، و محلُّ الشّاهد من هذا الحديث الصّحيح قوله : " وَ لَتُتْرَكَنَّ القِِلاَصُ فَلاَ يُسْعَى عَلَيْهَا " ؛ فإنّه قسمٌ من النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم أنّه ستُترك الإبل فلا يُسعى عليها ، و هذا مشاهدٌ الآن للاستغناء عن ركوبها بالمراكب المذكورة ، و في هذا الحديث معجزةٌ عُظمى تدلّ على صحّة نبوّته ، و إن كانت معجزاته صلوات الله عليه و سلامه أكثر من أن تحصر ، و هذه الدّلالة التي ذكرنا تُسمّى دلالة الاقتران ، و قد ضَعَّّفها أكثر أهل الأصول ، كما أشار له صاحب ( مراقي السّعود ) بقوله :
                            أمّا قِرَانُ اللّفظ في المشهور ..... فلا يُساوي في سوَى المذكور

                            و أصرح منه في الدّلالة على اختراع هذه المركوبات حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول : سمعت رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يقول : " سيكونُ في آخِرِ أُمَّّتي رِجَالٌ يَرْكَبُون على سُرُوجٍ كأشباه الرِّحَال ، ينزلون على أَبْوابِ المسَاجِدِ ، نِساؤُهُمْ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ على رُؤُوسِهِم كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ العِجَافِ (2) ، الْعَنُوهُنَّ ؛ فإنَّهُنَّ مَلعُوناتٌ ، لو كانت وراءكم أُمَّةٌ من الأمم لَخَدَمْنَ نساؤُكُم نساءَهُم ، كما يَخِدْمَنُكُمْ نِسَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُم " رواه أحمد ( 2/223 ) و الحاكم ( 4/436 ) و صحّحه هو و الشّيخ أحمد شاكر في تعليقه على " المسند " ( 12/38 ) و الشّيخ الألبانيّ في " السّلسلة الصّحيحة " ( 2683 ) ، و هو غير الحديث ( 93 ) الّذي تراجع عن تصحيحه رحمه الله و حذفه منها في الطّبعة الجديدة جزاه الله خيراً .
                            و في هذا الحديث ثلاثُ مُعجزاتٍ هي :
                            الأولى : إخبارُه صلّى الله عليه و سلّم بتبرّج النّساء المسلمات ، و قد حصل كما أخبر ، حتّى إنّهنّ وقعن في عُريٍ فاضحٍ لم يكن يَخْطُر على بال أحدٍ من النّاس في ذلك الوقت أنّ مُسلمةً تفعله !
                            الثّانية : إخبارُه صلّى الله عليه و سلّم عن صفةٍ غريبةٍ في وقته في ترجيل النّساء شعورِهِنّ ، ألا و هي أن تضمّ إحداهنّ شعرها و ترفعه فوق رأسها ، ثمّ تبرز به أمام الرّجال من غير المحارم ، حتّى إنّ رأسها ليشبه في ارتفاع ما عليه ظهْرَ البعير النّحيف طويلِ العُنُق ، و هذا هو معنى أسنمة البخت العجاف !!
                            الثّالثة : ما نحن بصدده ، ألا و هو اختراع هذه المركوبات الحديثة ، و قد جاء في رواية الحاكم بلفظ : " يركبون المَياثِر " ، قال عبد الله بن عيّاش و هو أحد رواة الحديث : " فقلتُُ لأبي : و ما المياثرُ ؟ قال : سروجاً عِظاماً " ، و المياثر جمع مِيثَرَة ، قال ابن الأثير في " النّهاية " : مِفْعَلَةٌ من الوثارة ، يقال : وثُر وَثارة فهو وثيرٌ ، أي وَطِئٌ لَيٌِّّن ، تُعملُ من حريرٍ أو ديباجِ ، يجعلها الرّاكب تحته على الرِّحال فوق الجمال " ، قال الشّيخ الألبانيّ في الموضع المذكور بعد أن نقل هذا الكلام : " فإذا عرفتَ هذا ، فرواية الحاكم مفسِّرةٌ للرّواية الأولى ، و بالجمع بينهما يكون المعنى أنّ السّروج الّتي يركبونها تكون وطيئةً ليّنةً ، و أنّها - أعني السّروج - هي كأشباه الرِّحال ، أي من حيث سَعَتها ... و ذلك يعني أنّ هذه السّروج التي يركبها أولئك الرّجال في آخر الزّمان ليست سروجاً حقيقيّةً تُوضع على ظهور الخيل ، و إنّما هي أشباه الرِّحَال ، و أنتَ إذا تذكّرت أنّ الرِّحال جمع رَحْلٍ ، و أنّ تفسيره كما في " المصباح المنير " و غيره : " كلّ شيءٍ يُعدّ للرّحيل من وعاءٍ للمتاع و مركبٍ للبعير " ، إذا علمتَ هذا يتبيّن لك - بإذن الله – أنّ النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم يشير بذلك إلى هذه المركوبة الّتي ابتُكرت في هذا العصر، ألا و هي السّيّارات ، فإنها وَثيرةٌ وطيئةٌ ليّنةٌ كأشباه الرّحال ... و إذاً ففي الحديث معجزةٌ علميّةٌ غيبيّةٌ أخرى غير المتعلّقة بالنّساء الكاسيات العاريات ، ألا و هي المتعلّقة برجالهنّ الّذين يركبون السّيّارات ينزلون على أبواب المساجد ، و لَعَمْر الله ! إنّها لنُبوءةٌ صادقةٌ نشاهدُها كلّ يوم جمعةٍ حينما تتجمّع السّيّارات أمام المساجد حتّى ليكادُ الطّريق على رَحبِه يضيق بها ، ينزل منها رجالٌ ليحضروا صلاة الجمعة ، و جمهورهم لا يصلّون الصّلوات الخمس ، أو على الأقلّ لا يصلّونها في المساجد ، فكأنّهم قَنَعوا من الصّلوات بصلاة الجمعة ، [ و لذلك يتكاثرون يوم الجمعة ] (*) و ينزلون بسيّاراتهم أمام المساجد فلا تظهر ثمرة الصّلاة عليهم ، و في معاملتهم لأزواجهم و بناتهم ، فهم بحقٍّ " نساؤهم كاسياتٌ عارياتٌ " ! ... هذا هو الوجه في تأويل هذا الحديث عندي ، فإن أصبتُ فمن الله ، و إن أخطأت فمن نفسي ، و الله تعالى هو المسؤول أن يغفر لي خطئي و عمدي ، و كلّ ذلك عندي " .
                            و قد حرصت على بيان إعجاز آية الباب و دعمتُها بالحديث النّبويّ السّابق إظهاراً لصدق نبوّة الرّسول صلّى الله عليه و سلّم ، قال ابنُ تيمية " الجواب الصّحيح لمن بدّل دين المسيح " ( 4/293 ) : " إذا أخبَرَت الرّسلُ الصّادقون بما يعجز عقل الإنسان عنه ؛ عُلم صدقُهم " .



                            _________________
                            (1) : هي الفَتِيَّة من النِّيَاق ، و القلاص جمع الجمع ، كما في " فتح الباري " لابن حجر ( 7/180 ) .
                            (2) : و الأسْنِمَة : جمع سنَم ، و هو أعلى كلّ شيءٍ ، و البختُ : جِمالٌ طويلة الأعناق ، و العِجَاف : جمع عجفاء ، و هي الهزيلةُ .
                            (*) : ساقطةٌ من المطبوع ، استدركتها من " السّلسلة الصّحيحة " [ أبو حاتم ] .

                            تعليق


                            • #29
                              سورةُ الإسرَاء ( بني إسْرائيلَ )
                              مقارنةٌ بين ضَمير الخطَاب و الغائِبِ في آيتَيْن



                              قال الله تعالى : ﴿ وَ لاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً ( الإسراء : 31 ) ، و قال في سورة الأنعام : ﴿ وَ لاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ منْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ ( الأنعام : 151 ) .
                              بحث هاتين الآيتين ينبني على مقدّمةٍ ، ثمّ بيان ما بينهما من فرقٍ ، ثمّ تعليلٍ مع ذكر الدّليل .
                              أمّا المقدّمة ، فهي الّتي أنقلها من كتاب " دُرّة التّنزيل و غُرّة التّأويل " للخطيب الإسكافي ، فقد قال ( ص 99 ) : " للسّائل أن يسأل : فيقول : قوله عزّ وجلّ : ﴿ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ هو ما عليه الاختيار في كلام العرب من تقديم ضمير المخاطَب على ضمير الغائب ؛ بناءً على قولك : أعطَيْتُكَه ، و الآية في سورة بني إسرائيل قُدّم فيها ضمير الغائب على ضمير المخاطَب ، فكأنّها بُنيت على قولك : أعطَيْتُهوك ، و هذا ليس بمختارٍ ، فما الّذي أوجب اختصاص الأوّل بتقديم ضمير المخاطَب ، و أوجب اختصاص الثّاني بتقديم ضمير الغائب ؟
                              الجواب أن يقال : أوّلا : ليس الضّميران إذا اتّصلا بالفعل كالضّميرين إذا انفصل أحدهما و عُطف على الآخر ؛ لأنّ قولهم ( أكرمتُه و إيّاك ) مثل قولهم ( أكرمتُك و إيّاه ) ، في أنّ كلّ واحدٍ منهما مختارٌ في مكانه الّذي يوجب تقديم ما قُدّم و تأخير ما أُخّر ، بخلاف ما يُختار إذا اتّصلا بالفعل في مثل : ما أعطيتُكَه " .
                              و أمّا بيان ما بين آيتي الباب من فرقٍ مع تعليله ، فقد ذكر ابن كثيرٍ في " تفسيره " أنّ الله قدّم الضّمير الغائب العائد على الأولاد في آية الإسراء عند قوله : ﴿ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ ، عل ضمير المخاطَب العائد على الآباء في قوله : ﴿ وَ إِيَّاكُم ؛ لأنّ الفقر المَخوف متوقَّعٌ في المآل ، و ليس حاصلاً في الحال ، فقُدّم الاهتمام برزق الأولاد على رزق الآباء ؛ لأنّ الآباء أغنياء ، بخلاف ما في سورة الأنعام ، فقد قُدّم ضمير المخاطَب العائد على الآباء في قوله : ﴿ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ على ضمير الغائب العائد على الأبناء في قوله : ﴿ وَ إِيَّاهُمْ ؛ و ذلك لأنّ الفقر حاضرٌ ، فقُدّم الاهتمام برزق الآباء على الأبناء الّذين لم يوجدوا بعدُ ، و قال أبو السّعود في " تفسيره " : " و قيل : هذا في الفقر النّاجِز ، و ذا في المتوقّع " .
                              فإن قيل ما الدّليل على أنّ الآباء المخاطَبين في سورة الإسراء كانوا أغنياء ، و أنّ المخاطَبين في سورة الأنعام كانوا فقراء ؟ الجواب : من قرينةٍ لفظيّةٍ في الآيتين ، قال الزّركشيُّ في " البرهان " ( 3/285 ) : " و منها قوله : ﴿ وَ لاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ منْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ ( الأنعام : 151 ) ، و قال في سورة الإسراء : ﴿ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُم ، قدّم المخاطَبين في الأولى دون الثّانية ؛ لأنّ الخطاب في الأولى في الفقراء ؛ بدليل قوله : ﴿ منْ إمْلاَقٍ ، فكان رزقهم عندهم أهمّ من رزق أولادهم ، فقُدّم الوعد برزقهم على الوعد برزق أولادهم ، و الخطاب في الثّانية للأغنياء ؛ بدليل : ﴿ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ؛ فإنّ الخشية إنّما تكون ممّا لم يقع فكان رزق أولادهم هو المطلوب دون رزقهم ؛ لأنّه حاصلٌ ، فكان أهمّ ، فقُدّم الوعد برزق أولادهم على الوعد برزقهم " ، و هذا هو الدّليل الّذي وعدتُ به ، و الله أعلم .


                              تعليق


                              • #30

                                آيةٌ جمَعَت أركانَ العِبادَةِ




                                قال الله تعالى : ﴿ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً ( الإسراء : 57 ) .
                                أركانُ العبادة ثلاثةٌ ، هي : الحبّ و الرّجاء و الخوف ، ذكر ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ( 10/81 ، 207 ) و ابن القيّم في " بدائع الفوائد " ( 3/851 ) و غيرهما من الأئمّة عن بعض السّلف أنّه كان يقول : " مَن عبد الله تعالى بالحبّ و حده فهو زِنديق ٌ ، و من عبده بالخوف وحده فهو حروريٌّ ، و من عبده بالرّجاء و حده فهو مرجئٌ ، و من عبده بالحبّ و الخوف و الرّجاء فهو مؤمنٌ " ، قال ابن القيّم في المصدر السّابق : "و قد جمع الله تعالى هذه المقامات الثّلاثة بقوله : ﴿ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخَافُونَ عَذَابَهُ ، فابتغاء الوسيلة هو محبّته الدّاعية إلى التّقرّب إليه ، ثمّ ذكر بعدها الرّجاء و الخوف ، فهذه طريقة عباده و أوليائه ، و ربّما آل الأمر بمن عبده بالحبّ المجرّد إلى استحلال المحرّمات و يقول : المحبّ لا يضرّه ذنبٌ ...
                                فإذا اقترن بالخوف جمَعَه على الطّريق و ردّه إليها كلّما شَرَد ، كأنّ الخوف سوطٌ يضرب به مطيَّته لئلاّ تخرج عن الدّرب ، و الرّجاء حادٍ يحدوها يطيب لها السّير ، و الحبّ قائدُها و زِمامُها الّذي يسوقها ، فإذا لم يكن للمطيّة سوطٌ و لا عصاً يردّها إذا حادت عن الطّريق ، و تُركت تركب التّعاسيف (*) ، خرجت عن الطّريق و ضلّت عنها ، فما حُفظت حدودُ الله و محارمُه و وصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه و محبّته ، فمتى خلا القلب عن هذه الثّلاثة فسد فساداً لا يُرجى صلاحه أبداً ، و متى ضعُف فيه شيءٌ من هذه ضعُف إيمانه بحسبه " .

                                __________________
                                (1) : أي خارجيٌّ .
                                (*) : العسفُ : السَّير بغير هداية و الأَخْذُ على غير الطّريق ... و التّعسيف : السَّيْرُ على غير عَلَم و لا أَثرٍ ( لسان العرب ، مادّة : عسف ) و في " المصباح المنير " : " و هو راكب التّعاسيف : وكأنّه جمع تَعسافٌ بالفتح مثل التّضراب والتّقتال والتّرحال ، من الضّرب و القتل والرّحيل ، والتّفعال مطّرد من كلّ فعل ثلاثي " . [ أبو حاتم ] .


                                تعليق

                                يعمل...
                                X