إعـــــــلان

تقليص
1 من 3 < >

تحميل التطبيق الرسمي لموسوعة الآجري

2 من 3 < >

الإبلاغ عن مشكلة في المنتدى

تساعدنا البلاغات الواردة من الأعضاء على منتدى الآجري في تحديد المشكلات وإصلاحها في حالة توقف شيء ما عن العمل بشكل صحيح.
ونحن نقدّر الوقت الذي تستغرقه لتزويدنا بالمعلومات عبر مراسلتنا على بريد الموقع ajurryadmin@gmail.com
3 من 3 < >

فهرسة جميع الشروح المتوفرة على شبكة الإمام الآجري [مبوبة على حسب الفنون] أدخل يا طالب العلم وانهل من مكتبتك العلمية

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه - وعلى آله ومن ولاه وبعد :

فرغبة منا في تيسير العلم واشاعته بين طلابه سعينا لتوفير جميع المتون وشروحها المهمة لتكوين طلبة العلم ، وقد قطعنا شوطا لابأس به في ذلك ولله الحمد والمنة وحده ، إلا أنه إلى الآن يعاني بعض الأعضاء والزوار من بعض الصعوبات في الوصول للشروح والمتون المرادة لتداخل الشروح أو لقلة الخبرة التقنية .

من أجل هذا وذاك جاء هذا الموضوع ليكون موضوعا مرجعا جامعا مرتبا بإذن الله لكل المواد العلمية الموضوعة حاليا في شبكتنا ومرتبا على حسب أبواب الفنون العلمية (العقيدة، الفقه، الحديث،...)وسنحاول أيضا ترتيبها على مستويات الطلب (المبتدئ ، المتوسط ، المنتهي) سيتم تحديثه تبعا بعد إضافة أي شرح جديد .

من هـــــــــــنا
شاهد أكثر
شاهد أقل

شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شرح فضيلة الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • [شرح متن] شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شرح فضيلة الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله

    شرح الوصية الصغرى
    لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

    شرح
    فضيلة الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله


    ابتدأ الشيخ ُالشرحَ يوم 18/ذو الحجة/
    1433هـ بعد صلاة العصر في الجهة الشرقية من المسجد النبوي الشريف


    الشرح كاملا في المرفقات والتفريغ في المشاركة الثانية


    للأخ أشرف أحمد البيومي أثابه الله
    الملفات المرفقة
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو محمد فريد القبائلي; الساعة 19-Aug-2013, 03:20 PM.

  • #2
    رد: شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شرح فضيلة الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

    فأزف إليكم بشرى تفريغ الشرح المبارك القيّم لمتن (الوصية الصغرى) لابن تيمية -رحمه الله-

    شرح فضيلة الشيخ الفقيه الواعظ/ سليمان بن سليم الله الرحيلي -وفقه الله وحفظه-


    وقد أجاد وأفاد الشيخ -حفظه الله- في شرحه وتقريره لمسائل مهمة متعلقة بالتوبة والاستغفار وتفاضل الأعمال وغيرها؛ تقريرًا مبنيًّا على الأدلة، فجزاه الله عنا خيرا كثيرا وبارك في علمه وعمله ورفع درجته في الدارين،،

    أسأل لله العظيم رب العرش الكريم أن ينفعني وإياكم به، وأن يجزي الأخت التي فرغته خيرًا ..


    * تنبيه:: لا تسمح الأخت بنسبة التفريغ لأي شخص أو أي منتدى.
    الملفات المرفقة

    تعليق


    • #3
      رد: شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شرح فضيلة الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله

      الوصية الصغرى

      لشيخ الإسلام
      ابن تيمية

      رحمه الله

      سُؤَالُ أَبِي الْقَاسِمِ الْمَغْرِبِيِّ يَتَفَضَّلُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ بَقِيَّةُ السَّلَفِ وَقُدْوَةُ الْخَلَفِ أَعْلَمُ مَنْ لَقِيت بِبِلَادِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ؛ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تيمية " بِأَنْ يُوصِيَنِي بِمَا يَكُونُ فِيهِ صَلَاحُ دِينِي وَدُنْيَايَ ؟ وَيُرْشِدُنِي إلَى كِتَابٍ يَكُونُ عَلَيْهِ اعْتِمَادِي فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَيُنَبِّهُنِي عَلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَعْدَ الْوَاجِبَاتِ وَيُبَيِّنُ لِي أَرْجَحَ الْمَكَاسِبِ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى قَصْدِ الْإِيمَاءِ وَالِاخْتِصَارِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَحْفَظُهُ . وَالسَّلَامُ الْكَرِيمُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ

      فَأَجَابَ :
      الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَمَّا " الْوَصِيَّةُ " فَمَا أَعْلَمُ وَصِيَّةً أَنْفَعُ مِنْ وَصِيَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِمَنْ عَقَلَهَا وَاتَّبَعَهَا . قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } . { وَوَصَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ : يَا مُعَاذُ : اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْت وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقِ حَسَنٍ } . وَكَانَ مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةِ عَلِيَّةٍ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ : " { يَا مُعَاذُ وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبّكَ وَكَانَ يُرْدِفُهُ وَرَاءَهُ } . وَرُوِيَ فِيهِ : " أَنَّهُ أَعْلَم الْأُمَّةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَأَنَّهُ يُحْشَرُ أَمَامَ الْعُلَمَاءِ بِرَتْوَةِ - أَيْ بِخُطْوَةِ - " . وَمِنْ فَضْلِهِ أَنَّهُ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَلِّغًا عَنْهُ دَاعِيًا وَمُفَقِّهًا وَمُفْتِيًا وَحَاكِمًا إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ . وَكَانَ يُشَبِّهُهُ بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِبْرَاهِيمُ إمَامُ النَّاسِ . وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : إنَّ مُعَاذًا كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ؛ تَشْبِيهًا لَهُ بِإِبْرَاهِيمَ . ثُمَّ إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَّاهُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ فَعُلِمَ أَنَّهَا جَامِعَةٌ . وَهِيَ كَذَلِكَ لِمَنْ عَقَلَهَا مَعَ أَنَّهَا تَفْسِيرُ الْوَصِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ . حَقٌّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَحَقٌّ لِعِبَادِهِ . ثُمَّ الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يُخِلَّ بِبَعْضِهِ أَحْيَانًا : إمَّا بِتَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ أَوْ فِعْلِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْت } وَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ وَفِي قَوْلِهِ " حَيْثُمَا كُنْت " تَحْقِيقٌ لِحَاجَتِهِ إلَى التَّقْوَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ . ثُمَّ قَالَ : { وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا } فَإِنَّ الطَّبِيبَ متى تَنَاوَلَ الْمَرِيضُ شَيْئًا مُضِرًّا أَمَرَهُ بِمَا يُصْلِحُهُ . وَالذَّنْبُ لِلْعَبْدِ كَأَنَّهُ أَمْرٌ حَتْمٌ . فَالْكَيِّسُ هُوَ الَّذِي لَا يَزَالُ يَأْتِي مِنْ الْحَسَنَاتِ بِمَا يَمْحُو السَّيِّئَاتِ . وَإِنَّمَا قَدَّمَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ " السَّيِّئَةَ " وَإِنْ كَانَتْ مَفْعُولَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا مَحْوُهَا لَا فِعْلُ الْحَسَنَةِ فَصَارَ { كَقَوْلِهِ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ : صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ } . وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْحَسَنَاتُ مِنْ جِنْسِ السَّيِّئَاتِ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمَحْوِ وَالذُّنُوبُ يَزُولُ مُوجِبُهَا بِأَشْيَاءَ : ( أَحَدُهَا ) التَّوْبَةُ . وَ ( الثَّانِي ) الِاسْتِغْفَارُ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَغْفِرُ لَهُ إجَابَةً لِدُعَائِهِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ فَهُوَ الْكَمَالُ . ( الثَّالِثُ ) الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الْمُكَفِّرَةُ : أَمَّا " الْكَفَّارَاتُ الْمُقَدَّرَةُ " كَمَا يُكَفِّرُ الْمُجَامِعُ فِي رَمَضَانَ وَالْمُظَاهِرُ وَالْمُرْتَكِبُ لِبَعْضِ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ أَوْ تَارِكُ بَعْضِ وَاجِبَاتِهِ أَوْ قَاتِلُ الصَّيْدِ بِالْكَفَّارَاتِ الْمُقَدَّرَةِ وَهِيَ " أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ " هَدْيٍ وَعِتْقٍ وَصَدَقَةٍ وَصِيَامٍ . وَأَمَّا " الْكَفَّارَاتُ الْمُطْلَقَةُ " كَمَا قَالَ حُذَيْفَةُ لِعُمَرِ : فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ ؛ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ فِي التَّكْفِيرِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمْعَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَسَائِر الْأَعْمَالِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا : مَنْ قَالَ كَذَا وَعَمِلَ كَذَا غُفِرَ لَهُ أَوْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ لِمَنْ تَلَقَّاهَا مِنْ السُّنَنِ خُصُوصًا مَا صُنِّفَ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِنَايَةَ بِهَذَا مِنْ أَشَدِّ مَا بِالْإِنْسَانِ الْحَاجَةُ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مِنْ حِينِ يَبْلُغُ ؛ خُصُوصًا فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَزْمِنَةِ الْفَتَرَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْجَاهِلِيَّةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَنْشَأُ بَيْنَ أَهْلِ عِلْمٍ وَدِينٍ قَدْ يَتَلَطَّخُ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ بِعِدَّةِ أَشْيَاءَ فَكَيْفَ بِغَيْرِ هَذَا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ : فَمَنْ ؟ } هَذَا خَبَرٌ تَصْدِيقُهُ فِي قَوْله تَعَالَى { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } وَلِهَذَا شَوَاهِدُ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ . وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ يَسْرِي فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الدِّينِ مِنْ الْخَاصَّةِ ؛ كَمَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ ابْنُ عيينة ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَحْوَالِ الْيَهُودِ قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَكَثِيرًا مِنْ أَحْوَالِ النَّصَارَى قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الدِّينِ كَمَا يُبْصِرُ ذَلِكَ مَنْ فَهِمَ دِينَ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَزَّلَهُ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ وَكَانَ مَيِّتًا فَأَحْيَاهُ اللَّهُ وَجَعَلَ لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ لَا بُدَّ أَنْ يُلَاحِظَ أَحْوَالَ الْجَاهِلِيَّةِ وَطَرِيقَ الْأُمَّتَيْنِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَيَرَى أَنْ قَدْ اُبْتُلِيَ بِبَعْضِ ذَلِكَ . فَأَنْفَعُ مَا لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ الْعِلْمُ بِمَا يُخَلِّصُ النُّفُوسَ مِنْ هَذِهِ الْوَرَطَاتِ وَهُوَ إتْبَاعُ السَّيِّئَاتِ الْحَسَنَاتِ . وَالْحَسَنَاتُ مَا نَدَبَ اللَّهُ إلَيْهِ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ . وَمِمَّا يُزِيلُ مُوجِبَ الذُّنُوبِ " الْمَصَائِبُ الْمُكَفِّرَةُ " وَهِيَ كُلُّ مَا يُؤْلِمُ مِنْ هَمٍّ أَوْ حُزْنٍ أَوْ أَذًى فِي مَالٍ أَوْ عِرْضٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ . فَلَمَّا قَضَى بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ حَقَّ اللَّهِ : مِنْ عَمَلِ الصَّالِحِ وَإِصْلَاحِ الْفَاسِدِ قَالَ : " وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقِ حَسَنٍ " وَهُوَ حَقُّ النَّاسِ . وَجِمَاعُ الْخُلُقِ الْحَسَنِ مَعَ النَّاسِ : أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك بِالسَّلَامِ وَالْإِكْرَامِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالزِّيَارَةِ لَهُ وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَك مِنْ التَّعْلِيمِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالْمَالِ وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ . وَبَعْضُ هَذَا وَاجِبٌ وَبَعْضُهُ مُسْتَحَبٌّ . وَأَمَّا الْخُلُقُ الْعَظِيمُ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الدِّينُ الْجَامِعُ لِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُطْلَقًا هَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ وَهُوَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ كَمَا { قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ } وَحَقِيقَتُهُ الْمُبَادَرَةُ إلَى امْتِثَالِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِطِيبِ نَفْسٍ وَانْشِرَاحِ صَدْرٍ . وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي وَصِيَّةِ اللَّهِ فَهُوَ أَنَّ اسْمَ تَقْوَى اللَّهِ يَجْمَعُ فِعْلَ كُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ إيجَابًا وَاسْتِحْبَابًا وَمَا نَهَى عَنْهُ تَحْرِيمًا وَتَنْزِيهًا وَهَذَا يَجْمَعُ حُقُوقَ اللَّهِ وَحُقُوقَ الْعِبَادِ . لَكِنْ لَمَّا كَانَ تَارَةً يَعْنِي بِالتَّقْوَى خَشْيَةَ الْعَذَابِ الْمُقْتَضِيَةَ لِلِانْكِفَافِ عَنْ الْمَحَارِمِ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ : { قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ : تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ . قِيلَ : وَمَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ ؟ قَالَ : الْأَجْوَفَانِ : الْفَمُ وَالْفَرْجُ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا } فَجَعَلَ كَمَالَ الْإِيمَانِ فِي كَمَالِ حُسْنِ الْخُلُقِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ كُلَّهُ تَقْوَى اللَّهِ . وَتَفْصِيلُ أُصُولِ التَّقْوَى وَفُرُوعِهَا لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ فَإِنَّهَا الدِّينُ كُلُّهُ ؛ لَكِنَّ يَنْبُوعَ الْخَيْرِ وَأَصْلَهُ : إخْلَاصُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ عِبَادَةً وَاسْتِعَانَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَفِي قَوْلِهِ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَفِي قَوْلِهِ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَفِي قَوْلِهِ : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } بِحَيْثُ يَقْطَعُ الْعَبْدُ تَعَلُّقَ قَلْبِهِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ انْتِفَاعًا بِهِمْ أَوْ عَمَلًا لِأَجْلِهِمْ وَيَجْعَلُ هِمَّتَهُ رَبَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ بِمُلَازَمَةِ الدُّعَاءِ لَهُ فِي كُلِّ مَطْلُوبٍ مِنْ فَاقَةٍ وَحَاجَةٍ وَمَخَافَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالْعَمَلِ لَهُ بِكُلِّ مَحْبُوبٍ . وَمَنْ أَحَكَمَ هَذَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ مَا يُعْقِبُهُ ذَلِكَ .
      وَأَمَّا مَا سَأَلْت عَنْهُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ ؛ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ وَمَا يُنَاسِبُ أَوْقَاتَهُمْ فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ جَوَابٌ جَامِعٌ مُفَصَّلٌ لِكُلِّ أَحَدٍ لَكِنْ مِمَّا هُوَ كَالْإِجْمَاعِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بِاَللَّهِ وَأَمْرِهِ : أَنَّ مُلَازَمَةَ ذِكْرِ اللَّهِ دَائِمًا هُوَ أَفْضَلُ مَا شَغَلَ الْعَبْدَ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ : { سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ الْمُفَرِّدُونَ ؟ قَالَ : الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ } وَفِيمَا رَوَاهُ أَبُو داود عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعُهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : ذِكْرُ اللَّهِ } . وَالدَّلَائِلُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالْإِيمَانِيَّةُ بَصَرًا وَخَبَرًا وَنَظَرًا عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ . وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يُلَازِمَ الْعَبْدُ الْأَذْكَارَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ مُعَلِّمِ الْخَيْرِ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْأَذْكَارِ الْمُؤَقَّتَةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ وَعِنْدَ أَخْذِ الْمَضْجَعِ وَعِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنْ الْمَنَامِ وَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَالْأَذْكَارِ الْمُقَيَّدَةِ مِثْلُ مَا يُقَالُ عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالْجِمَاعِ وَدُخُولِ الْمَنْزِلِ وَالْمَسْجِدِ وَالْخَلَاءِ وَالْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ وَعِنْدَ الْمَطَرِ وَالرَّعْدِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ صُنِّفَتْ لَهُ الْكُتُبُ الْمُسَمَّاةُ بِعَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ . ثُمَّ مُلَازَمَةُ الذِّكْرِ مُطْلَقًا وَأَفْضَلُهُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " . وَقَدْ تَعْرِضُ أَحْوَالٌ يَكُونُ بَقِيَّةُ الذِّكْرِ مِثْلُ : " سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " أَفْضَلُ مِنْهُ . ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ اللِّسَانُ وَتَصَوَّرَهُ الْقَلْبُ مِمَّا يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ مِنْ تَعَلُّمِ عِلْمٍ وَتَعْلِيمِهِ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ . وَلِهَذَا مَنْ اشْتَغَلَ بِطَلَبِ الْعِلْمِ النَّافِعِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَوْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَتَفَقَّهُ أَوْ يُفَقِّهُ فِيهِ الْفِقْهَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِقْهًا فَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَفْضَلِ ذِكْرِ اللَّهِ . وَعَلَى ذَلِكَ إذَا تَدَبَّرْت لَمْ تَجِدْ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ فِي كَلِمَاتِهِمْ فِي أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ كَبِيرَ اخْتِلَافٍ . وَمَا اشْتَبَهَ أَمْرُهُ عَلَى الْعَبْدِ فَعَلَيْهِ بِالِاسْتِخَارَةِ الْمَشْرُوعَةِ فَمَا نَدِمَ مَنْ اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى . وَلْيُكْثِرْ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ مِفْتَاحُ كُلِّ خَيْرٍ وَلَا يُعَجِّلُ فَيَقُولُ : قَدْ دَعَوْت فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي وَلْيَتَحَرَّ الْأَوْقَاتَ الْفَاضِلَةَ : كَآخِرِ اللَّيْلِ وَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَعِنْدَ الْأَذَانِ وَوَقْتَ نُزُولِ الْمَطَرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَأَمَّا أَرْجَحُ الْمَكَاسِبِ : فَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ وَالثِّقَةُ بِكِفَايَتِهِ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِهِ . وَذَلِكَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُهْتَمِّ بِأَمْرِ الرِّزْقِ أَنْ يَلْجَأَ فِيهِ إلَى اللَّهِ وَيَدْعُوَهُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِيمَا يَأْثُرُ عَنْهُ نَبِيُّهُ : { كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ . يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ } وَفِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ إذَا انْقَطَعَ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ } . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ . { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْجُمْعَةِ فَمَعْنَاهُ قَائِمٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ . وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَم { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك وَإِذَا خَرَجَ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك } وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ وَهَذَا أَمْرٌ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ فَالِاسْتِعَانَةُ بِاَللَّهِ وَاللَّجَأُ إلَيْهِ فِي أَمْرِ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ أَصْلٌ عَظِيمٌ . ثُمَّ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ لِيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ وَلَا يَأْخُذُهُ بِإِشْرَافِ وَهَلَعٍ ؛ بَلْ يَكُونُ الْمَالُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَلَاءِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْقَلْبِ مَكَانَةٌ وَالسَّعْيُ فِيهِ إذَا سَعَى كَإِصْلَاحِ الْخَلَاءِ . وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ : { مَنْ أَصْبَحَ وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ شَتَّتَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا كُتِبَ لَهُ . وَمَنْ أَصْبَحَ وَالْآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جَمَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ؟ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ } . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : أَنْتَ مُحْتَاجٌ إلَى الدُّنْيَا وَأَنْتَ إلَى نَصِيبِك مِنْ الْآخِرَةِ أَحْوَجُ فَإِنْ بَدَأْت بِنَصِيبِك مِنْ الْآخِرَةِ مَرَّ عَلَى نَصِيبِك مِنْ الدُّنْيَا فَانْتَظَمَهُ انْتِظَامًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } . فَأَمَّا تَعْيِينُ مَكْسَبٍ عَلَى مَكْسَبٍ مِنْ صِنَاعَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ بِنَايَةٍ أَوْ حِرَاثَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَلَا أَعْلَم فِي ذَلِكَ شَيْئًا عَامًّا لَكِنْ إذَا عَنَّ لِلْإِنْسَانِ جِهَةٌ فَلْيَسْتَخِرْ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا الِاسْتِخَارَةَ الْمُتَلَقَّاةَ عَنْ مُعَلِّمِ الْخَيْرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الْبَرَكَةِ مَا لَا يُحَاطُ بِهِ . ثُمَّ مَا تَيَسَّرَ لَهُ فَلَا يَتَكَلَّفُ غَيْرَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ كَرَاهَةٌ شَرْعِيَّةٌ . وَأَمَّا مَا تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ فِي الْعُلُومِ فَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَهُوَ أَيْضًا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَشْءِ الْإِنْسَانِ فِي الْبِلَادِ فَقَدْ يَتَيَسَّرُ لَهُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ مِنْ الْعِلْمِ أَوْ مِنْ طَرِيقِهِ وَمَذْهَبِهِ فِيهِ مَا لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ لَكِنَّ جِمَاعَ الْخَيْرِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي تَلَقِّي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى عِلْمًا وَمَا سِوَاهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِلْمًا فَلَا يَكُونُ نَافِعًا ؟ وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ عِلْمًا وَإِنْ سُمِّيَ بِهِ . وَلَئِنْ كَانَ عِلْمًا نَافِعًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي مِيرَاثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُغْنِي عَنْهُ مِمَّا هُوَ مِثْلُهُ وَخَيْرٌ مِنْهُ . وَلْتَكُنْ هِمَّتُهُ فَهْمَ مَقَاصِدِ الرَّسُولِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَسَائِر كَلَامِهِ . فَإِذَا اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ أَنَّ هَذَا هُوَ مُرَادُ الرَّسُولِ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مَعَ النَّاسِ إذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ . وَلْيَجْتَهِدْ أَنْ يَعْتَصِمَ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْعِلْمِ بِأَصْلِ مَأْثُورٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مِمَّا قَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ فَلْيَدْعُ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إذَا قَامَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ : اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ : { يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ } . وَأَمَّا وَصْفُ " الْكُتُبِ وَالْمُصَنِّفِينَ " فَقَدْ سُمِعَ مِنَّا فِي أَثْنَاءِ الْمُذَاكَرَةِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ . وَمَا فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الْمُبَوَّبَةِ كِتَابٌ أَنْفَع مِنْ " صَحِيحِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ " لَكِنْ هُوَ وَحْدَهُ لَا يَقُومُ بِأُصُولِ الْعِلْمِ . وَلَا يَقُومُ بِتَمَامِ الْمَقْصُودِ لِلْمُتَبَحِّرِ فِي أَبْوَابِ الْعِلْمِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ أَحَادِيثَ أُخَرَ وَكَلَامُ أَهْلِ الْفِقْهِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِعِلْمِهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ أَوْعَبَتْ الْأُمَّةُ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ إيعَابًا فَمَنْ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ هَدَاهُ بِمَا يَبْلُغُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ أَعْمَاهُ لَمْ تَزِدْهُ كَثْرَةُ الْكُتُبِ إلَّا حَيْرَةً وَضَلَالًا ؛ كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ : أَوَلَيْسَتْ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؟ فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ ؟ } . فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَرْزُقَنَا الْهُدَى وَالسَّدَادَ وَيُلْهِمَنَا رُشْدَنَا وَيَقِيَنَا شَرَّ أَنْفُسِنَا وَأَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا ؟ وَيَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَوَاتُهُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ .

      تعليق


      • #4
        رد: شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شرح فضيلة الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله

        المشاركة الأصلية بواسطة أبو عاصم محمد الفاضل بن الصادق
        للرفع من المرفقات
        الوصيّة الصّغرى
        لشيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله

        تحقيق
        أبي عبدالرحمن عبدالمجيد جمعة
        حفظه الله

        وللفائدة:
        وهذا تفريغ كلام الشّيخ الفقيه الأصوليّ سليمان الرّحيليّ -حفظه الله- (نهاية كلامِهِ الأوّل):

        وأيضًا طُبِعَت بتحقيق الشّيخ: عبد المجيد تُركِي الجزائريّ، وتحقيقُ الشّيخ عبد المجيد هُوَ أفضل تحقيقٍ اطّلعتُ عليهِ لِنَظْمِ الرِّسالة؛ فقد اعتنى بها عنايةً طيِّبَةً.

        كلام الشّيخ -حفظه الله- الثّانِي:

        أوّلاً يا إخوَة: البارِحَة قُلت إنّ أحسن تحقيق لمَتْنِ الوصيّة هُوَ تحقيق الشّيخ: عبد المجيد جُمعة؛ وقال بعض الإخوة أنِّي قُلت: عبد المجيد تُركِي وهذا سبقُ لسانٍ منِّي، وإنَّما المُحقِّق هُو أخي الفاضل الشّيخ الدّكتور: عبد المجيد جُمعة الجزائريّ؛ حيثُ حقَّقَ متن هذِهِ الرِّسالة تحقيقًا دقيقًا جميلاً؛ وخَدَم المتن خدمةً جميلةً، قد أخطأتُ البارحة بِسَبْقِ لسان فقُلت: عبد المجيد تُركي لم أتنبّه لهذا! ولكن نبّهني الإخوة لهذا؛ يعنِي –بمعنى- أتاني الإخوة: هل هُوَ عبد المجيد تُركِي؟! قُلت: لاَ؛ عبد المجيد جُمعَة؛ قال: وأنتَ قُلت عبد المجيد تُركِي! فهذا سبقُ لسانٍ، وإنّما المُحقِّق هُوَ أخي الفاضل الشّيخ الدّكتور عبد المجيد جُمعة وتحقيقُهُ موجود، وهُوَ -يعنِي- تحقيقٌ للمَتْنِ نفيسٌ جدًّا وطيِّب.اهـ
        أبو عبد الرحمن أسامة
        أخي بارك الله فيك أرجو أن تنشره هذه المشاركة الطيبة في موضوع مستقل في منبر المتون التابع لمنبر تهذيب وتزكية النفوس
        كتبه أخوكم شـرف الدين بن امحمد بن بـوزيان تيـغزة

        يقول الشيخ عبد السلام بن برجس رحمه الله في رسالته - عوائق الطلب -(فـيا من آنس من نفسه علامة النبوغ والذكاء لا تبغ عن العلم بدلا ، ولا تشتغل بسواه أبدا ، فإن أبيت فأجبر الله عزاءك في نفسك،وأعظم أجر المسلمين فـيك،مــا أشد خسارتك،وأعظم مصيبتك)

        تعليق


        • #5
          رد: شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شرح فضيلة الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله

          هذا تفريغ لنفس الأخت ـ أثابها الله ـ بصيغة نصية (وورد) doc قم بتحميله من الرابط التالي: http://www.ajurry.com/vb/attachment....1&d=1360434043

          وهنا نص التفريغ الكامل مقسم على عدة مشاركات :


          شرح
          الوصِيَّة الصُّغرَى
          لشيخ الإسلام
          أحمَد بن عبد الحليم ابن تيمية
          رَحِمَهُ اللهُ وأسكنه فسيح جناته
          شرح فضيلة الشيخ
          سُليمَان بنُ سَليمِ اللهِ الرُّحيليّ
          وفقه الله وحفظه



          (1)
          بسم الله الرحمٰن الرحيم
          الحمد لله الملك القدوس السلام، أكرمنا بدين الإسلام، وأكمل لنا الدِّين وأتمّ علينا الإنعام، وبيَّن لنا الحلال والحرام. وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له المعبود الحقُّ على الدوام. وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله النبيُّ الإمام، المبعوثُ رحمةً للأنام، من التزم سنَّته اهتدى واستقام، ومن أَعرَضَ عن دينه تخبّط فِيْ دياجير الظلام، ومن أحدث فِيْ أمرِه ما ليس منه فهو ردٌّ مع الآثام، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكمل صلاة وأتمّ سلام، ورضي الله عن آله الطيِّبين الأعلام، وصحابته الخيار الكرام. أما بعد:
          فمعاشر الإخوة؛ درسُنا فِيْ شرح (الوصية الصغرى) لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-، حيث سأل العالمُ الرحَّالة أبو القاسم السَّبْتي المقدسي شيخَ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- أربعة أمور:
          الأمر الأوّل: أن يوصيه بما ينفعه فِيْ دينه ودنياه.
          والأمر الثاني: أن يدلّه على أنفع الكتب فِيْ العلوم الشرعية عمومًا وفي علم الحديث خصوصًا.
          والأمر الثالث: أن يدلّه على أفضل الأعمال الصالحة بعد الواجبات.
          والأمر الرابع: أن يدلّه على أرجح المكاسب.
          وقَدْ أجابه شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- وبدأ بالأمر الأول؛ وهو الوصية بما يُصلِح الدِّين والدنيا. وبيَّن أمرًا عامًا؛ وهو: أنّ الَّذِي يُصلِح دين الإنسان ودنياه: أن يتمسَّك بما فِيْ الكتاب والسنة.
          ثم أوصاه بالوصية الخاصة؛ وهي وصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ، هٰذه الوصية من تمسّك بِهَا أصلح دينه ودنياه؛ حيث قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذٍ لمّا بعثه إلى اليمن: «يا معاذ! اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلُق حسن».
          وخلاصة هٰذه الوصية: أن تعمل أيها المسلم بما أمرك الله به، وأن تجتنب ما نهاك الله عنه؛ وهٰذا معنى «اتق الله حيثما كنت». وأن تحرص إذا زلَّت القدم على أن تزيل أثر الذنب؛ وهٰذا معنى «وأتبع السيئة الحسنة تمحها». وأن تتعامل مع الناس بكريم الأخلاق؛ وهٰذا معنى «وخالق الناس بخلق حسن».
          ولا شك أنّ من عاش حياته على هٰذا؛ عاش سعيد القلب، مطمئن النفس، مرتاح البال، على صراط مستقيم.
          وبيّن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- وجه كون هٰذه الوصية أنفع ما يَكون للمسلم فِيْ دينه ودنياه من وجوه:
          الوجه الأول: أنها من آخر وصايا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصّى بِهَا معاذًا لمّا بعثه إلى اليمن، وكان ذٰلك قبل وفاة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيسير.
          والأمر الثاني: أنها وصية يحتاجها كل إنسان مهما عَلتْ منزلته، ولا يَستغني عنها أحد، ولو كان يستغني عنها أحدٌ لعلوِّ منزلته لاستغنى عنها معاذ –رضي الله عنه- .
          والأمر الثالث: أنها جامعة لجوامع الخير؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصّى بِهَا معاذًا الَّذِي له منزلة عليَّة عنده، والمعلوم أنّ من يوصي مَن يحب يختصُّه بجوامع الخير.
          والوجه الآخر فِيْ بيان أهميتها: أنها جمعتْ بين كونها تفسيرًا لوصية الله –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- وكونها وصيةً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فجمعتْ الحُسنيَين؛ هي تفسيرٌ لوصية الله ووصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
          ثم بيَّن شيخ الإسلام كونها جامعة للخير، وبيَّن أنّ العبد فِيْ الدنيا بين حقَّين: حق الله، وحق عباد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، وأنّ المطلوب منه أن يؤدِّيَ الحقوق، لكنّ الإنسان لضعفه لابد أن يقع منه الخطأ فِيْ حق الله وفي حق عباده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-. ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «اتق الله حيثما كنت» أي افعل المأمور واجتنب المحظور أو المنهي عنه ما استطعت إلى ذٰلك سبيلًا، فإذا زلّت القدم فأتْبِع السيئة الحسنة تمحها.
          ثم بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- أنّ الذنوب لَهَا آثارٌ على العباد؛ عاجلةٌ وآجلةٌ. وأنّ الله من رحمته قد جعل لعباده أمورًا تزيل آثار الذنوب.
          وقلنا انّ العلماء قد عدّوا ما يزيل آثار الذنوب فِيْ عشرة أمور، وأنّ شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- هنا قد ذكر أربعة منها؛ لأنها الَّتِي تقع فِيْ الدينا؛ وهي: التوبة، والاستغفار، والعمل الصالح، والبلاء الَّذِي يصيب المؤمن.
          وبدأنا بالأمر الأول وهو التوبة، وتكلمنا عنه، لكن بقيت مسألة فاتتني فيما يتعلق بالتوبة، وهي: أنّ التوبة لا تنفع صاحبها إلا إذا استَجمعتْ شروطها.
          وشروط التوبة إذا كان الذنب فِيْ حق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- خمسة:
          الشرط الأول: الإخلاص لله –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، بأن يَكون الدافع للعبد لكي يقلع عن الذنب: خوف الله –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
          فالعبد إذا تاب إما أن يتوب خوفًا من الله، وإما أن يتوب خوفًا من عباد الله. فإن تاب خوفًا من الله فهٰذه التوبة النافعة الَّتِي تزيل أثر الذنب. وإن تاب خوفًا من عباد الله فإنّ هٰذا يزيل عنه الذنب فِيْ الحاضر ولكنه لا يزيل أثر الذنب الماضي.
          أعطيكم مثالًا؛ إنسان –والعياذ بالله والعياذ بالله- يزني، زنى مرة مرتين ثلاثة، ثم عَظُمَ خوف الله فِيْ قلبه فتاب؛ يُمحى عنه الماضي كأنه لَمْ يُذنب، ويَسلَم من الحاضر.
          آخر –والعياذ بالله- كان يزني، زنى مرة مرتين ثلاثًا، ثم خاف من الفضيحة، خاف على مقامه ومكانه بين الناس، فترك الذنب، هٰذا يَسلم الآن من الذنب لأنه لَمْ يزنِ، ولكنّ الذنب الماضي يبقى عَلَيه أثره. فانتبهوا يا إخوة لمسألة الإخلاص.
          والشرط الثاني: أن يقلع عن الذنب، فليس صادقًا فِيْ توبته من يبقى على الذنب ويقول إنه تائبٌ منه، والبقاء على الذنب يَمنع التوبة؛ من حيث أثرها.
          والشرط الثالث: أن يندم على ما مضى. فيندم على الذنب الَّذِي وقع منه، ومن علامة الندم: أن يكره أن يعود إلا الذنب -بعد أن نجاه الله منه- كما يَكره أن يُقذف فِيْ النار. فليس تائبًا مَن إذا تذكَّر الذنب قال: تلك أيامٌ جميلة! فإنّ هٰذا ليس نادمًا على الَّذِي وقع منه.
          والشرط الرابع: أن يعزم على عدم العَود إليه، وانتبهوا! لَمْ يقل العلماء «ألا يعود إليه»؛ وإنما: «أن يعزم على عدم العَود إليه»، فإذا عزم صادقًا فإنه تائب، فإن عاد بَعْدُ فذاك ذنب جديد لا يَنقُض التوبة السابقة.
          والشرط الخامس: أن تقع التوبة فِيْ وقتها. ووقت التوبة عامٌّ وخاصٌّ.
          - أمَّا العامُّ: فهو أن تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها فإنّ باب التوبة يُغلَق.
          -وأمّا الخاصُّ: فهو ما لَمْ يغرغِر الإنسان، يعني ما لَمْ تبلغ الروح الحلقوم، فإنّ الله يقبل التوبة.
          وهنا مسألة دقيقة اختلف فيها أهل العلم: هل المقصود بالغرغرة الثابتة فِيْ الحديث: ذات الغرغرة؟ أو المقصود اليأس من الحياة؟
          ويترتب على هٰذا مسألة مهمة: وهي توبة من أُصيب بمرضٍ قاتل يَعلَم الناس أنّ صاحبه يموت فِيْ غالب الحال، كمن أصيب –والعياذ بالله- بالسرطان لا سيما فِيْ بعض أنواعه، أو أصيب بما يسمّى بالإيدز، أو غير ذٰلك، وعَلِمَ به، هل تُقبل توبته؟
          إنسان ظلم إخوانه ثم عَلِمَ أنه مصاب بالسرطان القاتل، وتاب، هل تقبل توبته؟
          هٰذه المسألة مبنيَّة على ما قدّمناه؛ وهي هل المقصود بالغرغرة: ذات الغرغرة؟ أو المقصود اليأس من الحياة؟
          فمن قال: إنّ المقصود هُوَ ذات الغرغرة؛ قال: نعم تُقبل توبته؛ لأنه لَمْ يغرغر.
          ومن قال: المقصود هُوَ اليأس من الحياة؛ قال: لا تُقبل توبته.
          والذي يظهر والله أعلم-: أنّ المقصود الغرغرة بذاتها، يعني ما لَمْ يغرغر فيَعلَم أنه ميت الآن، لأنّ الغرغرة دليلٌ على الموت الحاضر، وهٰذا المقصود، فما دام أنّ الإنسان لَمْ يَقطَع بموته فإنّ توبته مقبولة، فإذا غرغر بحيث يعلم الناس أنّ الروح لا تعود بعد هٰذا فإنه لا تقبل توبته إذا غرغر. هٰذا إذا كان الذنب لله.
          وإذا كان الذنب لعباد الله، فإنه تُشتَرط ستة شروط:
          هٰذه الشروط الخمسة؛ ويُزاد عليها سادس؛ وهو: أن يُعيد الحق إلى أهله إن كان عينًا، أو يتحلَّل منه إن كان عينًا أو معنى.
          أن يعيد الحق إلى أهله إن كان عينا، غصب أرضًا؛ التوبة أن يعيد الأرض، سرق مالًا؛ التوبة أن يعيد المال.
          «أو يتحلَّل منه إن كان عينًا» مثلًا سرق عينًا وتلِفَتْ، أو باقية، فقال لأصحابها: سامحوني، فقالوا: سامحناك، فهٰذا يكفي.
          أو كان معنويًا؛ سبَّ مسلمًا، اغتاب مسلمًا، كذب على مسلم، فلابد أن يتحلَّله.
          لكن هنا مسألة دقيقة فِيْ المعنويات, قال العلماء: الذنوب المعنوية المتعلِّقة بحقوق العباد لا تخلو من حالَين:
          الحال الأولى: أن يعلم صاحب الحق بالذنب الَّذِي وقع عَلَيه، يعني يعلم صاحب الحق أنّ فلانًا سبّه أو أنّ فلانًا اغتابه أو أنّ فلانًا كَذَبَ عَلَيه، وهنا لابد أن يَستحلّه ويَبذُل ما يستطيع لعله أن يُحلِّه.
          والحال الثانية: ألا يَكون صاحب الحق قد عَلِمَ بذلك الذنب، لَمْ يعلم أنّ فلانًا كذب عَلَيه أو اغتابه أو سبّه، هنا قال العلماء: إن كان فاعلُ الذنب يأمَن صاحب الحق ويَعلَم أنه لا يترتَّب على ذٰلك فتنة؛ فإنه يستحلّه.
          أما إذا كان لا يأمنه ويَخشى لو استحلَّه أن يترتَّب على ذٰلك فتن أو مقاطعة أو مهاجرة أو نَحْوَ ذٰلك؛ فإنه هنا لا يُخبِره ولا يَستحله؛ ولكن يجتهد فِيْ الدعاء له، ويجتهد فِيْ أن يذكره بخير كما ذكره بسوء، وهٰذا يكفي إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ.
          ثم ذكر شيخ الإسلام –رحمه الله- الأمر الثاني، فلعل الشيخ ياسين –وفقه الله- يُذكّرنا به.
          والذنوب يزول موجَبها بأشياء: أحدها: التوبة. والثاني: الاستغفار من غير توبة، فإنّ الله تعالى قد يغفر له إجابة لدعائه وإن لَمْ يتب، فإن اجتمعت التوبة والاستغفار فهو الكمال.
          قال الشيخ: «والاستغفار من غير توبة» الاستغفار يا إخوة هُوَ طلب المغفرة، لأنّ الألف والسين والتاء تدلّ على الطلب، فمعنى الاستغفار: طلب مغفرة الله. ومغفرة الله تعني: أن يستر الله ذنب العبد وأن يزيل عنه أثره. فعندما تقول: «أستغفر الله» معنى هذا: أسألك يا ربي أن تستر عليّ ذنبي وأن تزيل عني أثره.
          قال شيخ الإسلام: «والاستغفار من غير توبة»، وقَدْ ورد الاستغفار فِيْ النصوص، فقد جاء أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إني لأستغفر الله فِيْ اليوم مائة مرة» رواه مسلم فِيْ الصحيح.
          وفي الحديث الَّذِي يرويه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ربه –تبارك وتعالى- أنه قال: «يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وإني أغفر الذنوب جميعًا؛ فاستغفروني أغفر لكم» رواه مسلم فِيْ الصحيح. الشاهد هنا أنّ الاستغفار ورد مفردًا من غير توبة. فعندنا هنا مسألتان:
          المسألة الأولى: هل بين الاستغفار والتوبة فرق؟ أو هما بمعنىً واحد؟
          والجواب: أنّ بينهما فرقًا. ويظهر ذٰلك لك بوجوه:
          الوجه الأول: أنّ التوبة لَهَا وقت تنتهي به، أمّا الاستغفار فلا وقت له. ولذلك يُستغفَر حتى عن الميّت، ولا يُتاب عن الميّت، يُستغفر حتى للميت بعد أن غرغر ومات ودُفن وقُبر يُستغفر له، أمّا التوبة فلا تكون بعد الغرغرة.
          الوجه الثاني: أنّ التوبة إنما تَكون من صاحب الذنب، أمّا الاستغفار يَكون من صاحب الذنب، ومن غيره له، فيستغفر أحد عن أحد، ولا يتوب أحد عن أحد. ما يتوب الولد عن أبيه، ولا يتوب الصديق عن صديقه. ولكن يستغفر الولد لأبيه، وتستغفر الملائكة للبشر، فهٰذا يبيّن لك أنّ بين التوبة والاستغفار فرقًأ,.
          المسألة الثانية: هل ينفع الاستغفار بلا توبة؟
          يرى بعض العلماء أنّ الاستغفار طريق التوبة وأنه لا ينفع مع الإصرار على الذنب؛ فلا ينفع إلا بتوبة، لأنّ الطريق إذا لَمْ يوصِل إلى المقصود فإنه غير نافع؛ فبعض أهل العلم يقول: الاستغفار طريق التوبة، فلابد أن تكون معه توبة حتى ينفع.
          ويرى بعض أهل العلم أنّ الاستغفار ينفع بلا توبة؛ بدليل وروده مفردًا فِيْ النصوص، وإفراده يدلّ على نفعه بذاته.
          أين تظهر فائدة المسألة؟ تظهر فائد المسألة فيمن فعل ذنبًا وأصرّ عَلَيه واستغفر.
          إنسان يشرب الدخان، وشرب الدخان ذنب، ويكاد يَكون عَلَيه اليوم اتفاق اهل العلم الَّذِينَ يؤخَذ برأيهم فِيْ الفتوى أنه حرام. طيب؛ يشرب الدخان وبعد ما ينتهي من السيجارة يقول: أستغفر الله، لكن هُوَ عازم أنه سيشرب بعد ساعة أو ساعتين. فهو مصرّ؛ هنا وُجد الاستغفار ولم توجَد التوبة.
          إن قلنا: إنّ الاستغفار لا ينفع إلا مع توبة؛ فهٰذا الاستغفار ضائعٌ لا ينفعه.
          وإن قلنا إنّ الاستغفار ينفع من غير توبة؛ فهٰذا الاستغفار ينفعه.
          والتحقيق من أقوال أهل العلم فِيْ المسألة: أنّ الاستغفار لا يخلو من حالَين:
          الحالة الأولى: أن يَكون من باب استغفار الغير للمذنب. مثل استغفار الملائكة لمن قعد فِيْ المصلى ما لَمْ يُحدِث؛ «اللهم اغفر له، اللهم ارحمه». ومثل استغفار الولد لأبيه؛ وهٰذا ينفع بلا توبة؛ والدليل على ذٰلك أنه مطلوب للميت، والمعلوم انّ الميت لا يتوب.
          النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمّا مات النجاشي نعاه لأصحابه فِيْ اليوم الَّذِي مات فيه وقال: «استغفروا لأخيكم» وقَدْ مات! وكان يقف على القبر ويقول: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل» وقَدْ مات، لا يُتصوّر منه أن يتوب.
          ومن وجه آخر: أنه طُلِب شرعًا، ومَا دام أنه طُلِبَ شرعًا فلابد أن يَكون نافعًا.
          وهٰذه قاعدة: ما طلب الله منّا شيئًا إلا وهو نافع. فإنّ الله لَمْ يأمرنا تشديدًا علينا، وإنّما أمرنا بما فيه المصلحة العاجلة والآجلة.
          والحالة الثانية: استغفار المذنِب بنفسه. والصحيح أنه ينفع صاحبه بشرط أن يَكون نابعًا من خوف الله، فيكون صادرًا من خشية الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- حقًا وصدقًا. فيكون حال العبد بين حالين: حال الخوف من الله وحال الضعف مع الشهوة، فإذا تذكَّر الخوف من الله استغفر، وإذا غلبته الشهوة فَعَلَ، فهٰذا ينفعه.
          أما الاستغفار باللسان من غير أن يَكون نابعًا من خشية الله؛ فهٰذا استغفار الكذابِين، الَّذِي يقول بلسانه استغفر الله وليس فِيْ قلبه استشعار للذنب الَّذِي يفعل ولخوف المعاقبة؛ فهٰذا يكذب فِيْ استغفاره ولا ينفعه.
          إذن نقول: إنّ القول الوسط فمن أقوال اهل العلم فِيْ استغفار المذنب من غير توبة: أنّ ذٰلك ينفعه إذا كان ذٰلك نابعًا من خشية الله –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
          أما إذا كان باللسان فقط دون استشعار القلب فإنه لا ينفع صاحبه.
          ولذلك قال الشيخ –رحمه الله- : «فإنّ الله تعالى قد يغفر له إجابة لدعائه؛ وإن لَمْ يتب» قال: « فإذا اجتمعت التوبة والاستغفار فهو الكمال» فجمع الإنسان بين التوبة والاستغفار كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران : 135]. فجمع هنا بين الاستغفار والتوبة، فالاستغفار: أنهم ذكروا الله فاستغفروا، والتوبة: أنهم لَمْ يصروا، فجمعوا بين التوبة والاستغفار.
          وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني لأستغفر الله وأتوب إليه فِيْ اليوم أكثر من سبعين مرة» رواه البخاري فِيْ الصحيح. فدلّ ذٰلك على أنّ الجمع بين التوبة والاستغفار كمالٌ للعبد إذا وقع فِيْ الذنب.


          الثالث: الأَعْمَال الصالحة المكفّرة
          وذلك أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» فالأعمال الصالحة ماحية، يسمّيها بعض العلماء بالممحِّصات؛ يعني الَّتِي تُمحَّص بِهَا الذنوب.
          إما الكفارات المقدَّرة؛ كما يكفِّر المجامِع فِيْ رمضان والمظاهِر والمرتكِب لبعض محظورات الحج أو تارِك بعض واجباته أو قاتل الصيد بالكفارات المقدَّرة.
          «بالكفارات المقدَّرة» أي الكفارات المعيَّنة الَّتِي رُتِّبتْ على السبب، فمتى ما وُجِد السبب وجبت، وهي سبب لتكفير الذنب أو التقصير وإزالة ما يترتّب عَلَيه. فإنّ الكفارات يُرجى أن تزيل موجَب الذنب الَّذِي وجبتْ بسببه.
          ويرى بعض أهل العلم أنّ هٰذه الكفارات لا تزيل موجَب الذنب بالكليَّة إلا إذا اجتمعتْ معها التوبة.
          والصحيح من أقوال أهل العلم: أن الكفارات زواجر قبل الوقوع، جوابر بعد الوقوع». الكفارات والفِدى: زواجر قبل الوقوع؛ تزجر المكلَّف عن أن يقع فِيْ الفعل. وجوابر بعد الوقوع؛ فتجبر الخلل الَّذِي وقع. هٰذا الصحيح من أقوال اهل العلم.
          قال شيخ الإسلام: «كما يكفِّر المجامِع فِيْ رمضان»، الجماع فِيْ رمضان سيئة وكبيرة عظيمة، فإذا جامع الإنسان فِيْ نهار رمضان ترتّب على ذٰلك أنه يجب عَلَيه أن يكفِّر بعتق رقبة، فإن لَمْ يجد يصوم شهرين متتابعَين، فإن لَمْ يجد يطعم ستين مسكينًا، فإذا فعل هٰذا فإنه يزيل موجَب الذنب، ويبقى حقُّ اليوم معلَّقًا بالقضاء، فالصحيح من أقوال أهل العلم أنه يجب عَلَيه أن يقضي ذٰلك اليوم مع الكفارة.
          ما أثر الكفارة؟ أثر الكفارة فِيْ الزجر قبل الوقوع، فإنّ العبد إذا عَلِمَ أنه إذا جامع فِيْ رمضان ستُرتَّب عَلَيه هٰذه الكفارة العظيمة فإنه ينزجر عن الجماع.
          وقَدْ قال العلماء قاعدة شريفة نافعة: أنه كلّما ضعف الوازع الطَّبْعيّ عَظُمَ الوازع الشرعيّ، وكلّما قَوِيَ سبب الفعل كلّما قَوِيَتْ الكفارة الزاجرة عنه.
          المعلوم يا إخوة أنّ الإنسان إذا صام ومُنِعَ من الجماع تقوى عَلَيه الدواعي حتى مع ضعف نفسه، ولذلك؛ إذا أردتَ مصداق هٰذا فإنك تجد أنّ الرَّجل فِيْ رمضان تَكون عنده امرأته طوال الليل لا يقربها؛ فإذا صام جاءه الشيطان وجاءته الدواعي فيقع. بل من غرائب الأسئلة الَّتِي سُئلتُها: أنّ رجلًا فِيْ السبعين من عمره سألني سؤالًا فيه شيءٌ من الغرابة فقال: يا شيخ والله لي عشرة سنين لا أقرب امرأتي، وفي هٰذا العام فِيْ رمضان وأنا صائم وقعتُ عليها! وذلك أنّ إبليس حريص على إيقاع الإنسان فِيْ هٰذا الأمر، فجاءت هٰذه الكفارة المغلَّظة لتزجر الإنسان عن الوقوع فِيْ هٰذا الضَّعف.
          ثم أثرُها بعد الوقوع: أنها تزيل أثر الذنب، وأمّا حقُّ اليوم فلا يزيله إلا قضاء ذٰلك اليوم.
          قال: «والمظاهِر» فالمظاهِر كذلك؛ يعتق رقبة، فإن لَمْ يجد يصوم شهرين متتابعَين، فإن لَمْ يجد يطعم ستين مسكينًا. قال: «والمرتكب لبعض محظورات الحج» لماذا قال يا إخوة: لبعض؟ لماذا لَمْ يقل: والمرتكب لمحظورات الحج؟ لأنّ من محظورات الحج ما لا فدية فيه؛ مثل النكاح، النكاح ليس فيه فدية؛ ولذلك قال: «لبعض محظورات الحج»، كفدية الأذى، من حلق رأسه أو أخذ شعره فإنه يَكون مخيَّرًا بين ذبح شاة أو إطعام ستة مساكين، أو صيام ثلاثة أيام. «أو تارك بعض واجباته» أي كما يكفِّر تارك بعض واجبات الحج؛ لأنّ من ترك الواجب فإنه يجب عَلَيه دم يزيل أثر هٰذا الترك ويَتمُّ به الحج.
          وهنا لطيفة فقهية؛ وهي: هل الدم الواجب فِيْ ترك بعض واجبات الحج بدلٌ عن الواجب أو أثرٌ لترك الواجب؟ هل هٰذه المسألة من باب الرفاهية العلمية؟ لا، بل لَهَا أثرٌ عظيم فِيْ أحكام الحج.
          إذا قلنا إنّ الدم بدلٌ عن الواجب؛ فإنّا نقول: من عجز عن الواجب يلزمه دم. يعني إنسان دخل المستشفى رُبِط فِيْ السرير ما يخرج، عاجز، ذهبوا به إلى عرفة بالسيارة لكن لَمْ يبت فِيْ مزدلفة، ولم يبت فِيْ منى، الرمي يوكّل لكن المبيت ليس فيه توكيل، هل يجب عَلَيه دم؟ إذا قلنا إنّ الدم بدل؛ نقول: نعم يجب عَلَيه، لأنّ من عجز عن الواجب وله بدل: انتقل إلى بدله. الَّذِي يعجز عن الوضوء تسقط عنه الطهارة؟ لا، بل ينتقل إلى التيمم.
          وإذا قلنا إنه أثر؛ فإنه لا يجب عَلَيه دم، العاجز لا يجب عَلَيه دم؛ لأنّ أثر الترك لا يلحقه، لأنه يسقط عنه الواجب، فلا واجب مع العجز، فلا يلحقه الأثر.
          والذي يظهر لي -والله أعلم- أنه أثر ماحٍ وليس بدلًا، بل هُوَ أثرٌ ماحٍ يمحوا ما وقع من التقصير. وعليه؛ فإنه لا يجب على العاجز، لكن لو أنّ العاجز ذبح احتياطًا خروجًا من الخلاف؛ فهٰذا شَيْءٌ طيب.
          قال: «أو قاتل الصيد» قاتل الصيد عَلَيه الكفارة إن كان متعمّدًا، عَلَيه مثله من النَّعم، كما بيّنا فِيْ درسنا فِيْ الحج.
          إذن لو سألَنا سائل: ما هي الكفارات المقدَّرة؟ نقول: هي الكفارات المعيَّنة الَّتِي رُتِّبت على سبب. فمن وجه هي محدَّدة ليست مطلقة، ومن وجه هي مرتبة على سبب. فهٰذه الكفارات المقدّرة.
          وهي أربعة أجناس: هدي وعتق وصدقة وصيام.
          المقصود بالهدي هنا يا إخوة: الذبح، وليس المقصود الهديَ إلى الكعبة، وإنما المقصود: الذبح، بمعنى أنّ التكفير المقدَّر قد يَكون بالذبح، وقَدْ يَكون بالعتق، وقَدْ يَكون بالصدقة، وقَدْ يَكون بالصيام.
          طيِّب هل يدخل فِيْ الصدقة هنا الزكاة؟ الصدقة من حيث هي تدخل فيها الزكاة؛ لكن هل تدخل الزكاة هنا؟ لا تدخل، لماذا؟ لأنّا نتكلم عن الكفارات، والكفارات فيها صدقة غير الزكاة.
          وهنا أخطأ بعض شُرَّاح الوصية فذكر أنّ الصدقة هنا يدخل فيها الزكاة ويدخل فيها الصدقة النافلة. ونحن نقول: ليس المراد بِهَا هنا الزكاة ولا الصدقة النافلة؛ وإنما المراد: الصدقة الَّتِي أُوجِبَت على من فعل فعلًا معيّنًا؛ كإطعام ستة مساكين على من حلق شعره.
          كذلك الصيام هنا ليس المقصود به الصيام الواجب الَّذِي هُوَ صيام رمضان، وليس المقصود به التنفّل كصيام الاثنين والخميس، وإنما المقصود ما أوجبه الله من صيام على من فعل سببًا معيّنًا، كصيام شهرين متتابعَين على من جامع فِيْ نهار رمضان.
          وإمَّا الكفارات المطلقة، كما قال حذيفة لعمر: «فتنة الرجل فِيْ أهله وماله وولده تكفِّرها: الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر».
          «وإما الكفارات المطلقة» المراد بِهَا هنا يا إخوة: الأَعْمَال الصالحة، جنس الأعمال الصالحة. فإنّ الأَعْمَال الصالحة مكفِّرة للسيئات، وتسمّى –كما قلنا- الممحِّصات.
          وقَدْ جاء فِيْ حديث ابن عباس –رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- فِيْ حديث اختصام الملأ الأعلى، وهو حديث عظيم، «فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟ قال: فِيْ الكفارات، والكفارات: المُكْث فِيْ المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء فِيْ المكاره، ومن فعل ذٰلك، عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه» رواه الترمذي وحسّنة ابن عبد البر وابن تيمية، وصححه الألباني.
          وانظروا هنا؛ «فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: فِيْ الكفارات»، والكفارات فُسِّرت فِيْ الحديث بأنها: «المكث فِيْ المساجد بعد الصلوات» هٰذه كفارة، «والمشي على الأقدام إلى الجماعات» هٰذه كفارة، «وإسباغ الوضوء على المكاره» هٰذه كفارة، «ومن فعل ذٰلك عاش بخير» من كان من أهل هٰذا الخير، وكم فرّطنا فِيْ الخير؟ مَن منّا يحرص على المكث فِيْ المساجد؟ سبحان الله إذا سلّم الإمام كأنّا على جمر ، الجيِّد من يبقى حتى يذكر الله، حتى إنه يذكر بعجلة، ويمشي! نعم قد يَعِنّ للإنسان حاجة فيَخرج، لكن كثير منّا اليوم أصبحوا لا يجلسون فِيْ المساجد؛ إلا قليلًا، والمكث فِيْ المساجد من علامات الخير، ومَن فعل المكثَ فِيْ المساجد موعود أن يعيش على خير، وهو أيضًا من أسباب حسن الخاتمة، لأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ومات بخير».
          وكذلك «المشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء على المكاره». فدلّ ذٰلك على أنّ الأَعْمَال الصالحة مكفِّرات. سُمّيت مكفرات بنص الحديث.
          قال شيخ الإسلام –رحمه الله-: «كما قال حذيفة لعمر –رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-: «فتنة الرجل فِيْ أهله وماله وولده» -وفي رواية: فِيْ نفسه وولده وجاره- تكفِّرها: الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» متّفق عَلَيه.
          «فتنة الرجل فِيْ أهله وماله وولده» ماهي فتنة الرجل فِيْ أهله وماله وولده؟ قال العلماء: ما يَعرِض للإنسان من الالتهاء بهم، أو أن يَفعل من أجلهم شيئًا من الحرام دون الكبائر.
          يقول العلماء: «الرَّجل قد يُفتَن فِيْ ولده، وقَدْ يُفتَن بولده، وقَدْ يُفتَن من ولده».
          قد يفتن بولده فيلهوا به؛ فقد يترك شيئًا مما وجب عَلَيه من أجل ولده، أو يفعل شيئًا من الحرام من أجل ولده، كم من شخص لَمْ يصوِّر قط ولم يتصوَّر هُوَ قط، حتى رُزِقَ بالمولود فأصبح يحمل صورة ولده فِيْ جواله! هناك من أهل الخير من عاش منذ أن عرف الحق يأبى أن يُصوَّر، هُوَ بنفسه، وليست له صورة إلا الصور الَّتِي لابد منها، لكن لمّا رُزق بولد صوَّر هُوَ ولده! ففُتِن بولده.
          وقَدْ يُفتَن فِيْ ولده؛ بأن يَكون الولد مثلًا –والعياذ بالله- على سلوك غير طيب أو خلق غير طيب.
          وقَدْ يُفتَن من ولده؛ بأن يدعوا الولد والده إلى سوء. كم من رجل كان على الهدى والسنة والسلفية الطيبة المباركة الَّتِي تحلوا بِهَا الحياة وتتحقق بِهَا الاستقامة فرُزق بولد لا زال به حتى حَرَفَه عنها!
          وأمّا فتنة الرجل بجاره –كما جاء فِيْ الرواية الأخرى- قالوا: بما يحصل من حسد ومزاحمة على الحقوق، موقف السيارة، الظل، وضع الزِّبالة –أكرم الله السامعين-، هٰذه فتنة الرجل فِيْ جاره، تكفِّرها الأَعْمَال الصالحة؛ من صلاة وصيام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
          وقَدْ أجمع العلماء على أنّ الصغائر تكفَّر بالأعمال الصالحة، بإجماع أهل العلم، لكن هل الأعمال الصالحة تكفِّر الكبائر؟
          أنا سأعطيكم الصورة حتى تعرفوا أثر المسألة؛ الآن المسلم يصلي أو لا يصلي؟ يصلي، وأعظم الأعمال الصالحة بعد التَّوحِيد: الصلاة، جيِّد؟ إذا قلنا: إن الأَعْمَال الصالحة تكفر الكبائر هكذا بإطلاق، هل يبقى مسلم عَلَيه ذنب؟ ما يبقى، لأن أقلّ ما يعمل أن يصلي، ليس معنى أقل بمعنى أدْوَن ولكن هٰذا الَّذِي لا يتركه المسلم أبدًا، فلو قلنا إنّ الأَعْمَال الصالحة تكفِّر الكبائر على الإطلاق؛ لكان إذا صلى كفّر ما مضى، كلّما صلى كفّر ما مضى، وعليه؛ فإنه يوم القيامة لا يَدخل مسلم النار؛ لأنّ ذنوبه قد كُفِّرت.


          اختلف العلماء هل الكبائر تُكفّر بالصالحات أو لابد فيها من توبة؟
          والصحيح الَّذِي تدلّ عَلَيه الأدلة: أنّ الكبائر لابد فيها من توبة، كما جاء فِيْ قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما اجتُنِبتْ الكبائر»، ولما قدّمناه من الصورة.
          لكنّ الأَعْمَال الصالحة إذا لَمْ تصادِف صغائر، إنسان عَلَيه صغائر توضأ فمُحيَتْ، طيب صلى، ليس هنا صغيره، فإنه يُرجى أن يُخَّفف بِهَا من الكبيرة، لا تُزيل الكبيرة بالكليّة، ولكن يُرجى أن تُخفَّف الكبيرة بِهَا.
          فإن لَمْ تصادف كبيرة؟ فإنّ التكفير فيها ينقلب إلى ثواب زائد؛ لأنّ الله حَكَمٌ عدْل، هٰذا المسلم وهٰذا المسلم توضأا؛ هٰذا عَلَيه صغيرة مُحيتْ بالوضوء، وهٰذا لَمْ يكن عَلَيه إ ذ ذاك صغيرة؛ فالله عَزَّ وَجَلَّ يعامل هٰذا بأن يُخفَّف عنه من الكبيرة الَّتِي عَلَيه، فإن لَمْ يكن عَلَيه كبيرة فإنّ التكفير ينقلب إلى ثواب زائد على ثواب الوضوء فِيْ حق هٰذا.
          ثم إنّ الأَعْمَال الصالحة قد تَقوى فيَعظُم أثرها، فتزيل الكبيرة، ليس لجنسها ولكن لقوتها، إما لعظم يقين القلب أو للنفع المتعدي، فتقوى إلى أن يُمحى بِهَا الكبيرة، سواء كان ذٰلك بالموازنة –كما سيأتي- بحيث ترجح الحسنات بالسيئات، أو بالمغفرة.
          أذكر لكم صورة ذٰلك؛ صاحب السجلات الَّذِي يأتي يوم القيامة بسجلات قد ملئت ذنوبًا، ويؤتى ببطاقة فيها «لا إله إلا الله» فتوضَع السجلات فِيْ كفّة وتوضع البطاقة فِيْ كفّة فتطيش بهن البطاقة، ترجح البطاقة على السجلات. هل هٰذا فِيْ حق كل أحد؟ كل مسلم يقول لا إله إلا الله، فهل كل مسلم تَرجح كفّة حسناته بسيئاته؟ لو كان ذٰلك كذلك لَمَا دخل مسلم النار؟ إذن هٰذا لخصوصية فِيْ لا إله إلا الله عنده، لقوة يقينه مثلًا، وعظيم عمله بحقيقة لا إله إلا الله، ولكن هٰذا قد لا يوجَد فِيْ مسلم آخر فلا يَحصل له الرُّجحان.
          المرأة البغيّ من بني إسرائيل الَّتِي كانت تَمتهِن الزنى لمَّا شَربَت رأت كلبًا يأكل الثرى من شدة العطش فرحمَته فنزلت فاستَقت له فأسقته؛ فغفر الله لَهَا، هل كل زاني إذا سقى كلبًا يُغفَر له؟ الجواب: لا، وإنما هٰذه المرأة لِمَا لَحِقَها من رحمة ورقَّة قلب صالحة؛ غُفرَ لَهَا بهٰذا العمل.
          الملفات المرفقة
          كتبه أخوكم شـرف الدين بن امحمد بن بـوزيان تيـغزة

          يقول الشيخ عبد السلام بن برجس رحمه الله في رسالته - عوائق الطلب -(فـيا من آنس من نفسه علامة النبوغ والذكاء لا تبغ عن العلم بدلا ، ولا تشتغل بسواه أبدا ، فإن أبيت فأجبر الله عزاءك في نفسك،وأعظم أجر المسلمين فـيك،مــا أشد خسارتك،وأعظم مصيبتك)

          تعليق


          • #6
            رد: شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شرح فضيلة الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله

            إذن نقول: إنّ الأصل أن ّالكبائر لا تُغفر إلا بالتوبة ولا تغفر بالأعمال الصالحة؛ لكنّ الأَعْمَال الصالحة قد يلحقها ما يقوّيها ويقوّي أثرها فتقوى على رفع كبيرة من كبائر الذنوب.
            ولذلك يا إخوة؛ بعض الناس قد يحج وتُغفر له جميع ذنوبه، إمّا بكونه قرن التوبة مع حجه، وإمّا بكونه حرص على إتمام حجه بإخلاص قلبٍ وصدق نيَّة. وبعض الناس قد يعود من الحج وقَدْ خُفِّفت عنه الذنوب إذا كان دون ما ذكرنا وكانت عَلَيه كبائر من الذنوب.
            إذن انتبهوا إلى الَّذِي ذكرتُه؛ فهو تحقيق مبنيٌّ على الأدلة:
            الأعمال الصالحة من حيث جنسها لا تُكفَّر بِهَا الكبائر بل لابد من أن تَكون معها توبة، لكنّ الأَعْمَال الصالحة قد تُخفَّف بِهَا الكبائر من وجه، وقَدْ تقوى لقوة يقين القلب أو عظيم النفع المتعدي فتُرفَع بِهَا الكبيرة وتُمحى بِهَا الكبيرة.
            ومعنى هٰذا الكلام الَّذِي ذكرتُه موجود فِيْ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- وإن لَمْ يكن بهٰذا النص الَّذِي ذكرتُه.
            وقَدْ دلّ على ذٰلك القرآن والأحاديث الصحاح فِيْ التكفير بالصلوات الخمس والجمعة والصيام والحج وسائر الأَعْمَال الَّتِي يقال فيها: من قال كذا وعمل كذا غُفر له، أو غفر له ما تقدّم من ذنبه، وهي كثيرة لمن تلقّاها من السنن؛ خصوصًا ما صُنِّف فِيْ فضائل الأَعْمَال.
            قال: «وقَدْ دلّ على ذٰلك القرآن والأحاديث الصحاح فِيْ التكفير بالصلوات الخمس والجمعة والصيام والحج»؛ كقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصلوات الخمس، والجمعة إلا الجمعة ورمضان إلى رمضان؛ مكفرات ما بينهنّ ما اجتُنبت الكبائر» رواه مسلم.
            فهٰذه الأَعْمَال مكفرات يومية؛ الصلوات الخمس، ومكفرات أسبوعية؛ الجمعة إلى الجمعة، ومكفرات سنوية؛ رمضان إلى رمضان. فاستشعر يا مسلم عظيم فضل الله عليك، فإنّ الله جعل لك من جنس الأَعْمَال الصالحة مكفراتٍ يومية ومكفِّرات أسبوعية، ومكفِّرات سنوية.
            وهناك مكفِّراتٌ لكل ما مضى؛ كقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم من ذنبه»، وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن حج هٰذا البيت فلم يَرفث ولم يَفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
            قال شيخ الإسلام: «وسائر الأَعْمَال الَّتِي قال فيها من قال كذا؛ كقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة: آمين؛ فوافقت إحداهما الأخرى؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه» والحديث فِيْ الصحيحين، يعني فِيْ الصلاة، إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة: آمين؛ فوافقت إحداهما الأخرى؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه.
            وكقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، فإن من وافق قوله قوق الملائكة؛ غُفر له ما تقدّم من ذنبه». وهٰذا الحديث فِيْ الصحيحين.
            فانتبه يا عبد الله! استشعر هٰذا وأنت تعمل هٰذه الأعمال. بعض الناس لا يعطي هٰذه الأعمال الشريفة حقّها، عندما يقول الإمام «ولا الضآلين» قل: «آمين» وأنت مستشعر هٰذه الكلمة العظيمة راجيًا فضل الله وأن يجعل قولك موافقًا لقول الملائكة، إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقل: اللهم ربنا لك الحمد، وأنت مستشعر ما تقول، راجيًا أن يجعل الله قولك موافقًا لقول الملائكة، فإنّ من وقع له ذٰلك غُفر له ما تقدّم من ذنبه.
            قال –رحمه الله-: «وعمل كذا؛ غُفر له ما تقدّم من ذنبه»؛ كقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غُفر له ما تقدّم من ذنبه» متفق عَلَيه.
            وكقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه». والحديث فِيْ الصحيحين.
            وكقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من توضأ نَحْوَ وضوئي هٰذا؛ ثم صلى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه؛ غُفر له ما تقدّم من ذنبه» الحديث فِيْ البخاري ومسلم. من حاول هٰذا؟ من حاول منّا أن يُسبِغ الوضوء ويقوم يصلي ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه؟ والتحقيق أنّ المقصود: لا يحدِّث نفسه بأمور الدنيا؛ بل يُقبل على صلاته من أوّلها إلى آخرها، هٰذه العبادة الشريفة من حاول منا أن يفعلها؟ قلّ من يفعل.
            نحن -والله المستعان- حتى فِيْ الفريضة اليوم أصبح الواحد منّا لا يحاول أن يستحضر نفسه فِيْ الصلاة، لا تحلوا له الدنيا إلا فِيْ الصلاة، ربما لا يفكر فِيْ شَيْء حتى يقول الإمام الله أكبر، فإذا قال الإمام الله أكبر؛ انفتحت عَلَيه الدنيا! وهٰذا تقصير وتفريط يا إخوة، ينبغي أن نحرص على الإقبال على الصلاة بروحها.
            فحريٌّ بك يا من أثقلتك الذنوب –وكلُّنا كذلك- أن تجتهد فِيْ أن تتوضأ وضوءًا مسبغًا ثم تقوم تصلي ركعتين تُقبل على الله لا تحدّث فيهما نفسك؛ لتنال هٰذا الموعود من الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «غُفر له ما تقدّم من ذنبه».
            قال –رحمه الله-: «وهي كثيرة لمن تلقّاها من السنن؛ خصوصًا ما صُنِّف فِيْ فضائل الأعمال». أهل الحديث صنَّفوا كتبًا فِيْ فضائل الأعمال، بعضها مفردة، وبعضها فِيْ ضمن كتبهم فِيْ السنن، وهناك أحاديث كثيرة جدًا فِيْ هٰذا الباب، وهٰذا الباب بابٌ عظيم نافع للمؤمن، فإنّ الأَعْمَال الصالحة تزيد الحسنات وتُمحى بِهَا الذنوب. وتقدّم معنا أنّ كل بني آدم خطاء، فما أحوَجنا إلى هٰذا الباب العظيم!
            وينبغي على المؤمن أن يعرف على معرفة الأَعْمَال الَّتِي نُصّ فيها على تكفير الذنوب.
            وهناك أعمال يسيرة كثيرة يا إخوة، منها مثلًا: ما جاء فِيْ قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أكل طعامًا ثم قال: الحمد لله الَّذِي أطعمني هٰذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه. ومن لبس ثوبًا –أي جديدًا- فقال: الحمد لله الَّذِي كساني هٰذا الثوب ورزقنيه بغير حول مني ولا قوة؛ غُفر له ما تقدَّم من ذنبه».
            ودخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد فإذا هُوَ برجلٍ قد قضى صلاته –أي أنه فِيْ آخر صلاته؛ ولذلك جاء فِيْ الحديث: وهو يتشهد- وهو يقول: اللهم إني أسألك يا الله الأحد الصمد الَّذِي لَمْ يلد ولم يولد ولم يكن له كفُوًا أحد أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم» فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قد غُفر له، قد غُفر له، قد غُفر له» قالها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثًا.
            وهناك أعمال صالحة كثيرةٌ من هٰذا الباب، لعلّنا نعطِّر بِهَا حديثنا غدًا -إن شاء الله- فِيْ أوّل الدرس، ونبيّن من خرّج هٰذه الأحاديث من أهل العلم. والله أعلم، وصلى الله على نبينا وسلّم.



            (2)
            بسم الله الرحمٰن الرحيم
            الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضا، الحمد لله حتى الرضى، والحمد لله عند الرضى، والحمد لله بعد الرضى، والحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد انّ محمدًا عبده ورسوله؛ النبيُّ المجتبى المختار، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله وأصحابه الأخيار الأبرار الأطهار. أما بعد:
            فدرسنا –كما تعلمون- فِيْ هٰذا المسجد المبارك، فِيْ مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الَّذِي قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أتى مسجدي هٰذا ليتعلَّم خيرًا او يعلِّمه؛ كان كالمجاهد فِيْ سبيل الله»، فنرجو الله عَزَّ وَجَلَّ أن يرزقنا من فضله فوق ما نؤمِّل.
            درسنا فِيْ شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-.
            وكنا نتأمّل فِيْ الأمر الأوّل الوارد فِيْ هٰذه الوصية؛ وهو الوصية بما يُصلِح الدين والدنيا. وقَدْ ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- أنّ ما يُصلِح الدين والدنيا: هُوَ التمسُّك بالكتاب والسنة، وأنّ ذٰلك مَدْخورٌ فِيْ وصية عظيمة أوصى بِهَا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذًا –رضي الله عنه-: «يا معاذ! اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن».
            وكنّا قد وقفنا فِيْ شرح قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها».وهٰذه الجملة الشريفة بِشارة للمؤمنين تَفرح بِهَا قلوب العباد، لأنّ المعلوم -أيها الإخوة تقدّم معنا- أنّ الذنب كالحَتْم اللازم للعبد، فلا يَسلم العبد من ذنب، فجاءت هٰذه البِشارة، فإنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كلُّ بني آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون»، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُتِب على ابن آدم حظه من الزنى، وهو مدركٌ ذٰلك لا محالة»، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعاوده الفَينة بعد الفَينة، أو لا يفارقه حتى يفارِق» يعني حتى يفارِق الدنيا «وإنّ المؤمن خُلق مُفتَّنًا، توّابًا، نسَّاءً؛ إذا ذُكِّر تذكَّر». فالذنب لابد منه للعبد، فجاءت هٰذه الجملة الشريفة حاملةً هٰذه البشرى العظيمة: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها».
            وهٰذه الجملة فيها فوائد:
            منها: بيان أنّ العبد إذا أذنب ذنبًا فإنه يَثبُت عَلَيه ويُكتَب عَلَيه؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تمحها»؛ فإنّ المحوَ يَكون بعد الثبوت.
            ومنها: أنّ العبد إذا أذنب ذنبًا ينبغي أن يُسارع فِيْ إزالة أثر هٰذا الذنب، وألا يُسوِّف؛ ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وأتبع السيئة»؛ وهٰذا يدلّ على المسارعة، وذلك أنّ العبد إذا أخطأ خطيئةً ثم تاب منها واستغفر ونَزَع؛ صُقِلَ منها، فإن عاد زادت حتى تَعلوَ قلبه؛ كما عند الترمذي بإسنادٍ صحَّحه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وحسّنه الألباني -رحمه الله-، فالعبد إذا أذنب ذنبًا تُنكَت فِيْ قلبه نقطة سوداء، فإن نَزَعَ واستغفر وتاب؛ صُقِل، وانظر إلى كلمة (صقل)؛ فإنه كالزجاج يُصقَل، وإذا صقل فإنه لا يَبقى له أثر.
            وإن عاد» بمعنى أنه لَمْ يتب ولم يستغفر بل زاد على الذنب ذنبًا؛ تزيد حتى تعلوَ قلبه، فتصبح رانًا على قلبه. فينبغي على العبد إذا أخطأ فأذنب أن يبادِر على العمل على إزالة أثر هٰذا الذنب.
            ومنها: ما وقفنا عنده، من أنّ الذنوب لَهَا أمورٌ ترفع آثارها؛ منها التوبة، ومنها الاستغفار من غير توبة، ومنها الأَعْمَال الصالحة الحسنات الماحية الممحِّصات. وقَدْ ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنها قسمان:
            -ممحِّصات مقدِّرة، أو مكفِّرات مقدَّرة؛ يعني معيَّنة، تزيل ذنبًا معيَّنًا أو نقصًا معيَّنًا؛ وهو السبب الَّذِي رُتِّبتْ عَلَيه، كما فِيْ ترك واجبات الحج وفِعْل بعض محظورات الإحرام.
            -وإمّا كفارات مطلقة لَمْ تُرتَّب على سبب معيَّن؛ وهٰذه نوعان:
            النوع الأوّل: الَّذِي كنا نتكلم عنه فِيْ مجلس البارحة، وهي الأَعْمَال الصالحة الَّتِي نُصَّ فيها على مغفرة الذنوب بسببها، وقَدْ ذكرنا أنها تَكون أقوالًا وتَكون أعمالًا، وذكرنا بعضها؛ كقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه». وكما ورد فِيْ قول «آمين» فإنّ من وافق قوله قول الملائكة؛ غُفر له ما تقدّم من ذنبه.
            وقَدْ جمعتُ بعض الأحاديث الثابتة الَّتِي رُتِّبَت فيها المغفرة على قولٍ أو فعل، منها ما ذكرناه البارحة من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أكل طعامًا ثم قال: الحمد لله الَّذِي أطعمني هٰذا الطعام ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة؛ غُفر له ما تقدَّم من ذنبه، ومن لبس ثوبًا فقال: الحمد لله الَّذِي كساني هٰذا ورزقنيه بغير حول مني ولا قوة؛ غُفر له ما تقدَّم من ذنبه».
            ومنها: إحسان الاستغفار بعد الصلاة، فقد ورد أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل المسجد فإذا هُوَ برجل قد قضى صلاته- أي أنه فِيْ آخر صلاته- وهو يتشهد وهو يقول –يعني بعد أن فرغ من تشهده شرع فِيْ الدعاء- وهو يقول: اللهم إني أسألك يا الله الأحد الصمد الَّذِي لَمْ يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد أن تغفر لي ذنبي إنك أنت الغفور الرحيم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قد غُفر له، قد غُفر له، قد غُفر له. قالها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثًا».
            ومنها: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قال حين يسمع المؤذِّن: وأنا أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، رضيتُ بالله ربًّا، وبمحمَّدٍ رسولًا، وبالإسلام دينًا؛ غُفر له».
            ومنها أيضًا: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من غسَّل مسلمًا فكتم عَلَيه؛ غفر الله له أربعين مرة»، «فكتم عَلَيه» يعني لَمْ يَنشر عيبه إن اطّلع على عيبٍ فيه؛ «غفر الله له أربعين مرة».
            ومنها: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من عبد يُذنب ذنبًا فيتوضأ، فيُحسِن الطُّهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله بذلك الذنب إلا غفر الله له».
            ومنها: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من توضأ هكذا» أي توضأ وضوءًا مُسبِغًا «ثم خرج إلى المسجد لا يُنهِزه إلا الصلاة-أي لا ]خرِجه إلا الصلاة- ؛ غُفِر له ما خلا من ذنبه».
            وتنظرون أيها الأحبة؛ كيف أنّ بعض الناس اليوم يُهوّن من صلاة الجماعة إما بذكر أنها مسألة خلافية، أو بأنه لا حاجة إليها، ويَغفلون عن الفضائل العظيمة المرتَّبة على صلاة الجماعة، من توضأ فِيْ بيته مسبغًا وضوءه ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه من بيته إلا الصلاة؛ غفر الله له ما خلا من ذنبه.
            ومنها: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من تَعارَّ من الليل فقال حين يستيقظ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شَيْء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم، ثم دعا ربه: ربِّ اغفر لي؛ غُفر له».
            والشاهد من إيراد هٰذا أيها الإخوة؛ أن نعلم أنّ الأعمال الصالحة إذا أدّاها الإنسان فإنها تَكون سببًا فِيْ مغفرة الذنوب. وهٰذا النوع الأول منها؛ وهو ما نُصَّ عَلَيه.
            ثم يأتي النوع الثاني: وهو كل الأَعْمَال الصالحة، ولو لَمْ يُعلَّق عليها مغفرة الذنب بخصوصها، فإنّ محوَ السيئات بالصالحات ليس خاصًّا بما ورد أنّ من فعله و قاله يُغفر له؛ بل هٰذا عام؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «واتبع السيئة الحسنة»، فإذا أتبع الإنسان السيئة الحسنة فإنها تغفر الذنب.
            فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما تقولون؛ فما فائدة التنصيص فِيْ هٰذه الأَعْمَال على أنه يُغفَر له، ما دام أنها تشترك مع غيرها فِيْ المغفرة؟
            قلنا: للتنويه بشرفها وبيان أنّ أثرها فِيْ هٰذا الباب أعظم من غيرها. إنما خُصَّت بأنه يُغفَر بسببها الذنب لبيان شرفها وبيان أنّ المغفرة بِهَا أعظم من المغفرة ببقية الصالحات.
            إلى هنا بيان ما تقدّم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-. فيقرأ لنا الشيخ ياسين –وفقه الله- من حيث وقفنا البارحة.


            واعلم أنّ العناية بهٰذا من أشد ما بالإنسان الحاجة إليه، فإنّ الإنسان من حين يبلغ خصوصًا فِيْ هٰذه الأزمنة ونحوها من أزمنة الفترات الَّتِي تُشبه الجاهلية من بعض الوجوه، فإنّ الإنسان الَّذِي ينشأ بين أهل علم ودين قد يتلطّخ من أمور الجاهلية بعدّة أشياء فكيف بغير هٰذا.
            يقول –رحمه الله-: «واعلم»، وعادة العلماء أنهم إذا قدّموا جملة «واعلم»؛ فإنّ هٰذا يدلّ على عظيم ما سيذكرونه بعدها، فهٰذا تنبيه على علوّ شأن ما سيُذكَر بعد، قال: « واعلم أنّ العناية بهٰذا» (بهٰذا) يعود إلى الامور الثلاثة الَّتِي تقدّمت: التوبة، والاستغفار من غير توبة، والأعمال الصالحة، فعناية المؤمن بالاجتهاد فِيْ الحسنات الماحيات والتوبة والاستغفار من أشدّ ما يحتاجه العبد، فإنّ الإنسان من حين يبلغ، لماذا قال: «من حين يبلغ»؟ لأنه قبل البلوغ لا يُكتَب عَلَيه شَيْء، «رُفع القلم عن ثلاثة» ومنهم «الصبي حتى يبلغ»، ولكنه من البلوغ يُكتَب عَلَيه، فقال: «فإنّ الإنسان من حين يبلغ خصوصًا فِيْ هٰذه الأزمنة» يعني الإنسان عمومًا؛ وخصوصًا فِيْ هٰذه الأزمنة، يعني فِيْ زمانه، قال: «ونحوها من أزمنة الفترات» والمقصود بالفترة هنا: الفتور، من أزمنة الفتور الَّتِي تصيب الناس، لأنّ الناس قد تمرّ بهم فترات فتور يضعف الدين فيها، وهٰذا تجده فِيْ بعض البلدان، فتجد أنه فِيْ زمن من الأزمنة يَفتر أهل البلد ويَضعف الدين عندهم ضعفًا شديدًا، ثم فِيْ فترة يَنشَط، وسبب هٰذا هُوَ العلم والجهل، فإذا نشِط أهل العلم ونشروا العلم بالكتاب والسنة؛ نَشِط الناس فِيْ الخير، وإذا فَتُرَ أهل العلم فِيْ نشر العلم بالكتاب والسنة وتركوا الأمر لغيرهم ممَّا هُوَ فِيْ حقيقته جهل وإن ظُنَّ علمًا –كما سيأتينا إن شاء الله فِيْ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية- كمثلًا نشر الصوفية والدرْوَشة والأذكار الَّتِي لَمْ يرد بِهَا نص من الكتاب والسنة على وجه الإلزام؛ فإنه يضعف الدين فِيْ وجوه الناس.
            لأنّ القاعدة يا إخوة: أنّ البدعة تُطفئ السنة فِيْ قلوب الناس، ومَا تعلَّق أحدٌ ببدعة إلا مات فِيْ قلبه مقدارها من حب السنة. فيفتر الناس فِيْ دينهم لأنهم يفعلون ما يظنونه دينًا وليس بدين، ويتركون ما هُوَ دين صحيح؛ بل يُنكِرونه! فإذا جاءهم إنسان بقال الله قال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خلاف ما يفعلونه من البدع؛ أنكروا هٰذا، ولربما قالوا له: أنت وهّابي، بل ربما جرؤ بعض الناس فقال: هذه آيات الوهّابيّة! حتى القرآن لمّا دلّ على خلاف ما اعتادوه وصفوه بأنه قرآن الوهابية؛ مع أنه القرآن الَّذِي يتلونه والآيات الَّذِي يتلونها.
            وهٰذا ينبغي أن يُنبِّهنا على شَيْء معاشر السادة الفضلاء؛ وهو أنه ينبغي علينا أن نعتني بنشر العلم بالسنة بكتاب الله وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ بلداننا، أمّا طلاب العلم فيجتهدون فِيْ هٰذا، وأمّا عامّة الناس فيجتهدون فِيْ اقتناء الأشرطة للمشايخ الربانيين الَّذِينَ عُرِفوا بالتَّوحِيد والسنة، وتُسمَع هٰذه الأشرطة فِيْ البيوت فيُصبح فِيْ البيوت طنين بذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالى بدلًا من رنين الموسيقى ومَا يجلب الشياطين إلى البيوت. إن أردنا لمجتمعنا عزّة ورفعة وكرامة فِيْ الدنيا وسعادة واطمئنانًا للقلوب ورفعة فِيْ الآخرة؛ علينا بهٰذا.
            تأسَف أيها المؤمن المبارك عندما تجد بعض المسلمين يتباكى على حال المسلمين من الضعف والمهانة ويذهب إلى السياسة ويدع ما ينبغي أن يَكون؛ وهو الاهتمام بسبب هٰذا الضعف، السبب الحقيقي؛ وهو البُعد عن نشر العلم الحقيقي المبني على كتاب الله وعلى سنة النبي صلى الله عل يه وسلم. فهٰذا الأمر ينبغي التنبُّه إليه.
            ولذلك قال الشيخ: «من أزمنة الفترات» يعني الفتور والضعف فِيْ الديانة، قال: «لتي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه».
            لاحظوا يا إخوة! ما قال –رحمه الله-: المجتمعات الجاهلية، مجتمعنا جاهليّ، ولكن قال: «الَّتِي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه»، والمقصود: من كثرة الانفتاح على الدنيا وكثرة الفتن، فإنها تشبه الجاهلية فِيْ هٰذا الباب.
            وكذلك من جهة كثرة المعاصي والوقوع فِيْ السيئات، فإنّ هٰذا كثر فِيْ الجاهلية، وكثر في اليهود والنصارى.
            قال: «فإنّ الإنسان الَّذِي ينشأ بين أهل علم ودين» فِيْ هٰذه البيئة الَّتِي تَضعف فيها الديانة قد يَتلطّخ ببعض أمور الجاهلية؛ فكيف بمَن ينشأ بعيدًا عن العلم؛ فإنه أحرى أن يتلطّخ بشيء من أمور الجاهلية. وهٰذا يأتي بيانه فِيْ كلام الشيخ.
            وفي الصحيحين عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ من حديث أبي سعيد رضي الله عنه-: «لتتّبعنّ سَنن من كان قبلكم حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ دخلتموه» قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟».
            «لتتّبعنّ سَنن من كان قبلكم حذو القُذَّة بالقُذَّة» كالرمح يتلو الرمح، «حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ دخلتموه»، وجحر الضب يَكون ضيّقًا صعب المسالِك، ومع ذٰلك لو دخلوا هٰذا الجحر الضيّق صعب المسالك لدخلتم وراءهم! قالوا: «يا رسول الله! اليهود والنصارى؟» يعني من كان قبلنا؟ قال: «فمَن؟» أي أنهم اليهود والنصارى.
            وليس المقصود بهٰذا الحديث أنّ الأمّة كلها تتشبّه باليهود والنصارى فِيْ أمورهم كلّها، وإنما المقصود: أنّ التشبّه يقع من أفراد الأمّة، فهٰذا يتشبّه بكذا، وهٰذا يتشبّه بكذا، وهٰذا يتشبّه بكذا.
            أمّا أن تتشبّه كل الأمّة بكل حال اليهود والنصارى فهٰذا منتفٍ؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تزال طائفةٌ من أمّتي على الحق ظاهرِين، لا يضرّهم من خالفهم أو خذلهم، حتى يأتي أمر الله». والتشبّه باليهود والنصارى له وجوه ننبِّه عليها.
            هٰذا خبر تصديقه فِيْ قوله تعالى: ﴿ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ﴾، ولهٰذا شواهد فِيْ الصِّحاح.
            هٰذه الآية وردتْ فِيْ المنافقين الَّذِينَ سخروا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وقالوا: ما رأينا مثل قُرَّائنا هؤلاء، وذموهم، فجاءت هٰذه الآية فيهم ﴿ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ﴾، والخَلاق: هُوَ النصيب من الدِّين والدنيا، فرضيتم بالدنيا من نصيبكم فِيْ دنياكم ودينكم، ﴿ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ﴾ أي بنصيبهم، ﴿ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ فِيْ الباطل وسبِّ الأنبياء والصالحين.
            وهٰذه الآية وإن كانت فِيْ المنافقين إلا أنّ العبرة بعمومها؛ وهو أنّ من هٰذه الأمّة من يَتشبّه بالأمم السابقة.
            فإمّا أن يُتشبَّه بهم فِيْ ترك العلم؛ وهٰذا تشبّه بالنصارى الَّذِينَ تركوا العلم؛ فكانوا ضالين.
            وإما تشبّه بهم فِيْ ترك العبادة مع العلم؛ وهٰذا تشبّه باليهود؛ فكانوا مغضوبًا عليهم.
            وقَدْ ذكر بعض أهل العلم أنّ قول الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ﴾ هٰذا باب الشهوات، أي تشبّهتم بهم فِيْ باب الشهوات، فِيْ باب المعاصي، هٰذا فعل العُصاة. ﴿ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ هٰذا فِيْ باب الديانة؛ وهٰذا فعل المبتدعة.
            فالعصاة من أمّة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتشبّهون بأهل الجاهلية فِيْ فعل المعصية فِيْ باب الشهوة، والمبتدعة من أمّة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتشبّهون بالأمم السابقة فِيْ التعبُّد بلا علم.
            والتشبّه بالكفار فِيْ دينهم؛ حرام. والتشبّه بالكفار فِيْ دنياهم فيما هُوَ من خصائصهم؛ حرام.
            أمّا فعل ما يفعله الكفار لحاجة الناس؛ فهٰذا ليس من باب التشبه فِيْ شَيْء، كوننا مثلًا نقود السيارة، والسيارة قد اخترعها الكفار؛ فهٰذا ليس من باب التشبّه؛ لأنّ ركوب السيارة إنما هو حاجة إنسانيّة لا يَختصّ بِهَا الكفار، فليس مطلوبًا منّا كما فهم بعض متنطّعة هٰذا العصر أن نركب الجمال وأن نترك ركوب السيارات؛ لأنّ هٰذا من باب التشبه؛ زعموا.
            أو كذلك مثلًا الآلات الميسِّرة مثل النظارات على الهيأة الموجودة الآن، مثل الآلات مثل ألة الحاسب الآلي وغير ذٰلك؛ هٰذا يُفعَل للحاجة الإنسانية، ومَا يُفعَل فللحاجة الإنسانية لا تشبُّه فيه.
            رأيتُ بعض الشباب يَتعمّدون قطع إشارة المرور –هٰذه الإشارة الحمراء- يتعمّدون قطعها ويتعبّدون بقطعها، لماذا؟ قالوا: مخالفةً لليهود والنصارى؛ لأنّ هٰذه الإشارات مأخوذة من اليهود والنصارى! وهٰذا جهل فاضِح، فإنّ هٰذا قد اتفق أهل العلم فيه على أنه لا يَدخل باب التشبّه؛ لأنه مما يُفعَل به للحاجة الإنسانية لا يَختصُّ به كافر ولا مسلم.
            وكذلك اللباس الَّذِي يشترك فيه العموم فإنه لا يَكون من باب التشبّه، أمّا إذا كان اللباس خاصًّا بالكفار بحيث أنّ من رأى لابسه يقول: إنه يَلبس لِبْسة الكفار؛ كطاقية اليهود المعروفة وزُنّار النصارى ونحو ذٰلك؛ فهٰذا يحرم التشبّه بهم فيه.
            وهٰذا أمرٌ قد يسري فِيْ المنتسبين إلى الدين من الخاصة، كما قال غير واحد من السلف؛ منهم ابن عيينة
            يعني هٰذا يقع حتى لمن ينتسبون إلى العلم، فإنّ بعض من ينتسبون إلى العلم يتشبّهون باليهود أوالنصارى، فإن قصَّروا فِيْ العلم؛ تشبّهوا بالنصارى، وإن لَمْ يعملوا بعلمهم؛ تشبّهوا باليهود، كما قال سفيان بن عيينة: «من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد عبّادنا ففيه شبه من النصارى»، لأن ّفساد النصارى فِيْ باب العبادة، وفساد اليهود فِيْ باب العلم؛ علموا فلم يعملوا، والنصارى عبدوا بدون علم. وقَدْ يقع فِيْ العلماء الشَّبَه بهٰذا وهٰذا، و يقع فِيْ العُبّاد الشَّبَه بهٰذا وهٰذا، وهٰذا واقع معايَن.
            وكثيرًا من أحوال النصارى قد ابتلي بِهَا بعض المنتسبين إلى الدين، كما يُبصِر ذٰلك مَن فهم دين الإسلام الَّذِي بعث الله به محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم نزّله على أحوال الناس
            الله أكبر! هٰذه القضية يا إخوة قضية مهمة جدًا، قول شيخ الإسلام –رحمه الله-: «كما يُبصِر ذٰلك مَن فهم دين الإسلام الَّذِي بعث الله به محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم نزّله على أحوال الناس» هٰذه القضية وهي أنّ الحكم على الناس وتنزيل الأحكام عليهم تعيينًا؛ ليس لكل أحد، ولا يُطلَق فيه الأمر لكل واحدٍ من الناس، ولا يَكون على عواهنه، بل لابد أن يَكون على بصيرة، وعلى الأصول الشرعية الَّتِي جاءت فِيْ كتاب الله وفي سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يَكون من أهل البصيرة.
            وهٰذا باب تساهل فيه الناس كثيرًا اليوم، فتجد أنّ الواحد من أسهل ما يَكون على لسانه أن يقول: فلان كافر! أو هٰذا كافر! ويُنزِّل الحكم المطلَق على المعيّن.
            الناس فِيْ هٰذا الباب يا إخوة طرفان ووسط:
            -طرفٌ يسارع إلى تنزيل الأحكام المطلَقة على المعيّنين، ولو لَمْ يكن على بصيرة من الدين، ولو لَمْ يكن من أهل الشأن.
            -وطرفٌ يغلو فِيْ الفصل بين الأحكام المطلَقة وأحكام المعيّنين حتى يكاد لا يُنزَّل حكم على معيّن.
            وهٰذا خطأ وذاك خطأ.
            والصواب؛ ما عَلَيه أهل السنة من التفريق بين الحكم المطلَق والحكم على المعيّنين، فإنّ الشيء قد يُحكَم عَلَيه بإطلاق لأنّ الدليل دلّ عَلَيه، مثلًا؛ نجد أنّ أكثر السلف صحّ عنهم أنهم يقولون: من قال بخلق القرآن فهو كافر، وهنا ليس المقصود وصف المعيَّن بأنه كافر، وإنما هٰذا وصْفٌ مطلَق.
            لكن إذا جاؤوا إلى معيّنٍ يقول بخلق القرآن فإنهم لا يسارعون إلى تكفيره؛ بل يُنظَر ببصيرة، فإذا اجتمعت الشروط وانتفت الموانع؛ حكم أهل البصيرة بهٰذا الحكم، ولا يحكم به كل أحد.
            ولمّا أَغفَل أقوامٌ هٰذا؛ انتشرت فتنة التكفير بين الشباب، وأصبح الشباب يسارِعون إلى تكفير المسلمين، بل إلى تكفير العلماء الربانيّين الَّذِينَ قضَوا أعمارهم فِيْ العلم والتَّوحِيد والسنة!
            رأينا شبابًا فِيْ السادسة عشر من أعمارهم والسابعة عشر من أعمارهم والعشرين من أعمارهم يكفّرون عموم الأمّة، حتى أنّ أحدهم قال لي: أرأيت هؤلاء الحجّاج بالملايين يُعلنون ثلاثة ملايين أربعة ملايين؟ قلتُ: نعم، قال: ما عرف واحد منهم الإسلام، كلهم كفار.
            ولمّا أُورِد على أحد هؤلاء الشباب أنّ الشيخ ابن باز –رحمه الله- يقول كذا، وأنّ الشيخ ابن العثيمين –رحمه الله- يقول كذا؛ قال: ما أكفر من هٰذا إلا هٰذا! وهم صغار السن لا يحمل أحدهم شهادة الثانوية، لكنهم ربّاهم أقوام على إطلاق الأحكام وعلى الجرأة فِيْ هٰذا الباب، فلمّا كسروا الحاجز بينهم وبينه؛ لَمْ يقفوا عند حدّ، وهكذا من يدخل فِيْ باب التكفير وهو من غير أهله وبغير ضوابطه؛ لا ينتهي عند حدّ؛ لا يزال يُضيِّق الدين حتى يبدأ يُشكِّك فِيْ نفسه.
            أحدهم قال لي: أنا أغتسل الفجر وأُسلِم، وأغتسل المغرب وأُسلِم. وكما هي القصة المشهورة أنّ رجلًا يقول: أنا لا أعرف مسلمًا اليوم على وجه الأرض إلا أنا وزوجتي ورجلٌ فِيْ الهند!
            هٰذا التهوّر فِيْ هٰذا الباب أنشأ هٰذه القضية الخطيرة، ولذا ينبغي على المعلّمين وعلى طلاب العلم أن يربّوا الطلاب على الطريقة الشرعية فِيْ هٰذا الباب وأن لا يُطلَق الكلام على عواهنه، وأن يُعلَم أنّ الحكم على المعيّنين إنما يَكون بفهم الدين، ثم بفهم الشروط وانتفاء الموانع، ثم بكون الإنسان من أهل هٰذا الشأن، حتى لا يَكون الأمر فوضى فِيْ هٰذا الباب.
            ولذلك قال شيخ الإسلام هٰذه الجملة العظيمة النافعة؛ قال: «كما يُبصِر ذٰلك» -ما قال: كل أحد- «كما يُبصِر ذٰلك من فهم دين الإسلام الَّذِي بعث الله به محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ففهمه على الحقيقة وليس دعوى «ثم نزّله على أحوال الناس». وهٰذا ينبغي أن يُتنبّه له.
            وقَدْ قلتُ مرارًا: إنه ينبغي أن نربي أنفسنا وإخواننا ومن حولنا مع الناس على أربعة أمور فيها خير عظيم:
            العاطفة، والعقل، والعلم، والعدل.
            فإنّ اليُبوس فِيْ العاطفة لا تأتي بخير، العاطفة الرشيدة مطلوبة. ولا ينبغي على المربّي سواء كان أبًا أو معلّمًا أن يُجفِّف العاطفة فِيْ قلب من يربيه؛ بل ينبغي أن يُنمِّيها مرشَّدة.
            والعاطفة -كما يقول العلماء- فيها إدراك الحال – الموجود- والعقل فيه إدراك المآل، فإنّ العقل كُرِّم به الإنسان، فتنمية العقل والحرص على المحافظة عَلَيه أمرٌ مطلوب،.
            والعقل خاصيّته إدراك المآلات، العاطفة فيها إدراك الحال؛ استجابة للحال الآن، العقل؛ إدراك المآل، فمن جمع بين العاطفة والعقل يحصل له رُشْدٌ فِيْ أمره.
            يعني مثلًا لو أنّ رجلًا دخل فإذا بامرأته تسبّ أمّه! –يا له من أمر عظيم؛ زوجته تسب أمّه- عاطفته لأمّه تدعوه لأن يطلّقها انتصارًا لأمّه، لكن إذا فكّر بعقله مع عاطفته قال: أدّبها ولا تكسرها، لأنك لو طلقتها يترتّب على هٰذا كذا وكذا وكذا.
            ولذلك لمّا تعطّل هٰذا الأمر كثر الطلاق بين الناس، لأن أكثر الأزواج اليوم يتصرّفون بالعاطفة فيستجيبون للحال ويُعطّلون العقل. الآن أصبح الرجل يطلّق على ثوبه إذا لَمْ يُغسَل، وعلى الشاي إذا لَمْ يُعدّ! لأنّ الناس عطّلتْ العقل مع العاطفة فِيْ أكثر الأحوال.
            والأمر الثالث: العلم، فإنّ العلم سراجٌ يضيء للعقل والعاطفة الظلمات.
            فإذا جمع العبد بين عاطفة رشيدة وعقل وعلم؛ فإنه يعيش فِيْ نور الحق والخير.
            ثم لابد مع هٰذا من العدل، فيأخذ نفسه بالعدل؛ مع القريب والبعيد، والمحِبّ والمبغِض، فيعيش بخير، ويعلِّم الناس الخير، ملتزمًا السنة، من غير إفراط ولا تفريط. وهٰذا أمرٌ حريٌّ بنا أن نفهمه وأن نحرص عَلَيه.
            وإذا كان الأمر كذلك، فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه، وكان ميّتًا فأحياه الله وجعل له نورًا يمشي به فِيْ الناس، لابد أن يلاحَظ أحوال الجاهلية، وطريق الأمّتين المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى، ويرى أن قد ابتُلي ببعض ذٰلك
            وليس المقصود بهذه الصفات العظيمة يرى أنه قد ابتُلي ببعض ذٰلك فقط، وإنما المقصود: أنّ الإنسان فِيْ حال الفتن يَتفقّد نفسه حتى يُخلّصها من أثر الفتن، فإذا انتشر أمرٌ بين الناس يتعلّق بالتشبّه باليهود أو النصارى أو بأهل الجاهلية فإنّ الإنسان يتفقّد نفسه ببصيرة، فإذا وجد أنه قد أُصيب بغبار هٰذا الأمر فإنه يُنظّف نفسه منه، ويَدَع هٰذا الأمر ويَتخلّص منه، فقول شيخ الإسلام «فيرى أن قد ابتُلي ببعض ذٰلك» يعني أنه ينبغي عَلَيه مع هٰذا أن يسعى فِيْ الخلاص من هٰذا الأمر.


            فأنفع ما للخاصة والعامّة: العلم بما يُخلِّص النفوس من هٰذه الورَطات؛ وهي اتْبَاع السيئات الحسنات
            إذا ثَبَتَ لديك يا عبد أنه لابد لك من الخطأ وأنّ الذنب كالحتم اللازم لك وأنّ طرق الوقوع فِيْ السيئات كثيرة كالتشبّه باليهود والنصارى ونحو ذٰلك؛ فينبغي أن تعلم أنّ أنفع ما يَكون لك أن تعرف ما يُخلِّص نفسك من أثر السيئة، وأن تتعلّم ما يُخلِّص مجتمعك من أثر السيئة.
            «وهٰذا يحتاجه الخاصة» أي العلماء وطلاب العلم، «والعامّة» أي عموم الناس، فإنّ الإنسان لابد أن يقع فِيْ شَيْء من هذه الورَطات، فإذا تعلّم ما يزيل أثرها فإنه يُتبِعها بما يزيل أثرها؛ فتزول بإذن الله.
            والحسنات: ما ندب الله إليه على لسان خاتم النبيين، عَلَيه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم؛ من الأعمال والأخلاق والصفات
            لمّا ذكر شيخ الإسلام أنّ الحسنات ممحّصات تزيل أثر السيئات أخذًا من الأدلة؛ عاد فبيّن ما هي الحسنات؛ فقال: «الحسنات: ما ندب الله إليه على لسان خاتم النبيين، عَلَيه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم؛ من الأعمال والأخلاق والصفات»، والمقصود بالندْب هنا: الحث، وليس المقصود أنّ الحسنات هي المندوبات فقط المستحبات، بل المقصود: ما حثّ الله على فعله إلزامًا أو استحبابًا.
            فالحسنات لا تُعرَف بالهوى والابتداع؛ وإنما تُعرَف بالاتّباع؛ بمعرفة ما فِيْ الكتاب والسنة، فالحسنة: كل أمرٍ طُلِب فعله فِيْ كتاب الله أو فِيْ سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
            أمّا ما يُفعَل من التعبُّدات مما ليس فِيْ الكتاب والسنة فليس بحسنة؛ بل بدعة، ولا يزيل أثر السيئة؛ بل هُوَ سيئة عظيمة.
            لأنّ المعلوم يا إخوة أنّ أعظم السيئات: الشرك الأكبر، ثم الشرك الأصغر، ثم البدع، ثم ما دون ذٰلك من الذنوب، وهٰذا ترتيب الذنوب، فإذا كان الإنسان يفعل عبادة لَمْ ترد فِيْ الكتاب ولا فِيْ السنة فإنه لَمْ يفعل حسنة وإنما يَكون قد فعل سيئة تحتاج إلى ما يمحو أثرها.
            والبدعة أحبّ إلى إبليس من المعصية؛ لأنّ المعصية يفعلها الإنسان على غير سبيل التقرُّب، يفعلها الإنسان وهو يرى أنها خطأ لكن تغلبه الشهوة؛ فيكون قريبًا من التوبة، أما البدعة فيفعلها الإنسان دينًا؛ فيكون بعيدًا عن التوبة؛ كيف يتوب من الدين؟! ولذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إنّ الله قد حجب التوبة عن كلِّ صاحب بدعة حتى يدعها».
            إذن يا إخوة؛ الحسنة الَّتِي تزيل السيئة: هي ما طلبه الله فِيْ كتابه أو على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سواء كان ذٰلك متعلّقًا بالأقوال كالأذكار، أو الأعمال كالصلاة، أو الأخلاق -كما سيأتي إن شاء الله فِيْ بيان حسن الخلق-، أو الصفات؛ والمقصود بالصفات: ما يُتحلى به، وهو نوعٌ من الأخلاق، مثل الأناة والحلم ونحو ذٰلك؛ فهي من الحسنات.
            ومما يزيل موجَب الذنوب: المصائب المكفِّرة؛ وهي كل ما يؤلم من همٍّ أو حزَن أو أذى فِيْ مالٍ أو عرض أو جسد، أو غير ذٰلك، لكن ليس هٰذا من فعل العبد
            هٰذا الأمر الرابع مما يزيل آثار الذنوب. قلنا شيخ الإسلام ذكر أربعة: التوبة، والاستغفار من غير توبة، والأعمال الصالحة، وهٰذا الرابع: ما يصيب العبد المؤمن من البلاء.
            فإن قال قائل: لماذا فصله شيخ الإسلام عن الثلاثة المتقدّمة؟
            قلنا: لأنّ الثلاثة المتقدّمة من عمل الإنسان، ويُطلَب منه أن يفعلها، فيُطلَب منه أن يتوب، ويُطلَب منه أن يستغفر، ويُطلَب منه أن يُكثِر من الأعمال الصالحة، أمّا هٰذا السبب الرابع فليس من فعْل الإنسان؛ أن تصاب بالحمّى ليس من فعلك، ولا يُشرَع للإنسان أن يطلبه، لا يُشرَع للإنسان أ نيطلب البلاء؛ ولو برجاء تكفير الذنوب، لا يُشرَع للمؤمن مثلًا أن يقول: اللهم أسألك البلاء بالحمى لأنه عَلِمَ أنّ الحمّى تَحُتُّ الذنوب، لا يُشرَع للمسلم أن يقول مثلًا: اللهم إني أسألك البلاء بالعمى لأنه علِمَ أنّ الله إذا ابتلى المؤمن بفقد إحدى حبيبتيه –أي عينيه- فصبر أنه يَكون له الجنة، لا يُشرَع للمؤمن مثلًا أن يقول: اللهم إني أسألك أن تُميتَ أولادي، لأنه علِمَ أنّ الولد إذا مات قبل البلوغ يشفع لوالديه وأنه إذا مات الولد فحمد العبد واسترجَع يُبنى لأبيه بيتٌ فِيْ الجنة –وإن كان الحديث فيه ضعف-، هٰذا لا يجوز ولا يُشرَع، لكن إذا وقع فإنّ المسلم يصبر على البلاء.
            والعلماء يقولون: إنّ العبد إذا نزل به البلاء ينبغي عَلَيه أن يصبر، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عجبًا لأمر المؤمن، إنّ أمره كله له خير، إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان ذٰلك خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان ذٰلك خيرًا له».
            ومما يُعين العبد على الصبر أن يَستحضر أمورًا:
            الأمر الأول: أن يستحضر أنّ الَّذِي ابتلاه هُوَ ربُّه، وأنه عبد، فالمبتلي هُوَ الله، والمبتلى هُوَ عبد الله، والعبد تحت أمر مولاه –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
            الأمر الثاني: أن يستحضر انّ الَّذِي ابتلاه هُوَ الله الَّذِي لا يُسأل عما يفعل، وهم يُسألون.
            الأمر الثالث: أن يستحضر أنّ الَّذِي ابتلاه هُوَ الله الَّذِي لا يُسأل عما يفعل لتمام فعله؛ فإنه لا يفعل إلا لحكمة، فيستحضر أنّ هٰذا البلاء الَّذِي نزل به إنما نزل به لحكمة، وليس عبثًا، فإنّ الله لَمْ يفعل شيئًا ولا يفعل شيئًا إلا لحكمة.
            الأمر الرابع: أن يستحضر أنّ البلاء إذا نزل بالعبد المؤمن؛ إمّا أن ينبّهه من غفلة، أو تُكفَّر عنه به سيئة، أو تُرفَع له به منزلة، هٰذه الحِكَم الثلاث فِيْ نزول البلاء.
            إمّا تنبيه من غفلة، المؤمن قد يعيش فِيْ غفلة، قد تلهيه الدنيا ويضعف فِيْ دينه؛ فينزل به بلاء يُذكِّره، فيتذكر ما هُوَ عَلَيه، فيعود إلى الله، كم من شخص كان بعيدًا عن الأَعْمَال الصالحة فمات ابنه فعاد إلى الديانة والتقرُّب إلى الله سبحانه وتعالى! تنبَّه، كم من شخص كان غافلًا لاهيًا مُغرِقًا فِيْ المعاصي فابتُلِيَ بمرض فتنبّه فعاد إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
            أو تُكفَّر بهٰذا البلاء سيئات، أو تُرفَع له بِهَا منزلة؛ فإنه ورد فِيْ الحديث: «إنّ الله إذا أراد بعبدٍ منزلة فِيْ الجنة، ثم لَمْ يبلغها بعمله، قال لملائكته: صبُّوا عَلَيه البلاء صبًّا، ثم صبَّره عَلَيه»، فيرتفع بالبلاء إلى منزلته فِيْ الجنة الَّتِي لَمْ يبلغها بعمله.
            ثم يستحضر أمرًا عظيمًا؛ وهو أنّ الَّذِي ابتلى هُوَ الَّذِي أنعم، فإذا نزل بك البلاء فانظر إلى نعم الله عليك، إن كان الله ابتلاك بمرض فِيْ جسدك فقد أنعم عليك فِيْ جسدك -مع المرض- بنعم كثيرة. فالذي ابتلى بهٰذا البلاء هُوَ الَّذِي أنعم بلا انتهاء. وهٰذا يعين المسلم على أن يصبر على البلاء الَّذِي ينزل به. فإذا نزل البلاء بالعبد وصبر على ذٰلك فإنه يبلغ بذلك منزلة عظيمة.
            وعرّف شيخ الإسلام المصيبة فقال: «هي كلُّ ما يؤلم؛ من همٍّ أو حَزَنٍ او أذىً فِيْ مال أو عرْض أو جسد أ وغير ذٰلك»، وقَدْ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما يصيب المؤمن من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا همٍّ ولا حُزْنٍ ولا أذىً ولا غمٍّ حتى الشوكة يُشاكها؛ إلا كفّر الله بِهَا من خطاياه» متفق عَلَيه. هٰذا الحديث فيه بيان أنّ البلاء يكفّر الذنوب، وفيه بيان البلاء بالمثال .
            فالمصيبة هي ما ينزل بالإنسان مما يكرهه؛ هٰذا ضابطها العام؛ ما ينزل بالإنسان مما يكرهه، حتى لو جاءك رجل كثير الأذى فنزل بك وأنت تكره هٰذا؛ فهٰذه مصيبة، وإن صبرتَ على هٰذا وعملتَ بالمشروع فِيْ هٰذا فإنك تنال منزلة عالية.
            والهمّ: نوعٌ من الحُزن، يقع فِيْ الغالب بالتفكير فيما يُتوقَّع، يعني الإنسان يتوقّع أن يصبه كذا فيصيبه الهمّ. وهو نوعٌ من الحُزُن.
            والحُزن: معروف؛ يصيب القلب بسبب وقوع المكروه، فإذا وقع مكروه فإنّ القلب يصيبه الحُزن.
            والنَّصَب: هُوَ التعب.
            والوَصَب: هُوَ الألم والسُؤْم الدائم، بعض الناس يصاب بمرض يصيبه بألم مستمر، لا يُعجِزه لكنه يؤلمه، يعني بعض الناس يقول: أنا عندي صداع دائم؛ هٰذا وصب؛ ألمٌ مستمرٌّ دائم. فهٰذه كلها من المصائب، وهي مكفّرات للذنوب.
            فإذا أصاب الإنسان همٌّ فإنه يكفَّر به من سيئاته، إذا أصاب الإنسان حُزن فإنه يُكفَّر به من سيئاته، إذا أصب الإنسان أذى فِيْ ماله فذهب بعض ماله فإنه يُكفَّر به من سيئاته، إذا أصاب الإنسان أذىً فِيْ عرضه؛ يعني من جهة أنه نِيل من عرضه بكلام أونحو ذٰلك؛ فإنه يُكفَّر به من سيئاته، أو أذى فِيْ جسده، أو غير ذٰلك مما ينزل بالإنسان مما يكرهه؛ فإنّ هذا تُكفَّر به السيئات.
            ثم قال شيخ الإسلام معقِّبًا: «لكن ليس هٰذا من فعل العبد»، والمقصود: ليس هٰذا مطلوبًا من العبد، فما دام أنه ليس من فعلك فإنه ليس مطلوبًا منك.
            ولذلك يقول بعض أهل العلم: من الأجور ما لا يُشرَع طلبه –يذكرونه فِيْ الألغاز الفقهية- ما الأجر الَّذِي لا يُشرَع للإنسان أن يطلبه؟ والجواب: الأجر المرتَّب على نزول المصيبة؛ فإنه لا يُشرَع للإنسان أن يطلبه ،لكن إذا نزلتْ به المصيبة؛ صبر وعلم أنّ فِيْ هٰذا أجرًا وأنّ فِيْ هٰذا إذهابًا للوزر.
            وبهذا يَكون شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- فرغ عن الكلام عن الجملتَين الأوليَين فِيْ هٰذه الوصية العظيمة «اتق الله حيثما كنت»، وخلاصة ما فيها: افعل يا عبد ما أمرك الله به، واجتنب ما نهاك الله عنه، واحرص على ذٰلك.
            «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» فيا عبد اعلم أنك مع حرصك على فعل الأَوامِر واجتناب النواهي سيقع منك الخطأ، فإذا وقع الخطأ فبادر، وأتبع الخطأ بحسنة، أو بمكفّر يكفّرها، وهٰذا يزيل عنك أثر الذنب.
            ثم سيشرع شيخ الإسلام –رحمه الله- فِيْ بيان الجملة الأخيرة من هٰذه الوصية «وخالق الناس بخلق حسن». وهٰذا –إن شاء الله- سنبسطه فِيْ درس الغد بحول الله وقوته.
            ولعلنا نقف هنا لنجيب على أسئلة الإخوة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.



            (3)
            بسم الله الرحمٰن الرحيم
            الحمد لله رب العالمين، نحمده، ونستغفره، ونشكره، ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله لحمد، يحي ويميت، وهو على كل شَيْء قدير. وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدّى الأمانة وجاهد فِيْ الله حق جهاده. صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليمًا طيبًا مباركًا فيه إلى يوم الدين. ورضي الله عن آله وأصحابه الطيبين الطاهرين. أما بعد:
            فمعاشر الفضلاء؛ أحب بين يدي الدرس اليوم أن أذكِّر إخواني بما ذكرناه سابقًا من المشروع عند زيارة المدينة باختصار، وذلك أنه يُشرع للمؤمن أن يزور مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يسافر من أجل الوصول إلى هٰذا المسجد المبارك؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُشدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هٰذا، والمسجد الأقصى».
            وإذا وصل المسلم إلى المدينة فإنه يُشرَع له من الأعمال أن يبدأ بالمسجد وأن يصلي فيه، وأن يُكثر من الصلاة فِيْ مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «صلاة فِيْ مسجدي هٰذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام»، فالعبد إذا صلى فِيْ مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يَكون ذٰلك خيرًا له من أن يصلي نفس الصلاة فِيْ ألف مسجد غير مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا المسجد الحرام.
            فالعبد إذا وصل إلى المدينة فهو فِيْ فرصة طيبة مباركة ليُكثر من هٰذا الخير. تأمّل يا عبد الله، أنت إذا صليتَ الظهر فِيْ مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذلك خير لك من صلاتك الظهر ألف مرة فِيْ مسجد آخر إلا المسجد الحرام، وهكذا العصر، وهكذا المغرب، وهكذا العشاء، فكيف يُفرّط العبد إذا استطاع أن يصلي فِيْ مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ هٰذا الفضل العظيم؟!
            كذلك؛ يُشرَع للمسلم إذا زار المدينة أن يُكثر فِيْ حضور حلق العلم؛ لأنّ حضور حلق العلم فِيْ كل البقاع خيرٌ وبركةٌ ما دام أنّ العلم الَّذِي يُدرَّس فيها قال الله قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُدرَّس فيها الحق، لكنّها فِيْ مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا خصوصية؛ فإنّ كل مسلم إذا ذهب إلى أيّ مسجد من المساجد من أجل أن يَتعلَّم الخير يُرجى أن يُكتب له أجر حاجٍّ قد تمّ حجُّه؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يَتعلَّم خيرًا أو يُعلَّمه كان له كأجر حاجٍّ تامةٍ حجته»، ومسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داخل فِيْ هٰذا من باب أولى، ثم كذلك يُرجى أن يُكتَب لَمن يحضر حلق العلم مخلصًا لله فِيْ مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرجى أن يُكتَب له أجر المجاهد فِيْ سبيل الله؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أتى مسجدي هٰذا لَمْ يأته إلا ليتعلم خيرًا أو يعلِّمه كان كالجاهد فِيْ سبيل الله».
            فأنت يا عبد الله يا مسلمًا يا مباركًا؛ إذا حرصتَ على الجلوس فِيْ حلق العلم فِيْ مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنك ترجع بعلمٍ ينير حياتك وتزداد به أجرًا، كما أنه يُرجى لك أن تنصرف بأجر الحاج الَّذِي تمّ حجه وأجر المجاهد فِيْ سبيل الله.
            وهذان العملان –أعني الصلاة فِيْ المسجد وحضور الحِلَق- يُسنّ الإكثار منهما، ولا حدّ لهما.
            كذلك يُشرع للمسلم إذا قدم المدينة من سفر أن يزور قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبيه، ليسلّم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا وصل إلى القبر فإنه يصل موحِّدًا ربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- ولا يُشرك بالله شيئًا ويستقبل القبر ويَستدبر القبلة ويقف بأدب، ولكنه كما يتأدب مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يتأدب مع ربه أدبًا أعظم، فلا يقف أمام القبر وِقْفَة المصلي ولا يُعلّق قلبه بغير- ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، ثم يصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأدب وخفض صوت: السلام عليك يا رسول الله، وإن زاد: أشهد أنك قد بلغتَ الرسالة وأدّيتَ الأمانة وجاهدتَ فِيْ الله حق جهاده؛ فحسن.
            ثم يخطو خطوة ناحية اليمين ليكون أمام أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ويسلم عليه: السلام عليك يا خليفة رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر الصديق، وإن أثنى عَلَيه بشيء مما فيه فحسن.
            ثم يخطو خطوة ناحية اليمين ليكون أمام الفاروق عمر -رضي الله عنه- ويسلم عَلَيه، السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا عمر بن الخطاب، وإن أثنى عَلَيه بشيء فلا بأس.
            ولكن ينبغي على المؤمن أن يراعي أحوال إخوانه وألا يطيل إذا كان فِيْ هٰذه الإطالة ما يضر بالمسلمين. فإذا كان هنالك زحام فإنّ أفضل ما يَكون أن يبدأ الإنسان بالسلام فيقول: السلام عليك يا رسول الله ، ثم ينتقل إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، ثم ينتقل إلى عمر -رضي الله عنه-، ثم ينصرف رفقًا بالمؤمنين.
            ولا يُشرع للمسلم أن يدعو عند القبر ؛ بمعنى لا يُشرع له أن يدعو الله عند القبر اعتقادًا انّ فِيْ هٰذا زيادة بركة أو زيادة قَبول.
            وهذ الفعل لا يُشرع تكراره وإنما يقع مرة عندما يقدم المسلم من سفره.
            كذلك يُشرَع له أن يزور بقيع الغرقد فيسلم على أهل القبور ويدعو لهم، معتقدًا أنهم مرتهَنون فِيْ قبورهم، بحاجة لمن يدعو لهم، فلا يدعوهم ولا يَتقرّب إليهم وإنما يسلّم عليهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، أو نَحْوَ هٰذا، ويدعو لهم.
            وهٰذا أيضا لا يُشرع تكراره إلا ان يقوم سبب كأن يمشي الإنسان خلف جنازة.
            وبالمناسبة أنبّه على أنّ الصلاة خلف الجنازة واتّباعها حتى تُدفَن فيه فضل عظيم، فإنّ من صلى على جنازة له قيراط، ومن اتّبعها حتى توضَع فِيْ القبر فله قيراطان، وقَدْ فسّر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القيراطان بأنّ أقلّهما مثل جبل أحد، وكذلك ورد هٰذا التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه. وكلُّ ذٰلك فِيْ الصحيح. ولذلك لمّا بلغ ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قال: «لقد فرّطنا فِيْ قراريط كثيرة».
            ونلحظ أنّ بعض إخواننا –هدانا الله وإياهم- إذا نوديَ للصلاة على الجنازة يجلس الواحد منهم ولا يصلي على أخيه!
            فإن كان هٰذا من باب الكسل والاكتفاء بمن صلى؛ فهٰذا فِيْ الحقيقة بخل شديد، لأنّ هٰذا الإنسان يبخل على نفسه بالأجر، فهو قيراط مثل جبل أحد، ويبخل على أخيه بالدعاء.
            وإن كان هٰذا الجلوس على ما يقوله بعض الناس: نحن لا ندري هل هٰذا سني أو ليس بسني؟ هل هُوَ مصلي أو غير مصلي؟ فهٰذا بدعة، فإنّ هٰذا لَمْ يُشرَع، فمَن قُدِّم للمسلمين من المسلمين فإنه يُصلى عَلَيه؛ ما لَمْ يعلم فيه مانعٌ عينًا، فإن عَلِمَ فيه مانعًا عينًا فإنه يتأخَّر عنه.

            يتبع..
            كتبه أخوكم شـرف الدين بن امحمد بن بـوزيان تيـغزة

            يقول الشيخ عبد السلام بن برجس رحمه الله في رسالته - عوائق الطلب -(فـيا من آنس من نفسه علامة النبوغ والذكاء لا تبغ عن العلم بدلا ، ولا تشتغل بسواه أبدا ، فإن أبيت فأجبر الله عزاءك في نفسك،وأعظم أجر المسلمين فـيك،مــا أشد خسارتك،وأعظم مصيبتك)

            تعليق


            • #7
              رد: شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شرح فضيلة الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله

              إذن نقول: إنّ الأصل أن ّالكبائر لا تُغفر إلا بالتوبة ولا تغفر بالأعمال الصالحة؛ لكنّ الأَعْمَال الصالحة قد يلحقها ما يقوّيها ويقوّي أثرها فتقوى على رفع كبيرة من كبائر الذنوب.
              ولذلك يا إخوة؛ بعض الناس قد يحج وتُغفر له جميع ذنوبه، إمّا بكونه قرن التوبة مع حجه، وإمّا بكونه حرص على إتمام حجه بإخلاص قلبٍ وصدق نيَّة. وبعض الناس قد يعود من الحج وقَدْ خُفِّفت عنه الذنوب إذا كان دون ما ذكرنا وكانت عَلَيه كبائر من الذنوب.
              إذن انتبهوا إلى الَّذِي ذكرتُه؛ فهو تحقيق مبنيٌّ على الأدلة:
              الأعمال الصالحة من حيث جنسها لا تُكفَّر بِهَا الكبائر بل لابد من أن تَكون معها توبة، لكنّ الأَعْمَال الصالحة قد تُخفَّف بِهَا الكبائر من وجه، وقَدْ تقوى لقوة يقين القلب أو عظيم النفع المتعدي فتُرفَع بِهَا الكبيرة وتُمحى بِهَا الكبيرة.
              ومعنى هٰذا الكلام الَّذِي ذكرتُه موجود فِيْ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- وإن لَمْ يكن بهٰذا النص الَّذِي ذكرتُه.
              وقَدْ دلّ على ذٰلك القرآن والأحاديث الصحاح فِيْ التكفير بالصلوات الخمس والجمعة والصيام والحج وسائر الأَعْمَال الَّتِي يقال فيها: من قال كذا وعمل كذا غُفر له، أو غفر له ما تقدّم من ذنبه، وهي كثيرة لمن تلقّاها من السنن؛ خصوصًا ما صُنِّف فِيْ فضائل الأَعْمَال.
              قال: «وقَدْ دلّ على ذٰلك القرآن والأحاديث الصحاح فِيْ التكفير بالصلوات الخمس والجمعة والصيام والحج»؛ كقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصلوات الخمس، والجمعة إلا الجمعة ورمضان إلى رمضان؛ مكفرات ما بينهنّ ما اجتُنبت الكبائر» رواه مسلم.
              فهٰذه الأَعْمَال مكفرات يومية؛ الصلوات الخمس، ومكفرات أسبوعية؛ الجمعة إلى الجمعة، ومكفرات سنوية؛ رمضان إلى رمضان. فاستشعر يا مسلم عظيم فضل الله عليك، فإنّ الله جعل لك من جنس الأَعْمَال الصالحة مكفراتٍ يومية ومكفِّرات أسبوعية، ومكفِّرات سنوية.
              وهناك مكفِّراتٌ لكل ما مضى؛ كقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم من ذنبه»، وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن حج هٰذا البيت فلم يَرفث ولم يَفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
              قال شيخ الإسلام: «وسائر الأَعْمَال الَّتِي قال فيها من قال كذا؛ كقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة: آمين؛ فوافقت إحداهما الأخرى؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه» والحديث فِيْ الصحيحين، يعني فِيْ الصلاة، إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة: آمين؛ فوافقت إحداهما الأخرى؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه.
              وكقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، فإن من وافق قوله قوق الملائكة؛ غُفر له ما تقدّم من ذنبه». وهٰذا الحديث فِيْ الصحيحين.
              فانتبه يا عبد الله! استشعر هٰذا وأنت تعمل هٰذه الأعمال. بعض الناس لا يعطي هٰذه الأعمال الشريفة حقّها، عندما يقول الإمام «ولا الضآلين» قل: «آمين» وأنت مستشعر هٰذه الكلمة العظيمة راجيًا فضل الله وأن يجعل قولك موافقًا لقول الملائكة، إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقل: اللهم ربنا لك الحمد، وأنت مستشعر ما تقول، راجيًا أن يجعل الله قولك موافقًا لقول الملائكة، فإنّ من وقع له ذٰلك غُفر له ما تقدّم من ذنبه.
              قال –رحمه الله-: «وعمل كذا؛ غُفر له ما تقدّم من ذنبه»؛ كقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غُفر له ما تقدّم من ذنبه» متفق عَلَيه.
              وكقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه». والحديث فِيْ الصحيحين.
              وكقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من توضأ نَحْوَ وضوئي هٰذا؛ ثم صلى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه؛ غُفر له ما تقدّم من ذنبه» الحديث فِيْ البخاري ومسلم. من حاول هٰذا؟ من حاول منّا أن يُسبِغ الوضوء ويقوم يصلي ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه؟ والتحقيق أنّ المقصود: لا يحدِّث نفسه بأمور الدنيا؛ بل يُقبل على صلاته من أوّلها إلى آخرها، هٰذه العبادة الشريفة من حاول منا أن يفعلها؟ قلّ من يفعل.
              نحن -والله المستعان- حتى فِيْ الفريضة اليوم أصبح الواحد منّا لا يحاول أن يستحضر نفسه فِيْ الصلاة، لا تحلوا له الدنيا إلا فِيْ الصلاة، ربما لا يفكر فِيْ شَيْء حتى يقول الإمام الله أكبر، فإذا قال الإمام الله أكبر؛ انفتحت عَلَيه الدنيا! وهٰذا تقصير وتفريط يا إخوة، ينبغي أن نحرص على الإقبال على الصلاة بروحها.
              فحريٌّ بك يا من أثقلتك الذنوب –وكلُّنا كذلك- أن تجتهد فِيْ أن تتوضأ وضوءًا مسبغًا ثم تقوم تصلي ركعتين تُقبل على الله لا تحدّث فيهما نفسك؛ لتنال هٰذا الموعود من الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «غُفر له ما تقدّم من ذنبه».
              قال –رحمه الله-: «وهي كثيرة لمن تلقّاها من السنن؛ خصوصًا ما صُنِّف فِيْ فضائل الأعمال». أهل الحديث صنَّفوا كتبًا فِيْ فضائل الأعمال، بعضها مفردة، وبعضها فِيْ ضمن كتبهم فِيْ السنن، وهناك أحاديث كثيرة جدًا فِيْ هٰذا الباب، وهٰذا الباب بابٌ عظيم نافع للمؤمن، فإنّ الأَعْمَال الصالحة تزيد الحسنات وتُمحى بِهَا الذنوب. وتقدّم معنا أنّ كل بني آدم خطاء، فما أحوَجنا إلى هٰذا الباب العظيم!
              وينبغي على المؤمن أن يعرف على معرفة الأَعْمَال الَّتِي نُصّ فيها على تكفير الذنوب.
              وهناك أعمال يسيرة كثيرة يا إخوة، منها مثلًا: ما جاء فِيْ قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أكل طعامًا ثم قال: الحمد لله الَّذِي أطعمني هٰذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه. ومن لبس ثوبًا –أي جديدًا- فقال: الحمد لله الَّذِي كساني هٰذا الثوب ورزقنيه بغير حول مني ولا قوة؛ غُفر له ما تقدَّم من ذنبه».
              ودخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد فإذا هُوَ برجلٍ قد قضى صلاته –أي أنه فِيْ آخر صلاته؛ ولذلك جاء فِيْ الحديث: وهو يتشهد- وهو يقول: اللهم إني أسألك يا الله الأحد الصمد الَّذِي لَمْ يلد ولم يولد ولم يكن له كفُوًا أحد أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم» فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قد غُفر له، قد غُفر له، قد غُفر له» قالها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثًا.
              وهناك أعمال صالحة كثيرةٌ من هٰذا الباب، لعلّنا نعطِّر بِهَا حديثنا غدًا -إن شاء الله- فِيْ أوّل الدرس، ونبيّن من خرّج هٰذه الأحاديث من أهل العلم. والله أعلم، وصلى الله على نبينا وسلّم.



              (2)
              بسم الله الرحمٰن الرحيم
              الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضا، الحمد لله حتى الرضى، والحمد لله عند الرضى، والحمد لله بعد الرضى، والحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد انّ محمدًا عبده ورسوله؛ النبيُّ المجتبى المختار، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله وأصحابه الأخيار الأبرار الأطهار. أما بعد:
              فدرسنا –كما تعلمون- فِيْ هٰذا المسجد المبارك، فِيْ مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الَّذِي قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أتى مسجدي هٰذا ليتعلَّم خيرًا او يعلِّمه؛ كان كالمجاهد فِيْ سبيل الله»، فنرجو الله عَزَّ وَجَلَّ أن يرزقنا من فضله فوق ما نؤمِّل.
              درسنا فِيْ شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-.
              وكنا نتأمّل فِيْ الأمر الأوّل الوارد فِيْ هٰذه الوصية؛ وهو الوصية بما يُصلِح الدين والدنيا. وقَدْ ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- أنّ ما يُصلِح الدين والدنيا: هُوَ التمسُّك بالكتاب والسنة، وأنّ ذٰلك مَدْخورٌ فِيْ وصية عظيمة أوصى بِهَا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذًا –رضي الله عنه-: «يا معاذ! اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن».
              وكنّا قد وقفنا فِيْ شرح قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها».وهٰذه الجملة الشريفة بِشارة للمؤمنين تَفرح بِهَا قلوب العباد، لأنّ المعلوم -أيها الإخوة تقدّم معنا- أنّ الذنب كالحَتْم اللازم للعبد، فلا يَسلم العبد من ذنب، فجاءت هٰذه البِشارة، فإنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كلُّ بني آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون»، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُتِب على ابن آدم حظه من الزنى، وهو مدركٌ ذٰلك لا محالة»، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعاوده الفَينة بعد الفَينة، أو لا يفارقه حتى يفارِق» يعني حتى يفارِق الدنيا «وإنّ المؤمن خُلق مُفتَّنًا، توّابًا، نسَّاءً؛ إذا ذُكِّر تذكَّر». فالذنب لابد منه للعبد، فجاءت هٰذه الجملة الشريفة حاملةً هٰذه البشرى العظيمة: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها».
              وهٰذه الجملة فيها فوائد:
              منها: بيان أنّ العبد إذا أذنب ذنبًا فإنه يَثبُت عَلَيه ويُكتَب عَلَيه؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تمحها»؛ فإنّ المحوَ يَكون بعد الثبوت.
              ومنها: أنّ العبد إذا أذنب ذنبًا ينبغي أن يُسارع فِيْ إزالة أثر هٰذا الذنب، وألا يُسوِّف؛ ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وأتبع السيئة»؛ وهٰذا يدلّ على المسارعة، وذلك أنّ العبد إذا أخطأ خطيئةً ثم تاب منها واستغفر ونَزَع؛ صُقِلَ منها، فإن عاد زادت حتى تَعلوَ قلبه؛ كما عند الترمذي بإسنادٍ صحَّحه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وحسّنه الألباني -رحمه الله-، فالعبد إذا أذنب ذنبًا تُنكَت فِيْ قلبه نقطة سوداء، فإن نَزَعَ واستغفر وتاب؛ صُقِل، وانظر إلى كلمة (صقل)؛ فإنه كالزجاج يُصقَل، وإذا صقل فإنه لا يَبقى له أثر.
              وإن عاد» بمعنى أنه لَمْ يتب ولم يستغفر بل زاد على الذنب ذنبًا؛ تزيد حتى تعلوَ قلبه، فتصبح رانًا على قلبه. فينبغي على العبد إذا أخطأ فأذنب أن يبادِر على العمل على إزالة أثر هٰذا الذنب.
              ومنها: ما وقفنا عنده، من أنّ الذنوب لَهَا أمورٌ ترفع آثارها؛ منها التوبة، ومنها الاستغفار من غير توبة، ومنها الأَعْمَال الصالحة الحسنات الماحية الممحِّصات. وقَدْ ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنها قسمان:
              -ممحِّصات مقدِّرة، أو مكفِّرات مقدَّرة؛ يعني معيَّنة، تزيل ذنبًا معيَّنًا أو نقصًا معيَّنًا؛ وهو السبب الَّذِي رُتِّبتْ عَلَيه، كما فِيْ ترك واجبات الحج وفِعْل بعض محظورات الإحرام.
              -وإمّا كفارات مطلقة لَمْ تُرتَّب على سبب معيَّن؛ وهٰذه نوعان:
              النوع الأوّل: الَّذِي كنا نتكلم عنه فِيْ مجلس البارحة، وهي الأَعْمَال الصالحة الَّتِي نُصَّ فيها على مغفرة الذنوب بسببها، وقَدْ ذكرنا أنها تَكون أقوالًا وتَكون أعمالًا، وذكرنا بعضها؛ كقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه». وكما ورد فِيْ قول «آمين» فإنّ من وافق قوله قول الملائكة؛ غُفر له ما تقدّم من ذنبه.
              وقَدْ جمعتُ بعض الأحاديث الثابتة الَّتِي رُتِّبَت فيها المغفرة على قولٍ أو فعل، منها ما ذكرناه البارحة من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أكل طعامًا ثم قال: الحمد لله الَّذِي أطعمني هٰذا الطعام ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة؛ غُفر له ما تقدَّم من ذنبه، ومن لبس ثوبًا فقال: الحمد لله الَّذِي كساني هٰذا ورزقنيه بغير حول مني ولا قوة؛ غُفر له ما تقدَّم من ذنبه».
              ومنها: إحسان الاستغفار بعد الصلاة، فقد ورد أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل المسجد فإذا هُوَ برجل قد قضى صلاته- أي أنه فِيْ آخر صلاته- وهو يتشهد وهو يقول –يعني بعد أن فرغ من تشهده شرع فِيْ الدعاء- وهو يقول: اللهم إني أسألك يا الله الأحد الصمد الَّذِي لَمْ يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد أن تغفر لي ذنبي إنك أنت الغفور الرحيم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قد غُفر له، قد غُفر له، قد غُفر له. قالها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثًا».
              ومنها: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قال حين يسمع المؤذِّن: وأنا أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، رضيتُ بالله ربًّا، وبمحمَّدٍ رسولًا، وبالإسلام دينًا؛ غُفر له».
              ومنها أيضًا: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من غسَّل مسلمًا فكتم عَلَيه؛ غفر الله له أربعين مرة»، «فكتم عَلَيه» يعني لَمْ يَنشر عيبه إن اطّلع على عيبٍ فيه؛ «غفر الله له أربعين مرة».
              ومنها: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من عبد يُذنب ذنبًا فيتوضأ، فيُحسِن الطُّهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله بذلك الذنب إلا غفر الله له».
              ومنها: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من توضأ هكذا» أي توضأ وضوءًا مُسبِغًا «ثم خرج إلى المسجد لا يُنهِزه إلا الصلاة-أي لا ]خرِجه إلا الصلاة- ؛ غُفِر له ما خلا من ذنبه».
              وتنظرون أيها الأحبة؛ كيف أنّ بعض الناس اليوم يُهوّن من صلاة الجماعة إما بذكر أنها مسألة خلافية، أو بأنه لا حاجة إليها، ويَغفلون عن الفضائل العظيمة المرتَّبة على صلاة الجماعة، من توضأ فِيْ بيته مسبغًا وضوءه ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه من بيته إلا الصلاة؛ غفر الله له ما خلا من ذنبه.
              ومنها: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من تَعارَّ من الليل فقال حين يستيقظ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شَيْء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم، ثم دعا ربه: ربِّ اغفر لي؛ غُفر له».
              والشاهد من إيراد هٰذا أيها الإخوة؛ أن نعلم أنّ الأعمال الصالحة إذا أدّاها الإنسان فإنها تَكون سببًا فِيْ مغفرة الذنوب. وهٰذا النوع الأول منها؛ وهو ما نُصَّ عَلَيه.
              ثم يأتي النوع الثاني: وهو كل الأَعْمَال الصالحة، ولو لَمْ يُعلَّق عليها مغفرة الذنب بخصوصها، فإنّ محوَ السيئات بالصالحات ليس خاصًّا بما ورد أنّ من فعله و قاله يُغفر له؛ بل هٰذا عام؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «واتبع السيئة الحسنة»، فإذا أتبع الإنسان السيئة الحسنة فإنها تغفر الذنب.
              فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما تقولون؛ فما فائدة التنصيص فِيْ هٰذه الأَعْمَال على أنه يُغفَر له، ما دام أنها تشترك مع غيرها فِيْ المغفرة؟
              قلنا: للتنويه بشرفها وبيان أنّ أثرها فِيْ هٰذا الباب أعظم من غيرها. إنما خُصَّت بأنه يُغفَر بسببها الذنب لبيان شرفها وبيان أنّ المغفرة بِهَا أعظم من المغفرة ببقية الصالحات.
              إلى هنا بيان ما تقدّم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-. فيقرأ لنا الشيخ ياسين –وفقه الله- من حيث وقفنا البارحة.


              واعلم أنّ العناية بهٰذا من أشد ما بالإنسان الحاجة إليه، فإنّ الإنسان من حين يبلغ خصوصًا فِيْ هٰذه الأزمنة ونحوها من أزمنة الفترات الَّتِي تُشبه الجاهلية من بعض الوجوه، فإنّ الإنسان الَّذِي ينشأ بين أهل علم ودين قد يتلطّخ من أمور الجاهلية بعدّة أشياء فكيف بغير هٰذا.
              يقول –رحمه الله-: «واعلم»، وعادة العلماء أنهم إذا قدّموا جملة «واعلم»؛ فإنّ هٰذا يدلّ على عظيم ما سيذكرونه بعدها، فهٰذا تنبيه على علوّ شأن ما سيُذكَر بعد، قال: « واعلم أنّ العناية بهٰذا» (بهٰذا) يعود إلى الامور الثلاثة الَّتِي تقدّمت: التوبة، والاستغفار من غير توبة، والأعمال الصالحة، فعناية المؤمن بالاجتهاد فِيْ الحسنات الماحيات والتوبة والاستغفار من أشدّ ما يحتاجه العبد، فإنّ الإنسان من حين يبلغ، لماذا قال: «من حين يبلغ»؟ لأنه قبل البلوغ لا يُكتَب عَلَيه شَيْء، «رُفع القلم عن ثلاثة» ومنهم «الصبي حتى يبلغ»، ولكنه من البلوغ يُكتَب عَلَيه، فقال: «فإنّ الإنسان من حين يبلغ خصوصًا فِيْ هٰذه الأزمنة» يعني الإنسان عمومًا؛ وخصوصًا فِيْ هٰذه الأزمنة، يعني فِيْ زمانه، قال: «ونحوها من أزمنة الفترات» والمقصود بالفترة هنا: الفتور، من أزمنة الفتور الَّتِي تصيب الناس، لأنّ الناس قد تمرّ بهم فترات فتور يضعف الدين فيها، وهٰذا تجده فِيْ بعض البلدان، فتجد أنه فِيْ زمن من الأزمنة يَفتر أهل البلد ويَضعف الدين عندهم ضعفًا شديدًا، ثم فِيْ فترة يَنشَط، وسبب هٰذا هُوَ العلم والجهل، فإذا نشِط أهل العلم ونشروا العلم بالكتاب والسنة؛ نَشِط الناس فِيْ الخير، وإذا فَتُرَ أهل العلم فِيْ نشر العلم بالكتاب والسنة وتركوا الأمر لغيرهم ممَّا هُوَ فِيْ حقيقته جهل وإن ظُنَّ علمًا –كما سيأتينا إن شاء الله فِيْ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية- كمثلًا نشر الصوفية والدرْوَشة والأذكار الَّتِي لَمْ يرد بِهَا نص من الكتاب والسنة على وجه الإلزام؛ فإنه يضعف الدين فِيْ وجوه الناس.
              لأنّ القاعدة يا إخوة: أنّ البدعة تُطفئ السنة فِيْ قلوب الناس، ومَا تعلَّق أحدٌ ببدعة إلا مات فِيْ قلبه مقدارها من حب السنة. فيفتر الناس فِيْ دينهم لأنهم يفعلون ما يظنونه دينًا وليس بدين، ويتركون ما هُوَ دين صحيح؛ بل يُنكِرونه! فإذا جاءهم إنسان بقال الله قال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خلاف ما يفعلونه من البدع؛ أنكروا هٰذا، ولربما قالوا له: أنت وهّابي، بل ربما جرؤ بعض الناس فقال: هذه آيات الوهّابيّة! حتى القرآن لمّا دلّ على خلاف ما اعتادوه وصفوه بأنه قرآن الوهابية؛ مع أنه القرآن الَّذِي يتلونه والآيات الَّذِي يتلونها.
              وهٰذا ينبغي أن يُنبِّهنا على شَيْء معاشر السادة الفضلاء؛ وهو أنه ينبغي علينا أن نعتني بنشر العلم بالسنة بكتاب الله وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ بلداننا، أمّا طلاب العلم فيجتهدون فِيْ هٰذا، وأمّا عامّة الناس فيجتهدون فِيْ اقتناء الأشرطة للمشايخ الربانيين الَّذِينَ عُرِفوا بالتَّوحِيد والسنة، وتُسمَع هٰذه الأشرطة فِيْ البيوت فيُصبح فِيْ البيوت طنين بذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالى بدلًا من رنين الموسيقى ومَا يجلب الشياطين إلى البيوت. إن أردنا لمجتمعنا عزّة ورفعة وكرامة فِيْ الدنيا وسعادة واطمئنانًا للقلوب ورفعة فِيْ الآخرة؛ علينا بهٰذا.
              تأسَف أيها المؤمن المبارك عندما تجد بعض المسلمين يتباكى على حال المسلمين من الضعف والمهانة ويذهب إلى السياسة ويدع ما ينبغي أن يَكون؛ وهو الاهتمام بسبب هٰذا الضعف، السبب الحقيقي؛ وهو البُعد عن نشر العلم الحقيقي المبني على كتاب الله وعلى سنة النبي صلى الله عل يه وسلم. فهٰذا الأمر ينبغي التنبُّه إليه.
              ولذلك قال الشيخ: «من أزمنة الفترات» يعني الفتور والضعف فِيْ الديانة، قال: «لتي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه».
              لاحظوا يا إخوة! ما قال –رحمه الله-: المجتمعات الجاهلية، مجتمعنا جاهليّ، ولكن قال: «الَّتِي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه»، والمقصود: من كثرة الانفتاح على الدنيا وكثرة الفتن، فإنها تشبه الجاهلية فِيْ هٰذا الباب.
              وكذلك من جهة كثرة المعاصي والوقوع فِيْ السيئات، فإنّ هٰذا كثر فِيْ الجاهلية، وكثر في اليهود والنصارى.
              قال: «فإنّ الإنسان الَّذِي ينشأ بين أهل علم ودين» فِيْ هٰذه البيئة الَّتِي تَضعف فيها الديانة قد يَتلطّخ ببعض أمور الجاهلية؛ فكيف بمَن ينشأ بعيدًا عن العلم؛ فإنه أحرى أن يتلطّخ بشيء من أمور الجاهلية. وهٰذا يأتي بيانه فِيْ كلام الشيخ.
              وفي الصحيحين عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ من حديث أبي سعيد رضي الله عنه-: «لتتّبعنّ سَنن من كان قبلكم حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ دخلتموه» قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟».
              «لتتّبعنّ سَنن من كان قبلكم حذو القُذَّة بالقُذَّة» كالرمح يتلو الرمح، «حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ دخلتموه»، وجحر الضب يَكون ضيّقًا صعب المسالِك، ومع ذٰلك لو دخلوا هٰذا الجحر الضيّق صعب المسالك لدخلتم وراءهم! قالوا: «يا رسول الله! اليهود والنصارى؟» يعني من كان قبلنا؟ قال: «فمَن؟» أي أنهم اليهود والنصارى.
              وليس المقصود بهٰذا الحديث أنّ الأمّة كلها تتشبّه باليهود والنصارى فِيْ أمورهم كلّها، وإنما المقصود: أنّ التشبّه يقع من أفراد الأمّة، فهٰذا يتشبّه بكذا، وهٰذا يتشبّه بكذا، وهٰذا يتشبّه بكذا.
              أمّا أن تتشبّه كل الأمّة بكل حال اليهود والنصارى فهٰذا منتفٍ؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تزال طائفةٌ من أمّتي على الحق ظاهرِين، لا يضرّهم من خالفهم أو خذلهم، حتى يأتي أمر الله». والتشبّه باليهود والنصارى له وجوه ننبِّه عليها.
              هٰذا خبر تصديقه فِيْ قوله تعالى: ﴿ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ﴾، ولهٰذا شواهد فِيْ الصِّحاح.
              هٰذه الآية وردتْ فِيْ المنافقين الَّذِينَ سخروا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وقالوا: ما رأينا مثل قُرَّائنا هؤلاء، وذموهم، فجاءت هٰذه الآية فيهم ﴿ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ﴾، والخَلاق: هُوَ النصيب من الدِّين والدنيا، فرضيتم بالدنيا من نصيبكم فِيْ دنياكم ودينكم، ﴿ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ﴾ أي بنصيبهم، ﴿ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ فِيْ الباطل وسبِّ الأنبياء والصالحين.
              وهٰذه الآية وإن كانت فِيْ المنافقين إلا أنّ العبرة بعمومها؛ وهو أنّ من هٰذه الأمّة من يَتشبّه بالأمم السابقة.
              فإمّا أن يُتشبَّه بهم فِيْ ترك العلم؛ وهٰذا تشبّه بالنصارى الَّذِينَ تركوا العلم؛ فكانوا ضالين.
              وإما تشبّه بهم فِيْ ترك العبادة مع العلم؛ وهٰذا تشبّه باليهود؛ فكانوا مغضوبًا عليهم.
              وقَدْ ذكر بعض أهل العلم أنّ قول الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ﴾ هٰذا باب الشهوات، أي تشبّهتم بهم فِيْ باب الشهوات، فِيْ باب المعاصي، هٰذا فعل العُصاة. ﴿ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ هٰذا فِيْ باب الديانة؛ وهٰذا فعل المبتدعة.
              فالعصاة من أمّة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتشبّهون بأهل الجاهلية فِيْ فعل المعصية فِيْ باب الشهوة، والمبتدعة من أمّة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتشبّهون بالأمم السابقة فِيْ التعبُّد بلا علم.
              والتشبّه بالكفار فِيْ دينهم؛ حرام. والتشبّه بالكفار فِيْ دنياهم فيما هُوَ من خصائصهم؛ حرام.
              أمّا فعل ما يفعله الكفار لحاجة الناس؛ فهٰذا ليس من باب التشبه فِيْ شَيْء، كوننا مثلًا نقود السيارة، والسيارة قد اخترعها الكفار؛ فهٰذا ليس من باب التشبّه؛ لأنّ ركوب السيارة إنما هو حاجة إنسانيّة لا يَختصّ بِهَا الكفار، فليس مطلوبًا منّا كما فهم بعض متنطّعة هٰذا العصر أن نركب الجمال وأن نترك ركوب السيارات؛ لأنّ هٰذا من باب التشبه؛ زعموا.
              أو كذلك مثلًا الآلات الميسِّرة مثل النظارات على الهيأة الموجودة الآن، مثل الآلات مثل ألة الحاسب الآلي وغير ذٰلك؛ هٰذا يُفعَل للحاجة الإنسانية، ومَا يُفعَل فللحاجة الإنسانية لا تشبُّه فيه.
              رأيتُ بعض الشباب يَتعمّدون قطع إشارة المرور –هٰذه الإشارة الحمراء- يتعمّدون قطعها ويتعبّدون بقطعها، لماذا؟ قالوا: مخالفةً لليهود والنصارى؛ لأنّ هٰذه الإشارات مأخوذة من اليهود والنصارى! وهٰذا جهل فاضِح، فإنّ هٰذا قد اتفق أهل العلم فيه على أنه لا يَدخل باب التشبّه؛ لأنه مما يُفعَل به للحاجة الإنسانية لا يَختصُّ به كافر ولا مسلم.
              وكذلك اللباس الَّذِي يشترك فيه العموم فإنه لا يَكون من باب التشبّه، أمّا إذا كان اللباس خاصًّا بالكفار بحيث أنّ من رأى لابسه يقول: إنه يَلبس لِبْسة الكفار؛ كطاقية اليهود المعروفة وزُنّار النصارى ونحو ذٰلك؛ فهٰذا يحرم التشبّه بهم فيه.
              وهٰذا أمرٌ قد يسري فِيْ المنتسبين إلى الدين من الخاصة، كما قال غير واحد من السلف؛ منهم ابن عيينة
              يعني هٰذا يقع حتى لمن ينتسبون إلى العلم، فإنّ بعض من ينتسبون إلى العلم يتشبّهون باليهود أوالنصارى، فإن قصَّروا فِيْ العلم؛ تشبّهوا بالنصارى، وإن لَمْ يعملوا بعلمهم؛ تشبّهوا باليهود، كما قال سفيان بن عيينة: «من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد عبّادنا ففيه شبه من النصارى»، لأن ّفساد النصارى فِيْ باب العبادة، وفساد اليهود فِيْ باب العلم؛ علموا فلم يعملوا، والنصارى عبدوا بدون علم. وقَدْ يقع فِيْ العلماء الشَّبَه بهٰذا وهٰذا، و يقع فِيْ العُبّاد الشَّبَه بهٰذا وهٰذا، وهٰذا واقع معايَن.
              وكثيرًا من أحوال النصارى قد ابتلي بِهَا بعض المنتسبين إلى الدين، كما يُبصِر ذٰلك مَن فهم دين الإسلام الَّذِي بعث الله به محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم نزّله على أحوال الناس
              الله أكبر! هٰذه القضية يا إخوة قضية مهمة جدًا، قول شيخ الإسلام –رحمه الله-: «كما يُبصِر ذٰلك مَن فهم دين الإسلام الَّذِي بعث الله به محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم نزّله على أحوال الناس» هٰذه القضية وهي أنّ الحكم على الناس وتنزيل الأحكام عليهم تعيينًا؛ ليس لكل أحد، ولا يُطلَق فيه الأمر لكل واحدٍ من الناس، ولا يَكون على عواهنه، بل لابد أن يَكون على بصيرة، وعلى الأصول الشرعية الَّتِي جاءت فِيْ كتاب الله وفي سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يَكون من أهل البصيرة.
              وهٰذا باب تساهل فيه الناس كثيرًا اليوم، فتجد أنّ الواحد من أسهل ما يَكون على لسانه أن يقول: فلان كافر! أو هٰذا كافر! ويُنزِّل الحكم المطلَق على المعيّن.
              الناس فِيْ هٰذا الباب يا إخوة طرفان ووسط:
              -طرفٌ يسارع إلى تنزيل الأحكام المطلَقة على المعيّنين، ولو لَمْ يكن على بصيرة من الدين، ولو لَمْ يكن من أهل الشأن.
              -وطرفٌ يغلو فِيْ الفصل بين الأحكام المطلَقة وأحكام المعيّنين حتى يكاد لا يُنزَّل حكم على معيّن.
              وهٰذا خطأ وذاك خطأ.
              والصواب؛ ما عَلَيه أهل السنة من التفريق بين الحكم المطلَق والحكم على المعيّنين، فإنّ الشيء قد يُحكَم عَلَيه بإطلاق لأنّ الدليل دلّ عَلَيه، مثلًا؛ نجد أنّ أكثر السلف صحّ عنهم أنهم يقولون: من قال بخلق القرآن فهو كافر، وهنا ليس المقصود وصف المعيَّن بأنه كافر، وإنما هٰذا وصْفٌ مطلَق.
              لكن إذا جاؤوا إلى معيّنٍ يقول بخلق القرآن فإنهم لا يسارعون إلى تكفيره؛ بل يُنظَر ببصيرة، فإذا اجتمعت الشروط وانتفت الموانع؛ حكم أهل البصيرة بهٰذا الحكم، ولا يحكم به كل أحد.
              ولمّا أَغفَل أقوامٌ هٰذا؛ انتشرت فتنة التكفير بين الشباب، وأصبح الشباب يسارِعون إلى تكفير المسلمين، بل إلى تكفير العلماء الربانيّين الَّذِينَ قضَوا أعمارهم فِيْ العلم والتَّوحِيد والسنة!
              رأينا شبابًا فِيْ السادسة عشر من أعمارهم والسابعة عشر من أعمارهم والعشرين من أعمارهم يكفّرون عموم الأمّة، حتى أنّ أحدهم قال لي: أرأيت هؤلاء الحجّاج بالملايين يُعلنون ثلاثة ملايين أربعة ملايين؟ قلتُ: نعم، قال: ما عرف واحد منهم الإسلام، كلهم كفار.
              ولمّا أُورِد على أحد هؤلاء الشباب أنّ الشيخ ابن باز –رحمه الله- يقول كذا، وأنّ الشيخ ابن العثيمين –رحمه الله- يقول كذا؛ قال: ما أكفر من هٰذا إلا هٰذا! وهم صغار السن لا يحمل أحدهم شهادة الثانوية، لكنهم ربّاهم أقوام على إطلاق الأحكام وعلى الجرأة فِيْ هٰذا الباب، فلمّا كسروا الحاجز بينهم وبينه؛ لَمْ يقفوا عند حدّ، وهكذا من يدخل فِيْ باب التكفير وهو من غير أهله وبغير ضوابطه؛ لا ينتهي عند حدّ؛ لا يزال يُضيِّق الدين حتى يبدأ يُشكِّك فِيْ نفسه.
              أحدهم قال لي: أنا أغتسل الفجر وأُسلِم، وأغتسل المغرب وأُسلِم. وكما هي القصة المشهورة أنّ رجلًا يقول: أنا لا أعرف مسلمًا اليوم على وجه الأرض إلا أنا وزوجتي ورجلٌ فِيْ الهند!
              هٰذا التهوّر فِيْ هٰذا الباب أنشأ هٰذه القضية الخطيرة، ولذا ينبغي على المعلّمين وعلى طلاب العلم أن يربّوا الطلاب على الطريقة الشرعية فِيْ هٰذا الباب وأن لا يُطلَق الكلام على عواهنه، وأن يُعلَم أنّ الحكم على المعيّنين إنما يَكون بفهم الدين، ثم بفهم الشروط وانتفاء الموانع، ثم بكون الإنسان من أهل هٰذا الشأن، حتى لا يَكون الأمر فوضى فِيْ هٰذا الباب.
              ولذلك قال شيخ الإسلام هٰذه الجملة العظيمة النافعة؛ قال: «كما يُبصِر ذٰلك» -ما قال: كل أحد- «كما يُبصِر ذٰلك من فهم دين الإسلام الَّذِي بعث الله به محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ففهمه على الحقيقة وليس دعوى «ثم نزّله على أحوال الناس». وهٰذا ينبغي أن يُتنبّه له.
              وقَدْ قلتُ مرارًا: إنه ينبغي أن نربي أنفسنا وإخواننا ومن حولنا مع الناس على أربعة أمور فيها خير عظيم:
              العاطفة، والعقل، والعلم، والعدل.
              فإنّ اليُبوس فِيْ العاطفة لا تأتي بخير، العاطفة الرشيدة مطلوبة. ولا ينبغي على المربّي سواء كان أبًا أو معلّمًا أن يُجفِّف العاطفة فِيْ قلب من يربيه؛ بل ينبغي أن يُنمِّيها مرشَّدة.
              والعاطفة -كما يقول العلماء- فيها إدراك الحال – الموجود- والعقل فيه إدراك المآل، فإنّ العقل كُرِّم به الإنسان، فتنمية العقل والحرص على المحافظة عَلَيه أمرٌ مطلوب،.
              والعقل خاصيّته إدراك المآلات، العاطفة فيها إدراك الحال؛ استجابة للحال الآن، العقل؛ إدراك المآل، فمن جمع بين العاطفة والعقل يحصل له رُشْدٌ فِيْ أمره.
              يعني مثلًا لو أنّ رجلًا دخل فإذا بامرأته تسبّ أمّه! –يا له من أمر عظيم؛ زوجته تسب أمّه- عاطفته لأمّه تدعوه لأن يطلّقها انتصارًا لأمّه، لكن إذا فكّر بعقله مع عاطفته قال: أدّبها ولا تكسرها، لأنك لو طلقتها يترتّب على هٰذا كذا وكذا وكذا.
              ولذلك لمّا تعطّل هٰذا الأمر كثر الطلاق بين الناس، لأن أكثر الأزواج اليوم يتصرّفون بالعاطفة فيستجيبون للحال ويُعطّلون العقل. الآن أصبح الرجل يطلّق على ثوبه إذا لَمْ يُغسَل، وعلى الشاي إذا لَمْ يُعدّ! لأنّ الناس عطّلتْ العقل مع العاطفة فِيْ أكثر الأحوال.
              والأمر الثالث: العلم، فإنّ العلم سراجٌ يضيء للعقل والعاطفة الظلمات.
              فإذا جمع العبد بين عاطفة رشيدة وعقل وعلم؛ فإنه يعيش فِيْ نور الحق والخير.
              ثم لابد مع هٰذا من العدل، فيأخذ نفسه بالعدل؛ مع القريب والبعيد، والمحِبّ والمبغِض، فيعيش بخير، ويعلِّم الناس الخير، ملتزمًا السنة، من غير إفراط ولا تفريط. وهٰذا أمرٌ حريٌّ بنا أن نفهمه وأن نحرص عَلَيه.
              وإذا كان الأمر كذلك، فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه، وكان ميّتًا فأحياه الله وجعل له نورًا يمشي به فِيْ الناس، لابد أن يلاحَظ أحوال الجاهلية، وطريق الأمّتين المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى، ويرى أن قد ابتُلي ببعض ذٰلك
              وليس المقصود بهذه الصفات العظيمة يرى أنه قد ابتُلي ببعض ذٰلك فقط، وإنما المقصود: أنّ الإنسان فِيْ حال الفتن يَتفقّد نفسه حتى يُخلّصها من أثر الفتن، فإذا انتشر أمرٌ بين الناس يتعلّق بالتشبّه باليهود أو النصارى أو بأهل الجاهلية فإنّ الإنسان يتفقّد نفسه ببصيرة، فإذا وجد أنه قد أُصيب بغبار هٰذا الأمر فإنه يُنظّف نفسه منه، ويَدَع هٰذا الأمر ويَتخلّص منه، فقول شيخ الإسلام «فيرى أن قد ابتُلي ببعض ذٰلك» يعني أنه ينبغي عَلَيه مع هٰذا أن يسعى فِيْ الخلاص من هٰذا الأمر.


              فأنفع ما للخاصة والعامّة: العلم بما يُخلِّص النفوس من هٰذه الورَطات؛ وهي اتْبَاع السيئات الحسنات
              إذا ثَبَتَ لديك يا عبد أنه لابد لك من الخطأ وأنّ الذنب كالحتم اللازم لك وأنّ طرق الوقوع فِيْ السيئات كثيرة كالتشبّه باليهود والنصارى ونحو ذٰلك؛ فينبغي أن تعلم أنّ أنفع ما يَكون لك أن تعرف ما يُخلِّص نفسك من أثر السيئة، وأن تتعلّم ما يُخلِّص مجتمعك من أثر السيئة.
              «وهٰذا يحتاجه الخاصة» أي العلماء وطلاب العلم، «والعامّة» أي عموم الناس، فإنّ الإنسان لابد أن يقع فِيْ شَيْء من هذه الورَطات، فإذا تعلّم ما يزيل أثرها فإنه يُتبِعها بما يزيل أثرها؛ فتزول بإذن الله.
              والحسنات: ما ندب الله إليه على لسان خاتم النبيين، عَلَيه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم؛ من الأعمال والأخلاق والصفات
              لمّا ذكر شيخ الإسلام أنّ الحسنات ممحّصات تزيل أثر السيئات أخذًا من الأدلة؛ عاد فبيّن ما هي الحسنات؛ فقال: «الحسنات: ما ندب الله إليه على لسان خاتم النبيين، عَلَيه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم؛ من الأعمال والأخلاق والصفات»، والمقصود بالندْب هنا: الحث، وليس المقصود أنّ الحسنات هي المندوبات فقط المستحبات، بل المقصود: ما حثّ الله على فعله إلزامًا أو استحبابًا.
              فالحسنات لا تُعرَف بالهوى والابتداع؛ وإنما تُعرَف بالاتّباع؛ بمعرفة ما فِيْ الكتاب والسنة، فالحسنة: كل أمرٍ طُلِب فعله فِيْ كتاب الله أو فِيْ سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
              أمّا ما يُفعَل من التعبُّدات مما ليس فِيْ الكتاب والسنة فليس بحسنة؛ بل بدعة، ولا يزيل أثر السيئة؛ بل هُوَ سيئة عظيمة.
              لأنّ المعلوم يا إخوة أنّ أعظم السيئات: الشرك الأكبر، ثم الشرك الأصغر، ثم البدع، ثم ما دون ذٰلك من الذنوب، وهٰذا ترتيب الذنوب، فإذا كان الإنسان يفعل عبادة لَمْ ترد فِيْ الكتاب ولا فِيْ السنة فإنه لَمْ يفعل حسنة وإنما يَكون قد فعل سيئة تحتاج إلى ما يمحو أثرها.
              والبدعة أحبّ إلى إبليس من المعصية؛ لأنّ المعصية يفعلها الإنسان على غير سبيل التقرُّب، يفعلها الإنسان وهو يرى أنها خطأ لكن تغلبه الشهوة؛ فيكون قريبًا من التوبة، أما البدعة فيفعلها الإنسان دينًا؛ فيكون بعيدًا عن التوبة؛ كيف يتوب من الدين؟! ولذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إنّ الله قد حجب التوبة عن كلِّ صاحب بدعة حتى يدعها».
              إذن يا إخوة؛ الحسنة الَّتِي تزيل السيئة: هي ما طلبه الله فِيْ كتابه أو على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سواء كان ذٰلك متعلّقًا بالأقوال كالأذكار، أو الأعمال كالصلاة، أو الأخلاق -كما سيأتي إن شاء الله فِيْ بيان حسن الخلق-، أو الصفات؛ والمقصود بالصفات: ما يُتحلى به، وهو نوعٌ من الأخلاق، مثل الأناة والحلم ونحو ذٰلك؛ فهي من الحسنات.
              ومما يزيل موجَب الذنوب: المصائب المكفِّرة؛ وهي كل ما يؤلم من همٍّ أو حزَن أو أذى فِيْ مالٍ أو عرض أو جسد، أو غير ذٰلك، لكن ليس هٰذا من فعل العبد
              هٰذا الأمر الرابع مما يزيل آثار الذنوب. قلنا شيخ الإسلام ذكر أربعة: التوبة، والاستغفار من غير توبة، والأعمال الصالحة، وهٰذا الرابع: ما يصيب العبد المؤمن من البلاء.
              فإن قال قائل: لماذا فصله شيخ الإسلام عن الثلاثة المتقدّمة؟
              قلنا: لأنّ الثلاثة المتقدّمة من عمل الإنسان، ويُطلَب منه أن يفعلها، فيُطلَب منه أن يتوب، ويُطلَب منه أن يستغفر، ويُطلَب منه أن يُكثِر من الأعمال الصالحة، أمّا هٰذا السبب الرابع فليس من فعْل الإنسان؛ أن تصاب بالحمّى ليس من فعلك، ولا يُشرَع للإنسان أن يطلبه، لا يُشرَع للإنسان أ نيطلب البلاء؛ ولو برجاء تكفير الذنوب، لا يُشرَع للمؤمن مثلًا أن يقول: اللهم أسألك البلاء بالحمى لأنه عَلِمَ أنّ الحمّى تَحُتُّ الذنوب، لا يُشرَع للمسلم أن يقول مثلًا: اللهم إني أسألك البلاء بالعمى لأنه علِمَ أنّ الله إذا ابتلى المؤمن بفقد إحدى حبيبتيه –أي عينيه- فصبر أنه يَكون له الجنة، لا يُشرَع للمؤمن مثلًا أن يقول: اللهم إني أسألك أن تُميتَ أولادي، لأنه علِمَ أنّ الولد إذا مات قبل البلوغ يشفع لوالديه وأنه إذا مات الولد فحمد العبد واسترجَع يُبنى لأبيه بيتٌ فِيْ الجنة –وإن كان الحديث فيه ضعف-، هٰذا لا يجوز ولا يُشرَع، لكن إذا وقع فإنّ المسلم يصبر على البلاء.
              والعلماء يقولون: إنّ العبد إذا نزل به البلاء ينبغي عَلَيه أن يصبر، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عجبًا لأمر المؤمن، إنّ أمره كله له خير، إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان ذٰلك خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان ذٰلك خيرًا له».
              ومما يُعين العبد على الصبر أن يَستحضر أمورًا:
              الأمر الأول: أن يستحضر أنّ الَّذِي ابتلاه هُوَ ربُّه، وأنه عبد، فالمبتلي هُوَ الله، والمبتلى هُوَ عبد الله، والعبد تحت أمر مولاه –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
              الأمر الثاني: أن يستحضر انّ الَّذِي ابتلاه هُوَ الله الَّذِي لا يُسأل عما يفعل، وهم يُسألون.
              الأمر الثالث: أن يستحضر أنّ الَّذِي ابتلاه هُوَ الله الَّذِي لا يُسأل عما يفعل لتمام فعله؛ فإنه لا يفعل إلا لحكمة، فيستحضر أنّ هٰذا البلاء الَّذِي نزل به إنما نزل به لحكمة، وليس عبثًا، فإنّ الله لَمْ يفعل شيئًا ولا يفعل شيئًا إلا لحكمة.
              الأمر الرابع: أن يستحضر أنّ البلاء إذا نزل بالعبد المؤمن؛ إمّا أن ينبّهه من غفلة، أو تُكفَّر عنه به سيئة، أو تُرفَع له به منزلة، هٰذه الحِكَم الثلاث فِيْ نزول البلاء.
              إمّا تنبيه من غفلة، المؤمن قد يعيش فِيْ غفلة، قد تلهيه الدنيا ويضعف فِيْ دينه؛ فينزل به بلاء يُذكِّره، فيتذكر ما هُوَ عَلَيه، فيعود إلى الله، كم من شخص كان بعيدًا عن الأَعْمَال الصالحة فمات ابنه فعاد إلى الديانة والتقرُّب إلى الله سبحانه وتعالى! تنبَّه، كم من شخص كان غافلًا لاهيًا مُغرِقًا فِيْ المعاصي فابتُلِيَ بمرض فتنبّه فعاد إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
              أو تُكفَّر بهٰذا البلاء سيئات، أو تُرفَع له بِهَا منزلة؛ فإنه ورد فِيْ الحديث: «إنّ الله إذا أراد بعبدٍ منزلة فِيْ الجنة، ثم لَمْ يبلغها بعمله، قال لملائكته: صبُّوا عَلَيه البلاء صبًّا، ثم صبَّره عَلَيه»، فيرتفع بالبلاء إلى منزلته فِيْ الجنة الَّتِي لَمْ يبلغها بعمله.
              ثم يستحضر أمرًا عظيمًا؛ وهو أنّ الَّذِي ابتلى هُوَ الَّذِي أنعم، فإذا نزل بك البلاء فانظر إلى نعم الله عليك، إن كان الله ابتلاك بمرض فِيْ جسدك فقد أنعم عليك فِيْ جسدك -مع المرض- بنعم كثيرة. فالذي ابتلى بهٰذا البلاء هُوَ الَّذِي أنعم بلا انتهاء. وهٰذا يعين المسلم على أن يصبر على البلاء الَّذِي ينزل به. فإذا نزل البلاء بالعبد وصبر على ذٰلك فإنه يبلغ بذلك منزلة عظيمة.
              وعرّف شيخ الإسلام المصيبة فقال: «هي كلُّ ما يؤلم؛ من همٍّ أو حَزَنٍ او أذىً فِيْ مال أو عرْض أو جسد أ وغير ذٰلك»، وقَدْ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما يصيب المؤمن من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا همٍّ ولا حُزْنٍ ولا أذىً ولا غمٍّ حتى الشوكة يُشاكها؛ إلا كفّر الله بِهَا من خطاياه» متفق عَلَيه. هٰذا الحديث فيه بيان أنّ البلاء يكفّر الذنوب، وفيه بيان البلاء بالمثال .
              فالمصيبة هي ما ينزل بالإنسان مما يكرهه؛ هٰذا ضابطها العام؛ ما ينزل بالإنسان مما يكرهه، حتى لو جاءك رجل كثير الأذى فنزل بك وأنت تكره هٰذا؛ فهٰذه مصيبة، وإن صبرتَ على هٰذا وعملتَ بالمشروع فِيْ هٰذا فإنك تنال منزلة عالية.
              والهمّ: نوعٌ من الحُزن، يقع فِيْ الغالب بالتفكير فيما يُتوقَّع، يعني الإنسان يتوقّع أن يصبه كذا فيصيبه الهمّ. وهو نوعٌ من الحُزُن.
              والحُزن: معروف؛ يصيب القلب بسبب وقوع المكروه، فإذا وقع مكروه فإنّ القلب يصيبه الحُزن.
              والنَّصَب: هُوَ التعب.
              والوَصَب: هُوَ الألم والسُؤْم الدائم، بعض الناس يصاب بمرض يصيبه بألم مستمر، لا يُعجِزه لكنه يؤلمه، يعني بعض الناس يقول: أنا عندي صداع دائم؛ هٰذا وصب؛ ألمٌ مستمرٌّ دائم. فهٰذه كلها من المصائب، وهي مكفّرات للذنوب.
              فإذا أصاب الإنسان همٌّ فإنه يكفَّر به من سيئاته، إذا أصاب الإنسان حُزن فإنه يُكفَّر به من سيئاته، إذا أصب الإنسان أذى فِيْ ماله فذهب بعض ماله فإنه يُكفَّر به من سيئاته، إذا أصاب الإنسان أذىً فِيْ عرضه؛ يعني من جهة أنه نِيل من عرضه بكلام أونحو ذٰلك؛ فإنه يُكفَّر به من سيئاته، أو أذى فِيْ جسده، أو غير ذٰلك مما ينزل بالإنسان مما يكرهه؛ فإنّ هذا تُكفَّر به السيئات.
              ثم قال شيخ الإسلام معقِّبًا: «لكن ليس هٰذا من فعل العبد»، والمقصود: ليس هٰذا مطلوبًا من العبد، فما دام أنه ليس من فعلك فإنه ليس مطلوبًا منك.
              ولذلك يقول بعض أهل العلم: من الأجور ما لا يُشرَع طلبه –يذكرونه فِيْ الألغاز الفقهية- ما الأجر الَّذِي لا يُشرَع للإنسان أن يطلبه؟ والجواب: الأجر المرتَّب على نزول المصيبة؛ فإنه لا يُشرَع للإنسان أن يطلبه ،لكن إذا نزلتْ به المصيبة؛ صبر وعلم أنّ فِيْ هٰذا أجرًا وأنّ فِيْ هٰذا إذهابًا للوزر.
              وبهذا يَكون شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- فرغ عن الكلام عن الجملتَين الأوليَين فِيْ هٰذه الوصية العظيمة «اتق الله حيثما كنت»، وخلاصة ما فيها: افعل يا عبد ما أمرك الله به، واجتنب ما نهاك الله عنه، واحرص على ذٰلك.
              «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» فيا عبد اعلم أنك مع حرصك على فعل الأَوامِر واجتناب النواهي سيقع منك الخطأ، فإذا وقع الخطأ فبادر، وأتبع الخطأ بحسنة، أو بمكفّر يكفّرها، وهٰذا يزيل عنك أثر الذنب.
              ثم سيشرع شيخ الإسلام –رحمه الله- فِيْ بيان الجملة الأخيرة من هٰذه الوصية «وخالق الناس بخلق حسن». وهٰذا –إن شاء الله- سنبسطه فِيْ درس الغد بحول الله وقوته.
              ولعلنا نقف هنا لنجيب على أسئلة الإخوة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.



              (3)
              بسم الله الرحمٰن الرحيم
              الحمد لله رب العالمين، نحمده، ونستغفره، ونشكره، ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله لحمد، يحي ويميت، وهو على كل شَيْء قدير. وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدّى الأمانة وجاهد فِيْ الله حق جهاده. صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليمًا طيبًا مباركًا فيه إلى يوم الدين. ورضي الله عن آله وأصحابه الطيبين الطاهرين. أما بعد:
              فمعاشر الفضلاء؛ أحب بين يدي الدرس اليوم أن أذكِّر إخواني بما ذكرناه سابقًا من المشروع عند زيارة المدينة باختصار، وذلك أنه يُشرع للمؤمن أن يزور مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يسافر من أجل الوصول إلى هٰذا المسجد المبارك؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُشدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هٰذا، والمسجد الأقصى».
              وإذا وصل المسلم إلى المدينة فإنه يُشرَع له من الأعمال أن يبدأ بالمسجد وأن يصلي فيه، وأن يُكثر من الصلاة فِيْ مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «صلاة فِيْ مسجدي هٰذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام»، فالعبد إذا صلى فِيْ مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يَكون ذٰلك خيرًا له من أن يصلي نفس الصلاة فِيْ ألف مسجد غير مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا المسجد الحرام.
              فالعبد إذا وصل إلى المدينة فهو فِيْ فرصة طيبة مباركة ليُكثر من هٰذا الخير. تأمّل يا عبد الله، أنت إذا صليتَ الظهر فِيْ مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذلك خير لك من صلاتك الظهر ألف مرة فِيْ مسجد آخر إلا المسجد الحرام، وهكذا العصر، وهكذا المغرب، وهكذا العشاء، فكيف يُفرّط العبد إذا استطاع أن يصلي فِيْ مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ هٰذا الفضل العظيم؟!
              كذلك؛ يُشرَع للمسلم إذا زار المدينة أن يُكثر فِيْ حضور حلق العلم؛ لأنّ حضور حلق العلم فِيْ كل البقاع خيرٌ وبركةٌ ما دام أنّ العلم الَّذِي يُدرَّس فيها قال الله قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُدرَّس فيها الحق، لكنّها فِيْ مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا خصوصية؛ فإنّ كل مسلم إذا ذهب إلى أيّ مسجد من المساجد من أجل أن يَتعلَّم الخير يُرجى أن يُكتب له أجر حاجٍّ قد تمّ حجُّه؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يَتعلَّم خيرًا أو يُعلَّمه كان له كأجر حاجٍّ تامةٍ حجته»، ومسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داخل فِيْ هٰذا من باب أولى، ثم كذلك يُرجى أن يُكتَب لَمن يحضر حلق العلم مخلصًا لله فِيْ مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرجى أن يُكتَب له أجر المجاهد فِيْ سبيل الله؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أتى مسجدي هٰذا لَمْ يأته إلا ليتعلم خيرًا أو يعلِّمه كان كالجاهد فِيْ سبيل الله».
              فأنت يا عبد الله يا مسلمًا يا مباركًا؛ إذا حرصتَ على الجلوس فِيْ حلق العلم فِيْ مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنك ترجع بعلمٍ ينير حياتك وتزداد به أجرًا، كما أنه يُرجى لك أن تنصرف بأجر الحاج الَّذِي تمّ حجه وأجر المجاهد فِيْ سبيل الله.
              وهذان العملان –أعني الصلاة فِيْ المسجد وحضور الحِلَق- يُسنّ الإكثار منهما، ولا حدّ لهما.
              كذلك يُشرع للمسلم إذا قدم المدينة من سفر أن يزور قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبيه، ليسلّم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا وصل إلى القبر فإنه يصل موحِّدًا ربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- ولا يُشرك بالله شيئًا ويستقبل القبر ويَستدبر القبلة ويقف بأدب، ولكنه كما يتأدب مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يتأدب مع ربه أدبًا أعظم، فلا يقف أمام القبر وِقْفَة المصلي ولا يُعلّق قلبه بغير- ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، ثم يصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأدب وخفض صوت: السلام عليك يا رسول الله، وإن زاد: أشهد أنك قد بلغتَ الرسالة وأدّيتَ الأمانة وجاهدتَ فِيْ الله حق جهاده؛ فحسن.
              ثم يخطو خطوة ناحية اليمين ليكون أمام أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ويسلم عليه: السلام عليك يا خليفة رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر الصديق، وإن أثنى عَلَيه بشيء مما فيه فحسن.
              ثم يخطو خطوة ناحية اليمين ليكون أمام الفاروق عمر -رضي الله عنه- ويسلم عَلَيه، السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا عمر بن الخطاب، وإن أثنى عَلَيه بشيء فلا بأس.
              ولكن ينبغي على المؤمن أن يراعي أحوال إخوانه وألا يطيل إذا كان فِيْ هٰذه الإطالة ما يضر بالمسلمين. فإذا كان هنالك زحام فإنّ أفضل ما يَكون أن يبدأ الإنسان بالسلام فيقول: السلام عليك يا رسول الله ، ثم ينتقل إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، ثم ينتقل إلى عمر -رضي الله عنه-، ثم ينصرف رفقًا بالمؤمنين.
              ولا يُشرع للمسلم أن يدعو عند القبر ؛ بمعنى لا يُشرع له أن يدعو الله عند القبر اعتقادًا انّ فِيْ هٰذا زيادة بركة أو زيادة قَبول.
              وهذ الفعل لا يُشرع تكراره وإنما يقع مرة عندما يقدم المسلم من سفره.
              كذلك يُشرَع له أن يزور بقيع الغرقد فيسلم على أهل القبور ويدعو لهم، معتقدًا أنهم مرتهَنون فِيْ قبورهم، بحاجة لمن يدعو لهم، فلا يدعوهم ولا يَتقرّب إليهم وإنما يسلّم عليهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، أو نَحْوَ هٰذا، ويدعو لهم.
              وهٰذا أيضا لا يُشرع تكراره إلا ان يقوم سبب كأن يمشي الإنسان خلف جنازة.
              وبالمناسبة أنبّه على أنّ الصلاة خلف الجنازة واتّباعها حتى تُدفَن فيه فضل عظيم، فإنّ من صلى على جنازة له قيراط، ومن اتّبعها حتى توضَع فِيْ القبر فله قيراطان، وقَدْ فسّر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القيراطان بأنّ أقلّهما مثل جبل أحد، وكذلك ورد هٰذا التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه. وكلُّ ذٰلك فِيْ الصحيح. ولذلك لمّا بلغ ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قال: «لقد فرّطنا فِيْ قراريط كثيرة».
              ونلحظ أنّ بعض إخواننا –هدانا الله وإياهم- إذا نوديَ للصلاة على الجنازة يجلس الواحد منهم ولا يصلي على أخيه!
              فإن كان هٰذا من باب الكسل والاكتفاء بمن صلى؛ فهٰذا فِيْ الحقيقة بخل شديد، لأنّ هٰذا الإنسان يبخل على نفسه بالأجر، فهو قيراط مثل جبل أحد، ويبخل على أخيه بالدعاء.
              وإن كان هٰذا الجلوس على ما يقوله بعض الناس: نحن لا ندري هل هٰذا سني أو ليس بسني؟ هل هُوَ مصلي أو غير مصلي؟ فهٰذا بدعة، فإنّ هٰذا لَمْ يُشرَع، فمَن قُدِّم للمسلمين من المسلمين فإنه يُصلى عَلَيه؛ ما لَمْ يعلم فيه مانعٌ عينًا، فإن عَلِمَ فيه مانعًا عينًا فإنه يتأخَّر عنه.

              يتبع..
              كتبه أخوكم شـرف الدين بن امحمد بن بـوزيان تيـغزة

              يقول الشيخ عبد السلام بن برجس رحمه الله في رسالته - عوائق الطلب -(فـيا من آنس من نفسه علامة النبوغ والذكاء لا تبغ عن العلم بدلا ، ولا تشتغل بسواه أبدا ، فإن أبيت فأجبر الله عزاءك في نفسك،وأعظم أجر المسلمين فـيك،مــا أشد خسارتك،وأعظم مصيبتك)

              تعليق


              • #8
                رد: شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شرح فضيلة الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله

                يدلك على ذٰلك أنّ الصحابة –رضوان الله عليهم- كانوا يصلُّون على من يُقدَّم لهم، مع أنه قد يَكون من المنافقين، ولكنهم كانوا يُعمِلون الظاهر، فمَن قُدِّم للمسلمين من المسلمين ليُصلى عَلَيه فإنه يُصلى عَلَيه.
                ثم إنّ اتباع الجنازة بعد الصلاة حتى توضَع فِيْ القبر فيه قيراط آخر مثل جبل أحد. فإذا استطاع المسلم أن يُحصّل هٰذه القراريط فإنه يتأكّد هٰذا فِيْ حقه وينبغي ألا يفرّط فيه. فلو أنّ المسلم تبع جنازة فإنه إذا وصل البقيع يسلّم على أهل القبور.
                كذلك يُشرع للمسلم عند زيارة المدينة أن يزور قبور شهداء أحد وأن يسلّم عليهم ويدعوا لهم.
                كذلك؛ يُشرع له أن يزور مسجد قباء وأن يصلي فيه، هُوَ ليس له صلاة خاصة، فمن صلى فيه صلاة فقد وقع المقصود، فمن تطهر فِيْ بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة.
                وهٰذا الفعل يُسنّ تكراره، والأفضل لو كُرِّر فِيْ كل أسبوع مرة؛ لأنه ظاهر السنة، ولا حدّ له على الصحيح من أقوال أهل العلم، لكنّ الإكثار من الصلاة فِيْ المسجد النبوي أحسن من تكرار زيارة مسجد قباء، فهٰذا ينبغي التنبّه إليه.
                ما عدا هٰذا لَمْ يُشرع للمؤمن إذا زار المدينة أن يزور شيئًا آخر، فينبغي على العبد المسلم أن يحرص على وقته فِيْ هٰذه المدينة المباركة.
                هٰذا أمر أحببت التنبيه عَلَيه فِيْ بداية الدرس، وإن كنا قد قرّرناه بتفصيل فيما مضى، من أجل أنّ بعض إخواننا قد يَكون زائرًا جديدًا، فأحببنا أن ننبّه على ما يُشرَع فعله عند زيارة مدينة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                درسنا -كما تعلمون- فِيْ شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام –رحمه الله-. وكنا نقرأ فِيْ الأمر الأول من الأمور الأربعة الَّتِي سأل عنها الشيخُ أبو القاسم السبتي المغربي شيخَ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-؛ وهو أن يوصيَه بما يُصلح دينه ودنياه، فأوصاه بحديث معاذ رضي الله عنه الَّذِي هُوَ وصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                وهٰذه الوصية وإن وُجِّهت لمعاذ إلا أنها موجهة لي ولك يا عبد الله، حيث قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا معاذ! اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن».
                وقَدْ قرأنا ما يتعلق بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اتق الله حيثما»، وقلنا إنّ مضمون هٰذه الجملة: يا عبد الله يا مؤمنًا اتق الله فِيْ جميع أحوالك؛ فافعل المأمورات واجتنب المنهيات.
                ثم تكلّمنا عن قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها»، وقلنا إنّ خلاصة هٰذا: يا عبد الله إذا أذنبتَ والذنب لابدّ أن يقع منك فاغسل ذنبك؛ بأن تتبع السيئة بحسنة، وهٰذه الحسنة تمحو تلك السيئة. وقَدْ فصّلنا القول فِيْ هٰذا، وفرغنا منه، ووقفنا عند القسم الثالث من هٰذه الوصية العظيمة. فيقرأ لنا الشيخ ياسين موفّقا مباركًا مهديًا.
                فلمّا قضى بهاتين الكلمتين حق الله من عمل الصالح وإصلاح الفاسد؛ قال: وخالق الناس بخلق حسن، وهو حق الناس
                يقول الشيخ –رحمه الله-: « فلمّا قضى بهاتين الكلمتين حق الله من عمل الصالح» فِيْ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتق الله حيثما كنت»، «وإصلاح الفاسد» فِيْ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها»؛ قال: «وخالق الناس بخلق حسن، وهو حق الناس».
                وقَدْ تقدّم معنا أيها الأحبة؛ أنّ الإنسان فِيْ الدنيا عَلَيه حقّان: حق الله وحق الخلق.
                وقَدْ قال بعض العلماء كلمة عظيمة نافعة فقال: «جِماع الدين: الصدق مع الحق، وحسن الخُلق مع الخَلق»، الأمر الَّذِي يجمع الدين كلَّه: أن تَكون صادق القلب مع الله، موحِّدًا، عابدًا، مخبتًا لربك -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-. حسَنَ الخُلق مع خَلْق الله. فإذا جمعتَ بين هذين الأمرين فقد جمعتَ الدِّين، وهٰذا معنى قول العلماء: «جماع الدين: الصدق مع الحق، وحسن الخُلق مع الخَلْق».
                قال الشيخ –رحمه الله-: «وهو حق الله» أي أنّ حسن الخلق حق الناس.
                والعلماء يقولون: إنّ حسن الخلق يُختبَر به الناس وتتبيّن به معادنهم، فكم من شخص يجتهد فِيْ العبادة لكنه يعجز عن حسن الخلق، وهٰذا معنى قول أهل العلم إنّ حسن الخُلق يُختبَر به الناس وتنكشف به حقائقهم وتتبيّن معادنهم.
                وحسن الخُلق صفة الأخيار الأبرار، فإنّ نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يكن فاحشًا ولا متفحِّشًا، وكان يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنّ خياركم أحاسنكم أخلاقًا» متفق عَلَيه، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشهد هٰذه الشهادة بالخيرية للمسلم «إنّ خياركم أحاسنكم أخلاقًا»، فمن أراد أن يَكون له نصيب من شهادة رسول الله صلى الله عَلَيه وسلم بالخيرية فليحسِّن خُلقه، وليجتهد فِيْ تحسين أخلاقه مع الناس.
                وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جملةً عجيبةً مشوقةً لمن أحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صادقًا، ومَا من مؤمن إلا وهو يحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنّ من أحبكم إليّ أحسنكم أخلاقًا» رواه البخاري فِيْ الصحيح. فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب المؤمنين ومَن حسُن خُلقه كان أحبَّ إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                ولذلك قال بعض أهل العلم : «مَن زاد عليكَ فِيْ الخُلق زاد عليك فِيْ الدِّين»، يعني من زاد عليك فِيْ الخُلق وهو على دين؛ زاد عليك فِيْ الدين؛ لأنّ الخُلق من البر الَّذِي يحبه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك كلّما حسَّنتَ خُلقك كلما كنت أحبَّ إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «البر حُسن الخُلق». والمعلوم أيها الإخوة أنّ هذه الصيغة تقتضي الحصر: «البر حُسن الخُلق» فكأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حصر البر فِيْ حُسن الخُلق، قال العلماء: لأنّ البر يَكون بمعنى الصلة، ويكون بمعنى اللُّطف، ويكون بمعنى حُسن الصحبة، ويكون بمعنى الطاعة، وهٰذه مجامع حُسن الخُلق.
                البر يَكون بمعنى الصلة، ويكون بمعنى اللُّطف، ويكون بمعنى حُسن الصحبة، ويكون بمعنى الطاعة؛ وهٰذه كما يقول العلماء: مجامع حسن الخلق. وسيأتي –إن شاء الله- الكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- فِيْ هٰذا.
                وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنّ المؤمن ليدرِك بحُسن الخُلق درجة الصائم القائم» رواه الإمام أحمد، والترمذي بمعناه، وصححه الألباني.
                «إنّ المؤمن» وهٰذا يدلّ على أنّ حُسن الخُلق إنما ينفع المؤمن، يَكون مع إيمان، «ليدرك بحُسن الخُلق درجة الصائم القائم» والمقصود بالصائم: مُديم الصيام. والمقصود بالقائم: مُديم القيام. وهٰذا يدل على فضيلة حُسن الخُلق.
                وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من شَيْء أثقل فِيْ الميزان من حسن الخلق» رواه أبو داود، والترمذي، وصححه الألباني.
                هنا أَلفِتُ لفتةً علميَّة، نجد كثيرًا فِيْ الحديث مثل هٰذا، فقد يقول قائل: أليست الصلاة المفروضة ثقيلةً فِيْ الميزان؟ أليست أركان الإسلام ثقيلةً فِيْ الميزان؟ أليس التَّوحِيد ثقيلًا فِيْ الميزان؟ والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من شَيْء أثقل فِيْ الميزان من حُسن الخُلق»؟!
                نقول: بلى إنّ الصلاة ثقيلة وإنّ التَّوحِيد ثقيل، وهٰذه النصوص إذا ردتْ لا تمنع المشاركة، فهٰذا ثناء على المذكور لا يَمنع مشاركة غير المذكور. وهو مثل التفضيل بين الأنبياء؛ لا يقتضي نقصًا. ولهٰذا نصّ أهل العلم على أنّ التفضيل بين الأنبياء على وجه التنقّص لا يجوز.
                فعندما يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من شَيْء أثقل فِيْ الميزان من حُسن الخُلق» لا يعني أنّ غيره لا يَكون ثقيلًا مثله؛ بل يشاركه، لكن ذُكِرَ هٰذا فِيْ باب الحثّ على حُسن الخُلق، ولا يَمنع شِرْكَة غيره فيه.
                وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنا زعيم ببيت فِيْ رَبَض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وببيت فِيْ وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت فِيْ أعلى الجنة لمن حَسُنَ خُلقه» رواه أبو داود، وصححه النووي، وحسنه الألباني.
                «أنا زعيم» أي ضامن، «ببيت فِيْ ربض الجنة» أي فِيْ طرف الجنة. «لمن ترك المراء وإن كان محقًّا»، والمراء: أن يَصِلَ الحوار بين الطرفين إلى حب كل واحد لنصرة رأيه لا لإظهار الحق. فإذا وصل الأمر إلى أنّ المتحاورَين كل واحد منهما أصبح يريد أن ينصر رأيه لا أن يُظهر الحق؛ فهٰذا المراء، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضمِنَ لمن تركه بيتًا فِيْ طرف الجنة، لأنه إذا اشتد النقاش وظهرت رغبة النفس فِيْ النصرة يصعب أن تفطمها، يصعب أن تَفطِم نفسك إذ ذاك، ولذلك جاء هٰذا الفضل؛ حتى إذا تذكرتَه توقّفت.
                «وببيت فِيْ وسط الجنة» فِيْ وسط درجاتها «لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا»، كثير من الناس اليوم قد يَمتنع من الكذب لكنه يتساهل فِيْ الكذب من أجل المزاح من أجل أن يُضحك الناس، فيكذب ليُضحك الناس، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «أنا زعيم ببيت فِيْ ربض الجنة لمن ترك الكذب ولو كان مازحًا».
                «وزعيم ببيت فِيْ أعلى الجنة لمن حُسن خُلقه» فحُسن الخُلق مع الإيمان يقرّبك يا عبد الله من درجة الأنبياء والأولياء الَّتِي هي أعلى الجنة، وهٰذا دليل على شرف حُسن الخُلق.
                وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثًا عجيبًا فيه حثٌّ على الخير وتسليةٌ للنفوس؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أربعٌ إذا كنّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحُسن الخُلق، وعِفَّةُ مَطعَم» رواه الحاكم، والطبراني، وصححه الألباني.
                «أربعٌ إذا كنّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا» أنت فقير؟ فاتتك الدنيا؟ ليس عندك ما عند الناس من رفاهية؟ إذا كان عندك هٰذه الأربع فلا يضرّك ما فاتك من الدنيا، فأنت الغني حقًّا.
                ما هٰذه الأربع العظيمة الَّتِي تساوي الدنيا؟ «صدق الحديث» أن يحرص الإنسان على أن يَكون صادقًا دائمًا. «حفظ الأمانة»؛ بأنواعها، أمانة الدين الَّتِي هي أمانة عند الإنسان، وأمانة ودائع الإنسان، وغير ذٰلك. «وحُسن الخُلق، وعفّةُ المَطعَم»؛ أن تحرص أن يَكون مَطعمَك حلالًا.
                إذا تحقّقت فيك هٰذه الأربع فو الله أنت الغني، فإنّ هٰذه الأربع تساوي الدنيا بشهادة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أربع إذا كنّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا. ومَا أعظم هٰذا الحديث!
                أيضًا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمّا سُئل عن خير ما أُعطِيَ الرجل؟ قال: «خُلقٌ حَسن» رواه الحاكم، وابن حبان، وابن ماجة، وصححه ابن عبد البر، وابن مفلح، والألباني، والوادعي فيما أحسب.
                وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناصحًا بأمرين يقلّ الالتزام بهما فِيْ كثير من الناس؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عليكَ بحُسن الخُلق وطول الصمت» يعني الزم حُسن الخُلق وطول الصمت،.
                قال بعض أهل العلم: «من أحسن أخلاق الرجال أن يَكون الرجل صموتًا حتى يشتاق صاحبه إلى كلامه»، يعني بعض الناس إذا جلس معك تتمنى متى يسكت، وبعض الرجال إذا جلس معك تتمنى متى يتكلم، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «عليك بحسن الخلق وطول الصمت، فو الذي نفسي بيده ما عَمِلَ الخلائق بمثلهما» رواه أبو يعلى، والطبراني، والبزّار، وحسّنه الألباني.
                والمقصود بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما» أنّ العمل بهما صعب؛ لأنّ الإنسان يحب الكلام؛ فيصعب عَلَيه أن يطيل الصمت، ولأنّ حُسن الخُلق يحتاج إلى مصابرة ومجاهدة، وقلَّ من يصبر عَلَيه.
                وحُسن الخُلق يجمع فعل الفضائل واجتناب الرذائل.
                والخلق المحمود يا إخوة هُوَ ما يحرص فيه الإنسان أن يَكون عَلَيه فِيْ مختلف أحواله. وأكثر ما يتبيّن حُسن الخُلق إذا ذهبتِ المصانَعة، الإنسانُ قد يصانع الغرباءَ فيُحسِّن خُلقه، لكن إذا ذهبت المصانعة يَنكشف الأمر، يظهر ذٰلك فِيْ السفر؛ فإنّ السفر تقلّ فِيْه المصانَعة وتَغلب فيه المشقة، فينكشف من بكى ممن تباكى. يظهر ذٰلك مع الأهل فِيْ البيت فينكشف من ظهر حسن خلقه حقيقة ممن لَمْ يكن ذٰلك له بصفة.
                كما قلتُ ذٰلك سابقًا ومرارًا؛ إنّ بعضنا قد يُحسِّن خُلقه إذا كان فِيْ خارج البيت، بل حتى لو أخطأ عَلَيه أحد تجده يبتسم، جزاك الله خيرًا، عفا الله عني وعنك، فإذا دخل البيت غيّر هٰذا تمامًا، وأصبح سبّابًا، لعّنًا، شتّامًا، ضرّابًا، يغضب عند أدنى سبب، ويضرب عند أدنى سبب، لا يقف عند حدّ، وهٰذا فِيْ الحقيقة ينبغي أن يراجع نفسه، فإنّ حُسن الخُلق هُوَ الَّذِي يتّصف يه الإنسان على كل أحواله.
                وجماع الخلق الحسن مع الناس: أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام، والدعاء له والاستغفار والثناء عَلَيه والزيارة له، وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال وتعفو عمن ظلمك فِيْ دم أو مال أو عرض، وبعض هٰذا واجب وبعضه مستحب
                جاء فِيْ حديث مرويٍّ أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ألا أدلكم على خير أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟ أن تَصِلَ من قطعك، وتُعطيَ من حرمك، وتَعفوَ عمن ظلمك» رواه الإمام أحمد، والحاكم، وعبد الرزاق، لكن فِيْ إسناده ضعف. وذكرتُ هٰذا الحديث لأنه يظهر لي –والله أعلم- أنه مستنَد قول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- لأنه ذكر ما فيه.
                وقول الشيخ –رحمه الله-: «وجماع الخُلق الحَسن ان تصل من قطعك»، صلة الناس يا إخوة من أعظم الأخلاق وأحسنها، ورأسها وأكرمها: صلة الوالدين، أن يصل الإنسان والديه بما يستطيع من أنواع الصلة، ثم صلة الرحم الأقرب فالأقرب، ثم صلة أهل العلم، وصلة الجيران. وأعظم الصلة أن يصل العبد من قطعه، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس الواصِل بالمكافئ؛ ولكنّ الواصل الَّذِي إذا قطعتْ رحمه وصلها» رواه البخاري، ليس الواصِل بالمكافئ الَّذِي إن وصله الناس وصلهم؛ إن وصله عمُّه وصله، وإن قطعه قطعه؛ هٰذا ليس الواصل على وجه الحقيقة، وإنما الواصل على وجه الحقيقة والخُلق: الَّذِي إذا قُطعَتْ رَحِمُه وَصَلَها، فإذا قُطِعتْ رَحِمُه وَصَل، وإذا أدبر الناس عنه أقبل، ويكون بادئًا حريصًا على الصلة.
                قال بعض العلماء: الناس فِيْ الصلة ثلاثة: واصِلٌ، ومكافئ، وقاطِع».
                فالواصل: من يَتفضّل ولا يُتفضَّل عَلَيه؛ يعني هُوَ السبّاق، سواء مع الواصلين من رَحِمِه أو القاطعِين؛ يسبق إليهم ويَصِلُهم، وهٰذا معنى قولهم «من يتفضَّل» يعني بالصلة، «ولا يُتفضَّل عَلَيه» يعني لا يُسبَق بِهَا.
                والمكافئ: الَّذِي لا يزيد على الإعطاء على ما أَخَذ. زارني ابن عمي مرة فِيْ الشهر؛ أزوره مرة فِيْ الشهر، لَمْ يزرني لا أزوره، هٰذا مكافئ؛ هٰذه بتلك.
                والقاطِع: الَّذِي يُتفضَّل عَلَيه ولا يَتفضَّل. قد يصله أقاربه لكنه لكبْر أو غير ذٰلك يَهجر أقاربه، ولا يصل رَحِمَه، قد يَكون له مقام علميّ أو دنيويّ فيتكبَّر على أقاربه ويرى أنهم ليسوا أهلًا أن يزورهم ويزورونه، فيقطع أقاربه! وهٰذه –كما يقولون- آفة العصر.
                اليوم قد يَجتمع طلاب علم فِيْ عمارة واحدة لا يزور الواحد منهم الآخر، طلاب علم لا أقول عامّة، طلاب علم يَجتمعون فِيْ عمارة واحدة وقَدْ يكونون فِيْ غربة، كل واحد يحتاج الآخر، قد يَكون هٰذا جاء بأهله ليس لهم أقارب فِيْ المدينة، وهٰذا جاء بأهله ليس لهم أقارب فِيْ المدينة، لا يزور الواحد منهم الآخر!
                الآن يسكن الناس فِيْ عمارة واحدة؛ يسكنون سنة وسنتين وثلاث وأربع؛ لا يَعرف الواحد منهم اسم جاره، لا أقول لا يزوره بل لا يَعرف اسمه! تأتي إلى عمارة تقول: فلان هنا؟ يقول: ما أدري والله، وهو فِيْ نفس العمارة! أين الأخلاق؟ أين حُسن الخُلق؟ أين الصلة الَّتِي هي من أعظم أنواع حُسن الخُلق؟
                والأصل فِيْ الإنسان الوصل؛ إلا أنه قد تتقدّم أسباب للقطع، فهذه الأسباب يجب أن ننظر فيها؛ لأنّ بعض الناس يَتحجّج يقول: أنا ما قطعتُ من تلقاء نفسي بل هناك أسباب، طيب ما هي هٰذه الأسباب؟ إن كانت الأسباب دنيوية فلا تخلو من حالَين:
                الحالة الأولى: أن تَكون صادرة ممن تقطع، سبب دنيوي صدر ممن تقطع؛ سبّكَ، شتمك، آذاك، وهنا نقول: جعل الله لك فرصةً ثلاثة أيام، والمحسِن من تركها، «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيُعرِض هٰذا ويُعرِض هٰذا، وخيرهما الَّذِي يبدأ بالسلام»، جعل الله لك ثلاثة أيام من أجل أن يَندفع ما فِيْ نفسك، ولا خير فيمن لَمْ يندفع ما فِيْ نفسه بعد ثلاثة أيام، لأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل الخيرية فيمن يبدأ بالسلام.
                وإن كان السبب صادرًا من غير من تقطع؛ كأن تكون أنت على منصب أو غير ذٰلك؛ فليس لك الحق فِيْ أن تقطع من يوصَل قطعًا مقصودًا.
                والحالة الثانية: أن يَكون السبب دينيًّا. يعني يقوم فِيْ الإنسان سبب ديني شرعي يقتضي منك أن تقطعه.
                وهنا تأتي مسألة الهجر، ومسألة الهجر مسألة شرعية شريفة؛ ينبغي أن توضَع فِيْ موطنها، والأصل فِيْ المسلم أن يُبادِرَ إلى الإصلاح والنصح قبل أن يَهجُر، يبادر إلى الإصلاح والنصح.
                فإنّا نجد اليوم بعض طلاب العلم يهجر أخًا له وهٰذا الأخ لا يدري لِمَ هجره! لا يعرف، ربما لو عرف وتبيّن له الحق لترَك، وهٰذا من حيث الأصل غلط، المسلم يبدأ بالبيان يبدأ بالنصح بالإصلاح، فإن لَمْ ينفع هٰذا فإنه تأتي مشروعية الهجر.
                ولا حدّ للهجر بسبب الأمر الديني، لا ثلاثة أيام ولا غيرها، بل مادام السبب الشرعيُّ قائمًا، ولهٰذا أصولٌ عند أهل العلم لا أحبّ أن نطيل فيها.
                وكلامنا يا إخوة عن ذمّ القطع إنما هُوَ فِيْ ذمّ القطع المقصود، يعني أن تقطع قاصدًا القطع، أمّا إن حصل القطع من غير قصد، لَمْ تقصد هٰذا لكنك لَمْ تلتقي بالمسلم شهرًا، أنت لا تقصد أن تهجره وتقطعه لكن لَمْ تلتقِ به؛ هٰذا ليس بمذموم، وإنما المذموم هُوَ القطع المقصود على ما فصّلناه.
                ومن حُسن الخُلق: بسط الوجه وبذل المعروف وكفّ الأذى.
                أن تبسط وجهك للمؤمنين وتتصدّق بالبسمة؛ «فتبسُّمك فِيْ وجه أخيك صدقة»، وأن تكفّ الأذى عن المؤمنين، وأن تبذل لهم الخير.
                ولمّا سُئل الإمام أحمد عن حسن الخلق؟ قال: «لا تغضب ولا تحقد»، جمرتان فِيْ القلب تحرقان الخير الَّذِي فِيْ الإنسان، تعميانه: الحقد والغضب. من غَضِبَ أعماه الغضب عن الخير، ومن حَقَدَ على مسلمٍ فإنّ هٰذا يقوده إلى التسبُّب له فِيْ الشر، ولذلك لمّا سئل الإمام أحمد –رحمه الله- عن حسن الخلق قال هاتين الجملتين: «لا تغضب ولا تحقد».
                وهٰذا مع سهولة نطقه يصعب فعله، ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « ليس الشديد بالصُرعة وإنما الشديد الَّذِي يُمسِك نفسه عند الغضب»، هٰذا الَّذِي يظهر فيه أنه شديد قوي؛ لأنه يُمسِك نفسه عند الغضب، والإنسان إذا غضب أوّل ما يسيئ يسيء لنفسه، فإنه قد يقول ما يستحي منه غدًا، إذا لَمْ يُمسِك نفسه عند الغضب قد يَبدر منه أقوالٌ وأفعالٌ لو عُرِضَت عَلَيه بعد ساعة لذاب خجلًا، ثم يسيء إلى غيره.
                وقَدْ قال بعض العلماء: «جِماع حُسن الخُلق: أن يَكون الإنسانُ كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفُضول، برًّا وَصولًا، وقُورًا صبورًا، راضيًا شكورًا، حليمًا رفيقًا، عفيفًا شفيقًا، لا لعّنًا ولا سبّابًا، ولا نمامًا ولا مغتابًا، ولا عجولًا ولا حقودًا، ولا بخيلًا ولا حسودًا، باشًّا هاشًّا، يحب فِيْ الله، ويرضى فِيْ الله، ويُبغض فِيْ الله». وهٰذا الكلام يا إخوة مأخوذ من صفات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو تأملته لوجدتَه خلاصة ما نُقِل من صفات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخُلقية.
                جماع حسن الخلق: أن يَكون الإنسان كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول، برًّا وَصولًا، وقورًا صبورًا، راضيًا شكورًا، حليمًا رفيقًا، عفيفًا شفيقًا، لا لعّنًا ولا سبّابًا، ولا نمامًا ولا مغتابًا، ولا عجولًا ولا حقودًا، ولا بخيلًا ولا حسودًا، باشًّا هاشًّا، يحب فِيْ الله، ويرضى فِيْ الله، ويبغِضُ فِيْ الله».
                وقال بعض السلف: «حُسن الخُلق فِيْ ثلاث خصال: اجتناب المحارم، وطلب الحلال، والتوسعة على العيال»، ويُنسَب هٰذا إلى الإمام مالك.
                وقال بعض السلف: «البشاشة لأهلها مَصيدَة المودّة»، الإنسان إذا كان بشوشًا ينجذب إليه الناس ويحبه الناس.
                وقال بعض السلف: «البرُّ شَيْءٌ هيِّن؛ وجه طليقٌ وكلامٌ ليِّن»، وهذا من جوامع حُسن الخُلق.
                ومن مجامع حُسن الخُلق ومن الصفات الزكية العلية فِيْ المؤمن: الحرص على نفع المسلمين؛ فإنّ هٰذا من رؤوس حسن الخلق.
                ورأس النفع: الحرص على نفع المؤمنين بالعلم بالسنة، بنشر التَّوحِيد، فإنّ هٰذا من أعظم النفع.
                وكذلك الحرص على نفع الناس فِيْ دنياهم. وقَدْ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أحبّ الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأَعْمَال إلى الله عَزَّ وَجَلَّ: سرور تُدخله إلى قلب مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخي المسلم فِيْ حاجة أحبّ إليَّ من أن أعتكف فِيْ المسجد الحرام شهرًا، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظًا ولو شاء أن يُمضيَه أمضاه؛ ملأ الله قلبه رضًا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم فِيْ حاجته حتى يُثبِتها له؛ أثْبَتَ الله -تعالى- له قدمه يوم تزلّ الأقدام، وإنّ سوء الخُلق ليُفسِد العمل كما يُفسِد الخلّ العسل» رواه الطبراني، وحسّنه الألباني.
                انظر إلى هٰذه المجامع، يقول النبي صلى الله عَلَيه سلم: «أحبّ الناس إلى الله أنفعهم» يعني أنفعهم للناس، «وأحب الأَعْمَال إلى الله عَزَّ وَجَلَّ: سرور تُدخله إلى قلب مسلم» وهٰذا من حُسن الخُلق لا سيما إذا وُجِدَت الحاجة، إذا رأيتَه مهمومًا، أو علمتَ أنّ شيئًا نزل به؛ فذهبت زائرًا له قاصدًا أن تُحدّثه حتى تُدخل السرور إلى قلبه؛ فأنت فِيْ عبادة عظيمة من أحب الأَعْمَال إلى الله؛ ولو كان حديثك فِيْ الدينا، لو ذهبتَ إليه تحدّثه لتُدخِل السرور على قلبه وحدثتَه فِيْ أمور الدنيا، فِيْ بلاد رأيتها، فِيْ أمور وعجائب رأيتَها، وأمور تُدخل السلوة والسرور على قلبه؛ فأنت فِيْ عمل من أحبّ الأَعْمَال إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا» إذا رأيتَ مسلمًا جائعًا فتقرّبت إلى الله بأن تُشبِعَه فقد عملتَ عملًا من أحب الأَعْمَال إلى الله، فما بالك إذا كان هٰذا الرجل جارًا لك عنده صبيةً جياعًا؟ الواحد منّا قد يعرف أنّ جاره مثلًا يستلم مكافأة من الجامعة ووقع له حادث سيارة فأصلح سيارته، يغلب على ظنه أنه وضع أكثر ماله فِيْ هٰذا الإصلاح، وأنه يبقى فترة ربما على القليل وربما يأكل وجبة فِيْ اليوم، فإذا علِمَ هٰذا وقام وأعدّ طعامًا فِيْ بيته وأدخله على أخيه، انظروا أولًا إلى عِظم أثر هٰذا فِيْ قلب الأخ! ثم هُوَ من أحبِّ الأعمال إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                وتفقُّد الإخوة والجيران من غير كسرٍ لقلوبهم أمر طيب. والله يا إخوة فوجئتُ أنّ أحد طلابنا ومعه أسرته عنده ثلاجة فِيْ بيته ليس لَهَا باب، لا يستطيع أن يشتري ثلاجة من قلة ذات اليد.
                لو أنّ كل واحد منا تفقّد إخوانه وجيرانه ومن حوله وحاول أن يطرد عنهم الجوع، أن يشاركهم فِيْ بعض ماله والقليل من ماله؛ والله إنها من أحب الأعمال إلى الله ومن أعظم القربات عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ولأن أمشيَ مع أخي المسلم فِيْ حاجة أحبّ إليَّ من أن أعتكف فِيْ المسجد الحرام شهرًا» لاحظوا إذا اعتكف فِيْ المسجد الحرام شهرًا ماذا سيعمل؟ سيصلي الصلوات الخمس لمدة شهر فِيْ المسجد الحرام؛ وهي خير من مائة ألف صلاة، ويَتقرّب إلى الله بسائر العبادات بالإضافة إلى عبادة الاعتكاف! النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:: «ولأن أمشيَ مع أخي المسلم فِيْ حاجة أحبّ إليَّ من أن أعتكف فِيْ المسجد الحرام شهرًا».
                «ومن كفّ غضبه» يعني لَمْ يجعل غضبه متعدّيًا للناس بل كتم؛ «ستر الله عورته».
                «ومن كظم غيظًا لو شاء أن يُمضيَه لأمضاه؛ ملأ الله قلبه رضًا يوم القيامة» فيكون مؤمَّنًا راضيًا عند لقاء الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                «ومن مشى مع أخيه المسلم فِيْ حاجته حتى يُثبِتها له؛ أثْبَتَ الله تعالى له قدمه يوم تزلّ الأقدام» على الصراط، يثبّت الله قدمه على الصراط.
                «وإنّ سوء الخُلق ليُفسِد العمل» سوء الخلق يا إخوة يُفسِد على الإنسان كل شَيْء؛ يُفسِد عَلَيه من حوله، ويُفسِد عَلَيه عمله؛ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «وإنّ سوء الخلق ليُفسِد العمل كما يُفسِد الخلّ العسل». فهٰذا أمر عظيم، ينبغي علينا جميعًا أن نحرص عَلَيه.
                والشيخ يقول: «أن تَصِلَ من قطعك؛ بأنواع الصلاة؛ بالسلام، والإكرام، والدعاء له» سبحان الله! يقطعني وأدعو له؟ نعم هٰذا حُسن الخُلق، «والاستغفار والثناء عَلَيه» ما أصعبها؟ إنسان يقطعك ويُظهِر قطيعتك ومع ذٰلك إذا جلستَ فِيْ مجلس إن أراد أحدٌ أن يتكلم فيه قلتَ: اتقِ الله هٰذا ليس فيه، ليس إذا بَدَأَ إنسان يتكلم فيه قلتَ: نعم يظهر هٰذا، كأنك تقول: زد، زد، بل يزيد صاحب حُسن الخُلق أن يُثني عَلَيه.
                رأيتُ من أحد مشايخنا موقفًا عجيبًا، جاءه رجل فقال: إنّ فلانًا يقول: إنك لستَ بقويٍّ فِيْ علم الحديث، شخص من طلاب العلم من أهل العلم يُنقَل عنه هٰذا الكلام، فقال: غفر الله له إنه أقوى مني فِيْ هٰذا الباب وأنا لستُ ضعيفًا فِيْ علم الحديث فقط بل في بقية العلوم فما أحوجني إلى أن أزيد! فدُهِشَ الرَّجل ما استطاع أن يقول شيئًا، كان يظن أنه سيفتح سيرة -كما يقولون-، فذكر ذاك بما فيه، قال: أقوى مني فِيْ علم الحديث، وأنا –زاد- لستُ ضعيفًا فِيْ علم الحديث فقط بل فِيْ بقية العلوم وما أحوجني إلى الزيادة.
                والعالم هُوَ الَّذِي يرى أنه بحاجة إلى زيادة علم. يقول العلماء: «العالم حقًّا: كلّما زاد علمًا كلّما أدرك جهله- كلما زاد فِيْ العلم كلّما أدرك أنه يجهل أكثر- والمسكين كلّما علم شيئًا انتفخ» كأنه شيخ الإسلام، إن تعلّم حرفًا أو كلمتين أو نَحْوَ ذٰلك رأى نفسه لا يدانيه أحد، هٰذا لا يَكون عالمًا أبدًا؛ وإنما يَكون مغرورًا، ويقع فِيْ السوء الكثير.
                قال –رحمه الله-: «وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال وغير ذٰلك، وتعفو عمن ظلمك فِيْ دم أو مال أو عرض».
                وأعظم من العفو: أن تؤمِّنه؛ أن تشعره بالأمان، مع عفوك عنه تُشعره بالأمان؛ وهٰذا كظم الغيظ، وأعظم من هٰذا: أن تُحسِن له، تعفو عنه وتؤمّنه وتحسن إليه.
                ذُكِرَ أنّ بعض السلف اغتابه رجل، فبلغه ذٰلك، فأرسل إليه غلامه بطبق فاكهة نادرٍ فِيْ ذٰلك الوقت، وكتب له رسالة: (يا أُخيّ! قد بلغني أنك قلت فيّ كذا وكذا، ويعلم الله أنه ليس فيّ عفا الله عنك وغفر لك زلتك، واعلم أن مكانك فِيْ قلبك اليوم أعظم من مكانك بالأمس)! من يستطيعها؟ سلفنا الصالح ضربوا أروع الأمثلة فِيْ حُسن الخُلق.
                الإمام أحمد –كما مرّ معنا- فِيْ فتنة القول بخلق القرآن؛ لمّا ثَبَتَ وكاد أن يَكون وحيدًا على القول بأنّ القرآن كلام الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- ليس بمخلوق، آذاه الخلفاء، وضربوه، وجلدوه، كان يُجلَد حتى يَتقرّح جلده، ثم يُحشى جلده بالملح، ويُسحَب سحبًا من أجل أن تنفك مفاصله، ويأتيه الخليفة فِيْ الليل ويضع الكرسي ويجلس، والإمام أحمد يئن من ألمه، يقول: يا أحمد قل لي كلمة واحدة أفكّ قيدك بنفسي، فيقول: «لا؛ حتى تأتيني بآية من كتاب الله»، فإذا أصبح جاؤوا بالجلادين وقال: شُدَّ عَلَيه قطع الله يدك. حتى فرّج الله عن الإمام أحمد، فلمّا مات الخليفة أحلّه الإمام أحمد، فقالوا له فِيْ ذٰلك؛ يعني هٰذا ابتلاك فِيْ الدين وضربك وفعل بك ما فعل! يا إخوة الإمام أحمد بقي يتألم من مفاصل يديه إلى أن مات؛ بسبب ما فُعِل به، ولمّا مات الخليفة أحلَّه، فقيل له فِيْ ذٰلك، فقال كلمة عجيبة؛ قال: «ومَا ينفعك أن يعذِّب الله أخاك المسلم بسببك؟»، انظروا القلوب، هؤلاء قوم زكت قلوبهم، يقول فِيْ هٰذا الَّذِي عذَّبه وضربه وفعل به ما فعل؛ يقول: « ومَا ينفعك أن يعذِّب الله أخاك المسلم بسببك؟»!
                شيخ الإسلام ابن تيمية الَّذِي نقرأ الآن فِيْ كتابه ابتلي فِيْ دين الله، لأنه كان يُظهِر السنة ويقول بما دلّ عَلَيه الدليل، اجتمع عَلَيه بعض العلماء، وقضى عَلَيه أحد القضاة المالكية بالسَّجن فِيْ القلعة، فسُجن فِيْ القلعة، فشاء الله أن يتغيَّر أمرُ الحاكم فأخرج شيخ الإسلام ابن تيمية واستشاره فِيْ القاضي الَّذِي حَكَمَ عَلَيه أن يَحبسَه؟ قال: «فأشرتُ بعدم حبسه ونَصحتُ بتثبيته فِيْ مقامه»، لأنه هُوَ من حيث العلم بالقضاء والمذهب الَّذِي يَحكم به هُوَ عالم ولكن الله المستعان! نسأل الله أن يثبّت القلوب، فشيخ الإسلام يُخرَج من سجنه ويُستشار فِيْ القاضي الَّذِي قضى عَلَيه بالسجن وهو يعلم أنه حكم عليه ظلمًا، فيستشيره فِيْ أن يُسجَن؟ فيُشير بعدم سجنه؛ بل ويقول: «وشفعتُ فِيْ أن يُثبَّتَ مقامه». وهٰذه أخلاق سلفنا الَّتِي ينبغي أن نتعلّم منها.
                اليوم الواحد من طلاب العلم يخطئ عَلَيه أخوه خطأ؛ فيقيم عَلَيه الدنيا! فينبغي يا إخوة أن ننظر فِيْ منزلتنا من حُسن الخُلق، أين نحن من حُسن الخُلق؟ ليس حُسن الخُلق كلمة تقال وإنما حُسن الخُلق أفعال يتبيَّن بِهَا الفضلاء سواء من الرجال أو النساء، وكما قدّمتُ فِيْ أوّل كلامي أنّ حُسن الخُلق يُختبَر به الناس، فاختبِر نفسك بحُسن الخُلق، ما هي مواقفك فِيْ حُسن الخُلق؟ وعالج نفسك.
                يقول بعض الناس: إنه لا يستطيع أن يَكون حَسَنَ الأخلاق لأنّ طبيعته كذا! وهٰذا خطأ، فإنّ حُسن الخُلق قد يَكون جِبِلَّة، كما فِيْ أشجّ عبد القيس؛ فإنّ الحِلم والأناة جبلَّة جَبَلَه الله عليها ومُدِحَ عليها.
                وقَدْ يُكتَسب؛ «إنما الحلم بالتحلُّم»، فالإنسان يستطيع اكتساب هٰذا. ولو لَمْ يكن حُسن الخُلق يُكتَسب لما رُتِّبَ عَلَيه هٰذا الأجر العظيم، فهٰذا دليلٌ على أنه يُكتَسب، ولكنّ الإنسان بحاجة إلى أن يُجاهد نفسه فِيْ هٰذا الباب.
                من الأشياء الَّتِي مرّت بي فِيْ سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-؛ أنه كان له عدّو من أهل العلم -ينتسب إلى أهل العلم- يعاديه ويؤذيه ويتكلّم فيه، ففي يوم كان جالسًا مع أصحابه، فجاءه أحد طلابه فقال: مات فلان! يظن أنه يُبشِّره وأنه يفرح بهٰذا، فقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اغفر له»، ثم قام من فوره وذهب إلى أهله وعزّاهم فيه وقال لهم: «أنا لكم مكانه»؛ يعني أقوم بحاجتكم وأعينكم. وهذه أخلاق العلماء وأخلاق الفضلاء، فما أجمل أن يكون الإنسان حَسَنَ الخُلق مع الناس!
                وأما الخلق العظيم الَّذِي وصف الله به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو الدين الجامع لجميع ما أمر الله به مطلقًا، هكذا قال مجاهد وغيره، وهو تأويل القرآن؛ كما قالت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها-: «كان خُلقه القرآن»، وحقيقته: المبادرة إلى امتثال ما يحبه الله تعالى بطيب نفسٍ وانشراح صدر
                وأما الخلق العظيم الَّذِي وصف الله به محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ قوله –سبحانه-: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ﴾ قال الخُلق العظيم: الدِّين الجامع لجميع ما أمر الله به مطلقًا.
                الخلق العظيم: أن توحّد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- وتقوم بحقّه؛ بأن تعبده سبحانه بفعل الأَوامِر واجتناب النواهي.
                قال الطبري: «معنى ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ﴾ أي على أدب عظيم؛ وذلك أدب القرآن الَّذِي أدّبه الله به؛ وهو الإسلام وشرائعه». ونُقل عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أنّ الخلق العظيم: الدِّين العظيم. ولذلك قال ابن القيّم –رحمه الله-: «الدِّين كلُّه خُلُقٌ»، وهٰذا معنى الخلق بالمعنى العام، الخلق بالمعنى العام: هُوَ كل ما جاء فِيْ كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                قال: «وهو تأويل القرآن» كما قالت عائشة –رَضِيَ اللهُ عَنْها» يعني هُوَ العمل بالقرآن؛ لأنّ تأويل القرآن يُطلَق ويراد به العمل بالقرآن، كما قالت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها فِيْ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كان يتأوّل القرآن»؛ أي يعمل بما أُمِرَ به من تسبيح ربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                وقَدْ سأل سعد ابن هشام أُمّنا عائشة –رَضِيَ اللهُ عَنْها- قال: «يا أمّ المؤمنين! أنبئيني عن خُلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت: أَلستَ تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: فإنّ خُلق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان القرآن» رواه مسلم فِيْ الصحيح. فخلق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ القرآن، وهٰذا معنى الخلق بمعناه العام الَّذِي يشمل كل ما جاء فِيْ الكتاب والسنة.
                وبهذا نكون قد انتهينا من شرح كونِ حديث معاذ –ر ضي الله عنه- وصية جامعة-.
                ثم سيبدأ شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- فِيْ بيان كونِ حديث معاذ تفسيرًا لوصية الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-. وهٰذا نقرِّره غدًا -إن شاء الله- فِيْ الدرس.
                أسأل الله عَزَّ وَجَلَّ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرقِّق قلوبنا لطاعته وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه. اللهم يا ربي إنّ عبادك هؤلاء قد اجتمعوا فِيْ مسجد رسولك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرجون رحمتك ويخافون عذابك اللهم فأعطهم ما أمّلوا وأمّنهم مما يخافون وحسِّن أخلاقهم يا رب العالمين، اللهم زدهم خلقًا إلى خلق، اللهم زدهم خيرًا إلى خير، اللهم بارك لهم فِيْ علمهم، وبارك لهم فِيْ أعمارهم، وبارك لهم فِيْ ذرياتهم، وبارك لهم في بيوتهم، وبارك لهم فِيْ كل نعمة أنعمتَ بِهَا عليهم يا ربّ العالمين، اللهم يا ربنا زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا يا رب العالمين، اللهم ارزقنا الخشوع يا رب العالمين، اللهم ارزقنا الخشوع يا رب العالمين، اللهم ارزقنا الخشوع يا رب العالمين، اللهم اجعل قلوبنا هيّنة ليّنة، اللهم اجعل قلوبنا هيّنة ليّنة، اللهم اجعل قلوبنا هيّنة ليّنة، تلين لذكرك وتسمع إذا ذكِّرتْ يا رب العالمين.
                (4)
                بسم الله الرحمٰن الرحيم
                إنّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله.
                ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾[ آل عمران:102].
                ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾[ النساء:1].
                ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾[ الأحزاب:71،70]. أما بعد:
                فإنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فِيْ النار.
                ثم إنّا نحمد الله -عَزَّ وَجَلَّ- ونشكره على نعمه الَّتِي لا تعد ولا تحصى، فنِعم ربنا علينا لا يُحصيها عدّ ولا يَحوطها حدّ؛ ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾[النحل: 18].
                وإنّ من نعم الله عَزَّ وَجَلَّ علينا أن يسّر لنا هٰذا اللقاء فِيْ مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ نجتمع على الخير، ونسمتع الخير، ونتعلّم الخير، ونعلِّم الخير، وهٰذه من أعظم نعم الله على عبده المؤمن.
                إذا رأيت ربك يا عبد الله قد حبَّب إليك العلم وحبّب إليك الجلوس فِيْ حلق العلم؛ فاعلم أنّ هٰذا من علامات إرادة الله الخير بك، فإنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من يُرِدِ الله به خيرًا يُفقِّهه فِيْ الدِّين»، والفقه فِيْ الدين إنما يَكون بطلب العلم وبالحرص على حضور الحِلَق، فكيف إذا كانت حَلْقة العلم فِيْ مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي من أتاه ليُعلِّم خيرًا أو يتعلَّمه؛ جعل الله له أجر المجاهد فِيْ سبيل الله.
                فنحمد الله أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا على نعمه الكثيرة، ونحمده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- على ان يسَّر أن نجتمع فِيْ هٰذا المكان على مثل هٰذا الخير.
                ونسأل الله عَزَّ وَجَلَّ أن يرزقنا جميعًا ما نؤمِّل، وفوق ما نؤمِّل، وأن يزيدنا أضعافًا مضاعفة نُسَرُّ بِهَا عند لقائه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                أيها الإخوة؛ درسنا فِيْ الاستماع لدرس عظيم، فِيْ الاستماع لوصية من عالِم، ومَا أحوج الأمّة لأن تستمع لعلمائها، وأعني بالعلماء: العلماء الربانيِّين، الناصحين، الَّذِينَ ينظرون إلى الناس بعين الرحمة والشفقة والمحبة ويريدون للناس أن يكونوا مستقيمين على شرع الله عَزَّ وَجَلَّ؛ فيبيِّنون للناس ما شرع الله لهم، ولا يتركون ما شرع الله من أجل إرضاء الناس، ما أحوج الأمة اليوم إلى الاستماع لكلام العلماء ولزوم وصاياهم.
                هٰذه الوصية من شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- ، وهو العالم الربانيّ الَّذِي قضى عمره يعلِّم الناس قال الله قال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، العالِم الَّذِي عُرف بأنه شفيق بالناس ولو كانوا أعداءه، حتى قال بعض تلاميذه: ليتنا لأصدقائنا كشيخنا لأعدائه. هٰذا الإمام العلم الَّذِي من درس سيرته بإنصاف وتجرّد عَلِمَ كم كان على خير وكم كان يحب الخير للمسلمين. هٰذه الوصية الَّتِي سُمِّيت بالوصية الصغرى والتي كانت جوابًا لسؤالٍ مباركٍ من أبي القاسم السَّبتي المغربي لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-، حيث سأله عن أربعة أمور:
                1. أن يوصيه بما يُصلِح دينه ودنياه.
                2.وعن أفضل الأَعْمَال بعد الفرائض.
                3. وعن أنفع الكتب فِيْ العلوم؛ لا سيّما فِيْ علم الحديث.
                4. وعن أرجح المكاسِب.
                فبسط شيخ الإسلام –رحمه الله- الجواب فِيْ هٰذه الوصية، وبدأ بالأمر الأول وهو الوصية بما يصلح الدين والدنيا.
                وخلاصة ما ذكره: أنّ المؤمن الموفّق الَّذِي يريد أن يَكون على خير وصلاح وسعادة ينبغي عَلَيه أن يلزم وصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجامعة الَّتِي أوصى بِهَا معاذًا –رضي الله عنه- عندما قال: «يا معاذ! اتق الله حيثما كنت، وأتبع الحسنة السيئة تمحها، وخالق الناس بخُلق حَسَن».
                وقَدْ بيَّن شيخ الإسلام رحمه الله- علوّ هٰذه الوصية العظيمة بأمور:
                الأمر الأول: نها من آخر وصايا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه ورد أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصّى بِهَا معاذًا لمّا بعثه إلى اليمن، وكان بَعْثُ معاذٍ إلى اليمن قبل وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيسير.
                الأمر الثاني: أنّ هٰذه الوصية لا يستغني عنها أحدٌ من عباد الله مهما علتْ منزلته، ولو كان هناك من يستغني عن هٰذه الوصية لعلوِّ منزلته أو لصلاح حاله؛ لاستغنى عنها معاذٌ –رضي الله عنه-، لكنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصّى بِهَا معاذًا.
                والأمر الثالث: أنّ هٰذه الوصية جامعةٌ لخصال الخير.

                يتبع..
                كتبه أخوكم شـرف الدين بن امحمد بن بـوزيان تيـغزة

                يقول الشيخ عبد السلام بن برجس رحمه الله في رسالته - عوائق الطلب -(فـيا من آنس من نفسه علامة النبوغ والذكاء لا تبغ عن العلم بدلا ، ولا تشتغل بسواه أبدا ، فإن أبيت فأجبر الله عزاءك في نفسك،وأعظم أجر المسلمين فـيك،مــا أشد خسارتك،وأعظم مصيبتك)

                تعليق


                • #9
                  رد: شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شرح فضيلة الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله

                  يدلك على ذٰلك أنّ الصحابة –رضوان الله عليهم- كانوا يصلُّون على من يُقدَّم لهم، مع أنه قد يَكون من المنافقين، ولكنهم كانوا يُعمِلون الظاهر، فمَن قُدِّم للمسلمين من المسلمين ليُصلى عَلَيه فإنه يُصلى عَلَيه.
                  ثم إنّ اتباع الجنازة بعد الصلاة حتى توضَع فِيْ القبر فيه قيراط آخر مثل جبل أحد. فإذا استطاع المسلم أن يُحصّل هٰذه القراريط فإنه يتأكّد هٰذا فِيْ حقه وينبغي ألا يفرّط فيه. فلو أنّ المسلم تبع جنازة فإنه إذا وصل البقيع يسلّم على أهل القبور.
                  كذلك يُشرع للمسلم عند زيارة المدينة أن يزور قبور شهداء أحد وأن يسلّم عليهم ويدعوا لهم.
                  كذلك؛ يُشرع له أن يزور مسجد قباء وأن يصلي فيه، هُوَ ليس له صلاة خاصة، فمن صلى فيه صلاة فقد وقع المقصود، فمن تطهر فِيْ بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة.
                  وهٰذا الفعل يُسنّ تكراره، والأفضل لو كُرِّر فِيْ كل أسبوع مرة؛ لأنه ظاهر السنة، ولا حدّ له على الصحيح من أقوال أهل العلم، لكنّ الإكثار من الصلاة فِيْ المسجد النبوي أحسن من تكرار زيارة مسجد قباء، فهٰذا ينبغي التنبّه إليه.
                  ما عدا هٰذا لَمْ يُشرع للمؤمن إذا زار المدينة أن يزور شيئًا آخر، فينبغي على العبد المسلم أن يحرص على وقته فِيْ هٰذه المدينة المباركة.
                  هٰذا أمر أحببت التنبيه عَلَيه فِيْ بداية الدرس، وإن كنا قد قرّرناه بتفصيل فيما مضى، من أجل أنّ بعض إخواننا قد يَكون زائرًا جديدًا، فأحببنا أن ننبّه على ما يُشرَع فعله عند زيارة مدينة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                  درسنا -كما تعلمون- فِيْ شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام –رحمه الله-. وكنا نقرأ فِيْ الأمر الأول من الأمور الأربعة الَّتِي سأل عنها الشيخُ أبو القاسم السبتي المغربي شيخَ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-؛ وهو أن يوصيَه بما يُصلح دينه ودنياه، فأوصاه بحديث معاذ رضي الله عنه الَّذِي هُوَ وصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                  وهٰذه الوصية وإن وُجِّهت لمعاذ إلا أنها موجهة لي ولك يا عبد الله، حيث قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا معاذ! اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن».
                  وقَدْ قرأنا ما يتعلق بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اتق الله حيثما»، وقلنا إنّ مضمون هٰذه الجملة: يا عبد الله يا مؤمنًا اتق الله فِيْ جميع أحوالك؛ فافعل المأمورات واجتنب المنهيات.
                  ثم تكلّمنا عن قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها»، وقلنا إنّ خلاصة هٰذا: يا عبد الله إذا أذنبتَ والذنب لابدّ أن يقع منك فاغسل ذنبك؛ بأن تتبع السيئة بحسنة، وهٰذه الحسنة تمحو تلك السيئة. وقَدْ فصّلنا القول فِيْ هٰذا، وفرغنا منه، ووقفنا عند القسم الثالث من هٰذه الوصية العظيمة. فيقرأ لنا الشيخ ياسين موفّقا مباركًا مهديًا.
                  فلمّا قضى بهاتين الكلمتين حق الله من عمل الصالح وإصلاح الفاسد؛ قال: وخالق الناس بخلق حسن، وهو حق الناس
                  يقول الشيخ –رحمه الله-: « فلمّا قضى بهاتين الكلمتين حق الله من عمل الصالح» فِيْ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتق الله حيثما كنت»، «وإصلاح الفاسد» فِيْ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها»؛ قال: «وخالق الناس بخلق حسن، وهو حق الناس».
                  وقَدْ تقدّم معنا أيها الأحبة؛ أنّ الإنسان فِيْ الدنيا عَلَيه حقّان: حق الله وحق الخلق.
                  وقَدْ قال بعض العلماء كلمة عظيمة نافعة فقال: «جِماع الدين: الصدق مع الحق، وحسن الخُلق مع الخَلق»، الأمر الَّذِي يجمع الدين كلَّه: أن تَكون صادق القلب مع الله، موحِّدًا، عابدًا، مخبتًا لربك -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-. حسَنَ الخُلق مع خَلْق الله. فإذا جمعتَ بين هذين الأمرين فقد جمعتَ الدِّين، وهٰذا معنى قول العلماء: «جماع الدين: الصدق مع الحق، وحسن الخُلق مع الخَلْق».
                  قال الشيخ –رحمه الله-: «وهو حق الله» أي أنّ حسن الخلق حق الناس.
                  والعلماء يقولون: إنّ حسن الخلق يُختبَر به الناس وتتبيّن به معادنهم، فكم من شخص يجتهد فِيْ العبادة لكنه يعجز عن حسن الخلق، وهٰذا معنى قول أهل العلم إنّ حسن الخُلق يُختبَر به الناس وتنكشف به حقائقهم وتتبيّن معادنهم.
                  وحسن الخُلق صفة الأخيار الأبرار، فإنّ نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يكن فاحشًا ولا متفحِّشًا، وكان يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنّ خياركم أحاسنكم أخلاقًا» متفق عَلَيه، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشهد هٰذه الشهادة بالخيرية للمسلم «إنّ خياركم أحاسنكم أخلاقًا»، فمن أراد أن يَكون له نصيب من شهادة رسول الله صلى الله عَلَيه وسلم بالخيرية فليحسِّن خُلقه، وليجتهد فِيْ تحسين أخلاقه مع الناس.
                  وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جملةً عجيبةً مشوقةً لمن أحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صادقًا، ومَا من مؤمن إلا وهو يحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنّ من أحبكم إليّ أحسنكم أخلاقًا» رواه البخاري فِيْ الصحيح. فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب المؤمنين ومَن حسُن خُلقه كان أحبَّ إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                  ولذلك قال بعض أهل العلم : «مَن زاد عليكَ فِيْ الخُلق زاد عليك فِيْ الدِّين»، يعني من زاد عليك فِيْ الخُلق وهو على دين؛ زاد عليك فِيْ الدين؛ لأنّ الخُلق من البر الَّذِي يحبه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك كلّما حسَّنتَ خُلقك كلما كنت أحبَّ إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                  وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «البر حُسن الخُلق». والمعلوم أيها الإخوة أنّ هذه الصيغة تقتضي الحصر: «البر حُسن الخُلق» فكأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حصر البر فِيْ حُسن الخُلق، قال العلماء: لأنّ البر يَكون بمعنى الصلة، ويكون بمعنى اللُّطف، ويكون بمعنى حُسن الصحبة، ويكون بمعنى الطاعة، وهٰذه مجامع حُسن الخُلق.
                  البر يَكون بمعنى الصلة، ويكون بمعنى اللُّطف، ويكون بمعنى حُسن الصحبة، ويكون بمعنى الطاعة؛ وهٰذه كما يقول العلماء: مجامع حسن الخلق. وسيأتي –إن شاء الله- الكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- فِيْ هٰذا.
                  وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنّ المؤمن ليدرِك بحُسن الخُلق درجة الصائم القائم» رواه الإمام أحمد، والترمذي بمعناه، وصححه الألباني.
                  «إنّ المؤمن» وهٰذا يدلّ على أنّ حُسن الخُلق إنما ينفع المؤمن، يَكون مع إيمان، «ليدرك بحُسن الخُلق درجة الصائم القائم» والمقصود بالصائم: مُديم الصيام. والمقصود بالقائم: مُديم القيام. وهٰذا يدل على فضيلة حُسن الخُلق.
                  وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من شَيْء أثقل فِيْ الميزان من حسن الخلق» رواه أبو داود، والترمذي، وصححه الألباني.
                  هنا أَلفِتُ لفتةً علميَّة، نجد كثيرًا فِيْ الحديث مثل هٰذا، فقد يقول قائل: أليست الصلاة المفروضة ثقيلةً فِيْ الميزان؟ أليست أركان الإسلام ثقيلةً فِيْ الميزان؟ أليس التَّوحِيد ثقيلًا فِيْ الميزان؟ والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من شَيْء أثقل فِيْ الميزان من حُسن الخُلق»؟!
                  نقول: بلى إنّ الصلاة ثقيلة وإنّ التَّوحِيد ثقيل، وهٰذه النصوص إذا ردتْ لا تمنع المشاركة، فهٰذا ثناء على المذكور لا يَمنع مشاركة غير المذكور. وهو مثل التفضيل بين الأنبياء؛ لا يقتضي نقصًا. ولهٰذا نصّ أهل العلم على أنّ التفضيل بين الأنبياء على وجه التنقّص لا يجوز.
                  فعندما يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من شَيْء أثقل فِيْ الميزان من حُسن الخُلق» لا يعني أنّ غيره لا يَكون ثقيلًا مثله؛ بل يشاركه، لكن ذُكِرَ هٰذا فِيْ باب الحثّ على حُسن الخُلق، ولا يَمنع شِرْكَة غيره فيه.
                  وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنا زعيم ببيت فِيْ رَبَض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وببيت فِيْ وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت فِيْ أعلى الجنة لمن حَسُنَ خُلقه» رواه أبو داود، وصححه النووي، وحسنه الألباني.
                  «أنا زعيم» أي ضامن، «ببيت فِيْ ربض الجنة» أي فِيْ طرف الجنة. «لمن ترك المراء وإن كان محقًّا»، والمراء: أن يَصِلَ الحوار بين الطرفين إلى حب كل واحد لنصرة رأيه لا لإظهار الحق. فإذا وصل الأمر إلى أنّ المتحاورَين كل واحد منهما أصبح يريد أن ينصر رأيه لا أن يُظهر الحق؛ فهٰذا المراء، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضمِنَ لمن تركه بيتًا فِيْ طرف الجنة، لأنه إذا اشتد النقاش وظهرت رغبة النفس فِيْ النصرة يصعب أن تفطمها، يصعب أن تَفطِم نفسك إذ ذاك، ولذلك جاء هٰذا الفضل؛ حتى إذا تذكرتَه توقّفت.
                  «وببيت فِيْ وسط الجنة» فِيْ وسط درجاتها «لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا»، كثير من الناس اليوم قد يَمتنع من الكذب لكنه يتساهل فِيْ الكذب من أجل المزاح من أجل أن يُضحك الناس، فيكذب ليُضحك الناس، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «أنا زعيم ببيت فِيْ ربض الجنة لمن ترك الكذب ولو كان مازحًا».
                  «وزعيم ببيت فِيْ أعلى الجنة لمن حُسن خُلقه» فحُسن الخُلق مع الإيمان يقرّبك يا عبد الله من درجة الأنبياء والأولياء الَّتِي هي أعلى الجنة، وهٰذا دليل على شرف حُسن الخُلق.
                  وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثًا عجيبًا فيه حثٌّ على الخير وتسليةٌ للنفوس؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أربعٌ إذا كنّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحُسن الخُلق، وعِفَّةُ مَطعَم» رواه الحاكم، والطبراني، وصححه الألباني.
                  «أربعٌ إذا كنّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا» أنت فقير؟ فاتتك الدنيا؟ ليس عندك ما عند الناس من رفاهية؟ إذا كان عندك هٰذه الأربع فلا يضرّك ما فاتك من الدنيا، فأنت الغني حقًّا.
                  ما هٰذه الأربع العظيمة الَّتِي تساوي الدنيا؟ «صدق الحديث» أن يحرص الإنسان على أن يَكون صادقًا دائمًا. «حفظ الأمانة»؛ بأنواعها، أمانة الدين الَّتِي هي أمانة عند الإنسان، وأمانة ودائع الإنسان، وغير ذٰلك. «وحُسن الخُلق، وعفّةُ المَطعَم»؛ أن تحرص أن يَكون مَطعمَك حلالًا.
                  إذا تحقّقت فيك هٰذه الأربع فو الله أنت الغني، فإنّ هٰذه الأربع تساوي الدنيا بشهادة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أربع إذا كنّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا. ومَا أعظم هٰذا الحديث!
                  أيضًا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمّا سُئل عن خير ما أُعطِيَ الرجل؟ قال: «خُلقٌ حَسن» رواه الحاكم، وابن حبان، وابن ماجة، وصححه ابن عبد البر، وابن مفلح، والألباني، والوادعي فيما أحسب.
                  وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناصحًا بأمرين يقلّ الالتزام بهما فِيْ كثير من الناس؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عليكَ بحُسن الخُلق وطول الصمت» يعني الزم حُسن الخُلق وطول الصمت،.
                  قال بعض أهل العلم: «من أحسن أخلاق الرجال أن يَكون الرجل صموتًا حتى يشتاق صاحبه إلى كلامه»، يعني بعض الناس إذا جلس معك تتمنى متى يسكت، وبعض الرجال إذا جلس معك تتمنى متى يتكلم، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «عليك بحسن الخلق وطول الصمت، فو الذي نفسي بيده ما عَمِلَ الخلائق بمثلهما» رواه أبو يعلى، والطبراني، والبزّار، وحسّنه الألباني.
                  والمقصود بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما» أنّ العمل بهما صعب؛ لأنّ الإنسان يحب الكلام؛ فيصعب عَلَيه أن يطيل الصمت، ولأنّ حُسن الخُلق يحتاج إلى مصابرة ومجاهدة، وقلَّ من يصبر عَلَيه.
                  وحُسن الخُلق يجمع فعل الفضائل واجتناب الرذائل.
                  والخلق المحمود يا إخوة هُوَ ما يحرص فيه الإنسان أن يَكون عَلَيه فِيْ مختلف أحواله. وأكثر ما يتبيّن حُسن الخُلق إذا ذهبتِ المصانَعة، الإنسانُ قد يصانع الغرباءَ فيُحسِّن خُلقه، لكن إذا ذهبت المصانعة يَنكشف الأمر، يظهر ذٰلك فِيْ السفر؛ فإنّ السفر تقلّ فِيْه المصانَعة وتَغلب فيه المشقة، فينكشف من بكى ممن تباكى. يظهر ذٰلك مع الأهل فِيْ البيت فينكشف من ظهر حسن خلقه حقيقة ممن لَمْ يكن ذٰلك له بصفة.
                  كما قلتُ ذٰلك سابقًا ومرارًا؛ إنّ بعضنا قد يُحسِّن خُلقه إذا كان فِيْ خارج البيت، بل حتى لو أخطأ عَلَيه أحد تجده يبتسم، جزاك الله خيرًا، عفا الله عني وعنك، فإذا دخل البيت غيّر هٰذا تمامًا، وأصبح سبّابًا، لعّنًا، شتّامًا، ضرّابًا، يغضب عند أدنى سبب، ويضرب عند أدنى سبب، لا يقف عند حدّ، وهٰذا فِيْ الحقيقة ينبغي أن يراجع نفسه، فإنّ حُسن الخُلق هُوَ الَّذِي يتّصف يه الإنسان على كل أحواله.
                  وجماع الخلق الحسن مع الناس: أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام، والدعاء له والاستغفار والثناء عَلَيه والزيارة له، وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال وتعفو عمن ظلمك فِيْ دم أو مال أو عرض، وبعض هٰذا واجب وبعضه مستحب
                  جاء فِيْ حديث مرويٍّ أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ألا أدلكم على خير أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟ أن تَصِلَ من قطعك، وتُعطيَ من حرمك، وتَعفوَ عمن ظلمك» رواه الإمام أحمد، والحاكم، وعبد الرزاق، لكن فِيْ إسناده ضعف. وذكرتُ هٰذا الحديث لأنه يظهر لي –والله أعلم- أنه مستنَد قول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- لأنه ذكر ما فيه.
                  وقول الشيخ –رحمه الله-: «وجماع الخُلق الحَسن ان تصل من قطعك»، صلة الناس يا إخوة من أعظم الأخلاق وأحسنها، ورأسها وأكرمها: صلة الوالدين، أن يصل الإنسان والديه بما يستطيع من أنواع الصلة، ثم صلة الرحم الأقرب فالأقرب، ثم صلة أهل العلم، وصلة الجيران. وأعظم الصلة أن يصل العبد من قطعه، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس الواصِل بالمكافئ؛ ولكنّ الواصل الَّذِي إذا قطعتْ رحمه وصلها» رواه البخاري، ليس الواصِل بالمكافئ الَّذِي إن وصله الناس وصلهم؛ إن وصله عمُّه وصله، وإن قطعه قطعه؛ هٰذا ليس الواصل على وجه الحقيقة، وإنما الواصل على وجه الحقيقة والخُلق: الَّذِي إذا قُطعَتْ رَحِمُه وَصَلَها، فإذا قُطِعتْ رَحِمُه وَصَل، وإذا أدبر الناس عنه أقبل، ويكون بادئًا حريصًا على الصلة.
                  قال بعض العلماء: الناس فِيْ الصلة ثلاثة: واصِلٌ، ومكافئ، وقاطِع».
                  فالواصل: من يَتفضّل ولا يُتفضَّل عَلَيه؛ يعني هُوَ السبّاق، سواء مع الواصلين من رَحِمِه أو القاطعِين؛ يسبق إليهم ويَصِلُهم، وهٰذا معنى قولهم «من يتفضَّل» يعني بالصلة، «ولا يُتفضَّل عَلَيه» يعني لا يُسبَق بِهَا.
                  والمكافئ: الَّذِي لا يزيد على الإعطاء على ما أَخَذ. زارني ابن عمي مرة فِيْ الشهر؛ أزوره مرة فِيْ الشهر، لَمْ يزرني لا أزوره، هٰذا مكافئ؛ هٰذه بتلك.
                  والقاطِع: الَّذِي يُتفضَّل عَلَيه ولا يَتفضَّل. قد يصله أقاربه لكنه لكبْر أو غير ذٰلك يَهجر أقاربه، ولا يصل رَحِمَه، قد يَكون له مقام علميّ أو دنيويّ فيتكبَّر على أقاربه ويرى أنهم ليسوا أهلًا أن يزورهم ويزورونه، فيقطع أقاربه! وهٰذه –كما يقولون- آفة العصر.
                  اليوم قد يَجتمع طلاب علم فِيْ عمارة واحدة لا يزور الواحد منهم الآخر، طلاب علم لا أقول عامّة، طلاب علم يَجتمعون فِيْ عمارة واحدة وقَدْ يكونون فِيْ غربة، كل واحد يحتاج الآخر، قد يَكون هٰذا جاء بأهله ليس لهم أقارب فِيْ المدينة، وهٰذا جاء بأهله ليس لهم أقارب فِيْ المدينة، لا يزور الواحد منهم الآخر!
                  الآن يسكن الناس فِيْ عمارة واحدة؛ يسكنون سنة وسنتين وثلاث وأربع؛ لا يَعرف الواحد منهم اسم جاره، لا أقول لا يزوره بل لا يَعرف اسمه! تأتي إلى عمارة تقول: فلان هنا؟ يقول: ما أدري والله، وهو فِيْ نفس العمارة! أين الأخلاق؟ أين حُسن الخُلق؟ أين الصلة الَّتِي هي من أعظم أنواع حُسن الخُلق؟
                  والأصل فِيْ الإنسان الوصل؛ إلا أنه قد تتقدّم أسباب للقطع، فهذه الأسباب يجب أن ننظر فيها؛ لأنّ بعض الناس يَتحجّج يقول: أنا ما قطعتُ من تلقاء نفسي بل هناك أسباب، طيب ما هي هٰذه الأسباب؟ إن كانت الأسباب دنيوية فلا تخلو من حالَين:
                  الحالة الأولى: أن تَكون صادرة ممن تقطع، سبب دنيوي صدر ممن تقطع؛ سبّكَ، شتمك، آذاك، وهنا نقول: جعل الله لك فرصةً ثلاثة أيام، والمحسِن من تركها، «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيُعرِض هٰذا ويُعرِض هٰذا، وخيرهما الَّذِي يبدأ بالسلام»، جعل الله لك ثلاثة أيام من أجل أن يَندفع ما فِيْ نفسك، ولا خير فيمن لَمْ يندفع ما فِيْ نفسه بعد ثلاثة أيام، لأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل الخيرية فيمن يبدأ بالسلام.
                  وإن كان السبب صادرًا من غير من تقطع؛ كأن تكون أنت على منصب أو غير ذٰلك؛ فليس لك الحق فِيْ أن تقطع من يوصَل قطعًا مقصودًا.
                  والحالة الثانية: أن يَكون السبب دينيًّا. يعني يقوم فِيْ الإنسان سبب ديني شرعي يقتضي منك أن تقطعه.
                  وهنا تأتي مسألة الهجر، ومسألة الهجر مسألة شرعية شريفة؛ ينبغي أن توضَع فِيْ موطنها، والأصل فِيْ المسلم أن يُبادِرَ إلى الإصلاح والنصح قبل أن يَهجُر، يبادر إلى الإصلاح والنصح.
                  فإنّا نجد اليوم بعض طلاب العلم يهجر أخًا له وهٰذا الأخ لا يدري لِمَ هجره! لا يعرف، ربما لو عرف وتبيّن له الحق لترَك، وهٰذا من حيث الأصل غلط، المسلم يبدأ بالبيان يبدأ بالنصح بالإصلاح، فإن لَمْ ينفع هٰذا فإنه تأتي مشروعية الهجر.
                  ولا حدّ للهجر بسبب الأمر الديني، لا ثلاثة أيام ولا غيرها، بل مادام السبب الشرعيُّ قائمًا، ولهٰذا أصولٌ عند أهل العلم لا أحبّ أن نطيل فيها.
                  وكلامنا يا إخوة عن ذمّ القطع إنما هُوَ فِيْ ذمّ القطع المقصود، يعني أن تقطع قاصدًا القطع، أمّا إن حصل القطع من غير قصد، لَمْ تقصد هٰذا لكنك لَمْ تلتقي بالمسلم شهرًا، أنت لا تقصد أن تهجره وتقطعه لكن لَمْ تلتقِ به؛ هٰذا ليس بمذموم، وإنما المذموم هُوَ القطع المقصود على ما فصّلناه.
                  ومن حُسن الخُلق: بسط الوجه وبذل المعروف وكفّ الأذى.
                  أن تبسط وجهك للمؤمنين وتتصدّق بالبسمة؛ «فتبسُّمك فِيْ وجه أخيك صدقة»، وأن تكفّ الأذى عن المؤمنين، وأن تبذل لهم الخير.
                  ولمّا سُئل الإمام أحمد عن حسن الخلق؟ قال: «لا تغضب ولا تحقد»، جمرتان فِيْ القلب تحرقان الخير الَّذِي فِيْ الإنسان، تعميانه: الحقد والغضب. من غَضِبَ أعماه الغضب عن الخير، ومن حَقَدَ على مسلمٍ فإنّ هٰذا يقوده إلى التسبُّب له فِيْ الشر، ولذلك لمّا سئل الإمام أحمد –رحمه الله- عن حسن الخلق قال هاتين الجملتين: «لا تغضب ولا تحقد».
                  وهٰذا مع سهولة نطقه يصعب فعله، ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « ليس الشديد بالصُرعة وإنما الشديد الَّذِي يُمسِك نفسه عند الغضب»، هٰذا الَّذِي يظهر فيه أنه شديد قوي؛ لأنه يُمسِك نفسه عند الغضب، والإنسان إذا غضب أوّل ما يسيئ يسيء لنفسه، فإنه قد يقول ما يستحي منه غدًا، إذا لَمْ يُمسِك نفسه عند الغضب قد يَبدر منه أقوالٌ وأفعالٌ لو عُرِضَت عَلَيه بعد ساعة لذاب خجلًا، ثم يسيء إلى غيره.
                  وقَدْ قال بعض العلماء: «جِماع حُسن الخُلق: أن يَكون الإنسانُ كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفُضول، برًّا وَصولًا، وقُورًا صبورًا، راضيًا شكورًا، حليمًا رفيقًا، عفيفًا شفيقًا، لا لعّنًا ولا سبّابًا، ولا نمامًا ولا مغتابًا، ولا عجولًا ولا حقودًا، ولا بخيلًا ولا حسودًا، باشًّا هاشًّا، يحب فِيْ الله، ويرضى فِيْ الله، ويُبغض فِيْ الله». وهٰذا الكلام يا إخوة مأخوذ من صفات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو تأملته لوجدتَه خلاصة ما نُقِل من صفات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخُلقية.
                  جماع حسن الخلق: أن يَكون الإنسان كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول، برًّا وَصولًا، وقورًا صبورًا، راضيًا شكورًا، حليمًا رفيقًا، عفيفًا شفيقًا، لا لعّنًا ولا سبّابًا، ولا نمامًا ولا مغتابًا، ولا عجولًا ولا حقودًا، ولا بخيلًا ولا حسودًا، باشًّا هاشًّا، يحب فِيْ الله، ويرضى فِيْ الله، ويبغِضُ فِيْ الله».
                  وقال بعض السلف: «حُسن الخُلق فِيْ ثلاث خصال: اجتناب المحارم، وطلب الحلال، والتوسعة على العيال»، ويُنسَب هٰذا إلى الإمام مالك.
                  وقال بعض السلف: «البشاشة لأهلها مَصيدَة المودّة»، الإنسان إذا كان بشوشًا ينجذب إليه الناس ويحبه الناس.
                  وقال بعض السلف: «البرُّ شَيْءٌ هيِّن؛ وجه طليقٌ وكلامٌ ليِّن»، وهذا من جوامع حُسن الخُلق.
                  ومن مجامع حُسن الخُلق ومن الصفات الزكية العلية فِيْ المؤمن: الحرص على نفع المسلمين؛ فإنّ هٰذا من رؤوس حسن الخلق.
                  ورأس النفع: الحرص على نفع المؤمنين بالعلم بالسنة، بنشر التَّوحِيد، فإنّ هٰذا من أعظم النفع.
                  وكذلك الحرص على نفع الناس فِيْ دنياهم. وقَدْ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أحبّ الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأَعْمَال إلى الله عَزَّ وَجَلَّ: سرور تُدخله إلى قلب مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخي المسلم فِيْ حاجة أحبّ إليَّ من أن أعتكف فِيْ المسجد الحرام شهرًا، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظًا ولو شاء أن يُمضيَه أمضاه؛ ملأ الله قلبه رضًا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم فِيْ حاجته حتى يُثبِتها له؛ أثْبَتَ الله -تعالى- له قدمه يوم تزلّ الأقدام، وإنّ سوء الخُلق ليُفسِد العمل كما يُفسِد الخلّ العسل» رواه الطبراني، وحسّنه الألباني.
                  انظر إلى هٰذه المجامع، يقول النبي صلى الله عَلَيه سلم: «أحبّ الناس إلى الله أنفعهم» يعني أنفعهم للناس، «وأحب الأَعْمَال إلى الله عَزَّ وَجَلَّ: سرور تُدخله إلى قلب مسلم» وهٰذا من حُسن الخُلق لا سيما إذا وُجِدَت الحاجة، إذا رأيتَه مهمومًا، أو علمتَ أنّ شيئًا نزل به؛ فذهبت زائرًا له قاصدًا أن تُحدّثه حتى تُدخل السرور إلى قلبه؛ فأنت فِيْ عبادة عظيمة من أحب الأَعْمَال إلى الله؛ ولو كان حديثك فِيْ الدينا، لو ذهبتَ إليه تحدّثه لتُدخِل السرور على قلبه وحدثتَه فِيْ أمور الدنيا، فِيْ بلاد رأيتها، فِيْ أمور وعجائب رأيتَها، وأمور تُدخل السلوة والسرور على قلبه؛ فأنت فِيْ عمل من أحبّ الأَعْمَال إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                  ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا» إذا رأيتَ مسلمًا جائعًا فتقرّبت إلى الله بأن تُشبِعَه فقد عملتَ عملًا من أحب الأَعْمَال إلى الله، فما بالك إذا كان هٰذا الرجل جارًا لك عنده صبيةً جياعًا؟ الواحد منّا قد يعرف أنّ جاره مثلًا يستلم مكافأة من الجامعة ووقع له حادث سيارة فأصلح سيارته، يغلب على ظنه أنه وضع أكثر ماله فِيْ هٰذا الإصلاح، وأنه يبقى فترة ربما على القليل وربما يأكل وجبة فِيْ اليوم، فإذا علِمَ هٰذا وقام وأعدّ طعامًا فِيْ بيته وأدخله على أخيه، انظروا أولًا إلى عِظم أثر هٰذا فِيْ قلب الأخ! ثم هُوَ من أحبِّ الأعمال إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                  وتفقُّد الإخوة والجيران من غير كسرٍ لقلوبهم أمر طيب. والله يا إخوة فوجئتُ أنّ أحد طلابنا ومعه أسرته عنده ثلاجة فِيْ بيته ليس لَهَا باب، لا يستطيع أن يشتري ثلاجة من قلة ذات اليد.
                  لو أنّ كل واحد منا تفقّد إخوانه وجيرانه ومن حوله وحاول أن يطرد عنهم الجوع، أن يشاركهم فِيْ بعض ماله والقليل من ماله؛ والله إنها من أحب الأعمال إلى الله ومن أعظم القربات عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                  قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ولأن أمشيَ مع أخي المسلم فِيْ حاجة أحبّ إليَّ من أن أعتكف فِيْ المسجد الحرام شهرًا» لاحظوا إذا اعتكف فِيْ المسجد الحرام شهرًا ماذا سيعمل؟ سيصلي الصلوات الخمس لمدة شهر فِيْ المسجد الحرام؛ وهي خير من مائة ألف صلاة، ويَتقرّب إلى الله بسائر العبادات بالإضافة إلى عبادة الاعتكاف! النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:: «ولأن أمشيَ مع أخي المسلم فِيْ حاجة أحبّ إليَّ من أن أعتكف فِيْ المسجد الحرام شهرًا».
                  «ومن كفّ غضبه» يعني لَمْ يجعل غضبه متعدّيًا للناس بل كتم؛ «ستر الله عورته».
                  «ومن كظم غيظًا لو شاء أن يُمضيَه لأمضاه؛ ملأ الله قلبه رضًا يوم القيامة» فيكون مؤمَّنًا راضيًا عند لقاء الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                  «ومن مشى مع أخيه المسلم فِيْ حاجته حتى يُثبِتها له؛ أثْبَتَ الله تعالى له قدمه يوم تزلّ الأقدام» على الصراط، يثبّت الله قدمه على الصراط.
                  «وإنّ سوء الخُلق ليُفسِد العمل» سوء الخلق يا إخوة يُفسِد على الإنسان كل شَيْء؛ يُفسِد عَلَيه من حوله، ويُفسِد عَلَيه عمله؛ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «وإنّ سوء الخلق ليُفسِد العمل كما يُفسِد الخلّ العسل». فهٰذا أمر عظيم، ينبغي علينا جميعًا أن نحرص عَلَيه.
                  والشيخ يقول: «أن تَصِلَ من قطعك؛ بأنواع الصلاة؛ بالسلام، والإكرام، والدعاء له» سبحان الله! يقطعني وأدعو له؟ نعم هٰذا حُسن الخُلق، «والاستغفار والثناء عَلَيه» ما أصعبها؟ إنسان يقطعك ويُظهِر قطيعتك ومع ذٰلك إذا جلستَ فِيْ مجلس إن أراد أحدٌ أن يتكلم فيه قلتَ: اتقِ الله هٰذا ليس فيه، ليس إذا بَدَأَ إنسان يتكلم فيه قلتَ: نعم يظهر هٰذا، كأنك تقول: زد، زد، بل يزيد صاحب حُسن الخُلق أن يُثني عَلَيه.
                  رأيتُ من أحد مشايخنا موقفًا عجيبًا، جاءه رجل فقال: إنّ فلانًا يقول: إنك لستَ بقويٍّ فِيْ علم الحديث، شخص من طلاب العلم من أهل العلم يُنقَل عنه هٰذا الكلام، فقال: غفر الله له إنه أقوى مني فِيْ هٰذا الباب وأنا لستُ ضعيفًا فِيْ علم الحديث فقط بل في بقية العلوم فما أحوجني إلى أن أزيد! فدُهِشَ الرَّجل ما استطاع أن يقول شيئًا، كان يظن أنه سيفتح سيرة -كما يقولون-، فذكر ذاك بما فيه، قال: أقوى مني فِيْ علم الحديث، وأنا –زاد- لستُ ضعيفًا فِيْ علم الحديث فقط بل فِيْ بقية العلوم وما أحوجني إلى الزيادة.
                  والعالم هُوَ الَّذِي يرى أنه بحاجة إلى زيادة علم. يقول العلماء: «العالم حقًّا: كلّما زاد علمًا كلّما أدرك جهله- كلما زاد فِيْ العلم كلّما أدرك أنه يجهل أكثر- والمسكين كلّما علم شيئًا انتفخ» كأنه شيخ الإسلام، إن تعلّم حرفًا أو كلمتين أو نَحْوَ ذٰلك رأى نفسه لا يدانيه أحد، هٰذا لا يَكون عالمًا أبدًا؛ وإنما يَكون مغرورًا، ويقع فِيْ السوء الكثير.
                  قال –رحمه الله-: «وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال وغير ذٰلك، وتعفو عمن ظلمك فِيْ دم أو مال أو عرض».
                  وأعظم من العفو: أن تؤمِّنه؛ أن تشعره بالأمان، مع عفوك عنه تُشعره بالأمان؛ وهٰذا كظم الغيظ، وأعظم من هٰذا: أن تُحسِن له، تعفو عنه وتؤمّنه وتحسن إليه.
                  ذُكِرَ أنّ بعض السلف اغتابه رجل، فبلغه ذٰلك، فأرسل إليه غلامه بطبق فاكهة نادرٍ فِيْ ذٰلك الوقت، وكتب له رسالة: (يا أُخيّ! قد بلغني أنك قلت فيّ كذا وكذا، ويعلم الله أنه ليس فيّ عفا الله عنك وغفر لك زلتك، واعلم أن مكانك فِيْ قلبك اليوم أعظم من مكانك بالأمس)! من يستطيعها؟ سلفنا الصالح ضربوا أروع الأمثلة فِيْ حُسن الخُلق.
                  الإمام أحمد –كما مرّ معنا- فِيْ فتنة القول بخلق القرآن؛ لمّا ثَبَتَ وكاد أن يَكون وحيدًا على القول بأنّ القرآن كلام الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- ليس بمخلوق، آذاه الخلفاء، وضربوه، وجلدوه، كان يُجلَد حتى يَتقرّح جلده، ثم يُحشى جلده بالملح، ويُسحَب سحبًا من أجل أن تنفك مفاصله، ويأتيه الخليفة فِيْ الليل ويضع الكرسي ويجلس، والإمام أحمد يئن من ألمه، يقول: يا أحمد قل لي كلمة واحدة أفكّ قيدك بنفسي، فيقول: «لا؛ حتى تأتيني بآية من كتاب الله»، فإذا أصبح جاؤوا بالجلادين وقال: شُدَّ عَلَيه قطع الله يدك. حتى فرّج الله عن الإمام أحمد، فلمّا مات الخليفة أحلّه الإمام أحمد، فقالوا له فِيْ ذٰلك؛ يعني هٰذا ابتلاك فِيْ الدين وضربك وفعل بك ما فعل! يا إخوة الإمام أحمد بقي يتألم من مفاصل يديه إلى أن مات؛ بسبب ما فُعِل به، ولمّا مات الخليفة أحلَّه، فقيل له فِيْ ذٰلك، فقال كلمة عجيبة؛ قال: «ومَا ينفعك أن يعذِّب الله أخاك المسلم بسببك؟»، انظروا القلوب، هؤلاء قوم زكت قلوبهم، يقول فِيْ هٰذا الَّذِي عذَّبه وضربه وفعل به ما فعل؛ يقول: « ومَا ينفعك أن يعذِّب الله أخاك المسلم بسببك؟»!
                  شيخ الإسلام ابن تيمية الَّذِي نقرأ الآن فِيْ كتابه ابتلي فِيْ دين الله، لأنه كان يُظهِر السنة ويقول بما دلّ عَلَيه الدليل، اجتمع عَلَيه بعض العلماء، وقضى عَلَيه أحد القضاة المالكية بالسَّجن فِيْ القلعة، فسُجن فِيْ القلعة، فشاء الله أن يتغيَّر أمرُ الحاكم فأخرج شيخ الإسلام ابن تيمية واستشاره فِيْ القاضي الَّذِي حَكَمَ عَلَيه أن يَحبسَه؟ قال: «فأشرتُ بعدم حبسه ونَصحتُ بتثبيته فِيْ مقامه»، لأنه هُوَ من حيث العلم بالقضاء والمذهب الَّذِي يَحكم به هُوَ عالم ولكن الله المستعان! نسأل الله أن يثبّت القلوب، فشيخ الإسلام يُخرَج من سجنه ويُستشار فِيْ القاضي الَّذِي قضى عَلَيه بالسجن وهو يعلم أنه حكم عليه ظلمًا، فيستشيره فِيْ أن يُسجَن؟ فيُشير بعدم سجنه؛ بل ويقول: «وشفعتُ فِيْ أن يُثبَّتَ مقامه». وهٰذه أخلاق سلفنا الَّتِي ينبغي أن نتعلّم منها.
                  اليوم الواحد من طلاب العلم يخطئ عَلَيه أخوه خطأ؛ فيقيم عَلَيه الدنيا! فينبغي يا إخوة أن ننظر فِيْ منزلتنا من حُسن الخُلق، أين نحن من حُسن الخُلق؟ ليس حُسن الخُلق كلمة تقال وإنما حُسن الخُلق أفعال يتبيَّن بِهَا الفضلاء سواء من الرجال أو النساء، وكما قدّمتُ فِيْ أوّل كلامي أنّ حُسن الخُلق يُختبَر به الناس، فاختبِر نفسك بحُسن الخُلق، ما هي مواقفك فِيْ حُسن الخُلق؟ وعالج نفسك.
                  يقول بعض الناس: إنه لا يستطيع أن يَكون حَسَنَ الأخلاق لأنّ طبيعته كذا! وهٰذا خطأ، فإنّ حُسن الخُلق قد يَكون جِبِلَّة، كما فِيْ أشجّ عبد القيس؛ فإنّ الحِلم والأناة جبلَّة جَبَلَه الله عليها ومُدِحَ عليها.
                  وقَدْ يُكتَسب؛ «إنما الحلم بالتحلُّم»، فالإنسان يستطيع اكتساب هٰذا. ولو لَمْ يكن حُسن الخُلق يُكتَسب لما رُتِّبَ عَلَيه هٰذا الأجر العظيم، فهٰذا دليلٌ على أنه يُكتَسب، ولكنّ الإنسان بحاجة إلى أن يُجاهد نفسه فِيْ هٰذا الباب.
                  من الأشياء الَّتِي مرّت بي فِيْ سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-؛ أنه كان له عدّو من أهل العلم -ينتسب إلى أهل العلم- يعاديه ويؤذيه ويتكلّم فيه، ففي يوم كان جالسًا مع أصحابه، فجاءه أحد طلابه فقال: مات فلان! يظن أنه يُبشِّره وأنه يفرح بهٰذا، فقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اغفر له»، ثم قام من فوره وذهب إلى أهله وعزّاهم فيه وقال لهم: «أنا لكم مكانه»؛ يعني أقوم بحاجتكم وأعينكم. وهذه أخلاق العلماء وأخلاق الفضلاء، فما أجمل أن يكون الإنسان حَسَنَ الخُلق مع الناس!
                  وأما الخلق العظيم الَّذِي وصف الله به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو الدين الجامع لجميع ما أمر الله به مطلقًا، هكذا قال مجاهد وغيره، وهو تأويل القرآن؛ كما قالت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها-: «كان خُلقه القرآن»، وحقيقته: المبادرة إلى امتثال ما يحبه الله تعالى بطيب نفسٍ وانشراح صدر
                  وأما الخلق العظيم الَّذِي وصف الله به محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ قوله –سبحانه-: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ﴾ قال الخُلق العظيم: الدِّين الجامع لجميع ما أمر الله به مطلقًا.
                  الخلق العظيم: أن توحّد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- وتقوم بحقّه؛ بأن تعبده سبحانه بفعل الأَوامِر واجتناب النواهي.
                  قال الطبري: «معنى ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ﴾ أي على أدب عظيم؛ وذلك أدب القرآن الَّذِي أدّبه الله به؛ وهو الإسلام وشرائعه». ونُقل عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أنّ الخلق العظيم: الدِّين العظيم. ولذلك قال ابن القيّم –رحمه الله-: «الدِّين كلُّه خُلُقٌ»، وهٰذا معنى الخلق بالمعنى العام، الخلق بالمعنى العام: هُوَ كل ما جاء فِيْ كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                  قال: «وهو تأويل القرآن» كما قالت عائشة –رَضِيَ اللهُ عَنْها» يعني هُوَ العمل بالقرآن؛ لأنّ تأويل القرآن يُطلَق ويراد به العمل بالقرآن، كما قالت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها فِيْ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كان يتأوّل القرآن»؛ أي يعمل بما أُمِرَ به من تسبيح ربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                  وقَدْ سأل سعد ابن هشام أُمّنا عائشة –رَضِيَ اللهُ عَنْها- قال: «يا أمّ المؤمنين! أنبئيني عن خُلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت: أَلستَ تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: فإنّ خُلق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان القرآن» رواه مسلم فِيْ الصحيح. فخلق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ القرآن، وهٰذا معنى الخلق بمعناه العام الَّذِي يشمل كل ما جاء فِيْ الكتاب والسنة.
                  وبهذا نكون قد انتهينا من شرح كونِ حديث معاذ –ر ضي الله عنه- وصية جامعة-.
                  ثم سيبدأ شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- فِيْ بيان كونِ حديث معاذ تفسيرًا لوصية الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-. وهٰذا نقرِّره غدًا -إن شاء الله- فِيْ الدرس.
                  أسأل الله عَزَّ وَجَلَّ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرقِّق قلوبنا لطاعته وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه. اللهم يا ربي إنّ عبادك هؤلاء قد اجتمعوا فِيْ مسجد رسولك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرجون رحمتك ويخافون عذابك اللهم فأعطهم ما أمّلوا وأمّنهم مما يخافون وحسِّن أخلاقهم يا رب العالمين، اللهم زدهم خلقًا إلى خلق، اللهم زدهم خيرًا إلى خير، اللهم بارك لهم فِيْ علمهم، وبارك لهم فِيْ أعمارهم، وبارك لهم فِيْ ذرياتهم، وبارك لهم في بيوتهم، وبارك لهم فِيْ كل نعمة أنعمتَ بِهَا عليهم يا ربّ العالمين، اللهم يا ربنا زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا يا رب العالمين، اللهم ارزقنا الخشوع يا رب العالمين، اللهم ارزقنا الخشوع يا رب العالمين، اللهم ارزقنا الخشوع يا رب العالمين، اللهم اجعل قلوبنا هيّنة ليّنة، اللهم اجعل قلوبنا هيّنة ليّنة، اللهم اجعل قلوبنا هيّنة ليّنة، تلين لذكرك وتسمع إذا ذكِّرتْ يا رب العالمين.
                  (4)
                  بسم الله الرحمٰن الرحيم
                  إنّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله.
                  ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾[ آل عمران:102].
                  ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾[ النساء:1].
                  ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾[ الأحزاب:71،70]. أما بعد:
                  فإنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فِيْ النار.
                  ثم إنّا نحمد الله -عَزَّ وَجَلَّ- ونشكره على نعمه الَّتِي لا تعد ولا تحصى، فنِعم ربنا علينا لا يُحصيها عدّ ولا يَحوطها حدّ؛ ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾[النحل: 18].
                  وإنّ من نعم الله عَزَّ وَجَلَّ علينا أن يسّر لنا هٰذا اللقاء فِيْ مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ نجتمع على الخير، ونسمتع الخير، ونتعلّم الخير، ونعلِّم الخير، وهٰذه من أعظم نعم الله على عبده المؤمن.
                  إذا رأيت ربك يا عبد الله قد حبَّب إليك العلم وحبّب إليك الجلوس فِيْ حلق العلم؛ فاعلم أنّ هٰذا من علامات إرادة الله الخير بك، فإنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من يُرِدِ الله به خيرًا يُفقِّهه فِيْ الدِّين»، والفقه فِيْ الدين إنما يَكون بطلب العلم وبالحرص على حضور الحِلَق، فكيف إذا كانت حَلْقة العلم فِيْ مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي من أتاه ليُعلِّم خيرًا أو يتعلَّمه؛ جعل الله له أجر المجاهد فِيْ سبيل الله.
                  فنحمد الله أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا على نعمه الكثيرة، ونحمده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- على ان يسَّر أن نجتمع فِيْ هٰذا المكان على مثل هٰذا الخير.
                  ونسأل الله عَزَّ وَجَلَّ أن يرزقنا جميعًا ما نؤمِّل، وفوق ما نؤمِّل، وأن يزيدنا أضعافًا مضاعفة نُسَرُّ بِهَا عند لقائه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                  أيها الإخوة؛ درسنا فِيْ الاستماع لدرس عظيم، فِيْ الاستماع لوصية من عالِم، ومَا أحوج الأمّة لأن تستمع لعلمائها، وأعني بالعلماء: العلماء الربانيِّين، الناصحين، الَّذِينَ ينظرون إلى الناس بعين الرحمة والشفقة والمحبة ويريدون للناس أن يكونوا مستقيمين على شرع الله عَزَّ وَجَلَّ؛ فيبيِّنون للناس ما شرع الله لهم، ولا يتركون ما شرع الله من أجل إرضاء الناس، ما أحوج الأمة اليوم إلى الاستماع لكلام العلماء ولزوم وصاياهم.
                  هٰذه الوصية من شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- ، وهو العالم الربانيّ الَّذِي قضى عمره يعلِّم الناس قال الله قال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، العالِم الَّذِي عُرف بأنه شفيق بالناس ولو كانوا أعداءه، حتى قال بعض تلاميذه: ليتنا لأصدقائنا كشيخنا لأعدائه. هٰذا الإمام العلم الَّذِي من درس سيرته بإنصاف وتجرّد عَلِمَ كم كان على خير وكم كان يحب الخير للمسلمين. هٰذه الوصية الَّتِي سُمِّيت بالوصية الصغرى والتي كانت جوابًا لسؤالٍ مباركٍ من أبي القاسم السَّبتي المغربي لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-، حيث سأله عن أربعة أمور:
                  1. أن يوصيه بما يُصلِح دينه ودنياه.
                  2.وعن أفضل الأَعْمَال بعد الفرائض.
                  3. وعن أنفع الكتب فِيْ العلوم؛ لا سيّما فِيْ علم الحديث.
                  4. وعن أرجح المكاسِب.
                  فبسط شيخ الإسلام –رحمه الله- الجواب فِيْ هٰذه الوصية، وبدأ بالأمر الأول وهو الوصية بما يصلح الدين والدنيا.
                  وخلاصة ما ذكره: أنّ المؤمن الموفّق الَّذِي يريد أن يَكون على خير وصلاح وسعادة ينبغي عَلَيه أن يلزم وصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجامعة الَّتِي أوصى بِهَا معاذًا –رضي الله عنه- عندما قال: «يا معاذ! اتق الله حيثما كنت، وأتبع الحسنة السيئة تمحها، وخالق الناس بخُلق حَسَن».
                  وقَدْ بيَّن شيخ الإسلام رحمه الله- علوّ هٰذه الوصية العظيمة بأمور:
                  الأمر الأول: نها من آخر وصايا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه ورد أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصّى بِهَا معاذًا لمّا بعثه إلى اليمن، وكان بَعْثُ معاذٍ إلى اليمن قبل وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيسير.
                  الأمر الثاني: أنّ هٰذه الوصية لا يستغني عنها أحدٌ من عباد الله مهما علتْ منزلته، ولو كان هناك من يستغني عن هٰذه الوصية لعلوِّ منزلته أو لصلاح حاله؛ لاستغنى عنها معاذٌ –رضي الله عنه-، لكنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصّى بِهَا معاذًا.
                  والأمر الثالث: أنّ هٰذه الوصية جامعةٌ لخصال الخير.

                  يتبع..
                  كتبه أخوكم شـرف الدين بن امحمد بن بـوزيان تيـغزة

                  يقول الشيخ عبد السلام بن برجس رحمه الله في رسالته - عوائق الطلب -(فـيا من آنس من نفسه علامة النبوغ والذكاء لا تبغ عن العلم بدلا ، ولا تشتغل بسواه أبدا ، فإن أبيت فأجبر الله عزاءك في نفسك،وأعظم أجر المسلمين فـيك،مــا أشد خسارتك،وأعظم مصيبتك)

                  تعليق


                  • #10
                    رد: شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شرح فضيلة الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله

                    والدليل على أنها جامعةٌ لخصال الخير أمران:
                    -الأمر الأول: أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصى بِهَا معاذًا؛ ولمعاذ –رضي الله عنه- منزلة عليّة عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمدرَك عند عباد الله أنه كلّما عظُم حب الموصي لمن يوصيه كلّما جمع له الجوامع فِيْ الوصية.
                    -وأما الدليل الثاني على كونها جامعة: فهو ما ورد فيها من خصال الخير، جمعتْ للإنسان الخير فِيْ الحقوق كلها، فِيْ حق الله، وفي حق خلق الله، فدلّت الإنسان على لزوم الصلاح، وإصلاح الفساد، ومخالَقة الناس بخُلق حسن. ومن التزم هٰذا فقد التزم الخير كله.
                    وقَدْ قلنا إنّ أهل العلم يقولون: «إنّ جماع الدِّين: الصدق مع الحق، وحُسن الخُلق مع الخَلق».
                    وبيّن شيخ الإسلام أهمية هٰذه الوصية وعلوّ شأنها بأمرٍ رابع: وهو أنها تفسير لوصية ربنا –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، فاجتمع فيها أنها نصّ وصية حبيبنا وخليلنا محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتفسير وصية ربنا –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                    وقَدْ فرغنا البارحة من تقرير شيخ الإسلام –رحمه الله- لكون هٰذه الوصية جامعة.
                    واليوم –إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ- نَشرع فِيْ تقريره –رحمه الله- أنّ هٰذه الوصية تفسيرٌ لوصية ربنا –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-. فيقرأ لنا الشيخ ياسين –وفقه الله-.
                    وأمّا بيان أنّ هٰذا كلَّه فِيْ وصية الله؛ فهو أنّ اسم تقوى الله يجمع فعْل كلّ ما أمر الله به إيجابًا واستحبابًا، ومَا نهى عنه تحريمًا وتنزيهًا، وهٰذا يَجمع حقوق الله وحقوق العباد
                    تقدَّم معنا أيها الإخوة أنّ وصية الله للأوّلين والآخرين لكلّ من أوتيَ كتابًا: هي وصيته –سبحانه- بتقواه ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾، ولذلك ذكر أهل العلم أنّ الوصية بتقوى الله مما اتّفقت عَلَيه الرسل، فمن الأمور الَّتِي اتّفقت عليها الرُّسل: الوصية بتقوى الله –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                    فهنا يريد الشيخ –رحمه الله- أن يُبيِّن أنّ وصية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ فسَّرت وصية ربنا –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- لنا بتقواه؛ فقال: «أمّا بيان أنّ هٰذا كله فِيْ وصية الله» يعني أنه تفسير لوصية الله «فهو أنّ اسم تقوى الله يجمع فعل كلّ ما أمر الله به إيجابًا واستحبابًا، ومَا نهى عنه تحريمًا وتنزيهًا»، هٰذه حقيقة التقوى، المؤمن إذا سمع شأن الوصية بالتقوى، وعلم أنّ الله وصّى بِهَا الأوّلين والآخرين وأنها وصية أنبياء الله وأنها وصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمّا قال له الصحابة: « كأنها موعظة مودّعٍ فأوصنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله»، وعلِمَ أنّ هٰذه التقوى الَّتِي هي قليلة المبنى عظيمة المعنى حَوَت تحت رايتها كل خير فِيْ الدنيا والآخرة، فما من خير للإنسان فِيْ الدنيا والآخرة إلا وسببه تقوى الله –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، فإذا علِمَ المؤمن هٰذا وتفكَّر وتدبّر فِيْ ثمار التقوى واشتاق قلبه إلى أن يَكون من المتّقين؛ فإنه ينبغي أن يعلم حقيقة التقوى.
                    حقيقة التقوى كما قال العلماء: هي «أن تعمل بطاعة الله على نور من الله؛ ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله؛ تخاف عقاب الله».
                    «أن تعمل بطاعة الله» بالأوامر، «على نور من الله» بالدليل، ليس بالبدع وليس بالمحدثات وإنما بما دلّ عَلَيه الدليل، فأنت وقَّافٌ عند قال الله قال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مسلِّم نفسك لِمَا ورد فِيْ الكتاب والسنة، «أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله» هٰذا الإخلاص؛ أن يَكون قصدك من فعل الأَوامِر أن تُرضيَ الله –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- فتحصل على ثوابه.
                    «وأن تترك معصية الله» فتجتنب ما نهى الله عنه، أيضًا «على نور من الله»؛ على وِفْقِ الدليل، ليس من باب التنطّع ولا من باب التشدّد ولا من باب تحريم ما أحلّ الله وإنما على وِفْقِ الدليل؛ «تخاف عقاب الله» وهٰذا الإخلاص؛ فأنت عندما تترك ما نهى الله عنه فإنما تتركه لأنك تريد أن يرضا الله عنك بترك المنهيات، فأنت تخاف عقاب الله إن فعلتَ ما نهى الله عنه، ونعني بما نهى الله عنه هنا: المحرمات، وأما المكروهات فقد تقدّم معنا أنّ من تركها يفوته الثواب أمَّا من فعلها فإنه لا يستحق بذلك العقاب. هٰذه حقيقة التقوى.
                    وقَدْ قال بعض أهل العلم: «إنّ حقيقة التقوى: أن تعيش فِيْ الدنيا كأعمى يحتاج إلى قائد، وسائرٍ فِيْ أرض شوك»، أن تَكون كأعمى يحتاج إلى قائد؛ فلا تتحرك إلا بأمر الله، تفعلُ إذا أُمرْتَ بالفعل، وتتركُ إذا أُمرتَ بالترك، وإذا أُبيحَ لك الأمر فعلتَ أحد الأمرين بالفعل أو الترك، فتكون كالأعمى يُقاد بقال الله قال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويكون بصرك ما ورد فِيْ كتاب الله وفي سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                    وأن تعيش فِيْ الدنيا كالذي يمشي فِيْ أرضٍ ذات شوك؛ لا يَغفَل أبدًا، نظره دائمًا فِيْ موطئ قدمه يخاف أن يؤذيَه الشوك، وكذلك أنت فِيْ الدنيا فِيْ زمن فتنة فِيْ زمن الابتلاء؛ فينبغي أن تسير كمن يسير فِيْ أرض الشوك، كما قال:
                    خَلِّ الذنوبَ صغيرَها وكبيرَها فهو التُّقى واصنعْ كَمَاشٍ فَوقَ الشوكِ يحذر ما يرى
                    لا تحقرنّ صغيرة إنّ الجباب من الحصى
                    إذا كنت تريد أن تَكون متقيًا حق التقوى فاترك الذنوب صغيرها وكبيرها، لماذا؟ لأنك لا تنظر إلى الذنب ولكنك تنظر إلى من تعصي وتعلم أنه يراك ويسمعك.
                    خَلِّ الذنوبَ صغيرَها وكبيرَها فهو التقى واصنعْ كماشٍ فوق الشوكِ يحذر ما يرى
                    لا تحقرّن صغيرة، إياك يا عبد الله أن تقول: هٰذا ذنب صغير «إياكم ومحقّرات الذنوب»، لماذا؟ لأنّ محقَّرات الذنوب الصغيرة الَّتِي يراها الإنسان صغيرها ويحتقرها؛ يتساهل فيجمع الذنب على الذنب حتى يَرينَ على قلبه. ولذلك قال:
                    خَلِّ الذنوبَ صغيرَها وكبيرَها فهو التقى واصنعْ كماشٍ فوق الشوكِ يحذر ما يرى
                    لا تحقرنّ صغيرة إنّ الجباب من الحصى
                    قد تجمع العود فوق العود حتى تصبح قَشَّةً كبيرة. هٰذه حقيقة التقوى.
                    وإذا نظرنا وجدنا أنها مفسَّرة فِيْ حيث معاذ؛ «اتق الله حيثما كنت» يعني افعل الأَوامِر واجتنب النواهي، «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» إذا حصل منك زلل فامْحُه بالحسنة، «وخالق الناس بخُلق حسن» وهٰذا مما شرعه الله، فإنّ الله شرع لنا أن نخالق الناس بالأخلاق الحسنة –كما تقدّم معنا-، فهٰذه حقيقة التقوى. ولذلك قال الشيخ : «وهٰذا يجمع حقوق الله وحقوق العباد».
                    هنا؛ كأنّ سائلًا سأل شيخ الإسلام، وقال: ما دمتَ تقول: إنّ حقوق العباد وحقوق الخلق موجودة فِيْ تقوى الله، فلماذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن»؛ لِمَ لَمْ يقتصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قوله: «اتق الله حيثما كنت»، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أوتيَ جوامع الكلم، فلماذا لَمْ يقتصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قوله: «اتق الله حيثما كنت»؟ فأجاب بما تسمعون:
                    لكن لمّا كان تارة يعني بالتقوى خشية العذاب المقتضية للانكفاف عن المحارم؛ جاء مفسَّرًا فِيْ حديث معاذ رضي الله عنه
                    التقوى إذا ذُكرَت مفرَدة فهي تعني الدين كله، إذا أُمرْنا بالتقوى بمفردها فهي تعني الدين كلَّه، وإذا ذُكرَت مع غيرها من الأَوامِر فهي تدلّ على الدين ويكون ذِكْرُ غيرها من باب بيان الشرف والأهمية، وإفراد الشيء عن نوعه دليل على شرفه، كما قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾، الروح جبريل -عَلَيه السلام- من الملائكة لكن أُفرِد للتنويه بشرفه، وتارةٌ يُذكَر ويكون معها المنهيات أو يَكون معها الأَوامِر؛ فيكون المقصود بالتقوى: اتِّقاء عذاب الله، فيكون كأنّ المعنى: اتقوا عذاب الله فافعلوا هٰذا المذكور.
                    فيقول هنا –رحمه الله-: «لكن لمّا كان تارة يعني» يعني ربنا «بالتقوى خشية العذاب المقتضية الانكفاف عن المحارم؛ جاء مفسَّرًا فِيْ حديث معاذ»، فجاء الأمر بفعل الأَوامِر و اجتناب النواهي وإصلاح الفاسد ومخالقة الناس بخلق حسن؛ لدفع التوهُّم.
                    وكذلك فِيْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه- الَّذِي رواه الترمذي وصححه، قيل: يا رسول الله! ما أكثر ما يُدخل الناس الجنة؟ قال: «تقوى الله، وحسن الخلق»، قيل: ومَا أكثر ما يُدخل الناس النار؟ قال: «الأجوفان: الفم والفرْج»
                    يقول: « وكذلك فِيْ حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- الَّذِي رواه الترمذي وصححه، قيل: يا رسول الله! ما أكثر ما يُدخِل الناس الجنة؟» ومَا أعظمه من سُؤال! كلُّ مؤمنٍ يريد أن يدخل الجنة؛ فينبغي أن يسلك مسالكها، قال: «تقوى الله وحُسن الخُلق» فذكر تقوى الله وحُسن الخُلق، فهنا إمَّا أن يَكون ذكْر حُسن الخُلق من باب إفراد بعض أفراد العام، فتقوى الله منها حُسن الخُلق، فيكون هٰذا للتنبيه على عِظَم شأن حُسن الخُلق، وإمّا أن يَكون معنى تقوى الله: أن يتقي العبد عذاب الله بفعل ما أُمِرَ به ومنه حُسن الخُلق.
                    «قيل: ومَا أكثر ما يُدخِل الناس النار؟ قال: «الأجوفان: الفم، والفرْج» قال الترمذي: صحيح غريب، وقال المنذري: إسناده صحيح أو حسن، وحسّنه إمام العصر فِيْ الحديث: الإمام الألباني، رحم الله الجميع.
                    ولخطورة الفم والفرج قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن يَضمَن لي ما بين لَحيَيه ومَا بين رجليه؛ أضمن له الجنة»، « من يضمن لي ما بين لحييه» وهو اللسان، «ومَا بين رجليه؛ أضمن له الجنة».
                    الشهوات يا إخوة من أعظم أسباب فتنة الإنسان فِيْ الدنيا إن لَمْ يُهذِّبها، الله خَلَقَ فينا الشهوة، فالشهوة مركَّبة فينا، ولم يُحرِّم علينا أن نصرف الشهوة؛ ولكن حرّم علينا الاعتداء فيها، فهذّب لنا شهواتنا، فجعل لنا طريقًا كريمًا فيها؛ وهو النكاح أو ملك اليمين إن وُجِدَ على الوجه الشرعيّ، فالذي يُهذِّب شهوته يعيش مباركًا، والذي يعتدي فِيْ شهوته يعيش مفتونًا، وأعظم الشهوة خطرًا على الرجل والمرأة معًا: شهوة اللسان، وشهوة الفرج.
                    أمّا شهوة اللسان فهي أخطر فتنة على الرّجل والمرأة؛ لسهولتها، اللسان سهل أنّ الإنسان يَلِغ به فِيْ المحرمات؛ يكذب، يغتاب، ينم، فهي سهلة خفيفة؛ ولذلك فهي خطيرة، لا تحتاج إلى مؤونة.
                    وأخطر ما يَكون على الرجل والمرأة شهوة الفرج من جهة أثرها، إذن أخطر ما يَكون على الإنسان فِيْ الشهوات: شهوة اللسان، وشهوة الفرج.
                    أما شهوة اللسان فلخفّتها وسهولتها وسرعة الوقوع فيها.
                    وأما شهوة الفرج فلعِظَم أثرها. وقَدْ قال بعض العلماء حكمة، قال: «لا يزال الإنسان يستحي من الله حتى يزني –والعياذ بالله-» يعني مهما وقع منه من المعاصي لا يزال فيه شَيْء من الحياء؛ يستحي من الله، حتى يزني، فإذا زنى انكسر الحياء فِيْ قلبه، فيتسارَع إلى بقية الشهوات.
                    وهٰذا سرُّ جَمْعِ حبيبنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الأمرين: شهوة الفم وشهوة الفرج؛ لخطورتهما من هاتين الجهتين، فكلُّ واحدةٍ منهما أخطر من جهة، فالفم أخطر من جهة السهولة، والفرج أخطر من جهة الأثر ومَا يترتّب على ذٰلك.
                    ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وهل يَكُبُّ الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم!» كما رواه الترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح. فاللسان لخفّته ولسهولة الوقع فِيْ المعصية به؛ يَكون سببًا فِيْ كَبِّ كثير من الناس فِيْ النار على وجوههم، لأنهم قد يتساهلون فِيْ هٰذا.
                    ولذلك يقول أهل العلم: «كلُّ معصية يتخبّأ بِهَا الإنسان فِيْ الغالب، إلا معاصي اللسان فإنها تَكون أمام الناس»، يعني المعاصي فِيْ الغالب الإنسان يختبئ بِهَا؛ إلا معاصي اللسان فلابد أن تَكون مع أحد، يأتي يغتاب يكذب ما يهمه، ربما يأتي مجلس فيه فضلاء أمثالكم ويكذب مئات الكذبات أمام الفضلاء، ولذلك هُوَ خطير على الإنسان.
                    ومراد شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- أن يقول: إنما ورد فِيْ حديث معاذ إنما هُوَ تفصيلٌ للفائدة؛ كما فصَّل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ حديث أبي هريرة.
                    وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قال: قال رسول الله صلى الله عَلَيه وعلى آله وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا»
                    «وفي الصحيح» هنا أنبه على فائدة لطلاب العلم، الصحيح فِيْ لسان العلماء إمّا أن يراد به ما فِيْ الصحيحين؛ البخاري ومسلم، أو فِيْ أحدهما، أو يراد به الحديث الصحيح، وليس خاصًا بالكتابَين. أنبه على هٰذا لأنّ بعض طلاب العلم لا يتنبّه لهٰذا فيحمل مصطلح المتقدِّمين على مصطلحنا اليوم، فبعض المحققين اليوم مثلًا يأتي يحقق كتاب فيجد أن الشيخ قال «وفي الصحيح» فيقول: لَمْ أجده فِيْ الصحيح؛ يظن أنّ المقصود صحيح البخاري أو صحيح مسلم، أو يقول: وَهِمَ الشيخ هنا فالحديث ليس فِيْ الصحيح، أو يحاول أن يأتي بحديث آخر غير الَّذِي ذكره الشيخ من الصحيح لعله قريب منه، وهٰذا خطأ فِيْ فَهْمِ مراد العلماء.
                    شيخ الإسلام هنا عندما يقول: «وفي الصحيح» يعين فِيْ الحديث الصحيح، ولا يعني البخاري ومسلم.
                    «وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر –رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قال: قال رسول الله صلى الله عَلَيه وعلى آله وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا»، والحديث رواه الحاكم وصححه، وأبو داود وسكت عنه، والترمذي وقال: حسن صحيح، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية كما معنا هنا، وصححه الألباني. فالحديث صحيح.
                    قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا»؛ وهٰذا يدل على أنّ الأَعْمَال من الإيمان، سواء كانت قوليه أو فعليّة، فإنّ حُسن الخُلق من الإيمان؛ وقَدْ يَكون قولًا وقَدْ يَكون فعلًا.
                    ويدل كذلك على أنّ الإيمان يزيد وينقص؛ لأنّ الَّذِي يزيد ينقص، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «أكمل المؤمنين إيمانًا».
                    وهٰذا يردّ على طائفتين؛ كلاهما تزعم أنّ الإيمان واحدٌ لا يتجزّأ:
                    - منهما طائفة تقول: الإيمان واحد إن ذهب بعضه ذهب كله، فإذا كذب الإنسان أو زنى خرج من الإيمان عندهم.
                    وطائفة قابلتهم فقالت: الإيمان واحد إن ثبتَ بعضه ثبتَ كلّه؛ وهؤلاء المرجئة الَّذِينَ يرون انّ المؤمنين سواسية فِيْ الإيمان، ويؤخِّرون العمل عن الإيمان، ثم هم أصناف:
                    -صنف لا يرى ارتباط العمل بالإيمان؛ وهؤلاء غلاة المرجئة.
                    -وصنف يرى أنّ العمل مطلوب فِيْ الإيمان وليس من الإيمان، (مطلوب فِيْ الإيمان) يعين بسبب الإيمان، وليس من الإيمان؛ وهٰذا صنيع مرجئة الفقهاء.
                    -والذي عَلَيه أهل السنة والجماعة ودلّت عَلَيه الأدلّة ومنه هذا الحديث: أنّ العمل من الإيمان، وأنّ الإيمان يزيد وينقص، وأنّ من ادّعى الإيمان ولم يأتِ بعمل مع العلم والقدرة لا يَكون مؤمنًا حقيقة فِيْ الشرع وعند أهل السنة والجماعة.
                    النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا» وحُسن الخُلق من الإيمان فذكره منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                    قال: «فجعل كمال الإيمان فِيْ كمال حسن الخلق»، ومعلوم أن ّالإيمان كله تقوى لله. مراد شيخ الإسلام –رحمه الله- أنّ التقوى جامعة للدين؛ ويشمل ذٰلك حسن الخلق والتوبة، وهٰذا الَّذِي ورد فِيْ حديث معاذ، وكله داخِل فِيْ وصية ربنا لنا بتقواه- سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                    وجعل كمال الإيمان فِيْ كمال حُسن الخُلق، ومعلومٌ أنّ الإيمان كله تقوى الله، وتفصيل أصول التقوى فروعها التقوى لا يحتمله هٰذا الموضع، فإنها الدين كله، لكنّ ينبوع الخير وأصله: إخلاص العبد لربه عبادة واستعانة؛ كما فِيْ قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، وفي قوله: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾، وقوله: ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾، وفي قوله: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾، بحيث يقطع العبد تعلّق القلب بالمخلوقين انتفاعًا بهم أو عملًا لأجلهم، ويجعل همّته ربه تعالى، وذلك بملازمة الدعاء له بكل مطلوب، من فاقة وحاجة ومخافة، وغير ذٰلك، والعمل له بكل محبوب، ومَن أحكَم هٰذا فلا يمنك أن يوصَف ما يعقُبُه ذٰلك
                    لسخاء ابن تيمية –رحمه الله- فِيْ العلم زاد بيانًا فِيْ هٰذا الكلام ؛قال: «وتفصيل أصول التقوى فروعها التقوى لا يحتمله هٰذا الموضع، فإنها الدين كله» ولا يمكن أن يُبيَّن الدين كله فِيْ هٰذا الموضع، «لكنّ ينبوع الخير وأصله: إخلاص العبد لربه» فرأس التقوى هُوَ توحيد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- «وإخلاصه بالعبادة والاستعانة والتوكل».
                    والتَّوحِيد هُوَ أن تُخلص لله -عَزَّ وَجَلَّ- أفعالك فتجعلها لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، فأغلى وأحلى وأجلى ما عند المسلم توحيد رب العالمين، وأعلى ما افترضه الله على العبيد التَّوحِيد، والتَّوحِيد مفتاح الخير، ومن طلب الخير بغير مفتاح لَمْ يُفتَح له، لا يُفتح إلا لموحِّد، مفتاح الخير هُوَ توحيد رب العالمين، التَّوحِيد سابق الأَعْمَال، وشرط قَبولها، وهو أهم المهمات، وأعلى الفرائض المتحتِّمات، ولا أمن حقيقيّ للإنسان إلا بالتَّوحِيد ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾، ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ يعني لَمْ يَخلِطوا إيمانهم بشرك، لأنّ الشرك ظلم عظيم، حُصِرَ الأمن فيهم ﴿ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
                    التَّوحِيد يا عبد الله هُوَ الَّذِي خُلِقتَ من أجله ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، التَّوحِيد يا عبد الله هُوَ الَّذِي بُعثَت من أجله الرسل ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾، ومَن علّق قلبه بالله اطمأنّ، وعاش سعيدًا مباركًا.
                    ومن علّق قلبه بغير الله فُتن، وعاش فِيْ ذلّة، والله الَّذِي لا إله إلا هُوَ ما فرّط عبد فِيْ شيءٍ من التَّوحِيد إلا فرَّط فِيْ شيءٍ من عزَّته، وكلّما أوغَل كلّما ذلّ أكثر.
                    وقَدْ رأينا بعض من ينتسبون إلى الإسلام فِيْ بعض بلدان المسلمين يُذلُّون أنفسهم لعباد هم دونهم حتى فِيْ الصلاح؛ بزعم أنهم أولياء الله، وولاية الله أصبحتْ وراثة؛ هٰذا الشيخ ابن الشيخ ابن الشيخ، ولو لَمْ يَظهر عَلَيه من الصلاح شَيْء.
                    والله يا إخوة رأينا بعض المسلمين يأتي لإنسان يعني أقلّ ما يقال أنه ينبغي أن يُنصَح ليتديَّن، فإذا دخل الغرفة أخذ يَحبي بيديه ورجليه حتى يصل إليه، ولا يُغطي رأسه أمامه أبدًا، رأينا رجالًا ونساءًا إذا مرّوا بشخص يقولون إنه شيخ يتساقطون على الأرض.
                    أَذكُرُ عندما كنتُ فِيْ الثانوي وكان أبي –رحمه الله- يبيع بجوار المسجد، فِيْ أيام الحج وأنا جالس، مرّت امرأة من دولة ما، فمرّ الرجل، فبركتْ على رجلَيها، سقطتْ بقوة على الأرض، فتعجبتُ قلت سبحان الله ما السبب؟! فلمّا زرنا البلدان عرفنا السبب؛ هٰذا شيخ مرّ، تركع له، تَبرُك له.
                    والله يا إخوة من أعجب ما رأيت ولا زلت إلى اليوم أتعجّب منه، رأيتُ رجلًا يقولون إنه ولي، فِيْ غرفة، ورأيتُ الرجال قد أحضروا نساءهم متجملات متعطرات، ويقفون بالطوابير، تدخل المرأة فقط عند الشيخ يُبرّكها، الله أعلم هٰذا التبريك!
                    الإنسان إذا فرّط فِيْ التَّوحِيد يفرّط فِيْ عِزَّته يُفرِّط فِيْ كرامته، يَذِلّ للناس.
                    ذُكِرَ لي أنّ شخصًا فرنسيًا كان من المشاهير أسلم، قرأ عن الإسلام وأسلم، وذهب إلى بعض دول أفريقيا، فوجد الناس هناك يعبدون المشايخ ويتقرّبون للمشايخ من دون الله، فقال: إنّ النصرانية أحسن من هٰذا؛ لأنّ هناك على الأقل نعبد رسولًا وهؤلاء يعبدون أناس حتى لا يَستحقون الاحترام فِيْ بعضهم! فأراد أن يرتد عن الإسلام، فلقيَه رجل ناصح، قال: تريد الإسلام؟ قال: نعم، قال: اذهب إلى الحج، وبعد الحج قرِّر، فجاء إلى الحج، وسبحان الله! من الأشياء المَلحوظَة أنّ الناس فِيْ الحج تَلين قلوبهم ويَظهر عليهم التَّوحِيد، حتى من كان عنده انحراف فِيْ كثير من الأحوال يَظهر عليهم التَّوحِيد، إلا من طُمِس –والعياذ بالله-، فلمّا جاء ورأى الناس تلبِّي وتوحِّد ورأى العبادة ورأى العبادة ورأى العزّة قال: هٰذا الإسلام الَّذِي قرأتُ عنه، وثبّته الله بنصيحة ذاك الناصح، بفضل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                    ولذلك يا أحبّة أغلى ما نتمسّك به التَّوحِيد، وأعلى ما ندعوا إليه التَّوحِيد، سبحان الله! لا أجد فِيْ ديننا أوضَح من التَّوحِيد، لكنك تعجب أيَّما عجب من بعض عباد الله الَّذِينَ يحبّون الله ويحبّون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويَتركون قال الله قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قول المشايخ!
                    إذا جئتَ لأحدهم قلت: يا أخي لِمَ تفعل كذا؟ وربنا يقول كذا والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول كذا، قال : الشيخ يقول، سبحان الله! نترك أوضَح ما قاله الله وأوضَح ما قاله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقول أحدٍ من الناس؟! الإمام الشافعي -رحمه الله ورضي عنه ورضي عن أئمة الإسلام- يقول: «أجمع الناس على أنّ من استبانتْ له سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يكن له أن يدعها لقول أحدٍ من الناس كائنًا من كان»؛ فكيف والبيان فِيْ كتاب الله وفي سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أوضَح ما يَكون؟!
                    مرة؛ لقِيتُ شخصًا فِيْ بلدٍ من بلدان المسلمين للأسف يَخطب الجمعة، وأحاديثُه الَّتِي يتكلّم فيها فِيْ الجمعة دعوة للشرك ويستدل بأحاديث، فقلت له: يا أخي هٰذا الكلام الَّذِي تقوله يناقض قول الله كذا ويناقض قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا، قال: سمعتَ الحديث الَّذِي ذكرناه؟ قلت: هٰذا الحديث موضوع باتفاق المحدّثين، قال: ولو؛ يصلح لترقيق قلوب الناس، قلت: سبحان الله! تصرف الناس عن التوحيد إلى الشرك بحديث موضوع وتقول: ولو؛ يرقّق قلوب الناس؟!
                    ولذلك يا إخوة؛ أعلى ما ينبغي أن نهتم به إصلاح التَّوحِيد، والله والله ما عاش شخصٌ مرتاح القلب مطمئن القلب سعيد الحال مرضيًا للرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- إلا بتحقيق تَّوحِيد رب العالمين.
                    ولذلك يقول الشيخ -رحمه الله وجزاه عنا وعن الإسلام خير الجزاء-: «ولكنّ ينبوع الخير وأصله: إخلاص العبد لربه؛ عبادة واستعانة؛ كما فِيْ قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾»، يقول العلماء: «هٰذه الآية تدلّ دلالة بيِّنة على حصر العبادة فِيْ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالى، ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، طيّب؛ لماذا قال الله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مع أنّ الاستعانة من العبادة؟ قال العلماء: لأنّ أكثر خلل الناس فِيْ التَّوحِيد يقع فِيْ باب الاستعانة والاستغاثة؛ فذُكِرَ هٰذا من باب التنبيه؛ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فالاستعانة من العبادة.
                    يقول العلماء: إذا كان الإنسان حريصًا على التَّوحِيد فِيْ باب الاستعانة والدعاء سيكون حريصًا على التَّوحِيد فيما سوى ذٰلك، لأن أعظم ما يُفتَن فيه الناس فِيْ باب التَّوحِيد ما يتعلّق بالاستعانة والدعاء. فينحرف بعض الناس فِيْ باب الاستعانة فيستعين بمن يقال إنهم أولياء، يستعين بالجن، يستعين بالكهنة، يستعين بالعرافين، وفي باب الدعاء، ولذا كان هٰذا تنبيهًا.
                    «وفي قوله : ﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾»، هنا ذكر أهل العلم مَلمَحًا عظيمًا؛ قالوا: «إنّ تحقيق التَّوحِيد إنما يحصل بتعلّق القلب بالله»، فإذ اعلّق الإنسان قلبه بالله يحقق التَّوحِيد «والتوكل فيه تعليق القلب بالله، حتى إذا فعل العبد السبب فإنه يعلّق قلبه بالله ويتوكل على الله»؛ ولذلك قال الله: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾.
                    وفي قوله: ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾؛ قال العلماء: «من علّق قلبه بالله رَجَعَ إلى الله»، فأساس الخير أن يُعلِّق العبد قلبه بربه.
                    قال: «وفي قوله: : ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾»، ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ كثير من الناس قد يطلب الرزق من غير الله، يسأل الصالحين الرزق، بعض الناس يأتي هنا عند قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرزق ويُشرِك بالله، والعياذ بالله.
                    من أعجب ما رأيت فِيْ بلد من بلدان المسلمين، رأيتُ أناسًا يصلُّون ويحرصون على الصلاة، وقَدْ امتلأ المسجد عندما صلينا، ولكن وجدنا فِيْ بيوت كثيرين منهم صنمًا من حجر أزرق -يميل إلى الزرقة-؛ بزعمهم أنه يسبِّب كثرة الرزق، ويَتقرّبون إليه مع أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله!
                    وقصدي من هٰذا أن أنبّه إلى أنّ إفراد بعض الأشياء بالذِّكر إنما هُوَ لبيان وجوب التَّوحِيد فيها لأنها مَظِنَّة الخلل الكثير.
                    قال الشيخ -رحمه الله-: «بحيث يقطع العبد تعلُّق قلبه من المخلوقين؛ انتفاعًا بهم أو عملًا لأجلهم، ويجعل همّته ربه –تعالى-، وذلك بملازمة الدعاء له فِيْ كل مطلوب من حاجة ومخافة وفاقة وغير ذٰلك، والعمل له بكل محبوب»، وسيأتي –إن شاء الله- التعليق على موضوع الدعاء فِيْ مسألة أفضل الأَعْمَال.
                    وهٰذا هُوَ عين ما ورد فِيْ وصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس –رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- عندما قال: «يا غلام! إني أعلِّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألتً فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أنّ الأمَّة لو اجتمعتْ على أن ينفعوكَ بشيء لَمْ ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لَمْ يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعَت الأقلام وجفّت الصحف» رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصحح جمْعٌ من أهل العلم إسناده.
                    النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «يا غلام إني اعلّمك كلمات» أي نافعات «احفظ الله يحفظك» قال العلماء: حفظ الله يَكون بحفظ دينه، احفظ دين الله يحفظك الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                    «احفظ الله تجده تُجاهك» احفظ الله فِيْ الرخاء والشدة تجده تُجاهك، ولذلك ورد أنّ من يريد أن يستجيب الله له فِيْ الشدائد فليُكثر الدعاء فِيْ الرخاء، وقَدْ ذكر بعض السلف شيئًا عظيمًا فِيْ هٰذا الباب، وسأذكره –إن شاء الله- عندما نأتي نتكلم عن الدعاء ونذكر آداب الدعاء.
                    «إذا سألتَ فاسأل الله» وهٰذا قَصْر «وإذا استعنتَ فاستعن بالله»؛ لماذا؟ «واعلم أنّ الأمّة» كلها، ليس رجلًا واحدًا ليس صالحًا واحدًا بل الأمّة بنبيها وصالحِيها وبكل أفرادها لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء –(بشيء) وهٰذا يقتضي التقليل- لَمْ ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت الأمّة على أن يضروك بشيء لَمْ يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك؛ فكيف تعلِّق قلبك بغير الله؟! إذا أيقنتَ بهٰذا كيف تعلِّق قلبك بغير الله؟! الله إن أراد أن يَمسّك بضر لن يكشفه أحدٌ من دونه، وإن أرادك بخير لن يمنعه أحد من دونه، فكيف تعلِّق قلبك بغير الله؟! كيف تتّجه إلى غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالى؟!
                    فهٰذا مراد شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن نشير إلى جملة قالها؛ قال: «فمَن أحكَمَ هٰذا فلا يمكن أن يُوصَف ما يَعقِبُه ذٰلك»، «ومن أحكم هٰذا» اسم الإشارة يعود إلى ماذا؟ المقصود: ما ورد فِيْ حديث معاذ –رضي الله عنه- ومَا فسَّره به شيخ الإسلام بناء على الأدلّة، أحكَمَه فعمِل به، فإنه لا يُدرِك أحدٌ إلا الله ما يحصل له من الخير، من الأمن، والسعادة؟ والطمأنينة، والحياة الطيبة ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ فحصر الله الأمن فيهم، ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾.
                    ولذلك ورد فِيْ الحديث أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من كانت الدنيا همّه فرَّق الله عَلَيه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له، ومن كانت الآخرة همّه؛ جمع الله عَلَيه أمره وجعل غناه فِيْ قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة».
                    من كانت الدنيا همّه وطُلبَتَه وعلَّق قلبه بغير الله؛ فرَّق الله عَلَيه أمره فلا يطمئن قلبه، يَكون مشتّت القلب، ومن شُتِّت قلبه كيف يسعد؟! والله لو كانت عنده الدنيا؛ إذا لَمْ يطمئن قلبه لن يَكون فِيْ سعادة.
                    «وجعل فقره بين عينيه» قال العلماء: فيُعذَّب بغناه؛ لأنّ الفقر بين العينين –نعوذ بالله-، فإذا نظر ماذا يرى؟ لا يرى إلا الفقر، فيرى نفسه فقيرًا ولو امتلأت الخزائن، فيسعى لجمع المال ويُشقي نفسه بجمع المال ولا ينتفع به لأنه يخاف عَلَيه وهو يرى الفقر بين عينيه، ومع كل هٰذا لم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له، والله لا يزيد شيئًا ولا ينقص شيئًا، الرزق مثل الأجل؛ مكتوب، ويُكتَب للإنسان وهو فِيْ بطن أمّه، يُكتَب له رزقه لا يزيد ولا ينقص.
                    يذكر العلماء أنّ رجلًا أراد أن يشرب من بئر فزلّت قدمه فوقع، فجاء أناس، فسمعوا أنينه فأخرجوه، وجاؤوه بشيء من لبن فشرِبه، فقال له أحد القوم: كيف وقعت؟ قال: وقفتُ هنا فقلت فوقع؛ فمات، خرج بقي عَلَيه من رزقه هٰذا اللبن، خرج ليشربه، وبقي له من أجله هٰذا المقدار، فسقط نفس السَّقْطة ومات، الرزق لا يستطيع أحد أن يُنقِصه ولا يستطيع أحد أن يزيده مهما كان ماهرًا، ولكن نفعل الأسباب الشرعية ولا نتعلَّق بِهَا.
                    «ومن كانت الآخرة همّه» من علَّق قلبه بربه؛ جمع الله عَلَيه أمره، فيكون قلبه مطمئنًا مجموعًا لا يَضرِب فِيْ شِعاب الدنيا يمينًا ويسارًا، ولذلك يقول بعض الصالحين: «رُبَّ غنيّ لا يستطيع أن ينام، ورُبَّ فقيرٍ ينام قبل أن يصل إلى الفراش»، المسألة مسألة القلب.
                    «وجُعل غناه فِيْ قلبه» فمهما رُزق قال: الحمد لله عندي خير، إن جاءه ما يكفيه ليأكل قال: الحمد لله ما احتجتُ لأحد، إن جاءه زيادة قال: الحمد لله، ويحس أنه غني، ومع ذٰلك؛ أتته الدنيا وهي راغمة، لا يُحرَم، الَّذِي كتبه الله له سيأتيه.
                    والله الَّذِي لا إله إلا هُوَ لا يزيد الإنسان رزقه بمعصية ويُمنَع رزقه بطاعة، الَّذِي يؤذِّن المؤذِّن ويبقى فِيْ محله يبيع؛ والله لا يزداد رزقه، والذي إذا أذَّن المؤذِّن أغلق مكانه ومحله وذهب حيث ينادى بالصلاة والله لا يَنقص رزقه؛ بل يُحصِّل من البركة الشيء الكثير.
                    وهٰذا أمر ينبغي أن ندركه، وينبغي أن ننشره: الطاعة والعبادة على توحيد وإحسان أساس كل خير، أساس السعادة، أساس الطمأنينة، أساس سعة الرزق، أساس البركة. وترك التَّوحِيد أساس الشر وينبوع الشر، وهٰذا أمر ينبغي أن نبيِّنه للناس.
                    بهٰذا؛ يَكون شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- قد انتهى من الأمر الأول؛ وهو الوصية بما يُصلِح الدين والدنيا. وقَدْ سمعتم، وأرجو الله أن قد تكونوا فهمتم، ثم أسأل الله أن يرزقني وإياكم عملًا تَصلح به أحوالنا كلها.
                    فما أجمل أن نجعل ذٰلك أمرنا الَّذِي ننظر فيه دائمًا ونَزِنُ أحوالنا به «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»!
                    ثم سيشرع شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- فِيْ الأمر الثاني، وهو أمر عظيم: أفضل الأَعْمَال بعد الفرائض، كيف أعرف أفضل الأَعْمَال بعد الفرائض، ومَا هي القواعد الَّتِي أميِّز بِهَا الفاضل من المفضول؟ هٰذا ما سيشير إليه شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-.
                    لكن –إن شاء الله- غدا قبل أن نتكلم عن هٰذا الأمر؛ سأتكلم عن بقية مكفرات الذنوب، لأني ذكرتُ فِيْ الدرس أنّ مكفرات الذنوب عشرة، وأنّ شيخ الإسلام ذكر منها أربعة، وأنّا سنذكر الباقي، ولم أذكره فِيْ ذاك الموطِن لأني لَمْ أحبّ أن أفصل كلام شيخ الإسلام فِيْ الأمر الأول. بعد أن فرغنا منه سأتكلّم عن بقية المكفرات الستة، وأنبّه على ما ينبغي أن يَكون المؤمن حيالها. ثم نشرع –إن شاء الله- فِيْ الأمر الثاني. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وسلّم.


                    (5)
                    بسم الله الرحمٰن الرحيم
                    الحمد لله رب العالمين، الرحمٰن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله وسلم عَلَيه تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، ورضي الله عن آله الطيبين الطاهرين، وعن صحابته الخيار الأكرمين. أما بعد:
                    فمعاشر الفضلاء نبدأ درسنا الليلة فِيْ شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله عَزَّ وَجَلَّ- ، نبدؤه بأمر عظيم وشأن كريم؛ ألا وهو الحديث عن بقية مكفرات الذنوب، وذلك أنّ شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- وغيره من العلماء قد ذكروا أنّ للذنوب مكفرات عشرة، فالعبد ما دام فِيْ الدنيا فهو خطّاء وعُرْضَة للوقوع فِيْ الذنوب.
                    ومن رحمة الله بهٰذه الأمّة الَّتِي رحمها بمحمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أنه لا يؤاخذها بما حدّثت بها أنفسها مهما عظم؛ ما لَمْ تتكلم أو تفعل، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنّ الله تجاوز عن أمّتي ما حدّثتْ به أنفسها ما لَمْ تتكلم أو تعمل» والحديث فِيْ الصحيح.
                    ومن رحمة الله عَزَّ وَجَلَّ بهٰذه الأمّة؛ أنّ من همّ بسيئة فمال إليها ولم يَجزم جزمًا مؤكَّدًا يتبعه عمل ثم لَمْ يعملها خوفًا من الله؛ تُكتب له حسنة، فإن تركها لغير خوف الله لا يُكتَب له ولا عَلَيه.
                    ومن رحمة الله بهٰذه الأمّة؛ أنّ العبد إذا عمل الذنب إنما تُكتَب عَلَيه سيئة واحدة لا يُزاد عليها.
                    ومع كل هٰذه الرحمة والفضل؛ فإنّ الله عَزَّ وَجَلَّ جعل لعباده أمورًا تُمحى بِهَا سيئاتهم، وتُكفَّر عنهم ذنوبهم، ذكر شيخ الإسلام فِيْ الوصية أربعةً منها، ونحن نعدُّ البقية ونعلِّق عليها.
                    فمكفرات الذنوب من حيث جنسها: عشرة:
                    أوّلها: التوبة. وهٰذا متّفقٌ عَلَيه بين المسلمين، والتوبة تنفع حتى فِيْ غفران الشرك، فمن تاب من الشرك تاب الله عَلَيه، وهي من الأمور الَّتِي أُمِرَ بِهَا جميع المؤمنين ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ﴾، وقَدْ تقدّم الكلام عليها.
                    والسبب الثاني: الاستغفار من غير توبة؛ أي أن يخاف العبد من الله، فيَستغفر من ذنبه؛ وإن كان قائمًا عَلَيه. وقَدْ تقدّم الكلام على التحقيق في المسألة.
                    وقَدْ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنّ رجلًا أذنب ذنبًا، فقال: ربِّ! إني أذنبتُ ذنبًا أو عملتُ ذنبًا فاغفر، قال الله عَزَّ وَجَلَّ: عمل عبدي ذنبًا فعَلِمَ أنّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؛ قد غفرتُ لعبدي، ثم أذنب ذنبًا آخر فقال: ربِّ! إني أذنبتُ ذنبًا أو عملتُ ذنبًا فاغفر، قال الله تبارك وتعالى: عَلِمَ عبدي أنّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؛ قد غفرتُ له، ثم أذنب ذنبًا آخر، قال: ربِّ إني عملت ذنبًا فاغفره، قال الله: عَلِمَ عبدي أنّ له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به؛ قد غفرتُ لعبدي فليفعل ما شاء». رواه أحمد بإسناد صحيح.
                    ومعنى «فليفعل ما شاء» ما دام أنه مقيم على الاستغفار الصادق؛ يبعثه خوفه من الله على أن يستغفر من ذنبه. وقَدْ تقدّم الكلام عن هٰذا السبب.
                    والسبب الثالث: الأعمال الصالحة المكفِّرة للذنوب. وتسمّى عند أهل العلم بالمُمَحِّصات أو بالحسنات الماحيات ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها». وقَدْ تقدّم الكلام عن هٰذا السبب.
                    والسبب الرابع: مصائب الدنيا والبلاء الَّذِي ينزل بالمؤمن فِيْ الدنيا. يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة؛ فِيْ نفسه وولده وماله؛ حتى يلقى الله ومَا عَلَيه خطيئة» رواه الترمذي بإسناد صحيح.
                    وقَدْ تقدّم الكلام فِيْ هٰذه المكفِّرات الأربعة، وقَدْ بيَّنا أنّ التوبة تنفع فِيْ غسل الذنوب كلها، وأنّ الأسباب الثلاثة الأُخَر إنما تنفع الموحِّدين؛ أمّا المشرك فإنه لا ينفعه ذٰلك؛ لأنه لا يُغفَر مع الشرك ذنب.
                    أما السبب الخامس: فهو شفاعة الشفعاء. وهٰذه الشفاعة نعني بِهَا: الشفاعة لأصحاب الذنوب بأن يعفو الله عنهم. لأنّ الشفاعة الثابتة أنواع، ونحن هنا إنما نتكلم عن الشفاعة لأصحاب الذنوب لكي يعفو الله عنهم.
                    وهٰذه الشفاعة أيها الأحبة قد تَكون للمذنبين قبل دخول النار، وقَدْ تَكون للمذنبين بعد دخولهم النار، فإنّ ربنا –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- من كرمه وفضله وبرِّه ورحمته أنه يأذن لمن شاء من عباده أن يشفع لمن رضي عنه من عباده ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، ﴿ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾، ﴿ يَوْمَئِذٍ لّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾.
                    فالشفاعة النافعة: هي الشفاعة بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالى مع رضاه عن الشافع والمشفوع له. والشفاعة المنفية: هي ما عدا هٰذا.
                    وقَدْ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي» رواه أبو داود بإسناد صحيح.
                    وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «للشهيد عند الله ست خصال: يُغفَر له فِيْ أوّل دَفعة من دمه، ويُرى مقعده من الجنة، ويُجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويُوضَع على رأسه تاج الوَقار؛ الياقوتة منها خير من الدنيا ومَا فيها، ويُزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع فِيْ سبعين من أقاربه» رواه الترمذي بإسناد صحيح.
                    الشهيد: شهيد المعركة، الَّذِي يَكون في جهاد مشروع؛ قد اجتمعت شروطه وانتفت موانعه، لأنّ الشهادة أثر الجهاد، فلا يصح ما يقوله البعض من أنّ الإنسان يذهب يقاتل الكفار ولو لَمْ تجتمع الشروط أو تنتفي الموانع لأنه إن قاتلهم فقتلوه يُغفَر له ذٰلك! فإنّ هٰذا الموعود على لسان خير مولودٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هُوَ فِيْ الجاهد المشروع الَّذِي اجتمعت شروطه وانتفت موانعه.
                    والشاهد هنا يا إخوة؛ أنّ الشهيد يشفع لسبعين من أقاربه.
                    وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليدخلنّ الجنة بشفاعة رجل من أمّتي أكثر من بني تميم»، بنو تميم قبيلة عربية معروفة بكثرة العدد، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليدخلنّ الجنة بشفاعة رجل من أمّتي أكثر من بني تميم» أي أنهم لا يستحقون دخول الجنة بعملهم لكن يشفع لهم هٰذا الرجل فيغفر الله لهم فيُدخلهم الجنة، «قالوا: سواك يا رسول الله؟!» كأنهم يقولون بعبارة أخرى: هل هٰذا الرجل أنت يا رسول الله أو رجل آخر؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سواي» أي أنه رجل من هٰذه الأمّة. رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح.
                    قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يقال للرجل –أي يوم القيامة-: يا فلان قم فاشفع، فيقوم الرجل فيشفع للقبيلة، ويقوم الرجل فيشفع لأهل البيت ويشفع للرجل وللرجلين على قدر عمله» رواه ابن خزيمة فِيْ التَّوحِيد بإسناد صحيح.
                    وفي الحديث فِيْ الصحيحين؛ أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فِيْ المؤمنين الَّذِينَ يجتازون الصراط الَّذِي يُنصَب على متن جهنم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وإذا رأَوا أنهم قد نجَو يقولون: ربنا إخواننا كانوا يُصلُّون معنا ويصومون معنا ويَعملون معنا! » يعني إذا اجتازوا الصراط ولم يسقطوا فِيْ جهنم تذكّروا إخوانهم الَّذِينَ تساقطوا فِيْ جهنم لَمْ يجتازوا الصراط؛ فيشفعون فيقولون: «ربنا إخواننا كانوا يُصلُّون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا»، وهٰذا من بركة انتظام الإنسان مع الصالحين مع أهل السنة مع المعروفين بالتَّوحِيد؛ فإنه يُرجى منهم خيرٌ كثير فِيْ الدنيا والآخرة.
                    العبد وإن كان مذنبًا وإن كان يقع فِيْ الذنوب فإنه إن وُفِّق يحرص على أن يَكون مع الصالحين، يحرص أن يَكون مع الموحّدين، يحرص أن يَكون مع أهل السنة؛ لأنهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، يُرجى إذا خالطهم أن يَرِقّ قلبه وأن يترك ذنبه، وإن مات على الذنب فإنه ترجى له شفاعتهم.
                    يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم فِيْ قلبه مثقال دينارٍ من إيمان فأخرِجوه» يعني من النار، قال: «ويحرِّم الله صورهم على النار» أي لا تؤذيهم «فيأتونهم وبعضهم قد غاب فِيْ النار إلى قدمه وإلى أنصاف ساقيه؛ فيُخرجون من عرفوا» ممن كان معهم «ثم يعودون، فيقول الله: اذهبوا فمن وجدتم فِيْ قلبه مثقال نصف دينار من إيمان فأخرِجوه، فيُخرجون من عرفوا، ثم يعودون فيقول الله: اذهبوا فمن وجدتم فِيْ قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه؛ فيُخرجون من عرفوا، فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون».
                    وجاء عند النسائي وغيره بإسناد صحيح أنّ الملائكة يوم القيامة تأتي تشفع، ويشفع الرُّسل.
                    وهٰذه شفاعات تقع من الملائكة وتقع من الأنبياء وتقع من الصالحين. وهٰذا الشفاعات لأهل الذنوب الَّذِينَ يستحقون دخول النار بذنوبهم؛ فيُشفَع لهم فلا يدخلون النار، أو يدخلون النار بذنوبهم فيُشفع لهم فيُخرَجون من النار.
                    والسبب السادس: رحمة الله وعفوه، ورحمة الله واسعة؛ وسعت كل شَيْء، والله يعفو عن السيئات ما لَمْ تكن شركًا ﴿ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾، وقَدْ دلّت الأدلة على أنّ الله يعفو عن عباده المؤمنين المذنبين بغير سبب منهم فِيْ الدنيا ويوم القيامة، فقد يذنب الموحِّد ذنبًا ولا يَفعل ماحيًا فيعفو الله عنه برحمته وفضله فِيْ الدنيا ويوم القيامة.
                    حتى أنّ الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- يُدني المؤمن يوم القيامة فيضع عَلَيه كَنَفَه ويَستره ويقول: أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي ربّ، حتى إذا قرَّره بذنوبه ورأى أنه هلك، قال سبحانه: سترتها عليك فِيْ الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. كما فِيْ الصحيحين.
                    «ويجاء يوم القيامة بأناس يأتون بذنوب أمثال الجبال يُغفَر لهم» كما عند مسلم فِيْ الصحيح.
                    ويؤتى بالرجل يوم القيامة من المؤمنين الموحِّدين فيقال: اعرِضوا عَلَيه صغار ذنوبه، فتُعرَض عَلَيه، ويُخبَّأ عنه كبارها، فيقال: عملتَ يوم كذا وكذا كذا وكذا وكذا، وهو مقرٌّ لا يُنكِر، وهو مشفقٌ من الكبار، يُعرَض عليه صغار ذنوبه؛ قد عملتَ فِيْ يوم كذا وكذا كذا وكذا وكذا وهو مقرٌّ لا يُنكر هٰذه الذنوب، ولكنّ قلبه خائفٌ من ذكر الكبائر مشفقٌ منها، فيقال: أعطوه مكان كلِّ سيئة حسنة» يعفو الله عن سيئاته ويُكرمه بجعلها حسنات «فيقول: إنّ لي ذنوبًا ما أراها؟» بعد أن كان مشفقًا من ذكر الكبائر أصبح طامعًا فِيْ ذكرها حتى يُعطى مكانها حسنات. ولذلك لمّا ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذٰلك ضحك حتى بدت نواذجه من حال هٰذا الرجل، كان مشفقًا وجِلًا خائفًا من ذكر الكبائر؛ فلمّا رأى كرم الله طمِع فأخذ هُوَ يبحث عنها ويقول: إنّ لي ذنوبًا ما أُراها؟ أي الكبائر الَّتِي خُبِّأت عنه؛ من أجل أن يُعطى بدلها حسنات، فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواذجه. وهٰذا الحديث رواه الإمام أحمد فِيْ المسند، وصححه الألباني.
                    ولا يزال ربنا الكريم يرحم عباده فِيْ الدنيا، ويرحم عباده يوم القيامة، حتى لا يُبقي فِيْ النار من قال لا إله إلا الله من قلبه. ولا يزال العبد المؤمن يُرجى له عفو الله ومغفرة الله.
                    وليحذر المؤمن المجاهرة بالمعاصي؛ فإنّ المجاهرة بالمعاصي لَهَا شؤمٌ عظيم، وقَدْ تمنع عفو الله.
                    يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإنّ من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يُصبِح وقَدْ ستره الله، فيقول: يا فلان! عملتُ البارحة كذا وكذا، وقَدْ بات يستره الله، ويُصبِح يَكشِف ستر الله عنه» رواه البخاري فِيْ الصحيح. «كلُّ أمتي معافى إلا المجاهرين» كل أمتي -ولو كانوا مذنبين- معافى؛ إلا المجاهرين.
                    وذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المجاهرة: أن يعمل الرجل العمل بالليل ويستره الله، ثم يصبح يتحدّث بذنبه يقول: يا فلان! قد عملتُ كذا وكذا البارحة، يصبح يستره الله ويكشف ستر الله عنه.
                    وهكذا كلُّ من فعل الذنب أمام الناس فهو من المجاهرين، وكلُّ من فعل الذنب خُفية ثم أعلنه أمام الناس فهو من المجاهرين.
                    فإن قال قائل: كيف نجمع بين هٰذا وحديث ثوبان –رضي الله عنه- الَّذِي قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لأعلمنّ أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء؛ فيجعلها الله هباء منثورًا» نسأل الله السلامة «فقال ثوبان: يا رسول الله! صفهم لنا جلّهم لنا؛ ألا نكون منهم ونحن لا نعلم! قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوامٌ إذا خلَو بمحارم الله انتهكوها» رواه ابن ماجة، وصححه الألباني؟
                    هنا يظهر باديَ الرأي تعارض؛ لأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين» وظاهر هٰذا أنّ الَّذِي يستخفي بذنبه معافى. وفي حديث ثوبان يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ولكنهم أقوامٌ إذا خلَو بمحارم الله انتهكوها»، وظاهر هٰذا أنّ الَّذِي يفعل الذنب فِيْ خلوة يَكون معاقَبًا بهٰذا العقاب العظيم!
                    وهٰذا فِيْ ظاهره تعارض! فكيف نجمع بين الحديثين، وأحدهما فِيْ الصحيح ومعناه فِيْ الصحيحين، والآخر صححه الألباني؟
                    نقول: جُمِعَ بينهما بوجوه:
                    الوجه الأول: أنّ حديث ثوبان: فِيْ أقومٍ إذا برزوا للناس أظهروا الطاعة والتذلُّل والعبادة رياء وسمعة، ولا يذكرون الله إلا قليلا، وإذا خلَوا بمحارم الله انتهكوها، فهؤلاء قومٌ منافقون أو قريبون من المنافقين، وهٰذا يتّفق مع كونهم يُجعَل حسناتهم هباءًا منثورًا، فإنّ المتقرِّر أنّ السيئات لا تحبط الحسنات ، وإن كان قد يؤخَذ من حسنات العبد من أجل خصومه يوم القيامة وتُطرَح عَلَيه من سيئات خصومه، لكن أن تَكون السيئة سببًا فِيْ حبوط الحسنة الصحيحة الصالحة فهٰذا غير وارد، ولذلك هٰذا الوجه -الَّذِي ذكره بعض أهل العلم- يتّفق مع الحديث: أنّ هؤلاء القوم الَّذِينَ إذا خلَوا بمحارم الله انتهكوها؛ قومٌ يتظاهرون بالطاعة أمام الناس، فلهم حسنات فيما يرى الناس، أمَّا عند الله فلا تزن هباءًا منثورًا، فإذا جاؤوا يوم القيامة بهٰذه الحسنات فِيْ الظاهر جعلها الله هباءًا منثورًا.
                    أمَّا حديث «كل أمتي معافى إلا المجاهرين» فهؤلاء قومٌ محّدون يعبدون الله ويخافون الله ولكنهم يقعون فِيْ الذنوب فيستترون بِهَا؛ هٰذا وجه.
                    الوجه الثاني فِيْ الجمع: قال بعض أهل العلم: إنّ حديث ثوبان –رضي الله عنه- «ولكنهم أقوامٌ إذا خلَوا بمحارم الله انتهكوها» أنهم أقوام لا يفعلون الذنوب أمام الناس حياءً من الناس لا من الله، فإذا خلَوا ارتكبوا الذنوب ولا يستحيون من الله، يعني هم فِيْ ظاهر الأمر أمام الناس يتركون الذنب ليس حياء من الله ولا خوفًا من الله لكنهم يستحيون من الناس، ولذلك؛ ما إن يخلو أحدهم بالذنب حتى يفعله بلا تردد، لأنه لا يستحي من الله وإنما يستحي من الناس.
                    وأما حديث «كلُّ أمتي معافى إلا المجاهرين» فهؤلاء أقوامٌ يستترون بذنوبهم حياءً من الله وحياءً من الناس، فهم يستترون بذنوبهم وفي قلوبهم خوف الله والحياء من الناس لكن يغلبهم الضعف فيقعون فِيْ الذنوب ويَتستّرون بِهَا، فهؤلاء يُرجى لهم عفو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                    والوجه الثالث: فِيْ قوله صلى الله عَلَيه وسلم: «ولكنهم أقوامٌ إذا خلَوا بمحارم الله انتهكوها» قال بعض أهل العلم :هؤلاء الَّذِينَ يخونون الأمانة، أي يؤتمَنون على الشيء فينتهكونه، كالرجل الَّذِي يُزاني حليلة جاره. الرجل الَّذِي يُزاني حليلة جاره من أشدِّ الناس ذنبًا ومن أعظمهم عقابًا ؛ لأنّ جاره يأتمنه على أهله، لا يظن منه الخيانة، فإذا ذهب جاره انتهك هٰذه الحرمة وزانى أهله، والعياذ بالله.
                    أو من يؤتمَن على أبناء المسلمين ويُوضَع عنده أولاد المسلمين؛ فإذا خلى بهم انتهك محارم الله، إمّا بمعنى أن يعلِّمهم ما يخالف شرع الله؛ أن يعلِّمهم التكفير، أن يعلمهم التفجير والتدمير، أن يعلمهم كيف يكونون سيفًا فِيْ صدور أهل بلادهم، أ وبالانتهاك الحسي؛ بانتهاك أعراضهم، فهؤلاء قومٌ ذنبهم عظيم.
                    ومعنى أنّ حسناتهم تَكون كالهباء المنثور هٰذا الوجه؛ أنّ سيئاتهم ترجح على سيئاتهم، ويكون ذٰلك سببًا فِيْ تعذيبهم فِيْ النار عذابًا عظيمًا.
                    فينبغي على العبد الَّذِي يرجو رحمة الله أن يُعظِّم خوف الله فِيْ قلبه، وأن يحرص عن البعد عن الذنوب، فإن ابتُلي بِهَا حرص على البعد بها؛ بحيث يَستتر بِهَا، غير متجرئ على محارم الله وغير مستهتر بما حرّم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                    أما السبب السابع فِيْ تكفير الذنوب: فهو دعاء المؤمنين. دعاء المؤمن للمؤمن ينفعه وينفع الاثنين، فإنّ المؤمن إذا استغفر لأخيه المؤمن بظهر الغيب قالت الملائكة: آمين ولك مثله، فتؤمِّن على دعائه وتدعوا له، فأنت يا عبد الله إذا جلستَ فِيْ جوف الليل على سجادك ودعوتَ الله واستغفرتَ لنفسك واستغفرت لجارك واستغفرت لإخوانك الَّذِينَ تعلمهم وتعلم لهم ذنوبًا وقلتَ: اللهم يا ربِّ اغفر لجاري فلان، يقول الملك: آمين ولك مثله، يا ربِّ اغفر لأخي فلان، يقول الملك: آمين ولك مثله.
                    ورُويَ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة»، من استغفر للمؤمنين والمؤمنات؛ يعني جملةً؛ فقال: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات؛ «كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة»، وهٰذا الحديث حسَّنه الألباني –رحمه الله- فِيْ موضع، لكنه فِيْ هٰذا تابَع الهيثمي؛ حيث قال فِيْ حاشية: والعهدة عَلَيه، فلمّا طُبِع مسند الشاميين للطبراني ووقف الشيخ على إسناده؛ رجع عن تحسينه؛ لأنّ إسناده لا يَحسُن للتحسين، وقَدْ نبّهتُ عَلَيه لأنه منتشر على ألسنة طلاب العلم على أنه حديث حسن يُحتجّ به لأنّ الشيخ ناصر –رحمه الله- قد حسَّنه. ولكن لا شك أنّ استغفار المؤمن للمؤمنين والمؤمنات ينفعه وينفعهم.
                    يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ مثالٍ لهٰذا: «ما من ميّتٍ يصلي عَلَيه أمّة من المسلمين يَبلغُون مائة كلهم يُشفعَّون أو يَشفَعون؛ إلا شُفِّعوا فيه» رواه مسلم. «يَشفَعون» أي يدعون له «إلا شُفِّعوا فيه» .
                    وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من رجل مسلم يموتُ فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يُشرِكون بالله شيئًا إلا شفَّعهم الله فيه» رواه مسلم. وهٰذا مثال لدعاء المؤمنين وانتفاع العبد بدعائهم.
                    طيّب؛ قد يقول لنا قائل: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر أنه يصلي عَلَيه أمّة من المسلمين يبلغون مائة، وفي الحديث الآخر قال: يقوم على جنازته أربعون، وكلاهما عند مسلم فِيْ الصحيح، فكيف نجمع بينهما؟
                    جمع بينهما العلماء بوجوه:
                    الوجه الأول: قال بعض العلماء: هٰذا من تخفيف الله عن الأمّة؛ بمعنى: أنّ الله جعل الفضل للمائة، ثم خفَّف عن هٰذه الأمّة فجعل الفضل للأربعين.
                    الوجه الثاني: قال بعض أهل العلم: إنّ الأربعين وجه الكمال والمائة ومَا زاد أكثر الكمال. يعني أقلّ الكمال فِيْ هٰذا الفضل أن يصلي عَلَيه أربعون، وأعلى الكمال أن يصلي عَلَيه مائة فما فوق.
                    الوجه الثالث: قال بعض أهل العلم: هٰذا باعتبار اختلاف صفة المصلين، فإن كان المصلُّون موحِّدين خُلَّص لا يقع منهم الشرك الأصغر ولا الخفي بل توحيدهم خالص سالم من الشرك الأصغر والخفي؛ فإنه يكفي أن يَشفَع أربعون؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يُشرِكون بالله شيئًا».
                    وإن كان المصلُّون من الموحّدين لكن فيهم من فيه شركٌ أصغر أو شركٌ خفيّ؛ يعني بعضهم يحلف بغير الله يقول: والنبي، يقول: وحياة أمي، يقول: وحياة أولادي، يقول: والكعبة؛ فهٰذا شرك أصغر «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»، أو فيهم رياء خفيف يسير، فهؤلاء موحّدون لكن فيهم شَيْء من الشرك الَّذِي لا يَنقُض التَّوحِيد وإنما يُنقِصه، فهؤلاء ينفع منهم إذا صلى منهم مائة. فيكون المائة بالنسبة لصفة هؤلاء والأربعون بالنسبة لصفة هؤلاء.
                    والشاهد معنا فِيْ درسنا وفي هٰذا السبب: أنّ دعاء المؤمنين ينفع للمذنبين من المؤمنين. وقَدْ قال الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿واسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ولِلمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ﴾، ولو لَمْ يكن ذٰلك نافعًا لَمَا أمر الله به.
                    ومن أعظم ما ينفع دعاء الولد لوالده؛ لا سيّما الصالح، فإنه ثبتَ أنّ الرجل تُرفَع درجته فِيْ الجنة فيقول: أنّى لي هٰذا؟ كيف لي هٰذا؟ يعرف أنه ليس من أهل هٰذه الدرجة، فيقال: باستغفار ولدك لك، ولا يزال الولد الصالح يستغفر لأبيه حتى يُغفَر له، ثم تُرفَع درجتُه فِيْ الجنة.
                    والسبب الثامن من المكفرات: ما يُعمَل للميِّت من أعمال البر، فإنّ أعمال البر تمحو السيئات –كما تقدّم معنا-، الأَعْمَال الصالحة تمحو السيئات، فإذا صحّ فعلها للميِّت فإنه يُرجا له أثرها كله بما فِيْ ذٰلك محوُ السيئة بِهَا.
                    وأعمال البر الَّتِي تُعمَل للميّت؛ منها ما اتُّفِقَ على صحة عملها للميت فِيْ الجملة على خلاف فِيْ التفاصيل؛ كالصدقة والحج والعمرة والصوم، فإنّ هٰذه الأَعْمَال تُعمَل للميِّت وتنفعه؛ وقَدْ دلّت على ذٰلك الأحاديث.
                    والمعلوم أيها الإخوة؛ أنّ الصدقة تُطفئ الخطيئة، فإذا تُصدِّق عن الميِّت رُجِيَ له ثواب الصدقة وأن تُطفأ خطيئتُه بهٰذا، والمعلوم أنّ الحج مكفّر للذنوب، فإذا حُجَّ عن الميت رُجِيَ له أن يحصل له أثر الحج، ومِن أثر الحج أن تُكفَّر ذنوبه. والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، فإذا اعتُمِرَ عن الميت رُجِيَ أن تُكفَّر ذنوبه. والصوم جُنَّة وكفارة فإذا صِيمَ عن الميّت فيما هُوَ واجب عَلَيه –فإنّ من مات وعليه صيام صام عنه وليُّه- فإنه يرجا ن تُكفَّر بهٰذا ذنوبه.
                    -وقَدْ ذهب بعض أهل العلم من السلف والخلف إلى أنّ كل عمل برٍّ يُهدى للميِّت ينفعه؛ بشرط: أن يَكون مشروعًا لا مبتدعًا.
                    -وذهب بعض أهل العلم من السلف والخلف إلى أنّ هٰذا أمرٌ غيبيّ فيُقتَصر فيه على ما ورد فيه نصوص دالة على النفع به وعلى وصوله. وهٰذا الَّذِي يظهر لي –والله أعلم- أنه أصوب من أقوال العلماء؛ لأنه لا دليل عندنا لا من قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا من فعله، ولا من ما يصح عن صحابته -رضوان الله عليهم- صحة يصح الاستدلال بِهَا على ذٰلك على أنّ الأَعْمَال يصل ثوابها إلى الميِّت إلا ما نُصَّ عَلَيه.
                    وعليه؛ فإن الَّذِي يظهر لي –والله أعلم- أنه يُقتَصر على ما ورد، ومَا عداه من الأَعْمَال فيُتوسَّل به فِيْ الدعاء؛ فيقول العبد: اللهم إني أسألك بصلاتي هٰذه أن تغفر لأبي مغفرة من عندك وأن ترحمه، على سبيل المثال، أو يقول: اللهم إني أسألك بقراءتي سورة البقرة أن تغفر لأبي وأن ترحمه؛ فإنّ التوسُّل إلى الله فِيْ الدعاء بالعمل الصالح من التوسُّل المشروع النافع.
                    وأما السبب التاسع من المكفّرات: فهو ما يحصل فِيْ القبر للمؤمن من الضغطة والفتنة والرَّوعة.
                    العبد إذا اُدخِل فِيْ قبره تَحصل له ضغطة لا ينجو منها أحد، ولو كان أحدٌ ينجو من ضغطة القبر لنجا منها سعد بن معاذ؛ كما صح ذٰلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                    وفي القبر فتنة، فإنكم تُفتَنون فِيْ قبوركم، الرجل الصالح إذا أُدخِل فِيْ قبره يجلس غير فزعٍ ولا مَشغوف، فيقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقال: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقال: من هٰذا الرجل الَّذِي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله، أتانا من عند الله، فصدّقناه، فيقال: وهل رأيت الله؟ فيقول: ما ينبغي لأحدٍ أن يرى الله –أي فِيْ الدنيا-، فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، فأفرِشوه من الجنة، والبِسوه من الجنة، ويُفسَح له فِيْ قبره مدّ بصره، ويأتيه من رَوح الجنة وريحانها. وإذا كان الرجل على غير ذٰلك، فإنه يأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه، فيجلس فزِعًا مشغوفًا، فيقال: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: من هٰذا الرجل الَّذِي بُعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقولان: محمد، فيقول: هاه هاه لا أدري كنتُ أسمع الناس يقولون قولًا فقلتُه، فينادي منادٍ من السماء: أن كذب عبدي فأفرِشوه من النار وألبِسوه من النار ويُضيَّق عَلَيه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه من حرّ جهنم وسمومها. فهٰذه فتنة القبر، والروعة تحصل مع الفتنة لبعض من يُفتَن.
                    ولم أقف على دليلٍ خاصٍّ يدلّ على أنّ هٰذا السبب من المكفّرات؛ لا من الكتاب ولا من السنة، ولكن يظهر لي –والله أعلم- أنّ شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- ومَن ذكر هٰذا من العلماء؛ إنما ذكروه من باب الالحاق الأولويّ؛ لأنه دلّت الأدلة على أنّ الشدائد الَّتِي تصيب المؤمن فِيْ الدنيا تكفِّر سيئاته، والشدائد الَّتِي فِيْ القبر أعظم؛ فمن باب أولى أن تُكفَّر بِهَا السيئات. والله أعلم بحقيقة الحال.
                    وأما السبب العاشر: فهو أهوال يوم القيامة وكُرَبها وشدائدها، فإنّ يوم القيامة يوم عظيم، يومٌ فيه من الشدائد الشَيْء الكثير، يُحشَر فيه الناس حفاةً عراةً غُرلًا، على صعيد واحد، تقول أمّنا عائشة –رَضِيَ اللهُ عَنْها-: «الرجال والنساء يا رسول الله؟! » من حيائها رَضِيَ اللهُ عَنْها وأرضاها، أمّنا زوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ الدنيا مات وهو عنها راضٍ، مات واستأذن نساءه فِيْ آخر حياته أن يُمرَّض فِيْ بيتها -رَضِيَ اللهُ عَنْها- فأذنّ له، وكان آخر ما خالط ريقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الدنيا ريقها الطاهر، رضي الله عنها وأرضاها، زوج نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ الجنة، لا يحبّها إلا مؤمن، ولا يُبغِضها من فِيْ قلبه مثقال ذرة من إيمان، والله! لا ينال من عرضها مؤمن، والله! لا يَسبّها سبَّا يقدح فِيْ عرضها ودينها فضلًا عن أن يُكفّرها من فِيْ قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، الحييَّة، الصدّيقة بنت الصدّيق، المباركة بنت المبارك، تقول: «يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! فيقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا عائشة! الأمر أشدّ من ذٰلك! »، الأمر أشدّ من ذٰلك؛ لا ينظر ـحد إلى أحد ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾، الأم الَّتِي لا يمكن أن تذهل عن رضيعها يوم القيامة تذهل عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها من الخوف والهلع، وترى الناس سكارى يتمايلون ومَا بهم سُكُر؛ ولكن ّعذاب الله شديد، رأَوه فأصبحوا يتمايلون من الخوف، تدنو الشمس على رؤوس الخلائق مقدار ميل، فمنهم من يبلغ العرق إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ العرق إلى حِقْوَيه؛ يعني إلى وسطه، ومنهم –والعياذ بالله- من يُلجِمه العرق إلجامًا، شدائد عظيمة حتى يُفرِّج الله عن الخلق بأن يشفع محمدٌ بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشفاعة العظمى الَّتِي هي المقام المحمود؛ بأن يسجد بين يدي الله، متذلِّلًا حامدًا ذاكرًا مثنيًا على ربه، ويفتح الله عَلَيه من المحامد حتى يأذن الله له بالشفاعة فيشفع فيُقضى بين الخلائق.

                    يتبع..
                    كتبه أخوكم شـرف الدين بن امحمد بن بـوزيان تيـغزة

                    يقول الشيخ عبد السلام بن برجس رحمه الله في رسالته - عوائق الطلب -(فـيا من آنس من نفسه علامة النبوغ والذكاء لا تبغ عن العلم بدلا ، ولا تشتغل بسواه أبدا ، فإن أبيت فأجبر الله عزاءك في نفسك،وأعظم أجر المسلمين فـيك،مــا أشد خسارتك،وأعظم مصيبتك)

                    تعليق


                    • #11
                      رد: شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شرح فضيلة الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله

                      والدليل على أنها جامعةٌ لخصال الخير أمران:
                      -الأمر الأول: أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصى بِهَا معاذًا؛ ولمعاذ –رضي الله عنه- منزلة عليّة عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمدرَك عند عباد الله أنه كلّما عظُم حب الموصي لمن يوصيه كلّما جمع له الجوامع فِيْ الوصية.
                      -وأما الدليل الثاني على كونها جامعة: فهو ما ورد فيها من خصال الخير، جمعتْ للإنسان الخير فِيْ الحقوق كلها، فِيْ حق الله، وفي حق خلق الله، فدلّت الإنسان على لزوم الصلاح، وإصلاح الفساد، ومخالَقة الناس بخُلق حسن. ومن التزم هٰذا فقد التزم الخير كله.
                      وقَدْ قلنا إنّ أهل العلم يقولون: «إنّ جماع الدِّين: الصدق مع الحق، وحُسن الخُلق مع الخَلق».
                      وبيّن شيخ الإسلام أهمية هٰذه الوصية وعلوّ شأنها بأمرٍ رابع: وهو أنها تفسير لوصية ربنا –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، فاجتمع فيها أنها نصّ وصية حبيبنا وخليلنا محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتفسير وصية ربنا –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                      وقَدْ فرغنا البارحة من تقرير شيخ الإسلام –رحمه الله- لكون هٰذه الوصية جامعة.
                      واليوم –إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ- نَشرع فِيْ تقريره –رحمه الله- أنّ هٰذه الوصية تفسيرٌ لوصية ربنا –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-. فيقرأ لنا الشيخ ياسين –وفقه الله-.
                      وأمّا بيان أنّ هٰذا كلَّه فِيْ وصية الله؛ فهو أنّ اسم تقوى الله يجمع فعْل كلّ ما أمر الله به إيجابًا واستحبابًا، ومَا نهى عنه تحريمًا وتنزيهًا، وهٰذا يَجمع حقوق الله وحقوق العباد
                      تقدَّم معنا أيها الإخوة أنّ وصية الله للأوّلين والآخرين لكلّ من أوتيَ كتابًا: هي وصيته –سبحانه- بتقواه ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾، ولذلك ذكر أهل العلم أنّ الوصية بتقوى الله مما اتّفقت عَلَيه الرسل، فمن الأمور الَّتِي اتّفقت عليها الرُّسل: الوصية بتقوى الله –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                      فهنا يريد الشيخ –رحمه الله- أن يُبيِّن أنّ وصية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ فسَّرت وصية ربنا –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- لنا بتقواه؛ فقال: «أمّا بيان أنّ هٰذا كله فِيْ وصية الله» يعني أنه تفسير لوصية الله «فهو أنّ اسم تقوى الله يجمع فعل كلّ ما أمر الله به إيجابًا واستحبابًا، ومَا نهى عنه تحريمًا وتنزيهًا»، هٰذه حقيقة التقوى، المؤمن إذا سمع شأن الوصية بالتقوى، وعلم أنّ الله وصّى بِهَا الأوّلين والآخرين وأنها وصية أنبياء الله وأنها وصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمّا قال له الصحابة: « كأنها موعظة مودّعٍ فأوصنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله»، وعلِمَ أنّ هٰذه التقوى الَّتِي هي قليلة المبنى عظيمة المعنى حَوَت تحت رايتها كل خير فِيْ الدنيا والآخرة، فما من خير للإنسان فِيْ الدنيا والآخرة إلا وسببه تقوى الله –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، فإذا علِمَ المؤمن هٰذا وتفكَّر وتدبّر فِيْ ثمار التقوى واشتاق قلبه إلى أن يَكون من المتّقين؛ فإنه ينبغي أن يعلم حقيقة التقوى.
                      حقيقة التقوى كما قال العلماء: هي «أن تعمل بطاعة الله على نور من الله؛ ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله؛ تخاف عقاب الله».
                      «أن تعمل بطاعة الله» بالأوامر، «على نور من الله» بالدليل، ليس بالبدع وليس بالمحدثات وإنما بما دلّ عَلَيه الدليل، فأنت وقَّافٌ عند قال الله قال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مسلِّم نفسك لِمَا ورد فِيْ الكتاب والسنة، «أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله» هٰذا الإخلاص؛ أن يَكون قصدك من فعل الأَوامِر أن تُرضيَ الله –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- فتحصل على ثوابه.
                      «وأن تترك معصية الله» فتجتنب ما نهى الله عنه، أيضًا «على نور من الله»؛ على وِفْقِ الدليل، ليس من باب التنطّع ولا من باب التشدّد ولا من باب تحريم ما أحلّ الله وإنما على وِفْقِ الدليل؛ «تخاف عقاب الله» وهٰذا الإخلاص؛ فأنت عندما تترك ما نهى الله عنه فإنما تتركه لأنك تريد أن يرضا الله عنك بترك المنهيات، فأنت تخاف عقاب الله إن فعلتَ ما نهى الله عنه، ونعني بما نهى الله عنه هنا: المحرمات، وأما المكروهات فقد تقدّم معنا أنّ من تركها يفوته الثواب أمَّا من فعلها فإنه لا يستحق بذلك العقاب. هٰذه حقيقة التقوى.
                      وقَدْ قال بعض أهل العلم: «إنّ حقيقة التقوى: أن تعيش فِيْ الدنيا كأعمى يحتاج إلى قائد، وسائرٍ فِيْ أرض شوك»، أن تَكون كأعمى يحتاج إلى قائد؛ فلا تتحرك إلا بأمر الله، تفعلُ إذا أُمرْتَ بالفعل، وتتركُ إذا أُمرتَ بالترك، وإذا أُبيحَ لك الأمر فعلتَ أحد الأمرين بالفعل أو الترك، فتكون كالأعمى يُقاد بقال الله قال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويكون بصرك ما ورد فِيْ كتاب الله وفي سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                      وأن تعيش فِيْ الدنيا كالذي يمشي فِيْ أرضٍ ذات شوك؛ لا يَغفَل أبدًا، نظره دائمًا فِيْ موطئ قدمه يخاف أن يؤذيَه الشوك، وكذلك أنت فِيْ الدنيا فِيْ زمن فتنة فِيْ زمن الابتلاء؛ فينبغي أن تسير كمن يسير فِيْ أرض الشوك، كما قال:
                      خَلِّ الذنوبَ صغيرَها وكبيرَها فهو التُّقى واصنعْ كَمَاشٍ فَوقَ الشوكِ يحذر ما يرى
                      لا تحقرنّ صغيرة إنّ الجباب من الحصى
                      إذا كنت تريد أن تَكون متقيًا حق التقوى فاترك الذنوب صغيرها وكبيرها، لماذا؟ لأنك لا تنظر إلى الذنب ولكنك تنظر إلى من تعصي وتعلم أنه يراك ويسمعك.
                      خَلِّ الذنوبَ صغيرَها وكبيرَها فهو التقى واصنعْ كماشٍ فوق الشوكِ يحذر ما يرى
                      لا تحقرّن صغيرة، إياك يا عبد الله أن تقول: هٰذا ذنب صغير «إياكم ومحقّرات الذنوب»، لماذا؟ لأنّ محقَّرات الذنوب الصغيرة الَّتِي يراها الإنسان صغيرها ويحتقرها؛ يتساهل فيجمع الذنب على الذنب حتى يَرينَ على قلبه. ولذلك قال:
                      خَلِّ الذنوبَ صغيرَها وكبيرَها فهو التقى واصنعْ كماشٍ فوق الشوكِ يحذر ما يرى
                      لا تحقرنّ صغيرة إنّ الجباب من الحصى
                      قد تجمع العود فوق العود حتى تصبح قَشَّةً كبيرة. هٰذه حقيقة التقوى.
                      وإذا نظرنا وجدنا أنها مفسَّرة فِيْ حيث معاذ؛ «اتق الله حيثما كنت» يعني افعل الأَوامِر واجتنب النواهي، «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» إذا حصل منك زلل فامْحُه بالحسنة، «وخالق الناس بخُلق حسن» وهٰذا مما شرعه الله، فإنّ الله شرع لنا أن نخالق الناس بالأخلاق الحسنة –كما تقدّم معنا-، فهٰذه حقيقة التقوى. ولذلك قال الشيخ : «وهٰذا يجمع حقوق الله وحقوق العباد».
                      هنا؛ كأنّ سائلًا سأل شيخ الإسلام، وقال: ما دمتَ تقول: إنّ حقوق العباد وحقوق الخلق موجودة فِيْ تقوى الله، فلماذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن»؛ لِمَ لَمْ يقتصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قوله: «اتق الله حيثما كنت»، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أوتيَ جوامع الكلم، فلماذا لَمْ يقتصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قوله: «اتق الله حيثما كنت»؟ فأجاب بما تسمعون:
                      لكن لمّا كان تارة يعني بالتقوى خشية العذاب المقتضية للانكفاف عن المحارم؛ جاء مفسَّرًا فِيْ حديث معاذ رضي الله عنه
                      التقوى إذا ذُكرَت مفرَدة فهي تعني الدين كله، إذا أُمرْنا بالتقوى بمفردها فهي تعني الدين كلَّه، وإذا ذُكرَت مع غيرها من الأَوامِر فهي تدلّ على الدين ويكون ذِكْرُ غيرها من باب بيان الشرف والأهمية، وإفراد الشيء عن نوعه دليل على شرفه، كما قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾، الروح جبريل -عَلَيه السلام- من الملائكة لكن أُفرِد للتنويه بشرفه، وتارةٌ يُذكَر ويكون معها المنهيات أو يَكون معها الأَوامِر؛ فيكون المقصود بالتقوى: اتِّقاء عذاب الله، فيكون كأنّ المعنى: اتقوا عذاب الله فافعلوا هٰذا المذكور.
                      فيقول هنا –رحمه الله-: «لكن لمّا كان تارة يعني» يعني ربنا «بالتقوى خشية العذاب المقتضية الانكفاف عن المحارم؛ جاء مفسَّرًا فِيْ حديث معاذ»، فجاء الأمر بفعل الأَوامِر و اجتناب النواهي وإصلاح الفاسد ومخالقة الناس بخلق حسن؛ لدفع التوهُّم.
                      وكذلك فِيْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه- الَّذِي رواه الترمذي وصححه، قيل: يا رسول الله! ما أكثر ما يُدخل الناس الجنة؟ قال: «تقوى الله، وحسن الخلق»، قيل: ومَا أكثر ما يُدخل الناس النار؟ قال: «الأجوفان: الفم والفرْج»
                      يقول: « وكذلك فِيْ حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- الَّذِي رواه الترمذي وصححه، قيل: يا رسول الله! ما أكثر ما يُدخِل الناس الجنة؟» ومَا أعظمه من سُؤال! كلُّ مؤمنٍ يريد أن يدخل الجنة؛ فينبغي أن يسلك مسالكها، قال: «تقوى الله وحُسن الخُلق» فذكر تقوى الله وحُسن الخُلق، فهنا إمَّا أن يَكون ذكْر حُسن الخُلق من باب إفراد بعض أفراد العام، فتقوى الله منها حُسن الخُلق، فيكون هٰذا للتنبيه على عِظَم شأن حُسن الخُلق، وإمّا أن يَكون معنى تقوى الله: أن يتقي العبد عذاب الله بفعل ما أُمِرَ به ومنه حُسن الخُلق.
                      «قيل: ومَا أكثر ما يُدخِل الناس النار؟ قال: «الأجوفان: الفم، والفرْج» قال الترمذي: صحيح غريب، وقال المنذري: إسناده صحيح أو حسن، وحسّنه إمام العصر فِيْ الحديث: الإمام الألباني، رحم الله الجميع.
                      ولخطورة الفم والفرج قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن يَضمَن لي ما بين لَحيَيه ومَا بين رجليه؛ أضمن له الجنة»، « من يضمن لي ما بين لحييه» وهو اللسان، «ومَا بين رجليه؛ أضمن له الجنة».
                      الشهوات يا إخوة من أعظم أسباب فتنة الإنسان فِيْ الدنيا إن لَمْ يُهذِّبها، الله خَلَقَ فينا الشهوة، فالشهوة مركَّبة فينا، ولم يُحرِّم علينا أن نصرف الشهوة؛ ولكن حرّم علينا الاعتداء فيها، فهذّب لنا شهواتنا، فجعل لنا طريقًا كريمًا فيها؛ وهو النكاح أو ملك اليمين إن وُجِدَ على الوجه الشرعيّ، فالذي يُهذِّب شهوته يعيش مباركًا، والذي يعتدي فِيْ شهوته يعيش مفتونًا، وأعظم الشهوة خطرًا على الرجل والمرأة معًا: شهوة اللسان، وشهوة الفرج.
                      أمّا شهوة اللسان فهي أخطر فتنة على الرّجل والمرأة؛ لسهولتها، اللسان سهل أنّ الإنسان يَلِغ به فِيْ المحرمات؛ يكذب، يغتاب، ينم، فهي سهلة خفيفة؛ ولذلك فهي خطيرة، لا تحتاج إلى مؤونة.
                      وأخطر ما يَكون على الرجل والمرأة شهوة الفرج من جهة أثرها، إذن أخطر ما يَكون على الإنسان فِيْ الشهوات: شهوة اللسان، وشهوة الفرج.
                      أما شهوة اللسان فلخفّتها وسهولتها وسرعة الوقوع فيها.
                      وأما شهوة الفرج فلعِظَم أثرها. وقَدْ قال بعض العلماء حكمة، قال: «لا يزال الإنسان يستحي من الله حتى يزني –والعياذ بالله-» يعني مهما وقع منه من المعاصي لا يزال فيه شَيْء من الحياء؛ يستحي من الله، حتى يزني، فإذا زنى انكسر الحياء فِيْ قلبه، فيتسارَع إلى بقية الشهوات.
                      وهٰذا سرُّ جَمْعِ حبيبنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الأمرين: شهوة الفم وشهوة الفرج؛ لخطورتهما من هاتين الجهتين، فكلُّ واحدةٍ منهما أخطر من جهة، فالفم أخطر من جهة السهولة، والفرج أخطر من جهة الأثر ومَا يترتّب على ذٰلك.
                      ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وهل يَكُبُّ الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم!» كما رواه الترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح. فاللسان لخفّته ولسهولة الوقع فِيْ المعصية به؛ يَكون سببًا فِيْ كَبِّ كثير من الناس فِيْ النار على وجوههم، لأنهم قد يتساهلون فِيْ هٰذا.
                      ولذلك يقول أهل العلم: «كلُّ معصية يتخبّأ بِهَا الإنسان فِيْ الغالب، إلا معاصي اللسان فإنها تَكون أمام الناس»، يعني المعاصي فِيْ الغالب الإنسان يختبئ بِهَا؛ إلا معاصي اللسان فلابد أن تَكون مع أحد، يأتي يغتاب يكذب ما يهمه، ربما يأتي مجلس فيه فضلاء أمثالكم ويكذب مئات الكذبات أمام الفضلاء، ولذلك هُوَ خطير على الإنسان.
                      ومراد شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- أن يقول: إنما ورد فِيْ حديث معاذ إنما هُوَ تفصيلٌ للفائدة؛ كما فصَّل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ حديث أبي هريرة.
                      وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قال: قال رسول الله صلى الله عَلَيه وعلى آله وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا»
                      «وفي الصحيح» هنا أنبه على فائدة لطلاب العلم، الصحيح فِيْ لسان العلماء إمّا أن يراد به ما فِيْ الصحيحين؛ البخاري ومسلم، أو فِيْ أحدهما، أو يراد به الحديث الصحيح، وليس خاصًا بالكتابَين. أنبه على هٰذا لأنّ بعض طلاب العلم لا يتنبّه لهٰذا فيحمل مصطلح المتقدِّمين على مصطلحنا اليوم، فبعض المحققين اليوم مثلًا يأتي يحقق كتاب فيجد أن الشيخ قال «وفي الصحيح» فيقول: لَمْ أجده فِيْ الصحيح؛ يظن أنّ المقصود صحيح البخاري أو صحيح مسلم، أو يقول: وَهِمَ الشيخ هنا فالحديث ليس فِيْ الصحيح، أو يحاول أن يأتي بحديث آخر غير الَّذِي ذكره الشيخ من الصحيح لعله قريب منه، وهٰذا خطأ فِيْ فَهْمِ مراد العلماء.
                      شيخ الإسلام هنا عندما يقول: «وفي الصحيح» يعين فِيْ الحديث الصحيح، ولا يعني البخاري ومسلم.
                      «وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر –رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قال: قال رسول الله صلى الله عَلَيه وعلى آله وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا»، والحديث رواه الحاكم وصححه، وأبو داود وسكت عنه، والترمذي وقال: حسن صحيح، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية كما معنا هنا، وصححه الألباني. فالحديث صحيح.
                      قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا»؛ وهٰذا يدل على أنّ الأَعْمَال من الإيمان، سواء كانت قوليه أو فعليّة، فإنّ حُسن الخُلق من الإيمان؛ وقَدْ يَكون قولًا وقَدْ يَكون فعلًا.
                      ويدل كذلك على أنّ الإيمان يزيد وينقص؛ لأنّ الَّذِي يزيد ينقص، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «أكمل المؤمنين إيمانًا».
                      وهٰذا يردّ على طائفتين؛ كلاهما تزعم أنّ الإيمان واحدٌ لا يتجزّأ:
                      - منهما طائفة تقول: الإيمان واحد إن ذهب بعضه ذهب كله، فإذا كذب الإنسان أو زنى خرج من الإيمان عندهم.
                      وطائفة قابلتهم فقالت: الإيمان واحد إن ثبتَ بعضه ثبتَ كلّه؛ وهؤلاء المرجئة الَّذِينَ يرون انّ المؤمنين سواسية فِيْ الإيمان، ويؤخِّرون العمل عن الإيمان، ثم هم أصناف:
                      -صنف لا يرى ارتباط العمل بالإيمان؛ وهؤلاء غلاة المرجئة.
                      -وصنف يرى أنّ العمل مطلوب فِيْ الإيمان وليس من الإيمان، (مطلوب فِيْ الإيمان) يعين بسبب الإيمان، وليس من الإيمان؛ وهٰذا صنيع مرجئة الفقهاء.
                      -والذي عَلَيه أهل السنة والجماعة ودلّت عَلَيه الأدلّة ومنه هذا الحديث: أنّ العمل من الإيمان، وأنّ الإيمان يزيد وينقص، وأنّ من ادّعى الإيمان ولم يأتِ بعمل مع العلم والقدرة لا يَكون مؤمنًا حقيقة فِيْ الشرع وعند أهل السنة والجماعة.
                      النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا» وحُسن الخُلق من الإيمان فذكره منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                      قال: «فجعل كمال الإيمان فِيْ كمال حسن الخلق»، ومعلوم أن ّالإيمان كله تقوى لله. مراد شيخ الإسلام –رحمه الله- أنّ التقوى جامعة للدين؛ ويشمل ذٰلك حسن الخلق والتوبة، وهٰذا الَّذِي ورد فِيْ حديث معاذ، وكله داخِل فِيْ وصية ربنا لنا بتقواه- سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                      وجعل كمال الإيمان فِيْ كمال حُسن الخُلق، ومعلومٌ أنّ الإيمان كله تقوى الله، وتفصيل أصول التقوى فروعها التقوى لا يحتمله هٰذا الموضع، فإنها الدين كله، لكنّ ينبوع الخير وأصله: إخلاص العبد لربه عبادة واستعانة؛ كما فِيْ قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، وفي قوله: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾، وقوله: ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾، وفي قوله: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾، بحيث يقطع العبد تعلّق القلب بالمخلوقين انتفاعًا بهم أو عملًا لأجلهم، ويجعل همّته ربه تعالى، وذلك بملازمة الدعاء له بكل مطلوب، من فاقة وحاجة ومخافة، وغير ذٰلك، والعمل له بكل محبوب، ومَن أحكَم هٰذا فلا يمنك أن يوصَف ما يعقُبُه ذٰلك
                      لسخاء ابن تيمية –رحمه الله- فِيْ العلم زاد بيانًا فِيْ هٰذا الكلام ؛قال: «وتفصيل أصول التقوى فروعها التقوى لا يحتمله هٰذا الموضع، فإنها الدين كله» ولا يمكن أن يُبيَّن الدين كله فِيْ هٰذا الموضع، «لكنّ ينبوع الخير وأصله: إخلاص العبد لربه» فرأس التقوى هُوَ توحيد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- «وإخلاصه بالعبادة والاستعانة والتوكل».
                      والتَّوحِيد هُوَ أن تُخلص لله -عَزَّ وَجَلَّ- أفعالك فتجعلها لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، فأغلى وأحلى وأجلى ما عند المسلم توحيد رب العالمين، وأعلى ما افترضه الله على العبيد التَّوحِيد، والتَّوحِيد مفتاح الخير، ومن طلب الخير بغير مفتاح لَمْ يُفتَح له، لا يُفتح إلا لموحِّد، مفتاح الخير هُوَ توحيد رب العالمين، التَّوحِيد سابق الأَعْمَال، وشرط قَبولها، وهو أهم المهمات، وأعلى الفرائض المتحتِّمات، ولا أمن حقيقيّ للإنسان إلا بالتَّوحِيد ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾، ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ يعني لَمْ يَخلِطوا إيمانهم بشرك، لأنّ الشرك ظلم عظيم، حُصِرَ الأمن فيهم ﴿ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
                      التَّوحِيد يا عبد الله هُوَ الَّذِي خُلِقتَ من أجله ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، التَّوحِيد يا عبد الله هُوَ الَّذِي بُعثَت من أجله الرسل ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾، ومَن علّق قلبه بالله اطمأنّ، وعاش سعيدًا مباركًا.
                      ومن علّق قلبه بغير الله فُتن، وعاش فِيْ ذلّة، والله الَّذِي لا إله إلا هُوَ ما فرّط عبد فِيْ شيءٍ من التَّوحِيد إلا فرَّط فِيْ شيءٍ من عزَّته، وكلّما أوغَل كلّما ذلّ أكثر.
                      وقَدْ رأينا بعض من ينتسبون إلى الإسلام فِيْ بعض بلدان المسلمين يُذلُّون أنفسهم لعباد هم دونهم حتى فِيْ الصلاح؛ بزعم أنهم أولياء الله، وولاية الله أصبحتْ وراثة؛ هٰذا الشيخ ابن الشيخ ابن الشيخ، ولو لَمْ يَظهر عَلَيه من الصلاح شَيْء.
                      والله يا إخوة رأينا بعض المسلمين يأتي لإنسان يعني أقلّ ما يقال أنه ينبغي أن يُنصَح ليتديَّن، فإذا دخل الغرفة أخذ يَحبي بيديه ورجليه حتى يصل إليه، ولا يُغطي رأسه أمامه أبدًا، رأينا رجالًا ونساءًا إذا مرّوا بشخص يقولون إنه شيخ يتساقطون على الأرض.
                      أَذكُرُ عندما كنتُ فِيْ الثانوي وكان أبي –رحمه الله- يبيع بجوار المسجد، فِيْ أيام الحج وأنا جالس، مرّت امرأة من دولة ما، فمرّ الرجل، فبركتْ على رجلَيها، سقطتْ بقوة على الأرض، فتعجبتُ قلت سبحان الله ما السبب؟! فلمّا زرنا البلدان عرفنا السبب؛ هٰذا شيخ مرّ، تركع له، تَبرُك له.
                      والله يا إخوة من أعجب ما رأيت ولا زلت إلى اليوم أتعجّب منه، رأيتُ رجلًا يقولون إنه ولي، فِيْ غرفة، ورأيتُ الرجال قد أحضروا نساءهم متجملات متعطرات، ويقفون بالطوابير، تدخل المرأة فقط عند الشيخ يُبرّكها، الله أعلم هٰذا التبريك!
                      الإنسان إذا فرّط فِيْ التَّوحِيد يفرّط فِيْ عِزَّته يُفرِّط فِيْ كرامته، يَذِلّ للناس.
                      ذُكِرَ لي أنّ شخصًا فرنسيًا كان من المشاهير أسلم، قرأ عن الإسلام وأسلم، وذهب إلى بعض دول أفريقيا، فوجد الناس هناك يعبدون المشايخ ويتقرّبون للمشايخ من دون الله، فقال: إنّ النصرانية أحسن من هٰذا؛ لأنّ هناك على الأقل نعبد رسولًا وهؤلاء يعبدون أناس حتى لا يَستحقون الاحترام فِيْ بعضهم! فأراد أن يرتد عن الإسلام، فلقيَه رجل ناصح، قال: تريد الإسلام؟ قال: نعم، قال: اذهب إلى الحج، وبعد الحج قرِّر، فجاء إلى الحج، وسبحان الله! من الأشياء المَلحوظَة أنّ الناس فِيْ الحج تَلين قلوبهم ويَظهر عليهم التَّوحِيد، حتى من كان عنده انحراف فِيْ كثير من الأحوال يَظهر عليهم التَّوحِيد، إلا من طُمِس –والعياذ بالله-، فلمّا جاء ورأى الناس تلبِّي وتوحِّد ورأى العبادة ورأى العبادة ورأى العزّة قال: هٰذا الإسلام الَّذِي قرأتُ عنه، وثبّته الله بنصيحة ذاك الناصح، بفضل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                      ولذلك يا أحبّة أغلى ما نتمسّك به التَّوحِيد، وأعلى ما ندعوا إليه التَّوحِيد، سبحان الله! لا أجد فِيْ ديننا أوضَح من التَّوحِيد، لكنك تعجب أيَّما عجب من بعض عباد الله الَّذِينَ يحبّون الله ويحبّون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويَتركون قال الله قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قول المشايخ!
                      إذا جئتَ لأحدهم قلت: يا أخي لِمَ تفعل كذا؟ وربنا يقول كذا والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول كذا، قال : الشيخ يقول، سبحان الله! نترك أوضَح ما قاله الله وأوضَح ما قاله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقول أحدٍ من الناس؟! الإمام الشافعي -رحمه الله ورضي عنه ورضي عن أئمة الإسلام- يقول: «أجمع الناس على أنّ من استبانتْ له سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يكن له أن يدعها لقول أحدٍ من الناس كائنًا من كان»؛ فكيف والبيان فِيْ كتاب الله وفي سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أوضَح ما يَكون؟!
                      مرة؛ لقِيتُ شخصًا فِيْ بلدٍ من بلدان المسلمين للأسف يَخطب الجمعة، وأحاديثُه الَّتِي يتكلّم فيها فِيْ الجمعة دعوة للشرك ويستدل بأحاديث، فقلت له: يا أخي هٰذا الكلام الَّذِي تقوله يناقض قول الله كذا ويناقض قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا، قال: سمعتَ الحديث الَّذِي ذكرناه؟ قلت: هٰذا الحديث موضوع باتفاق المحدّثين، قال: ولو؛ يصلح لترقيق قلوب الناس، قلت: سبحان الله! تصرف الناس عن التوحيد إلى الشرك بحديث موضوع وتقول: ولو؛ يرقّق قلوب الناس؟!
                      ولذلك يا إخوة؛ أعلى ما ينبغي أن نهتم به إصلاح التَّوحِيد، والله والله ما عاش شخصٌ مرتاح القلب مطمئن القلب سعيد الحال مرضيًا للرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- إلا بتحقيق تَّوحِيد رب العالمين.
                      ولذلك يقول الشيخ -رحمه الله وجزاه عنا وعن الإسلام خير الجزاء-: «ولكنّ ينبوع الخير وأصله: إخلاص العبد لربه؛ عبادة واستعانة؛ كما فِيْ قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾»، يقول العلماء: «هٰذه الآية تدلّ دلالة بيِّنة على حصر العبادة فِيْ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالى، ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، طيّب؛ لماذا قال الله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مع أنّ الاستعانة من العبادة؟ قال العلماء: لأنّ أكثر خلل الناس فِيْ التَّوحِيد يقع فِيْ باب الاستعانة والاستغاثة؛ فذُكِرَ هٰذا من باب التنبيه؛ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فالاستعانة من العبادة.
                      يقول العلماء: إذا كان الإنسان حريصًا على التَّوحِيد فِيْ باب الاستعانة والدعاء سيكون حريصًا على التَّوحِيد فيما سوى ذٰلك، لأن أعظم ما يُفتَن فيه الناس فِيْ باب التَّوحِيد ما يتعلّق بالاستعانة والدعاء. فينحرف بعض الناس فِيْ باب الاستعانة فيستعين بمن يقال إنهم أولياء، يستعين بالجن، يستعين بالكهنة، يستعين بالعرافين، وفي باب الدعاء، ولذا كان هٰذا تنبيهًا.
                      «وفي قوله : ﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾»، هنا ذكر أهل العلم مَلمَحًا عظيمًا؛ قالوا: «إنّ تحقيق التَّوحِيد إنما يحصل بتعلّق القلب بالله»، فإذ اعلّق الإنسان قلبه بالله يحقق التَّوحِيد «والتوكل فيه تعليق القلب بالله، حتى إذا فعل العبد السبب فإنه يعلّق قلبه بالله ويتوكل على الله»؛ ولذلك قال الله: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾.
                      وفي قوله: ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾؛ قال العلماء: «من علّق قلبه بالله رَجَعَ إلى الله»، فأساس الخير أن يُعلِّق العبد قلبه بربه.
                      قال: «وفي قوله: : ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾»، ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ كثير من الناس قد يطلب الرزق من غير الله، يسأل الصالحين الرزق، بعض الناس يأتي هنا عند قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرزق ويُشرِك بالله، والعياذ بالله.
                      من أعجب ما رأيت فِيْ بلد من بلدان المسلمين، رأيتُ أناسًا يصلُّون ويحرصون على الصلاة، وقَدْ امتلأ المسجد عندما صلينا، ولكن وجدنا فِيْ بيوت كثيرين منهم صنمًا من حجر أزرق -يميل إلى الزرقة-؛ بزعمهم أنه يسبِّب كثرة الرزق، ويَتقرّبون إليه مع أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله!
                      وقصدي من هٰذا أن أنبّه إلى أنّ إفراد بعض الأشياء بالذِّكر إنما هُوَ لبيان وجوب التَّوحِيد فيها لأنها مَظِنَّة الخلل الكثير.
                      قال الشيخ -رحمه الله-: «بحيث يقطع العبد تعلُّق قلبه من المخلوقين؛ انتفاعًا بهم أو عملًا لأجلهم، ويجعل همّته ربه –تعالى-، وذلك بملازمة الدعاء له فِيْ كل مطلوب من حاجة ومخافة وفاقة وغير ذٰلك، والعمل له بكل محبوب»، وسيأتي –إن شاء الله- التعليق على موضوع الدعاء فِيْ مسألة أفضل الأَعْمَال.
                      وهٰذا هُوَ عين ما ورد فِيْ وصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس –رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- عندما قال: «يا غلام! إني أعلِّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألتً فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أنّ الأمَّة لو اجتمعتْ على أن ينفعوكَ بشيء لَمْ ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لَمْ يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعَت الأقلام وجفّت الصحف» رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصحح جمْعٌ من أهل العلم إسناده.
                      النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «يا غلام إني اعلّمك كلمات» أي نافعات «احفظ الله يحفظك» قال العلماء: حفظ الله يَكون بحفظ دينه، احفظ دين الله يحفظك الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                      «احفظ الله تجده تُجاهك» احفظ الله فِيْ الرخاء والشدة تجده تُجاهك، ولذلك ورد أنّ من يريد أن يستجيب الله له فِيْ الشدائد فليُكثر الدعاء فِيْ الرخاء، وقَدْ ذكر بعض السلف شيئًا عظيمًا فِيْ هٰذا الباب، وسأذكره –إن شاء الله- عندما نأتي نتكلم عن الدعاء ونذكر آداب الدعاء.
                      «إذا سألتَ فاسأل الله» وهٰذا قَصْر «وإذا استعنتَ فاستعن بالله»؛ لماذا؟ «واعلم أنّ الأمّة» كلها، ليس رجلًا واحدًا ليس صالحًا واحدًا بل الأمّة بنبيها وصالحِيها وبكل أفرادها لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء –(بشيء) وهٰذا يقتضي التقليل- لَمْ ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت الأمّة على أن يضروك بشيء لَمْ يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك؛ فكيف تعلِّق قلبك بغير الله؟! إذا أيقنتَ بهٰذا كيف تعلِّق قلبك بغير الله؟! الله إن أراد أن يَمسّك بضر لن يكشفه أحدٌ من دونه، وإن أرادك بخير لن يمنعه أحد من دونه، فكيف تعلِّق قلبك بغير الله؟! كيف تتّجه إلى غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالى؟!
                      فهٰذا مراد شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن نشير إلى جملة قالها؛ قال: «فمَن أحكَمَ هٰذا فلا يمكن أن يُوصَف ما يَعقِبُه ذٰلك»، «ومن أحكم هٰذا» اسم الإشارة يعود إلى ماذا؟ المقصود: ما ورد فِيْ حديث معاذ –رضي الله عنه- ومَا فسَّره به شيخ الإسلام بناء على الأدلّة، أحكَمَه فعمِل به، فإنه لا يُدرِك أحدٌ إلا الله ما يحصل له من الخير، من الأمن، والسعادة؟ والطمأنينة، والحياة الطيبة ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ فحصر الله الأمن فيهم، ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾.
                      ولذلك ورد فِيْ الحديث أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من كانت الدنيا همّه فرَّق الله عَلَيه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له، ومن كانت الآخرة همّه؛ جمع الله عَلَيه أمره وجعل غناه فِيْ قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة».
                      من كانت الدنيا همّه وطُلبَتَه وعلَّق قلبه بغير الله؛ فرَّق الله عَلَيه أمره فلا يطمئن قلبه، يَكون مشتّت القلب، ومن شُتِّت قلبه كيف يسعد؟! والله لو كانت عنده الدنيا؛ إذا لَمْ يطمئن قلبه لن يَكون فِيْ سعادة.
                      «وجعل فقره بين عينيه» قال العلماء: فيُعذَّب بغناه؛ لأنّ الفقر بين العينين –نعوذ بالله-، فإذا نظر ماذا يرى؟ لا يرى إلا الفقر، فيرى نفسه فقيرًا ولو امتلأت الخزائن، فيسعى لجمع المال ويُشقي نفسه بجمع المال ولا ينتفع به لأنه يخاف عَلَيه وهو يرى الفقر بين عينيه، ومع كل هٰذا لم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له، والله لا يزيد شيئًا ولا ينقص شيئًا، الرزق مثل الأجل؛ مكتوب، ويُكتَب للإنسان وهو فِيْ بطن أمّه، يُكتَب له رزقه لا يزيد ولا ينقص.
                      يذكر العلماء أنّ رجلًا أراد أن يشرب من بئر فزلّت قدمه فوقع، فجاء أناس، فسمعوا أنينه فأخرجوه، وجاؤوه بشيء من لبن فشرِبه، فقال له أحد القوم: كيف وقعت؟ قال: وقفتُ هنا فقلت فوقع؛ فمات، خرج بقي عَلَيه من رزقه هٰذا اللبن، خرج ليشربه، وبقي له من أجله هٰذا المقدار، فسقط نفس السَّقْطة ومات، الرزق لا يستطيع أحد أن يُنقِصه ولا يستطيع أحد أن يزيده مهما كان ماهرًا، ولكن نفعل الأسباب الشرعية ولا نتعلَّق بِهَا.
                      «ومن كانت الآخرة همّه» من علَّق قلبه بربه؛ جمع الله عَلَيه أمره، فيكون قلبه مطمئنًا مجموعًا لا يَضرِب فِيْ شِعاب الدنيا يمينًا ويسارًا، ولذلك يقول بعض الصالحين: «رُبَّ غنيّ لا يستطيع أن ينام، ورُبَّ فقيرٍ ينام قبل أن يصل إلى الفراش»، المسألة مسألة القلب.
                      «وجُعل غناه فِيْ قلبه» فمهما رُزق قال: الحمد لله عندي خير، إن جاءه ما يكفيه ليأكل قال: الحمد لله ما احتجتُ لأحد، إن جاءه زيادة قال: الحمد لله، ويحس أنه غني، ومع ذٰلك؛ أتته الدنيا وهي راغمة، لا يُحرَم، الَّذِي كتبه الله له سيأتيه.
                      والله الَّذِي لا إله إلا هُوَ لا يزيد الإنسان رزقه بمعصية ويُمنَع رزقه بطاعة، الَّذِي يؤذِّن المؤذِّن ويبقى فِيْ محله يبيع؛ والله لا يزداد رزقه، والذي إذا أذَّن المؤذِّن أغلق مكانه ومحله وذهب حيث ينادى بالصلاة والله لا يَنقص رزقه؛ بل يُحصِّل من البركة الشيء الكثير.
                      وهٰذا أمر ينبغي أن ندركه، وينبغي أن ننشره: الطاعة والعبادة على توحيد وإحسان أساس كل خير، أساس السعادة، أساس الطمأنينة، أساس سعة الرزق، أساس البركة. وترك التَّوحِيد أساس الشر وينبوع الشر، وهٰذا أمر ينبغي أن نبيِّنه للناس.
                      بهٰذا؛ يَكون شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- قد انتهى من الأمر الأول؛ وهو الوصية بما يُصلِح الدين والدنيا. وقَدْ سمعتم، وأرجو الله أن قد تكونوا فهمتم، ثم أسأل الله أن يرزقني وإياكم عملًا تَصلح به أحوالنا كلها.
                      فما أجمل أن نجعل ذٰلك أمرنا الَّذِي ننظر فيه دائمًا ونَزِنُ أحوالنا به «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»!
                      ثم سيشرع شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- فِيْ الأمر الثاني، وهو أمر عظيم: أفضل الأَعْمَال بعد الفرائض، كيف أعرف أفضل الأَعْمَال بعد الفرائض، ومَا هي القواعد الَّتِي أميِّز بِهَا الفاضل من المفضول؟ هٰذا ما سيشير إليه شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-.
                      لكن –إن شاء الله- غدا قبل أن نتكلم عن هٰذا الأمر؛ سأتكلم عن بقية مكفرات الذنوب، لأني ذكرتُ فِيْ الدرس أنّ مكفرات الذنوب عشرة، وأنّ شيخ الإسلام ذكر منها أربعة، وأنّا سنذكر الباقي، ولم أذكره فِيْ ذاك الموطِن لأني لَمْ أحبّ أن أفصل كلام شيخ الإسلام فِيْ الأمر الأول. بعد أن فرغنا منه سأتكلّم عن بقية المكفرات الستة، وأنبّه على ما ينبغي أن يَكون المؤمن حيالها. ثم نشرع –إن شاء الله- فِيْ الأمر الثاني. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وسلّم.


                      (5)
                      بسم الله الرحمٰن الرحيم
                      الحمد لله رب العالمين، الرحمٰن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله وسلم عَلَيه تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، ورضي الله عن آله الطيبين الطاهرين، وعن صحابته الخيار الأكرمين. أما بعد:
                      فمعاشر الفضلاء نبدأ درسنا الليلة فِيْ شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله عَزَّ وَجَلَّ- ، نبدؤه بأمر عظيم وشأن كريم؛ ألا وهو الحديث عن بقية مكفرات الذنوب، وذلك أنّ شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- وغيره من العلماء قد ذكروا أنّ للذنوب مكفرات عشرة، فالعبد ما دام فِيْ الدنيا فهو خطّاء وعُرْضَة للوقوع فِيْ الذنوب.
                      ومن رحمة الله بهٰذه الأمّة الَّتِي رحمها بمحمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أنه لا يؤاخذها بما حدّثت بها أنفسها مهما عظم؛ ما لَمْ تتكلم أو تفعل، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنّ الله تجاوز عن أمّتي ما حدّثتْ به أنفسها ما لَمْ تتكلم أو تعمل» والحديث فِيْ الصحيح.
                      ومن رحمة الله عَزَّ وَجَلَّ بهٰذه الأمّة؛ أنّ من همّ بسيئة فمال إليها ولم يَجزم جزمًا مؤكَّدًا يتبعه عمل ثم لَمْ يعملها خوفًا من الله؛ تُكتب له حسنة، فإن تركها لغير خوف الله لا يُكتَب له ولا عَلَيه.
                      ومن رحمة الله بهٰذه الأمّة؛ أنّ العبد إذا عمل الذنب إنما تُكتَب عَلَيه سيئة واحدة لا يُزاد عليها.
                      ومع كل هٰذه الرحمة والفضل؛ فإنّ الله عَزَّ وَجَلَّ جعل لعباده أمورًا تُمحى بِهَا سيئاتهم، وتُكفَّر عنهم ذنوبهم، ذكر شيخ الإسلام فِيْ الوصية أربعةً منها، ونحن نعدُّ البقية ونعلِّق عليها.
                      فمكفرات الذنوب من حيث جنسها: عشرة:
                      أوّلها: التوبة. وهٰذا متّفقٌ عَلَيه بين المسلمين، والتوبة تنفع حتى فِيْ غفران الشرك، فمن تاب من الشرك تاب الله عَلَيه، وهي من الأمور الَّتِي أُمِرَ بِهَا جميع المؤمنين ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ﴾، وقَدْ تقدّم الكلام عليها.
                      والسبب الثاني: الاستغفار من غير توبة؛ أي أن يخاف العبد من الله، فيَستغفر من ذنبه؛ وإن كان قائمًا عَلَيه. وقَدْ تقدّم الكلام على التحقيق في المسألة.
                      وقَدْ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنّ رجلًا أذنب ذنبًا، فقال: ربِّ! إني أذنبتُ ذنبًا أو عملتُ ذنبًا فاغفر، قال الله عَزَّ وَجَلَّ: عمل عبدي ذنبًا فعَلِمَ أنّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؛ قد غفرتُ لعبدي، ثم أذنب ذنبًا آخر فقال: ربِّ! إني أذنبتُ ذنبًا أو عملتُ ذنبًا فاغفر، قال الله تبارك وتعالى: عَلِمَ عبدي أنّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؛ قد غفرتُ له، ثم أذنب ذنبًا آخر، قال: ربِّ إني عملت ذنبًا فاغفره، قال الله: عَلِمَ عبدي أنّ له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به؛ قد غفرتُ لعبدي فليفعل ما شاء». رواه أحمد بإسناد صحيح.
                      ومعنى «فليفعل ما شاء» ما دام أنه مقيم على الاستغفار الصادق؛ يبعثه خوفه من الله على أن يستغفر من ذنبه. وقَدْ تقدّم الكلام عن هٰذا السبب.
                      والسبب الثالث: الأعمال الصالحة المكفِّرة للذنوب. وتسمّى عند أهل العلم بالمُمَحِّصات أو بالحسنات الماحيات ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها». وقَدْ تقدّم الكلام عن هٰذا السبب.
                      والسبب الرابع: مصائب الدنيا والبلاء الَّذِي ينزل بالمؤمن فِيْ الدنيا. يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة؛ فِيْ نفسه وولده وماله؛ حتى يلقى الله ومَا عَلَيه خطيئة» رواه الترمذي بإسناد صحيح.
                      وقَدْ تقدّم الكلام فِيْ هٰذه المكفِّرات الأربعة، وقَدْ بيَّنا أنّ التوبة تنفع فِيْ غسل الذنوب كلها، وأنّ الأسباب الثلاثة الأُخَر إنما تنفع الموحِّدين؛ أمّا المشرك فإنه لا ينفعه ذٰلك؛ لأنه لا يُغفَر مع الشرك ذنب.
                      أما السبب الخامس: فهو شفاعة الشفعاء. وهٰذه الشفاعة نعني بِهَا: الشفاعة لأصحاب الذنوب بأن يعفو الله عنهم. لأنّ الشفاعة الثابتة أنواع، ونحن هنا إنما نتكلم عن الشفاعة لأصحاب الذنوب لكي يعفو الله عنهم.
                      وهٰذه الشفاعة أيها الأحبة قد تَكون للمذنبين قبل دخول النار، وقَدْ تَكون للمذنبين بعد دخولهم النار، فإنّ ربنا –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- من كرمه وفضله وبرِّه ورحمته أنه يأذن لمن شاء من عباده أن يشفع لمن رضي عنه من عباده ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، ﴿ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾، ﴿ يَوْمَئِذٍ لّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾.
                      فالشفاعة النافعة: هي الشفاعة بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالى مع رضاه عن الشافع والمشفوع له. والشفاعة المنفية: هي ما عدا هٰذا.
                      وقَدْ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي» رواه أبو داود بإسناد صحيح.
                      وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «للشهيد عند الله ست خصال: يُغفَر له فِيْ أوّل دَفعة من دمه، ويُرى مقعده من الجنة، ويُجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويُوضَع على رأسه تاج الوَقار؛ الياقوتة منها خير من الدنيا ومَا فيها، ويُزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع فِيْ سبعين من أقاربه» رواه الترمذي بإسناد صحيح.
                      الشهيد: شهيد المعركة، الَّذِي يَكون في جهاد مشروع؛ قد اجتمعت شروطه وانتفت موانعه، لأنّ الشهادة أثر الجهاد، فلا يصح ما يقوله البعض من أنّ الإنسان يذهب يقاتل الكفار ولو لَمْ تجتمع الشروط أو تنتفي الموانع لأنه إن قاتلهم فقتلوه يُغفَر له ذٰلك! فإنّ هٰذا الموعود على لسان خير مولودٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هُوَ فِيْ الجاهد المشروع الَّذِي اجتمعت شروطه وانتفت موانعه.
                      والشاهد هنا يا إخوة؛ أنّ الشهيد يشفع لسبعين من أقاربه.
                      وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليدخلنّ الجنة بشفاعة رجل من أمّتي أكثر من بني تميم»، بنو تميم قبيلة عربية معروفة بكثرة العدد، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليدخلنّ الجنة بشفاعة رجل من أمّتي أكثر من بني تميم» أي أنهم لا يستحقون دخول الجنة بعملهم لكن يشفع لهم هٰذا الرجل فيغفر الله لهم فيُدخلهم الجنة، «قالوا: سواك يا رسول الله؟!» كأنهم يقولون بعبارة أخرى: هل هٰذا الرجل أنت يا رسول الله أو رجل آخر؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سواي» أي أنه رجل من هٰذه الأمّة. رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح.
                      قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يقال للرجل –أي يوم القيامة-: يا فلان قم فاشفع، فيقوم الرجل فيشفع للقبيلة، ويقوم الرجل فيشفع لأهل البيت ويشفع للرجل وللرجلين على قدر عمله» رواه ابن خزيمة فِيْ التَّوحِيد بإسناد صحيح.
                      وفي الحديث فِيْ الصحيحين؛ أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فِيْ المؤمنين الَّذِينَ يجتازون الصراط الَّذِي يُنصَب على متن جهنم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وإذا رأَوا أنهم قد نجَو يقولون: ربنا إخواننا كانوا يُصلُّون معنا ويصومون معنا ويَعملون معنا! » يعني إذا اجتازوا الصراط ولم يسقطوا فِيْ جهنم تذكّروا إخوانهم الَّذِينَ تساقطوا فِيْ جهنم لَمْ يجتازوا الصراط؛ فيشفعون فيقولون: «ربنا إخواننا كانوا يُصلُّون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا»، وهٰذا من بركة انتظام الإنسان مع الصالحين مع أهل السنة مع المعروفين بالتَّوحِيد؛ فإنه يُرجى منهم خيرٌ كثير فِيْ الدنيا والآخرة.
                      العبد وإن كان مذنبًا وإن كان يقع فِيْ الذنوب فإنه إن وُفِّق يحرص على أن يَكون مع الصالحين، يحرص أن يَكون مع الموحّدين، يحرص أن يَكون مع أهل السنة؛ لأنهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، يُرجى إذا خالطهم أن يَرِقّ قلبه وأن يترك ذنبه، وإن مات على الذنب فإنه ترجى له شفاعتهم.
                      يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم فِيْ قلبه مثقال دينارٍ من إيمان فأخرِجوه» يعني من النار، قال: «ويحرِّم الله صورهم على النار» أي لا تؤذيهم «فيأتونهم وبعضهم قد غاب فِيْ النار إلى قدمه وإلى أنصاف ساقيه؛ فيُخرجون من عرفوا» ممن كان معهم «ثم يعودون، فيقول الله: اذهبوا فمن وجدتم فِيْ قلبه مثقال نصف دينار من إيمان فأخرِجوه، فيُخرجون من عرفوا، ثم يعودون فيقول الله: اذهبوا فمن وجدتم فِيْ قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه؛ فيُخرجون من عرفوا، فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون».
                      وجاء عند النسائي وغيره بإسناد صحيح أنّ الملائكة يوم القيامة تأتي تشفع، ويشفع الرُّسل.
                      وهٰذه شفاعات تقع من الملائكة وتقع من الأنبياء وتقع من الصالحين. وهٰذا الشفاعات لأهل الذنوب الَّذِينَ يستحقون دخول النار بذنوبهم؛ فيُشفَع لهم فلا يدخلون النار، أو يدخلون النار بذنوبهم فيُشفع لهم فيُخرَجون من النار.
                      والسبب السادس: رحمة الله وعفوه، ورحمة الله واسعة؛ وسعت كل شَيْء، والله يعفو عن السيئات ما لَمْ تكن شركًا ﴿ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾، وقَدْ دلّت الأدلة على أنّ الله يعفو عن عباده المؤمنين المذنبين بغير سبب منهم فِيْ الدنيا ويوم القيامة، فقد يذنب الموحِّد ذنبًا ولا يَفعل ماحيًا فيعفو الله عنه برحمته وفضله فِيْ الدنيا ويوم القيامة.
                      حتى أنّ الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- يُدني المؤمن يوم القيامة فيضع عَلَيه كَنَفَه ويَستره ويقول: أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي ربّ، حتى إذا قرَّره بذنوبه ورأى أنه هلك، قال سبحانه: سترتها عليك فِيْ الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. كما فِيْ الصحيحين.
                      «ويجاء يوم القيامة بأناس يأتون بذنوب أمثال الجبال يُغفَر لهم» كما عند مسلم فِيْ الصحيح.
                      ويؤتى بالرجل يوم القيامة من المؤمنين الموحِّدين فيقال: اعرِضوا عَلَيه صغار ذنوبه، فتُعرَض عَلَيه، ويُخبَّأ عنه كبارها، فيقال: عملتَ يوم كذا وكذا كذا وكذا وكذا، وهو مقرٌّ لا يُنكِر، وهو مشفقٌ من الكبار، يُعرَض عليه صغار ذنوبه؛ قد عملتَ فِيْ يوم كذا وكذا كذا وكذا وكذا وهو مقرٌّ لا يُنكر هٰذه الذنوب، ولكنّ قلبه خائفٌ من ذكر الكبائر مشفقٌ منها، فيقال: أعطوه مكان كلِّ سيئة حسنة» يعفو الله عن سيئاته ويُكرمه بجعلها حسنات «فيقول: إنّ لي ذنوبًا ما أراها؟» بعد أن كان مشفقًا من ذكر الكبائر أصبح طامعًا فِيْ ذكرها حتى يُعطى مكانها حسنات. ولذلك لمّا ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذٰلك ضحك حتى بدت نواذجه من حال هٰذا الرجل، كان مشفقًا وجِلًا خائفًا من ذكر الكبائر؛ فلمّا رأى كرم الله طمِع فأخذ هُوَ يبحث عنها ويقول: إنّ لي ذنوبًا ما أُراها؟ أي الكبائر الَّتِي خُبِّأت عنه؛ من أجل أن يُعطى بدلها حسنات، فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواذجه. وهٰذا الحديث رواه الإمام أحمد فِيْ المسند، وصححه الألباني.
                      ولا يزال ربنا الكريم يرحم عباده فِيْ الدنيا، ويرحم عباده يوم القيامة، حتى لا يُبقي فِيْ النار من قال لا إله إلا الله من قلبه. ولا يزال العبد المؤمن يُرجى له عفو الله ومغفرة الله.
                      وليحذر المؤمن المجاهرة بالمعاصي؛ فإنّ المجاهرة بالمعاصي لَهَا شؤمٌ عظيم، وقَدْ تمنع عفو الله.
                      يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإنّ من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يُصبِح وقَدْ ستره الله، فيقول: يا فلان! عملتُ البارحة كذا وكذا، وقَدْ بات يستره الله، ويُصبِح يَكشِف ستر الله عنه» رواه البخاري فِيْ الصحيح. «كلُّ أمتي معافى إلا المجاهرين» كل أمتي -ولو كانوا مذنبين- معافى؛ إلا المجاهرين.
                      وذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المجاهرة: أن يعمل الرجل العمل بالليل ويستره الله، ثم يصبح يتحدّث بذنبه يقول: يا فلان! قد عملتُ كذا وكذا البارحة، يصبح يستره الله ويكشف ستر الله عنه.
                      وهكذا كلُّ من فعل الذنب أمام الناس فهو من المجاهرين، وكلُّ من فعل الذنب خُفية ثم أعلنه أمام الناس فهو من المجاهرين.
                      فإن قال قائل: كيف نجمع بين هٰذا وحديث ثوبان –رضي الله عنه- الَّذِي قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لأعلمنّ أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء؛ فيجعلها الله هباء منثورًا» نسأل الله السلامة «فقال ثوبان: يا رسول الله! صفهم لنا جلّهم لنا؛ ألا نكون منهم ونحن لا نعلم! قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوامٌ إذا خلَو بمحارم الله انتهكوها» رواه ابن ماجة، وصححه الألباني؟
                      هنا يظهر باديَ الرأي تعارض؛ لأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين» وظاهر هٰذا أنّ الَّذِي يستخفي بذنبه معافى. وفي حديث ثوبان يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ولكنهم أقوامٌ إذا خلَو بمحارم الله انتهكوها»، وظاهر هٰذا أنّ الَّذِي يفعل الذنب فِيْ خلوة يَكون معاقَبًا بهٰذا العقاب العظيم!
                      وهٰذا فِيْ ظاهره تعارض! فكيف نجمع بين الحديثين، وأحدهما فِيْ الصحيح ومعناه فِيْ الصحيحين، والآخر صححه الألباني؟
                      نقول: جُمِعَ بينهما بوجوه:
                      الوجه الأول: أنّ حديث ثوبان: فِيْ أقومٍ إذا برزوا للناس أظهروا الطاعة والتذلُّل والعبادة رياء وسمعة، ولا يذكرون الله إلا قليلا، وإذا خلَوا بمحارم الله انتهكوها، فهؤلاء قومٌ منافقون أو قريبون من المنافقين، وهٰذا يتّفق مع كونهم يُجعَل حسناتهم هباءًا منثورًا، فإنّ المتقرِّر أنّ السيئات لا تحبط الحسنات ، وإن كان قد يؤخَذ من حسنات العبد من أجل خصومه يوم القيامة وتُطرَح عَلَيه من سيئات خصومه، لكن أن تَكون السيئة سببًا فِيْ حبوط الحسنة الصحيحة الصالحة فهٰذا غير وارد، ولذلك هٰذا الوجه -الَّذِي ذكره بعض أهل العلم- يتّفق مع الحديث: أنّ هؤلاء القوم الَّذِينَ إذا خلَوا بمحارم الله انتهكوها؛ قومٌ يتظاهرون بالطاعة أمام الناس، فلهم حسنات فيما يرى الناس، أمَّا عند الله فلا تزن هباءًا منثورًا، فإذا جاؤوا يوم القيامة بهٰذه الحسنات فِيْ الظاهر جعلها الله هباءًا منثورًا.
                      أمَّا حديث «كل أمتي معافى إلا المجاهرين» فهؤلاء قومٌ محّدون يعبدون الله ويخافون الله ولكنهم يقعون فِيْ الذنوب فيستترون بِهَا؛ هٰذا وجه.
                      الوجه الثاني فِيْ الجمع: قال بعض أهل العلم: إنّ حديث ثوبان –رضي الله عنه- «ولكنهم أقوامٌ إذا خلَوا بمحارم الله انتهكوها» أنهم أقوام لا يفعلون الذنوب أمام الناس حياءً من الناس لا من الله، فإذا خلَوا ارتكبوا الذنوب ولا يستحيون من الله، يعني هم فِيْ ظاهر الأمر أمام الناس يتركون الذنب ليس حياء من الله ولا خوفًا من الله لكنهم يستحيون من الناس، ولذلك؛ ما إن يخلو أحدهم بالذنب حتى يفعله بلا تردد، لأنه لا يستحي من الله وإنما يستحي من الناس.
                      وأما حديث «كلُّ أمتي معافى إلا المجاهرين» فهؤلاء أقوامٌ يستترون بذنوبهم حياءً من الله وحياءً من الناس، فهم يستترون بذنوبهم وفي قلوبهم خوف الله والحياء من الناس لكن يغلبهم الضعف فيقعون فِيْ الذنوب ويَتستّرون بِهَا، فهؤلاء يُرجى لهم عفو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                      والوجه الثالث: فِيْ قوله صلى الله عَلَيه وسلم: «ولكنهم أقوامٌ إذا خلَوا بمحارم الله انتهكوها» قال بعض أهل العلم :هؤلاء الَّذِينَ يخونون الأمانة، أي يؤتمَنون على الشيء فينتهكونه، كالرجل الَّذِي يُزاني حليلة جاره. الرجل الَّذِي يُزاني حليلة جاره من أشدِّ الناس ذنبًا ومن أعظمهم عقابًا ؛ لأنّ جاره يأتمنه على أهله، لا يظن منه الخيانة، فإذا ذهب جاره انتهك هٰذه الحرمة وزانى أهله، والعياذ بالله.
                      أو من يؤتمَن على أبناء المسلمين ويُوضَع عنده أولاد المسلمين؛ فإذا خلى بهم انتهك محارم الله، إمّا بمعنى أن يعلِّمهم ما يخالف شرع الله؛ أن يعلِّمهم التكفير، أن يعلمهم التفجير والتدمير، أن يعلمهم كيف يكونون سيفًا فِيْ صدور أهل بلادهم، أ وبالانتهاك الحسي؛ بانتهاك أعراضهم، فهؤلاء قومٌ ذنبهم عظيم.
                      ومعنى أنّ حسناتهم تَكون كالهباء المنثور هٰذا الوجه؛ أنّ سيئاتهم ترجح على سيئاتهم، ويكون ذٰلك سببًا فِيْ تعذيبهم فِيْ النار عذابًا عظيمًا.
                      فينبغي على العبد الَّذِي يرجو رحمة الله أن يُعظِّم خوف الله فِيْ قلبه، وأن يحرص عن البعد عن الذنوب، فإن ابتُلي بِهَا حرص على البعد بها؛ بحيث يَستتر بِهَا، غير متجرئ على محارم الله وغير مستهتر بما حرّم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                      أما السبب السابع فِيْ تكفير الذنوب: فهو دعاء المؤمنين. دعاء المؤمن للمؤمن ينفعه وينفع الاثنين، فإنّ المؤمن إذا استغفر لأخيه المؤمن بظهر الغيب قالت الملائكة: آمين ولك مثله، فتؤمِّن على دعائه وتدعوا له، فأنت يا عبد الله إذا جلستَ فِيْ جوف الليل على سجادك ودعوتَ الله واستغفرتَ لنفسك واستغفرت لجارك واستغفرت لإخوانك الَّذِينَ تعلمهم وتعلم لهم ذنوبًا وقلتَ: اللهم يا ربِّ اغفر لجاري فلان، يقول الملك: آمين ولك مثله، يا ربِّ اغفر لأخي فلان، يقول الملك: آمين ولك مثله.
                      ورُويَ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة»، من استغفر للمؤمنين والمؤمنات؛ يعني جملةً؛ فقال: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات؛ «كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة»، وهٰذا الحديث حسَّنه الألباني –رحمه الله- فِيْ موضع، لكنه فِيْ هٰذا تابَع الهيثمي؛ حيث قال فِيْ حاشية: والعهدة عَلَيه، فلمّا طُبِع مسند الشاميين للطبراني ووقف الشيخ على إسناده؛ رجع عن تحسينه؛ لأنّ إسناده لا يَحسُن للتحسين، وقَدْ نبّهتُ عَلَيه لأنه منتشر على ألسنة طلاب العلم على أنه حديث حسن يُحتجّ به لأنّ الشيخ ناصر –رحمه الله- قد حسَّنه. ولكن لا شك أنّ استغفار المؤمن للمؤمنين والمؤمنات ينفعه وينفعهم.
                      يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ مثالٍ لهٰذا: «ما من ميّتٍ يصلي عَلَيه أمّة من المسلمين يَبلغُون مائة كلهم يُشفعَّون أو يَشفَعون؛ إلا شُفِّعوا فيه» رواه مسلم. «يَشفَعون» أي يدعون له «إلا شُفِّعوا فيه» .
                      وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من رجل مسلم يموتُ فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يُشرِكون بالله شيئًا إلا شفَّعهم الله فيه» رواه مسلم. وهٰذا مثال لدعاء المؤمنين وانتفاع العبد بدعائهم.
                      طيّب؛ قد يقول لنا قائل: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر أنه يصلي عَلَيه أمّة من المسلمين يبلغون مائة، وفي الحديث الآخر قال: يقوم على جنازته أربعون، وكلاهما عند مسلم فِيْ الصحيح، فكيف نجمع بينهما؟
                      جمع بينهما العلماء بوجوه:
                      الوجه الأول: قال بعض العلماء: هٰذا من تخفيف الله عن الأمّة؛ بمعنى: أنّ الله جعل الفضل للمائة، ثم خفَّف عن هٰذه الأمّة فجعل الفضل للأربعين.
                      الوجه الثاني: قال بعض أهل العلم: إنّ الأربعين وجه الكمال والمائة ومَا زاد أكثر الكمال. يعني أقلّ الكمال فِيْ هٰذا الفضل أن يصلي عَلَيه أربعون، وأعلى الكمال أن يصلي عَلَيه مائة فما فوق.
                      الوجه الثالث: قال بعض أهل العلم: هٰذا باعتبار اختلاف صفة المصلين، فإن كان المصلُّون موحِّدين خُلَّص لا يقع منهم الشرك الأصغر ولا الخفي بل توحيدهم خالص سالم من الشرك الأصغر والخفي؛ فإنه يكفي أن يَشفَع أربعون؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يُشرِكون بالله شيئًا».
                      وإن كان المصلُّون من الموحّدين لكن فيهم من فيه شركٌ أصغر أو شركٌ خفيّ؛ يعني بعضهم يحلف بغير الله يقول: والنبي، يقول: وحياة أمي، يقول: وحياة أولادي، يقول: والكعبة؛ فهٰذا شرك أصغر «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»، أو فيهم رياء خفيف يسير، فهؤلاء موحّدون لكن فيهم شَيْء من الشرك الَّذِي لا يَنقُض التَّوحِيد وإنما يُنقِصه، فهؤلاء ينفع منهم إذا صلى منهم مائة. فيكون المائة بالنسبة لصفة هؤلاء والأربعون بالنسبة لصفة هؤلاء.
                      والشاهد معنا فِيْ درسنا وفي هٰذا السبب: أنّ دعاء المؤمنين ينفع للمذنبين من المؤمنين. وقَدْ قال الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿واسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ولِلمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ﴾، ولو لَمْ يكن ذٰلك نافعًا لَمَا أمر الله به.
                      ومن أعظم ما ينفع دعاء الولد لوالده؛ لا سيّما الصالح، فإنه ثبتَ أنّ الرجل تُرفَع درجته فِيْ الجنة فيقول: أنّى لي هٰذا؟ كيف لي هٰذا؟ يعرف أنه ليس من أهل هٰذه الدرجة، فيقال: باستغفار ولدك لك، ولا يزال الولد الصالح يستغفر لأبيه حتى يُغفَر له، ثم تُرفَع درجتُه فِيْ الجنة.
                      والسبب الثامن من المكفرات: ما يُعمَل للميِّت من أعمال البر، فإنّ أعمال البر تمحو السيئات –كما تقدّم معنا-، الأَعْمَال الصالحة تمحو السيئات، فإذا صحّ فعلها للميِّت فإنه يُرجا له أثرها كله بما فِيْ ذٰلك محوُ السيئة بِهَا.
                      وأعمال البر الَّتِي تُعمَل للميّت؛ منها ما اتُّفِقَ على صحة عملها للميت فِيْ الجملة على خلاف فِيْ التفاصيل؛ كالصدقة والحج والعمرة والصوم، فإنّ هٰذه الأَعْمَال تُعمَل للميِّت وتنفعه؛ وقَدْ دلّت على ذٰلك الأحاديث.
                      والمعلوم أيها الإخوة؛ أنّ الصدقة تُطفئ الخطيئة، فإذا تُصدِّق عن الميِّت رُجِيَ له ثواب الصدقة وأن تُطفأ خطيئتُه بهٰذا، والمعلوم أنّ الحج مكفّر للذنوب، فإذا حُجَّ عن الميت رُجِيَ له أن يحصل له أثر الحج، ومِن أثر الحج أن تُكفَّر ذنوبه. والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، فإذا اعتُمِرَ عن الميت رُجِيَ أن تُكفَّر ذنوبه. والصوم جُنَّة وكفارة فإذا صِيمَ عن الميّت فيما هُوَ واجب عَلَيه –فإنّ من مات وعليه صيام صام عنه وليُّه- فإنه يرجا ن تُكفَّر بهٰذا ذنوبه.
                      -وقَدْ ذهب بعض أهل العلم من السلف والخلف إلى أنّ كل عمل برٍّ يُهدى للميِّت ينفعه؛ بشرط: أن يَكون مشروعًا لا مبتدعًا.
                      -وذهب بعض أهل العلم من السلف والخلف إلى أنّ هٰذا أمرٌ غيبيّ فيُقتَصر فيه على ما ورد فيه نصوص دالة على النفع به وعلى وصوله. وهٰذا الَّذِي يظهر لي –والله أعلم- أنه أصوب من أقوال العلماء؛ لأنه لا دليل عندنا لا من قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا من فعله، ولا من ما يصح عن صحابته -رضوان الله عليهم- صحة يصح الاستدلال بِهَا على ذٰلك على أنّ الأَعْمَال يصل ثوابها إلى الميِّت إلا ما نُصَّ عَلَيه.
                      وعليه؛ فإن الَّذِي يظهر لي –والله أعلم- أنه يُقتَصر على ما ورد، ومَا عداه من الأَعْمَال فيُتوسَّل به فِيْ الدعاء؛ فيقول العبد: اللهم إني أسألك بصلاتي هٰذه أن تغفر لأبي مغفرة من عندك وأن ترحمه، على سبيل المثال، أو يقول: اللهم إني أسألك بقراءتي سورة البقرة أن تغفر لأبي وأن ترحمه؛ فإنّ التوسُّل إلى الله فِيْ الدعاء بالعمل الصالح من التوسُّل المشروع النافع.
                      وأما السبب التاسع من المكفّرات: فهو ما يحصل فِيْ القبر للمؤمن من الضغطة والفتنة والرَّوعة.
                      العبد إذا اُدخِل فِيْ قبره تَحصل له ضغطة لا ينجو منها أحد، ولو كان أحدٌ ينجو من ضغطة القبر لنجا منها سعد بن معاذ؛ كما صح ذٰلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                      وفي القبر فتنة، فإنكم تُفتَنون فِيْ قبوركم، الرجل الصالح إذا أُدخِل فِيْ قبره يجلس غير فزعٍ ولا مَشغوف، فيقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقال: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقال: من هٰذا الرجل الَّذِي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله، أتانا من عند الله، فصدّقناه، فيقال: وهل رأيت الله؟ فيقول: ما ينبغي لأحدٍ أن يرى الله –أي فِيْ الدنيا-، فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، فأفرِشوه من الجنة، والبِسوه من الجنة، ويُفسَح له فِيْ قبره مدّ بصره، ويأتيه من رَوح الجنة وريحانها. وإذا كان الرجل على غير ذٰلك، فإنه يأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه، فيجلس فزِعًا مشغوفًا، فيقال: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: من هٰذا الرجل الَّذِي بُعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقولان: محمد، فيقول: هاه هاه لا أدري كنتُ أسمع الناس يقولون قولًا فقلتُه، فينادي منادٍ من السماء: أن كذب عبدي فأفرِشوه من النار وألبِسوه من النار ويُضيَّق عَلَيه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه من حرّ جهنم وسمومها. فهٰذه فتنة القبر، والروعة تحصل مع الفتنة لبعض من يُفتَن.
                      ولم أقف على دليلٍ خاصٍّ يدلّ على أنّ هٰذا السبب من المكفّرات؛ لا من الكتاب ولا من السنة، ولكن يظهر لي –والله أعلم- أنّ شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- ومَن ذكر هٰذا من العلماء؛ إنما ذكروه من باب الالحاق الأولويّ؛ لأنه دلّت الأدلة على أنّ الشدائد الَّتِي تصيب المؤمن فِيْ الدنيا تكفِّر سيئاته، والشدائد الَّتِي فِيْ القبر أعظم؛ فمن باب أولى أن تُكفَّر بِهَا السيئات. والله أعلم بحقيقة الحال.
                      وأما السبب العاشر: فهو أهوال يوم القيامة وكُرَبها وشدائدها، فإنّ يوم القيامة يوم عظيم، يومٌ فيه من الشدائد الشَيْء الكثير، يُحشَر فيه الناس حفاةً عراةً غُرلًا، على صعيد واحد، تقول أمّنا عائشة –رَضِيَ اللهُ عَنْها-: «الرجال والنساء يا رسول الله؟! » من حيائها رَضِيَ اللهُ عَنْها وأرضاها، أمّنا زوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ الدنيا مات وهو عنها راضٍ، مات واستأذن نساءه فِيْ آخر حياته أن يُمرَّض فِيْ بيتها -رَضِيَ اللهُ عَنْها- فأذنّ له، وكان آخر ما خالط ريقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الدنيا ريقها الطاهر، رضي الله عنها وأرضاها، زوج نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ الجنة، لا يحبّها إلا مؤمن، ولا يُبغِضها من فِيْ قلبه مثقال ذرة من إيمان، والله! لا ينال من عرضها مؤمن، والله! لا يَسبّها سبَّا يقدح فِيْ عرضها ودينها فضلًا عن أن يُكفّرها من فِيْ قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، الحييَّة، الصدّيقة بنت الصدّيق، المباركة بنت المبارك، تقول: «يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! فيقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا عائشة! الأمر أشدّ من ذٰلك! »، الأمر أشدّ من ذٰلك؛ لا ينظر ـحد إلى أحد ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾، الأم الَّتِي لا يمكن أن تذهل عن رضيعها يوم القيامة تذهل عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها من الخوف والهلع، وترى الناس سكارى يتمايلون ومَا بهم سُكُر؛ ولكن ّعذاب الله شديد، رأَوه فأصبحوا يتمايلون من الخوف، تدنو الشمس على رؤوس الخلائق مقدار ميل، فمنهم من يبلغ العرق إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ العرق إلى حِقْوَيه؛ يعني إلى وسطه، ومنهم –والعياذ بالله- من يُلجِمه العرق إلجامًا، شدائد عظيمة حتى يُفرِّج الله عن الخلق بأن يشفع محمدٌ بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشفاعة العظمى الَّتِي هي المقام المحمود؛ بأن يسجد بين يدي الله، متذلِّلًا حامدًا ذاكرًا مثنيًا على ربه، ويفتح الله عَلَيه من المحامد حتى يأذن الله له بالشفاعة فيشفع فيُقضى بين الخلائق.

                      يتبع..
                      كتبه أخوكم شـرف الدين بن امحمد بن بـوزيان تيـغزة

                      يقول الشيخ عبد السلام بن برجس رحمه الله في رسالته - عوائق الطلب -(فـيا من آنس من نفسه علامة النبوغ والذكاء لا تبغ عن العلم بدلا ، ولا تشتغل بسواه أبدا ، فإن أبيت فأجبر الله عزاءك في نفسك،وأعظم أجر المسلمين فـيك،مــا أشد خسارتك،وأعظم مصيبتك)

                      تعليق


                      • #12
                        رد: شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شرح فضيلة الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله

                        ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض أهل العلم إلى أنّ أهوال يوم القيامة ومَا فيها من الكُرَب والشدائد تُمحَّص بِهَا الذنوب، ومن ذٰلك المرور على الصراط، فإنّ الصراط يُنصَب على متن جهنم وهو دَحَضٌ مَزَلَّةٌ، ولجهنم كلاليب تَخطِفُ الناس، ويَمرّ الناس على قدر أعمالهم على الصراط، إلى أن يمرّ آخرهم حبوًا، يحبو حبوًا، قال العلماء: إنّ المرور على الصراط فيه تكفيرٌ للذنوب، وبحسب قَيدِ الذنب تَخِفُّ السرعة على الصراط. وهٰذه المكفرات فِيْ الذنوب.
                        وكما قلتُ فِيْ السبب التاسع أقول فِيْ السبب العاشر؛ إني لَمْ أقف على دليل خاص يدلّ على أنّ هٰذا مكفّرٌ للذنوب؛ لكن لعله من باب القياس الأولويّ؛ من جهة أنّ الأدلة دلّت على أنّ الشدائد فِيْ الدنيا تُكفَّر بِهَا الذنوب فكذلك فِيْ الآخرة. والله أعلم بحقيقة الحال.
                        هٰذه هي أجناس مكفرات الذنوب، والمؤمن إذا سَمِعَ هٰذا يتّسع رجاؤه ويَعظُم رجاؤه بالله، وفي نفس الوقت يشتدّ خوفه من الله من أن يَكون أشقى خَلْقِ الله من غير المشركين فلا يُغفَر له.
                        المؤمن إذا سَمِعَ هٰذا يرجو المغفرة والرحمة، ويخاف أن يَكون مطرودًا من كلِّ هٰذه السِّعة، فلا يجرؤ على محارم الله، بل يُعظّم المحرمات، ويبتعد عن انتهاكها، ويسعى لأن يَكون من السالمين منها، فإذا وقع فِيْ الذنب خاف الله فرجع إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                        والموفّق؛ من استعمل الخوف قبل الوقوع فِيْ الذنب، والرجاء بعد الوقوع فِيْ الذنب.
                        والمخذول؛ من قاده الرجاء إلى انتهاك محارم الله، وأصابه القنوط بعد الوقوع فِيْ الذنوب.
                        المؤمن الذي يُذنب رجاء المغفرة هُوَ كالمريض أو كمن يشرب السم رجاء الدواء بعد شربه. لا يوجد عاقل يأتي للسم فيشربه ويتجرّعه، ثم بعد أن يتجرّعه يقول هٰذا الدواء أشربه؛ لأنه قد يموت قبل أن يقدر على الدواء، وأنت يا عبد الله ما تدري متى تموت، قد تموت وأنت على ذنبك! والعبد يُبعَث يوم القيامة على ما مات عَلَيه، من مات ملبّيًا بُعِث ملبيًا، من بُعِث مصليًا مات مصليًا، من مات داعيًا بُعِثَ داعيًا، من مات زانيًا –والعياذ بالله- بُعِث على هٰذه الحال القبيحة، من مات كاذبًا بُعِث على هٰذه الحال القبيحة، من مات مغتابًا بُعِث على هٰذه الحال القبيحة، من مات سكرانًا بُعِث على هٰذه الحال الخبيثة، فالعبد إذا أذنب فإنه لا يدري قد يموت.
                        ولذلك ذُكرَ عن بعض السلف قال لتلاميذه واعظًا: «من يضمن لي أن يعيش إلى غدٍ آذن له فِيْ المعاصي»، يعني الَّذِي يقوم منكم فيقول: أنا أضمن أن أعيش إلى الغد، أنا آذن له بأن يفعل كل معصية، من الَّذِي يستطيع أن يضمن هٰذا؟ والله الإنسان يَكون قويًا قادرًا ليس فيه أي عَرَض يسقط فجأة ميّت.
                        فكم من سَليمٍ مات من غير علَّة وكم من سقيم عاشَ حينًا من الدَّهر.
                        بعض الناس يمرض ويزوره بعض الناس ويظنون أنه يموت ويصلون عَلَيه، فيموتون قبله ويعزِّي فيهم، وكفى بالموت واعظًا، فإذا حدّثت النفس الإنسان بالذنب ورجّاه الشيطان المغفرة، الشيطان خبيث قد يأتي للإنسان ويقول: أنت ما شاء الله عندك صالحات كثيرة وأنت أحسن من غيرك، غيرك يفعل ويفعل ويفعل، هٰذا ذنب! لكي يوقع العبد بالذنب، إذا جاءت النفس الضعيفة وجاء الشيطان، يُذكِّر الإنسان نفسه بأن الأجل مؤقَّت ولا يدري ما يَكون، فلعل هٰذا يَكون آخر ما يَكون، فكيف يعيش عمره على طاعة الله ثم يُعرِّض نفسه لأن يُقبَض على معصية الله؟!
                        المؤمن لا يجرؤ على الذنب لأنه يعلم أنّ للذنب شؤمًا كما أنّ له مكفّرات، فقد يسبق الشؤم إليه فيَرِين على قلبه، فيصبح بعد ذٰلك لا يَقبَل حقًّا ولا يُنكِر باطلًا، فلا يجرؤ على الذنوب ولا يجرؤ على محارم الله، لكن إذا غلبه الضعف فوقع فِيْ الذنب لا يقول: أنا لا خير فيّ، أنا بعدتُ عن الله، أنا كيف أقوم الليل وأنا زنيتُ –والعياذ بالله-؟ كيف أتنفّل وأنا قد كذبتُ؟ لا يقنط من رحمة الله، بل يرجو مغفرة الله، ويُصدِّق بموعود الله، ويَفعل ما طُلِبَ منه من المكفِّرات، ويسأل الله أن يغفر له مغفرة واسعة من عنده.
                        اللهم يا ربنا يا حي يا قيوم، يا رحيم يا رحمن، يا كريم، يا بر، يا محسن، يا عفو، يا غفّار، يا غفور، إنا عباد من عبادك مذنبون خطّاؤون، قد أذنبنا فأسرفنا، وأذنبنا فأكثرنا، وبلغتْ ذنوبنا شيئا كثيرًا، ولكنّ رحمتك يا رحمن أرجى عندنا من ذنوبنا، اللهم فاغفر لنا أجمعين، اللهم فاغفر لنا أجمعين، اللهم فاغفر لنا أجمعين، اللهم لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته، اللهم لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته، اللهم لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته، اللهم من علمتَه منا طائعًا فزده طاعة إلى طاعته وثبّته يا رب العالمين، اللهم من علمتَه منا طائعًا فزده طاعة إلى طاعته وثبّته يا رب العالمين، اللهم من علمتَه منا طائعًا فزده طاعة إلى طاعته وثبّته يا رب العالمين، اللهم ومن علمته منا مقيمًا على معصية فارزقه توبة ترضى بِهَا عنه يا رب العالمين، اللهم ومن علمته منا مقيمًا على معصية اللهم فارزقه توبة ترضى بِهَا عنه يا رب العالمين، اللهم من علمته منا مقيمًا على معصية اللهم فارزقه توبة ترضى بِهَا عنه يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولذرياتنا ولأهلينا ولأقاربنا ولجيراننا وللمسلمين والمسلمات يا رب العالمين، اللهم اغفر لحاضرنا وغائبنا، اللهم اغفر لحاضرنا وغائبنا، اللهم اغفر لحاضرنا وغائبنا، اللهم ويا ربنا اغفر لحينا وميتنا يا رب العالمين، اللهم يا ستّير استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، ولا تفضحنا يوم العرض، اللهم يا ستّير استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، ولا تفضحنا يوم العرض، اللهم يا ستّير استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، ولا تفضحنا يوم العرض، ربنا آتنا فِيْ الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصلى الله على نبينا وسلم. ولعلنا نقف عند هٰذا الموضع لنجيب على بعض الأسئلة، والله أعلم. وصلى الله على نبينا وسلّم.


                        (6)
                        بسم الله الرحمٰن الرحيم
                        الحمد لله البَرِّ المحسِن العفو الستير، المنعِم بعفوه وستره، الآمر بذكره وشكره، المُعين على ذكره وشكره. وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ هي أفضل ذكره. وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، خير عابدٍ لله ومداومٍ على ذكره، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما صلى المصلُّون عَلَيه عند ذكره، ورضي الله عن آله وأصحابه العابدين لربهم المُعلِين من شأن ذكره، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
                        فمعاشر الفضلاء؛ إنّ اجتماعنا فِيْ مسجد رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أعظم نعم الله علينا، حيث نجتمع فِيْ هٰذا المسجد الكريم المبارَك الشريف الَّذِي يُسَنُّ للمسلمين أن يَرتحِلوا من أجله «لا تُشدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هٰذا، والمسجد الأقصى»، فِيْ هٰذا المسجد الكريم الَّذِي جعل الله فيه للعبادة شرفًا عظيمًا؛ فقال فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صلاة فِيْ مسجدي هٰذا خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام»، فِيْ هٰذا المسجد الكريم الَّذِي جُعِل لطلب العلم فيه مَزيِّة لا تَكون فِيْ سواه؛ حيث قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أتى مسجدي هٰذا لَمْ يأته إلا ليتعلّم خيرًا أو يُعلِّمه؛ كان كالمجاهد فِيْ سبيل الله».
                        فنحمد الله على أن أنعم علينا بهٰذه النعمة العظيمة، ونسأل الله أن يجعلنا أهلًا لَهَا، وأن يرزقنا شكرها، وأن يُثيبنا فضلها، وأن يزيدنا من فضله أضعافًا مضاعفة.
                        أيها الإخوة؛ درسُنا فِيْ شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-، حيث سأله العالم الرَّحَّالة أبو القاسم السَّبتي المغربي أربعة أمور:
                        الأمر الأول: أن يوصيَه بما يُصلِح دينه ودنياه.
                        والأمر الثاني: أن يخبره عن أفضل الأعمال بعض الفرائض.
                        والأمر الثالث: أن يدلّه على أنفع الكتب؛ لا سيما فِيْ علم الحديث.
                        والأمر الرابع: أن يدلّه على أرجح المكاسب.
                        وكنّا فِيْ دروسنا السابقة قد فرغنا من تقرير الأمر الأوّل؛ وهو الوصية النافعة فِيْ الدنيا والآخرة، وهي وصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصاحبه الجليل معاذ بن جبل رضيي الله عنه، وهي وصية للامَّة أجمع: «يا معاذ اتق الله حيثما كنت، وأتبِع السيئة الحسنةَ تمحها، وخالق الناس بخُلق حسن».
                        وبيَّن شيخ الإسلام أنّ هٰذه الوصية قد جمعت الأمر بالعمل الصالح، والأمر بإصلاح الفاسد، والأمر بأداء حقوق الخَلق. وفَرَغنا من تحقيق ذٰلك كله.
                        ثم اليوم نبدأ –إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ- بالكلام عن الأمر الثاني وهو: أفضل الأَعْمَال بعد الفرائض. فيتفضل الشيخ ياسين يقرأ لنا ما ذكره شيخ الإسلام –رحمه الله-.
                        وأمَّا ما سألتَ عنه من أفضل الأَعْمَال بعد الفرائض؛ فإنه يَختلف باختلاف الناس فيما يَقدرون عَلَيه ومَا يناسب أوقاتهم، فلا يمكن فيه جواب جامع مفصَّل لكل أحد
                        يقول شيخ الإسلام مخاطبًا أبا القاسم السَّبتي: «وأمَّا ما سألتَ عنه من أفضل الأَعْمَال بعد الفرائض»، المعلوم أيها الإخوة! أنّ أفضل الأَعْمَال هي الفرائض الَّتِي افترضها الله –عَزَّ وَجَلَّ- على عباده، فخير ما تتقرّب به إلى ربك أيها المسلم: أن تقيم فريضة من فرائضه –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-؛ لما جاء فِيْ حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنّ الله قال: مَن عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، ومَا تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليّ مما افترضتُ عَلَيه، ومَا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الَّذِي يسمع به، وبصره الَّذِي يُبصر به، ويده الَّتِي يَبطش بِهَا، ورجله الَّتِي يمشي بِهَا، ولئن سألني لأُعطينَّه ولئن استعاذني لأُعيذنّه» والحديث رواه البخاري فِيْ الصحيح.
                        والشاهد قول الله –عَزَّ وَجَلَّ- فيما حكاه عنه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ومَا تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليّ مما افترضتُ عَلَيه»، فأحبُّ الأَعْمَال إلى الله هي الفرائض، ولا يجوز للإنسان أن يشتغل بالنوافل عن الفرائض، بل الفرائض مقدَّمة. يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا أُقيمَت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» رواه مسلم فِيْ الصحيح، وبوَّب بلفظه البخاري فِيْ الصحيح، «إذا أُقيمتْ الصلاة» فقد أصبحتْ فرضًا «فلا صلاة إلا المكتوبة» فلا يجوز الاشتغال بالنَّفل بعد إقامة الصلاة الَّتِي هي الفرض؛ فدلّ ذٰلك على أنه لا يجوز للعبد المسلم أن يشتغل بالنوافل عن الفرائض، فإذا تعارض عند العبد المسلم فعل فريضة مع فعل نافلة فإنه يجب عَلَيه أن يشتغل بالفريضة.
                        فمن كان عَلَيه دينٌ مثلًا وقَدْ حلَّ وفاؤه وليس عنده مال، وكان بين أمرين: أن يَعمل ليُحصِّل المال ليَفي دَينه، أو يشتغل بطلب العلم المستحب، ولا يستطيع أن يجمع بينهما، فإنه إذ ذاك يجب عَلَيه أن يعمل ليُحصِّل وفاءَ دَينه، وكذلك إذا تعارَض عند الإنسان ما يَتعلَّق بالنفقة الواجبة عَلَيه والمستحبات؛ فإنه يجب عَلَيه أن يقدِّم النفقة الواجبة عَلَيه.
                        وقَدْ قال العلماء جملة عظيمة: «مَن شغله الفرض عن النَّفل فهو معذور، ومَن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور».
                        الَّذِي يَدخل المسجد وقَدْ أٌقيمَتِ الصلاة فلا يستطيع أن يصلي السنة الراتبة القَبليَّة فدخل فِيْ الفرض فهو معذور، والذي يدخل وقَدْ أٌقيمَت الصلاة فيشتغل بالنافلة ولا يدخل مع الإمام فِيْ الصلاة المفروضة فهو مغرور.
                        ولذلك قال العلماء: «إنّ الشيطان يسعى لأن يُشغل المسلم بدنياه عن دينه، فإذا لَمْ يستطع سعى لأن يشغله بالنوافل عن الفرائض».
                        ولذلك ذكر أهل العلم أنّ الشيطان قد يُرغِّب العبد فِيْ قيام الليل –وهو أفضل الصلوات المستحبات- إذا علم أنّ ذٰلك يجعله ينام عن صلاة الفجر، لأنّ الشيطان يَعلم أنّ ترك الفريضة إثمٌ وذنبٌ يَستحق به فاعلُه العقاب، أمّا ترك المستحَب فليس فيه ذنب ولا إثم وإنما يفوت به الأجر، فيسعى الشيطان لأن يُشغِل الإنسان بمستحَب حتى يَشغَله عن الفرض.
                        ولذلك؛ ينبغي على العبد المسلم دائمًا أن يَتفقّد حاله مع الفرائض، أن ينظر فِيْ حاله مع الفرائض؛ فهي أجمع الأمور، ثم بعد ذٰلك تَكون النوافل. فأفضل الأَعْمَال الفرائض، ثم النوافل.
                        والأفضل للإنسان أن يُكثِر من النوافل ما استطاع إلى ذٰلك سبيلًا، فإنها مثقِّلة للميزان، محبوبة إلى الرحمٰن، جابرة لما يقع فِيْ الأعمال من نقصان. فالعبد إذا عمل فريضة فحصل فيها نقصٌ فإنها تُجبَر بالنوافل من جنسها؛ لِمَا جاء فِيْ الحديث: «إنّ أوّل ما يُحاسَب عَلَيه الناس يوم القيامة من أعمالهم: الصلاة» قال: «يقول ربنا –جلَّ وعزَّ- لملائكته –وهو أعلم-: اُنظروا فِيْ صلاة عبدي؛ أتمّها أم نقصها؟ فإن كانت تامَّة كُتبَت له تامَّة، وإن كان انتَقص منها شيئًا؛ قال: اُنظروا هل لعبدي من تطوّع، فإن كان له تطوُّع قال: أتمُّوا لعبدي فريضته من تطوُّعه، ثم تؤخَذُ الأَعْمَال على ذٰلك» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والنسائي؛ أي رواه الأربعة، وصححه الألباني.
                        انظر يا عبد الله إلى هٰذا الحديث العظيم «إنّ أوّل ما يُحاسَب عليه الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة»، فأوّل الأَعْمَال الصلاة ؛لأنها أعلاها وأغلاها وأعظمها فرضًا، فالصلاة أوّل الأَعْمَال بعد التَّوحِيد، فيقول ربنا –جلَّ وعزَّ- لملائكته –وهو أعلم-: اُنظروا فِيْ صلاة عبدي هل أتمّها أو نقصها؟ فإن كان قد أتمها كُتبت له تامة، وإن كان قد انتقص منها شيئًا قال الله: انظروا هل لعبد من تطوّع؟ -يعني من الصلوات، هل له تطوّع من الصلوات؛ هل يصلي السنن الراتبة؟ هل يقوم الليل؟- فإن كان له تطوّع قال الله: أتمُّوا لعبدي فريضته من تطوّعه، ثم تؤخَذ بقية الأعمال على ذٰلك. وفي رواية: «ثم يُفعَل بسائر الأَعْمَال المفروضة ذٰلك».
                        ولذلك؛ قال أهل العلم: «يُستحبُّ للإنسان أن يَجعل له من كلُّ جنس فريضة نافلة». فالصلاة مثلًا يُستحَب له أن يَتنفّل من جنسها؛ كالسنن الرواتب، والصوم يُستحب أن يتنفّل من جنسه؛ كصوم يوم الاثنين والخميس وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، والزكاة يُستحب للإنسان أن يتنفّل من جنسها؛ كالصدقة، والحج يُستحب للإنسان أن يَتنفّل من جنسه، بأن يَحُجَّ نافلةً بعد الفريضة مرَّة أو أكثر من ذٰلك؛ أخذًا من هٰذا الحديث؛ حتى إذا كان هناك نقصٌ فِيْ فريضته يُتَمُّ من نوافله.
                        وذكر أهل العلم أنّ الأفضل للعبد أن لا يقتصر على نوعٍ من الفضائل، بل يأتي من الفضائل بما يستطيع، فتكون له نوافل من الصلاة، ونوافل من الصيام، ونوافل فِيْ المال، ونوافل فِيْ الإحسان.. إلى غير ذٰلك من الأعمال.
                        قال شيخ الإسلام: «فإنه يَختلف باختلاف الناس فيما يقدرون عَلَيه ومَا يناسِب أوقاتهم؛ فلا يمكن فيه جوابٌ جامعٌ مفصَّل لكل أحد» يعني أنّ الإنسان إذا كان يريد اختيار بعض أنواعٍ من الفضائل يُفضِّلها على غيرها لضيق الوقت أو غير ذٰلك فإنّ هٰذا يختلف باختلاف الناس.
                        ومما لا شك فيه أيها الإخوة؛ أنّ الأَعْمَال الصالحة تتفاضَل، فقد سُئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أفضل الأَعْمَال فِيْ أحاديثَ متعدِّدة فِيْ الصحيحين؛ فأقرَّ السائلين وأجابهم عن سؤالهم؛ فدلّ ذٰلك أيها الأحبّة على أنّ الأَعْمَال الصالحة ليست على درجة واحدة فِيْ الفضل بل تتفاوت.
                        ومعرفة أفضل الأَعْمَال من أنفع ما يَكون للعبد، ولذلك قال العلماء: «ليس العاقل الَّذِي يَعرف الخير من الشر؛ لكنّ العاقل الَّذِي يَعرف خير الخيرَين وشرَّ الشرَّين»، «ليس العاقل الَّذِي يعرف الخير من الشر» ليس المراد هنا نفي العقل؛ بل العاقل يعرف الخير من الشر؛ لكن أعقل منه مَن يعرف خير الخيرَين، لماذا؟ ليُقدِّم أعلاهما عند التزاحم. «ومن يعرف شر الشرين» ليرتكب أدناهما ويدفع أعلاهما عند التزاحم. وهٰذا من الأهمية بمكان للمؤمن.
                        فمثلًا؛ لو أنّ مؤمنًا ذهب يريد أن يُصلي الصلاة فِيْ المسجد فوقع حادث لمسلم أمام عينيه وهرب صاحب السيارة، هنا خيران: الخير الأوّل أن يُدرِك صلاة الجماعة ويصلي مع المسلمين، والخير الثاني أن يُنقذ حياة هٰذا المسلم، إذا كان لا يَعرف خير الخيرَين فإنه قد يَدَعُ هٰذا المسلم يموت بحجَّة أنّ الصلاة عمل عظيم فيُقدّمه، لكن إذا كان يَعرف خير الخيرَين فإنه يَعلم أنّ اشتغاله بإنقاذ المسلم خيرٌ له من صلاة الجماعة، بل خيرٌ له من الصلاة فِيْ وقتها؛ لأنه يستطيع أن يَقضيَها.
                        فهٰذا السؤال الَّذِي سأله السَّبتي –رحمه الله- فِيْ غاية علو الشأن.
                        فالشيخ يقول إنّ هٰذا الأمر يختلف لكنّ الميزان الَّذِي يُنظَر إليه فِيْ معرفة الأفضل من الأَعْمَال يعود إلى خمسة أمور.
                        ميزان معرفة الأفضل يعود إلى خمسة أمور:
                        الأوّل: مواظبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على العمل، أو حثُّه عَلَيه حثًّا مؤكَّدًا.
                        فإذا وجدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مواظِبًا على عمل من الأعمال عَلِمْنا أنه أفضل جِنْسِه، وإذا حَثَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عمل حثًّا مؤكَّدًا عَلِمْنا أنه أفضل جنسه.
                        فمثلًا قيام الليل؛ صلاة الليل هي أفضل الصلوات المستحبات؛ لأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واظب عليها على كلِّ حال؛ فِيْ حال إقامته وفي حال سفره، فِيْ حال صحته وفي حال مرضه، وحَثَّ عليها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله؛ فقال: «وأفضل الصلاة بعد الفريضة: صلاة الليل».
                        فالميزان الأوّل لتعرف الأفضل أن تنظر إلى حال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الفعل، فما واظب عَلَيه أو حث عَلَيه حثًّا مؤكَّدًا فهو أفضل.
                        والثاني: قدرة العبد على الاستمرار عَلَيه.
                        فالعمل الَّذِي تستطيع أن تداوم عَلَيه أفضل من غيره؛ وإن كان غيره أفضل من حيث ذاته. فما داومتَ عَلَيه واستطعتَ أن تداوم عَلَيه أفضل مما هُوَ أعلى منه ولا تستطيع أن تداوم عَلَيه.
                        أضربُ مثالًا؛ شخصٌ قال: أريدُ أن أجعل لي وردًا من الصلاة فِيْ الليل أحافظُ عَلَيه؛ فكم أصلي؟ كم ركعة؟ نقول له: انظر إلى ما تستطيع أن تداوم عَلَيه، فإن كنتَ تستطيع أن تداوم على ثلاث ركعات فالثلاث أفضل من إحدى عشرة بالنسبة لك، وإن كنت تستطيع أن تداوم على خمس فالخمس أفضل من الإحدى عشر بالنسبة لك، وهكذا، إن كانت صلاة إحدى عشرة ركعة أفضل من حيث ذاتها.
                        ما الدليل على هٰذا الميزان؟ الدليل قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وإنّ أحبّ الأَعْمَال إلى الله ما دام؛ وإن قلّ». متفق عَلَيه.
                        وقالت عائشة –رَضِيَ اللهُ عَنْها-: «وكان آل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا عملوا عملًا أثبَتوه» رواه مسلم فِيْ الصحيح.
                        فأحبُّ العمل إلى الله بعد الفرائض منك يا عبد الله: ما تُداوم عَلَيه؛ وإن قلّ.
                        ولكن أنبه هنا إلى أنّ العبد إن اختار لورده الأقلّ لا يَمنَعُه ذٰلك من الزيادة إن وجد نشاطًا.
                        يعني لو أنّ إنسانًا فِيْ ليلة وجد نشاطًا أنه يصلي إحدى عشرة ركعة فليصلِّ إحدى عشرة ركعة، لكنّ ورده هُوَ خمس مثلًا، وهكذا. وهٰذا أمرٌ من الأهمية بمكان.
                        إذا أردتَ ان تنظر إلى الأفضل من الصيام، لو سألتني: ما الأفضل أن أصوم الاثنين والخميس أو أصوم ثلاثة أيام من كل شهر، أنا لا أستطيع أن أجمع بينها؟ نقول: ما الَّذِي تستطيع أن تداوم عَلَيه؟ هل هُوَ الثلاثة أيام من كل شهر ولو مفرَّقة؟ أو الاثنين والخميس؟ فإن قلتَ: أستطيعُ أن أداوم على هٰذا وهٰذا ولا أستطيع أن أجمع؛ قلنا: الأفضل صيام الاثنين والخميس؛ لأنه الأكثر ولأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصوم الاثنين والخميس. فإن قلتَ: أنا أستطيع أن اداوم على صيام ثلاثة أيام من كل شهر وإن صمتُ الاثنين والخميس لا أستطيع المداومة عليها؟ قلنا: الأفضل أن تصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وهكذا.
                        وهٰذا ميزانٌ عظيم يغفل عنه كثير من الناس لاسيَّما مع الحماسة للعمل الصالح.
                        بعض الناس قد يَكون كان على معاصي ثم يتوب فيكون عنده حماس للعمل الصالح فيبحث عن الأعلى عددًا، ثم لا يلبث أن ينقطع!
                        فينبغي مراعاة هٰذا الأمر فِيْ اختيار الأعمال.
                        وأما الأمر الثالث: فهو مناسبتُه لوقته.
                        -من الأعمال يا إخوة ما هُوَ وظيفة الوقت، فالمناسِب للوقت أفضل. هٰذا من جهة وقت العمل.
                        يعني مثلًا؛ إجابة المؤذِّن عند الأذان أفضل النوافل؛ أفضل من أن تقوم وتصلي، أفضل من أن تقرأ القرآن، أفضل من أن تصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنّ هٰذه وظيفة الوقت.
                        -ومن وجهٍ آخر؛ مناسبة العمل لوقت الإنسان. فاختر من الاعمال ما يتناسب مع وقتك؛ فإنه أدعى لإقبال قلبك.
                        يعني لو سألني سائل: ما هُوَ أفضل وقت أقرأ فيه القرآن؟ نقول: الأفضل يختلف، لكن ما هُوَ أفضل وقت عندك تَكون فارغًا من الشغل فارغ الفِكر، إن قلتَ: بعد الفجر؛ نقول: الأفضل بعد الفجر، تقول: فِيْ آخر الليل؛ نقول: الأفضل فِيْ آخر الليل، لماذا؟ لأنّ هٰذا أولًا أدعى لإقبال القلب؛ فتُقبِل على العمل بقلبك، والعمل إنما يَفضُل بإقبال العبد بقلبه على العمل.
                        ولذلك يصلي الناس فِيْ مسجد واحد يتفاوتون فِيْ الأجر تفاوتًا عظيمًا مع أنهم فِيْ فرض واحد وخلف إمام واحد؛ لكنهم يختلفون فِيْ قلوبهم، فهٰذا مقبِل على صلاته بقلبه من أوّلها لآخرها، وذاك لا يَستحضر إلا نصفها، وذاك لا يَستحضر إلا خمسها، وهكذا.
                        إذن عندما نقول: الثالث: مناسبته لوقته، نقصد أمرين:
                        الأمر الأوّل: مناسبته لوقت العمل. بأن يَكون هٰذا العمل وظيفة الوقت، فما كان وظيفة الوقت فهو أفضل.
                        إذا ذُكِر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنّ الصلاة عَلَيه أفضل من قول لا إله إلا الله، مع أنّ قول لا إله إلا الله أفضل من الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكن إذا ذُكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالصلاة عَلَيه وظيفة الوقت؛ فتكون أفضل. كما قلنا إجابة المؤذِّن وظيفة الوقت فتكون أفضل.
                        والأمر الثاني الَّذِي نقصده: وقت الإنسانِ نفسِه. فإنه يختار لعمله أَفرَغ وقته؛ حتى يُقبل عَلَيه بقلبه.
                        والأمر الرابع: تأثير العمل فِيْ القلب.
                        من المقطوع به أنّ للأعمال الصالحة آثارًا طيبة فِيْ القلوب، وتأثيرها عظيم؛ ويتفاوت فيه الناس.
                        من المعلوم يا إخوة أنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإذا صلى الإنسان فلابدّ أن تنهاه صلاته عن شَيْء من الفحشاء.
                        التحقيق من أقوال أهل العلم: أنه لا يصلي مصلٍّ صلاة صحيحة إلا وتنهاه عن الفحشاء، ولكنّ الناس يتفاوتون فِيْ هٰذا الأثر، فمن الناس من تنهاه الصلاة عن الفحشاء حال اشتغاله بِهَا تحبسه عن الفحشاء، فحال كونه مصليًا تنهاه صلاته عن الفحشاء، وهٰذا يحصل لكل مصلٍّ.
                        ومن الناس من تنهاه الصلاة عن الفحشاء قبل الصلاة وبعد الصلاة، وهو سائر يستشعر أنه فِيْ صلاة فتنهاه عن الفحشاء، وهو عائد يستشعر أنه كان يصلي فتنهاه عن الفحشاء، لكن قبل هٰذا وبعد هٰذا يحصل عنده خلل.
                        ومن الناس من تنهاه صلاته عن الفحشاء مطلقًا. وهٰذا بحسب أثر الصلاة فِيْ القلب.
                        ضربتُ لهٰذا مثالًا لِمَا يقوله العلماء: إنّ للأعمال الصالحة آثارًا طيبة فِيْ القلوب وأنّ الناس يتفاوتون فِيْ هٰذا.
                        وكذلك يتفاوت الناس فِيْ نوع العمل الَّذِي يؤثِّر فِيْ القلب. فمن الناس من يؤثّر فِيْ قلبه: التنفُّل بالصلاة، ومن الناس من يؤثّر فِيْ قلبه أكثر: الدعاء، ومن الناس من يؤثّر فِيْ قلبه أكثر: أن يقرأ القرآن بنفسه، ومن الناس من يؤثّر فِيْ قلبه أكثر: أن يستمع القرآن من غيره، فكلٌّ يَكون الأفضل فِيْ حقّه ما كان أعظم أثرًا فِيْ قلبه.
                        لو قال لي قائل: ما هُوَ الأفضل فِيْ آخر الليل: هل الأفضل أن أقرأ القرآن أو أن أشتغل بالدعاء؟ نقول: من أنواع المفاضلة أن ننظر إلى الأكثر أثرًا فِيْ قلبك؛ فإن كانت قراءة القرآن يَنتُج منها انكسارٌ فِيْ قلبك وخشوع وبكاء لله فالقراءة أفضل، إن كان الدعاء يَحصل به انكسارٌ لقلبك أكثر وخشوع فالدعاء أفضل، إن كان استماعك للقرآن من قارئ يجعل فِيْ قلبك من الخشوع أكثر من قراءتك؛ فالاستماع هنا أفضل، والكلام هنا يا إخوة: عند التزاحم؛ إذا أراد الإنسان ان يختار الأفضل.
                        وأما الخامس: فهو القدرة والعجز.
                        فما يقدر عَلَيه الإنسان أفضل فِيْ حقه مما يعجز عنه ولو كان ذٰلك أفضل فِيْ ذاته.
                        وهٰذا أمر مهم؛ الَّذِي تستطيعه هُوَ الأفضل فِيْ حقك، والذي تعجز عنه ليس بفاضل فِيْ حقك، وإن كان فاضلًا من حيث الأصل.
                        ولذلك يقول العلماء: «إذا علمتَ أنّ عبدًا يعمل عملًا فاضلًا هُوَ الَّذِي يَقدِر عَلَيه ولا يَقدِر على ما هُوَ أعلى منه؛ فلا تأمره بالأفضل؛ لأنّ الأفضل فِيْ حقه هُوَ ما يقدر عَلَيه».
                        الَّذِي يستطيع أن يصوم ثلاثة أيام ولا يستطيع غيرها، لا تأتي إليه وتقول: الأفضل أن تصوم يومًأ وتفطر يومًا، لأمرين:
                        الأمر الأول: أنه من الناحية الشرعية: ما يقدر عَلَيه العبد هُوَ الأفضل فِيْ حقه، وهٰذه من رحمة الله، لأنه إذا فعل ما يقدر عَلَيه كتب الله له أجر ما يقدر عَلَيه وأجر ما يَعجز عنه؛ إذا كان صادق النية. هٰذا وجه.
                        والوجه الثاني: لأنك لو أمرتَه بالأفضل زهّدتَه فيما يَعمل ولا يستطيع أن يعمل ما تقول إنه الأفضل.
                        إذا جئته تقول: والله طيب تصوم ثلاثة أيام لكن أحسن أن تصوم يومًا وتفطر يومًا هناك عباد من عباد الله يصومون يومًا ويفطرون يوما سبقوك إلى الجنة! المسكين ما يستطيع أن يصوم يومًا ويفطر يومًا فيَزهد لِمَا عنده، الناس كثير يصومون يومًا ويفطرون يومًا وهو ما يستطيع فيزهد فِيْ الثلاثة أيام وقَدْ يتركها ولا يستطيع أ ن ينتقل إلى الأفضل. وهٰذا من الفقه العظيم.
                        إذن الأمر الخامس فِيْ معرفة الأفضل: القدرة والعجز. بحيث تعلم أيها العبد المبارَك أنّ ما تقدر عَلَيه من الأَعْمَال أفضل فِيْ حقكَ مما تعجز عنه؛ وإن كان المعجوز عنه أفضل من حيث الأصل.
                        هٰذه الموازين الخمسة لمعرفة أفضل الاعمال:
                        1. مواظبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                        2. القدرة على المداومة عليها.
                        3. تأثير العمل فِيْ القلب.
                        4. مناسبته للوقت.
                        5. قدرة العبد عَلَيه.
                        فإذا عرف العبد هٰذا؛ فإنه يَكون عارفًا -إن شاء الله- بالأفضل فِيْ حقِّه، وإن كان العالم لا يستطيع أن يقول إنّ الأفضل فِيْ حق الناس جميعًا هُوَ كذا؛ لاختلافهم فيما ذكرناه.
                        لكنّ مما هُوَ كالإجماع بين العلماء بالله وأمره أنّ ملازمة ذكر الله دائمًا هُوَ أفضل ما شَغَلَ به العبد نفسه فِيْ الجملة؛ وعلى هٰذا دلّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه-
                        تكاد تتفق كلمة السلف –إن لَمْ تتفق، ولا أعرف خلافًا بينهم فِيْ هٰذا- على أنّ أفضل الأَعْمَال بعد الفرائض المتعيِّنة ثلاثة:
                        1. الجهاد فِيْ سبيل الله.
                        2.والعلم.
                        3. والذكر.
                        تكاد تتّفق كلمة السلف –إن لَمْ أقل إنها تتّفق- على أنّ أفضل الأَعْمَال بعد الفرائض المتعيِّنة ثلاثة: الجهاد فِيْ سبيل الله، والعلم، وذكر الله.
                        أمّا الجهاد فِيْ سبيل الله؛ فقد جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «دلَّني على عمل يَعدِل الجهاد» يعدل: يعني يساوي «قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا أجده» أي لا أجد عملًا يعدل الجهاد؛ يعني بعد الفرائض، ثم قال: «تستطيعُ إذا خَرَجَ المجاهد أن تَدخل مسجدك فتقوم ولا تَفتُر، وتصوم ولا تُفطِر؟ قال: الرجل: من يستطيع ذٰلك؟!» متفق عَلَيه. تريد عملًا يعدل الجهاد؟ هل تستطيع إذا خرج المجاهد فِيْ سبيل الله أن تَدخل مسجدك فتقوم ولا تَفتُر ولا تجلس تصلي تصلي تصلي حتى يعود المجاهد، وتصوم ولا تفطر؟ قال الرجل: هل يستطيع أحد ذٰلك؟ لا يستطيع أحد ذٰلك. والحديث فِيْ الصحيحين.
                        إذن هٰذا الحديث يدلّ دلالةً بيّنةً على أنّ الجهاد أفضل الأَعْمَال بعد المفروضات. وقَدْ جاء عن بعض السلف ذٰلك؛ قال أحمد–رحمه الله-: «ما من عمل أفضل من الغزو بعد حجة الإسلام»؛ يعني بعد الفرائض.
                        وأمَّا العلم؛ فقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « فضل العالِم على العابد كفضلي على أدناكم» رواه الترمذي وصححه الألباني. «فضل العالِم على العابد» العالِم: هُوَ كثير العلم، على العابد: كثير العبادة بلا علم، «كفضل النبي على أدناكم» أي أدنى الصحابة أو على أدنى الامة، ولا شك أنّ فضل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أعلى الصحابة فضل عظيم؛ فكيف بفضله على أدنى الصحابة؟! هٰذا فضل العلماء، وفضلهم عظيم.
                        وإنك لتعجب أيَّما عجب من أناس يَنتسبون إلى الفضل ويَدَّعون العلم يَقدحون فِيْ العلماء الربّانيين ويَطعنون فِيْ العلماء الربّانيين، ويَتنقَّصون فضلهم، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول فيهم هٰذا الفضل العظيم!
                        ومما أعجبني من كلام مشايخي؛ وصية أوصاني بِهَا أحد مشايخي فقال: «يا سليمان! لا ترضَ لنفسك أن تَكون أقل درجة من الحيوان» قلتُ: كيف؟ قال: «إياك أن تتنقّص العلماء الربّانيين المشهودِ لهم بالسنة والتَّوحِيد، بل ليكن شأنك دائمًا أن تَذكر فضلهم وأن تستغفر لهم؛ فإنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «وإنّ العالم ليَستغفر له من فِيْ السماوات ومن فِيْ الأرض حتى الحيتان فِيْ الماء»، وفي الحديث الآخر: إنّ الله وملائكته وأهلَ السماوات وأهلَ الأرض حتى النملة فِيْ جحرها وحتى الحوت ليُصلُّون على معلِّم الناس الخير». هٰذا من جهة فضل العالِم.
                        ومن جهة فضل العلم؛ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَضْلُ العلم خير من فَضْلِ العبادة» رواه الحاكم وصححه، والطبراني، وصححه الألباني. فدلّ ذٰلك على أنّ الزيادة فِيْ العلم خير من الزيادة فِيْ العبادة.
                        وقَدْ قال سفيان الثوري –رحمه الله-: «ما من عمل أفضل من طلب العلم؛ لمن صحتْ نيّته».
                        وأمّا ذكر الله، فتأتي النصوص فِيْ تفضيله فِيْ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-.
                        قال معاذ بن جبل –رضي الله عنه-: «لأن أذكر من غَدوة حتى تَطلُع الشمس أحبَّ إليّ من أن أَحمِل فِيْ الجهاد فِيْ سبيل الله من غَدوةٍ حتى تطلع الشمس». فهنا يا إخوة ذكرتُ لكم نصًّا يدلّ على تفضيل واحدٍ من هٰذه الثلاثة، ولفظًا عن السلف يدلّ على تفضيل واحدٍ من هٰذه الثلاثة.
                        وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- أنّ أفضل الأَعْمَال: الصلاة، والجهاد، والعلم؛ بإجماع الأمّة. فالصلاة المفروضة أفضل المفروضات، والعلم والجهاد.
                        وقال ابن القيم –رحمه الله-: «التحقيق: أنّ المراتب ثلاثة:
                        أوّلها: ذكر الله والجهاد معًا. فهٰذا فيه جَمْعٌ بين الذِّكر والجهاد، وهٰذا أفضل المراتب.
                        وثانيها: ذكر الله بلا جهاد. وهٰذا ثاني المراتب فضلًا.
                        وثالثها: الجهاد بدون ذكر الله. وهٰذا ثالث المراتب.
                        ووجه تقديم الذِّكر على الجهاد: أنّ الجهاد وسيلة إلى ذكر الله، وإنما يُجاهَد ليُقام ذكر الله، فيكون المقصودُ أعظمَ من الوسيلة.
                        وشيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله- كما سيأتينا- يُدخِل العلم فِيْ ذكر الله، نحن قلنا أفضل الأَعْمَال عند السلف –بما يُشبِه الاتفاق إن لَمْ يكن اتفاقًا- ثلاثة: الجهاد فِيْ سبيل الله، والعلم، وذكر الله.
                        شيخ الإسلام –رحمه الله- يُدخِل العِلم فِيْ ذكر الله، فبقي عملان: ذكر الله والجهاد. ويرى أنّ ذكر الله أفضل من الجهاد؛ ولذلك قال هٰذه الجملة الَّتِي معنا؛ «لكن مما هُوَ كالإجماع» لماذا قال: كالإجماع ولم يقل: بإجماع؟ لأنّ من السلف من يقدّم الجهاد -كما قدّمنا قبل قليل- لكنّ أكثر السلف يقدّمون ذكر الله؛ ولذلك قال: كالإجماع؛ يعني أّنّ القائلِين به هم الأكثر كثْرَة كاثِرة من مقدّمي غيره عَلَيه.
                        «لكن مما هُوَ كالإجماع بين العلماء بالله وأمره». العلماء بالله: هم الَّذِينَ يخافون الله ويخشَونه، والعلماء بأمر الله: هم الفقهاء الَّذِينَ يَعرفون الحلال والحرام. فشيخ الإسلام يقول: «كالإجماع بين العلماء بالله وأمره» العلماء الَّذِينَ يخافون الله ويخشَونه ويَفقهون دينه فيعرفون الحلال والحرام.
                        «أنّ ذكر الله دائمًا هُوَ أفضل ما أشغل العبد به نفسه فِيْ الجملة»، ملازمة العبد ذكر الله وكثرة جريان اللسان بذكر الله: أفضل ما تقرّب به العبد إلى الله بعد الفرائض عند أكثر السلف الصالح –رضوان الله عليهم-؛ لقول الله: ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾، قيل فِيْ معناها: «ذكر الله العباد أكبر من ذكرهم له؛ فإنه ما ذكر أحدٌ ربه فِيْ ملأ إلا ذكره فِيْ ملأ خير منه، ولا ذكر أحدٌ ربه فِيْ نفسه إلا ذكره الله فِيْ نفسه».
                        إذن ذكر الله العبادَ أكبر من ذكرهم له؛ فكيف تملّ من ذكر الله؟! كيف تملّ من ذكر الله وأنت كل ما ذكرتَ الله ذكركَ الله! لا إله إلا الله، مجرد استشعار هٰذا يا إخوة ماذا يعمل فِيْ القلب؟ كلّما ذكرتَ الله ذكرك الله! وبنوع ذِكْرِك يذكرك الله –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                        وقال بعض أهل العلم: ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ معناه: «إنّ ذكر الله أكبر من كل شَيْء»؛ يعني بعد الفرائض، ولا مانع من الأمرين؛ فهٰذا اختلاف تنوُّع وليس اختلاف تضاد. ذكر الله العبادَ أكبر من ذكرهم له، وذكر العباد لربهم أكبر من كل شَيْء من الأعمال إلا المفروضات.
                        قيل لسلمان –رضي الله عنه-: «أيّ العمل أفضل؟ قال: أما تقرأ القرآن ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ لا شَيْء أفضل من ذكر الله» رواه الطبري عنه.
                        فجريان اللسان بذكر الله مع تواطؤ القلب على هٰذا واستحضار عظمة الله أفضل الأَعْمَال الَّتِي يتقرّب بِهَا العبد إلى الله بعد الفرائض، وفي نفس الوقت هي أخف الأَعْمَال، أنت جالس ما الَّذِي يمنعك أن تقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده سبحان الله؟! ما الَّذِي يمنعك؟ لا حائل يحول بينك وبين ذٰلك، ولا تحتاج لأن تقوم، ولا تحتاج لأن تتوضأ، ما تحتاج إلى شَيْء، من أسهل ما يَكون.
                        وهٰذا يا إخوة إذا تأمّلناه يبيِّن لنا عِظم رحمة الله بهٰذه الأمّة وأنه لا يَهلَك على الله إلا هالِك.
                        الذنوب يغفرها، وجعل مكفرات تكفّرها وتمحوها، والحسنات جعل الفرائض مستطاعات، والنوافل جعل أفضلها أيسرها وأسهلها للعبد. فلا إله إلا الله ما أعظم رحمة الله بهٰذه الأمة!
                        وعلى ذٰلك دلّ حديث أبو هريرة رضي الله عنه- الَّذِي رواه مسلم: «سَبَقَ المفرِّدون، قالوا: يا رسول الله! ومن المفرِّدون؟ قال: الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات»
                        هٰذا الحديث فِيْ صحيح مسلم، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سبق المفرِّدون» والمفرِّدون قال بعض أهل العلم: هم الَّذِينَ ذهب أقرانهم وبقُوا، والعادة أنّ الإنسان إذا ذهب أقرانه تتهذّب نفسه، كلّما فقد أحدًا من أقرانه كلّما خاف الموت وخاف الله، وعلى هٰذا المعنى يَكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يقول: إنّ الذكر يُهذِّب النفس كما يهذِّبها موت الأقران.
                        وقيل: إنّ المفرّدين: هم الَّذِينَ انقطعوا لعبادة الله. فيكون المراد: أنّ الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات كأنهم اعتزلوا الناس؛ لكثرة ذكرهم، فتجدهم قليلي الحديث مع الناس يشتغلون بذكر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                        «سبق المفرِّدون، قالوا: يا رسول الله! من المفرِّدون» من تعني بالمفرِّدين؟ قال: «الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات» أي الذاكرات الله، وهٰذا دليل على فضيلة ذكر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، وأنّ العبد بإكثاره من ذكر الله يَسبِق غيره، وأنك يا عبد الله فِيْ الدينا فِيْ سباق؛ سابِق ومسبُوق. وأنّ من أعظم ما يُعينك على السَّبْقِ: أن تُكثر من ذكر الله –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                        وفيما رواه أبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه- عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ أنه قال: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها فِيْ درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورِق، ومن أن تلقَوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناكم » قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «ذكر الله»
                        هٰذا الحديث العظيم رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم، ورواه الإمام مالك فِيْ الموطأ من قول أبي الدرداء –رضي الله عنه-، قال ابن عبد البر: وهو فِيْ حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال بالاجتهاد، بل الروايات الأخرى تدلّ على أنه مرفوع. وبحثتُ عنه فِيْ أبي داود بلفظه ومعناه فلم أجده، وقَدْ قال شيخ الإسلام هنا «فيما رواه أبو داود» فإما أن يَكون ذٰلك سَبْقَ ذهنٍ؛ لانّ أكثر كتابة شيخ الإسلام من حفظه، وقَدْ تعقّبتُه فِيْ كثير مما يَكتب فوجدتُه أنه يأتي بالأشياء فِيْ ألفاظها حتى فِيْ كلام السلف، لكن لعله سَبَقَ ذهنه هنا فقال «فيما رواه أبو داود». ويمكن أن يقال: لعله فِيْ نسخة لَمْ تبلغنا، لكنّ الأول أقرب، والله أعلم.
                        عن أبي الدرداء –رضي الله عنه- عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم» يعني عند ربكم -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- «وأرفعها فِيْ درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورِق» يعني خير لكم من النفقة فِيْ سبيل الله؛ أي النفقة غير المفروضة «ومن أن تلقَوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناكم » وفي رواية: «من أن تلقوا عدوكم غدًا فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناكم» قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «ذكر الله». وهٰذا يدلّ على أنّ ذكر الله أفضل النوافل.
                        فإن قال قائل: إنّ ظاهر الحديث يدلّ على أنّ ذكر الله أفضل مطلقًا، نقول: دلّ الحديث الَّذِي قدّمناه على أنّ أفضل الأَعْمَال هُوَ ما افترضه الله على العباد، فيكون هٰذا فِيْ تفضيل الذِّكر على النوافل.
                        ولو قال قائل: إنّ ذكر الله منه ما هُوَ مستحب ومنه ما هُوَ واجب، نقول: إنّ ذكر الله من حيث هُوَ ليس أفضل الفرائض، فأفضل الفرائض هُوَ الصلاة.
                        ولذلك أحسن ما يُحمَل عَلَيه الحديث؛ أنّ هٰذا أفضل النوافل؛ ذكر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                        والدلائل القرآنية والإيمانية بَصرًا وخبرًا ونظرًا على ذٰلك كثيرة
                        يعني أنّ الأدلة من الكتاب والسنة، لأنّ الدلائل القرآنية: هي الكتاب والسنة، لأنّ القرآن ورد فيه أمرُنا باتّباع السنة، ولذلك لمّا ذكر بعض السلف أمرًا فقيل له: إنّ هٰذا ليس فِيْ كتاب الله، قال: بلى هُوَ فِيْ كتاب الله ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ نعم هٰذا فِيْ السنة لكنه فِيْ كتاب الله ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾، إذن كأنه يقول: أنا أقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا، وربنا قال: ﴿ومَا آتاكم الرسول فخذوه﴾ إذن معنى هٰذا: خذوا قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هٰذا.
                        ولذلك التحقيق: أنّ السنة مثل القرآن؛ «ألا إني أتيتُ القرآن ومثله معه».
                        الدلائل القرآنية: هي ما في الكتاب والسنة. والخبرية: يعني إذا قلنا الدلائل القرآنية والخبرية؛ تصبح الدلائل القرآنية الآيات، والخبرية: السنة، وإذا قلنا: الدلائل القرآنية: فإنها عند المحقِّقين تَدخُل فيها الآيات والأحاديث.
                        هنا شيخ الإسلام قال: «والدلائل القرآنية والإيمانية بَصرًا وخبرًا» هنا لعله يريد بالخبر السنة، والإيمانية بصرًا: أي ما يسميه العلماء بالدلائل الوُجدانية الَّتِي يجدها العبد فِيْ نفسه؛ بمعنى ما يراه الإنسان بعينه وبصره ومَا يجده فِيْ نفسه من أثر الذكر يدل على فضيلة الذكر.


                        كيف ندلِّل على فضيلة الذكر؟
                        -بقول الله.
                        - وقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                        - ومَا نراه بأعيننا من أثر الذكر. فإن ّالإنسان يرى فِيْ الوقائع كيف أنّ ذكر الله يؤثّر تأثيرًا عظيمًا.
                        - ومَا نحسُّه فِيْ قلوبنا من أثر الذكر.
                        كل هٰذا يدلّ على فضيلة الذكر، وذها معنى قول الشيخ «والدلائل القرآنية» يعني الآيات، «والإيمانية» يعني الوجدانية الَّتِي يجدها أهل الإيمان فِيْ قلوبهم، «بصرًا» أي ما يرونه بأعينهم من أثر الذكر، «وخبرًا» أي فِيْ السنة. إذن ما يجده الإنسان فِيْ قلبه ومَا يراه بعينه ومَا يعلمه فِيْ كتاب الله وفي سنة رسول الله، كل ذٰلك يدلّ على فضيلة الذكر.
                        وأقلّ ذٰلك أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلّم الخير وإمام المتقين، صلى الله عَلَيه وعلى آله وصحبه أجمعين، كالأذكار المؤقتة فِيْ أول النهار وآخره
                        على كل حال الكلام فِيْ هذا طويل، ونحن نريد أن نقف اليوم قبل المعتاد، فنؤجل هٰذا -إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ- إلى درس يوم السبت.


                        (7)
                        بسم الله الرحمٰن الرحيم
                        الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضا، الحمد لله حتى يرضا، والحمد لله عند الرضا، والحمد لله بعد الرضا، والحمد لله على كلِّ حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد القهار. وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله النبيُّ المختار، صلى الله عَلَيه وعلى آله وصحبه الأخيار الأطهار الأبرار. أما بعد:
                        فمعاشر الفضلاء؛ درسنا فِيْ وصية عظيمة من وصايا علماء الأمّة، مشهورة بـ (الوصية الصغرى) لشخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- .
                        وهٰذه الوصية قائمة على أربعة أركان، بناء على أسئلة السائل أبي القاسم السَّبتي المغربي.
                        أما الركن الأوّل: فهو الوصية بما ينفع فِيْ الدين والدنيا، يعني ما يُصلِح الدِّين والدنيا.
                        وأمّا الركن الثاني: فهو بيان أفضل الأعمال بعد الفرائض.
                        وأمّا الركن الثالث: فهو الدلالة على أرجح المكاسب.
                        وأمّا الركن الرابع: فهو الدلالة على الكتب النافعة، لا سيما فِيْ علم الحديث.
                        وقَدْ بدأنا بالركن الأوّل وفرغنا منه. وعمدتُه: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تَمحها وخالق الناس بخُلق حسن»، حيث أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصالح، وبإصلاح الفاسد، وبمعاملة الناس بحُسن الخُلق.
                        وأمَّا الركن الثاني فقد شَرَعنا فيه، وخلاصة ما تقدّم: أنه يختلف باختلاف الناس وأحوالهم، ولا يمكن أن يَكون فيه قولٌ مطّردٌ لكل أحدٍ من الناس على السَّويّة.
                        ولكن ذكرنا أنّ ميزان معرفة الأفضل بالنسبة للإنسان يعود إلى أمور:
                        الأمر الأوّل: مواظبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحثُّه على الأمر حثًّا مؤكَّدًا.
                        الأمر الثاني: القدرة على المداومة عَلَيه، فإنّ أحبّ الأَعْمَال إلى الله ما دام وإن قلّ. وكان أحب العمل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما داوم عَلَيه صاحبه.
                        وأمَّا الأمر الثالث: فهو مناسبته للوقت. وقلنا إنّ الوقت هنا يُقصد به أمران:
                        - وقت الفاعل.
                        -ووقت الفعل.
                        وأمَّا الأمر الرابع: فهو أثره فِيْ القلب، لأنّ للعمل أثراً فِيْ القلب، ويتفاوت الناس فِيْ هٰذا، فما كان أعظمَ أثرًا للقلب كان أفضل بالنسبة للإنسان.
                        وأمَّا الأمر الخامس: فهو القدرة والعجز، فما كان قادرًا عليها لإنسان فهو أفضل مما يعجز عنه، سواء كان هٰذا العجز حاليًّا أو فيما يأتي من الزمان.
                        ويُلحَظ هنا أنّ العجز قد يَكون حسيًّا؛ بأن يكون الإنسان عاجزًا عن العمل فعلًا، إما لسبب عائدٍ إليه أو لسبب عائدٍ إلى خارج.
                        وقَدْ يَكون معنويًا؛ بحيث لا يجد الإنسان أنه فُتِح له فِيْ هٰذا الأمر، فيرى أنه عاجز عنه لأنه لَمْ يُفتَح عَلَيه فيه.
                        هٰذه موازين معرفة الأفضل من الأَعْمَال بالنسبة لكل إنسان.
                        وذكرنا أنه تكاد تتّفق كلمة السلف على أن الأفضل من الأَعْمَال بعد الفرائض العَينيَّة المتعيِّنة، وانتبهوا يا إخوة أنني أقول (بعد الفرائض العينية) لأنّ بعض الإخوة أرسل إلي رسالة يقول: كيف تقول بعد الفرائض؛ والجهاد من هٰذه الأعمال الثلاثة؟! لأنّا نقول: بعد الفرائض العينية المتعيِّنة على كلِّ فرد يُكلَّف بِهَا. أنّ أفضل الأَعْمَال بعد الفرائض العينية ثلاثة: الجهاد فِيْ سبيل الله، وذكر الله، والعلم.
                        وذكرنا أنّ شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- يُدخل العِلم فِيْ الذِّكر، فبقي أمران: الجهاد والذِّكر.
                        وقلنا إنّ الجهاد من باب الوسائل، وإنّ الذِّكر من باب المقاصد؛ ولذلك نستطيع أن نقول:
                        - إنّ أفضل الأَعْمَال بعد الفرائض الَّتِي هي من باب الوسائل: الجهاد فِيْ سبيل الله.
                        -وإنّ أفضل الأَعْمَال بعد الفرائض مما هُوَ من باب المقاصد: الذكر.
                        ثم؛ من المعلوم أنّ المقاصد أفضل من الوسائل؛ ولذلك ذهب أكثر العلماء من السلف والخلف إلى أنّ الأفضل: ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالى.
                        ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- قال معنا فِيْ الوصية «كالإجماع» بمعنى أنّ القائلين به كثرة كاثرة جدًّا؛ حتى أشبَه الإجماع.
                        ثم ذكرنا الأدلة على فضل ذكر الله- سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                        ثم شرعنا فِيْ قضية مهمة وهي تتعلّق بأقلّ الذكر وأعلاه. فيقرأ لنا الشيخ ياسين وفقه الله من حيث وقفنا.
                        وأقلُّ ذٰلك أن يلازِم العبد الأذكار المأثورة عن معلّم الناس الخير وإمام المتقين صلى الله عَلَيه وعلى آله وصحبه أجمعين
                        يعني أنّ أقلّ ما يَكون به الإنسان من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات: أن يلازِم الأذكار المأثورة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ الَّذِي هُوَ معلِّم الخير، والخير يُنسَب إلى تعليمِه.
                        وإذا أردنا أن نعرف هل مَن يعلَّم الناس معلِّم خيرٍ أو لا؟ فلننظر إلى نسبته إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن كانت نسبة تعليمه إلى تعليم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موافَقة؛ فهو معلِّم للخير، وإن كانت نسبة تعليمه لتعليم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسبةَ تداخل؛ فهٰذا فيه تعليم للخير، وإن كانت النسبة مبايَنة؛ فهٰذا معلِّمُ شرٍّ. كما سيأتي -إن شاء الله- فِيْ بيان نسبة العلوم فِيْ كلام ابن تيمية –رحمه الله-.
                        الشاهد: أنّ المقطوع به أنّ معلِّم الخير هُوَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَدْ ثبت فِيْ الحديث أنّ الله وملائكته وأهل السماوات وأهل الأرض حتى الحوت وحتى النملة فِيْ جحرها ليُصلُّون على معلِّم الناس الخير. والمعلِّمون كُثر، وإذا أردنا أن نعرف الميزان فلننظر إلى ما يُعلِّمه الإنسان ونسبته إلى ما عَلَّمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                        «وإمام المتقين» فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمام المتقين وسيدهم.
                        المعلوم يا إخوة؛ أنّ ما ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأذكار ذكرٌ عظيم شريف، فلماذا قال شيخ الإسلام هنا: وأقلّ ذٰلك؟ لماذا وصف ذٰلك بالقلّة؟
                        نقول: إنّ المقصودَ هنا ليس التقليلَ من شأن المذكور؛ وإنما المقصودُ بيان أقلّ ما يَكون الإنسان به من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات؛ لأنّ ذكر الله أعمُّ من ذكر اللسان، فهو يشمل ذكر اللسان والقلب ومَا يَكون من الأَعْمَال متعلِّقًا باللسان؛ كالتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأكمل الذِّكر أن يَحرص الإنسان على كلِّ هٰذا، وسيأتي إن شاء الله.
                        وأقلّ الذكر الَّذِي يكون به الإنسان من الذاكرين الله والذاكرات: أن يحافظ على الأذكار المأثورة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فالنبي صلى الله عَلَيه وسلم إمام المتقين ولن يَسبقه أحدٌ لا بنُصْحٍ ولا باجتهاد فِيْ العبادة.
                        والله الَّذِي لا إله إلا هُوَ يا عبد الله! إذا رأيتَ شخصًا ينصحك بغير ما ورد فِيْ السنة فاعلم أنه لَمْ ينصحك بخير، فإنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَسبِقه أحدٌ فِيْ النصح، وإنما النُّصْحُ ما ورد فِيْ سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                        ولن يسبقه أحد فِيْ عبادة، ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «أما إني أتقاكم لله وأخشاكم لله» فلن يَسبقه أحد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ عبادة لا فِيْ ذكر ولا فِيْ غير ذكر.
                        فمن لزم سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولًا وفعلًا فقد استقام وعرف الطريق الأقوم.
                        ولذلك؛ كما تقدّم معنا عندما جاء أولئك الثلاثة النفر إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عَلَيه فسألوا عن عبادته، فلمّا أُخبِروا بِهَا كأنهم تقالُّوها، فقال أحدهم: فأمّا أنا فلا أتزوج النساء، وقال الآخر: وأمّا أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثالث: فأمّا أنا فأقوم فلا أرقد. فلمّا لقيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أنتم الَّذِينَ تقولون كذا وكذا؟» قالوا: نعم يا رسول الله، قال: «أما إني أتقاكم لله وأخشاكم لله، أما إني أصوم وأُفطِر وأقوم وأرقد وأتزوج النساء، فمن رَغِبَ عن سنتي فليس مني» رواه البخاري فِيْ الصحيح. وهٰذا حكم عام «من رَغِبَ عن سنتي فليس مني». فالموفّق من عباد الله من لَزِمَ المأثور عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                        والمأثور عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأذكار نوعان: مقيَّدٌ، ومطلق.
                        مقيَّد: بمعنى أنه مضاف إلى وقت أو سبب.
                        ومطلق: وهو الَّذِي لَمْ يُضَفْ إلى شَيْء من ذٰلك.
                        يعني ما ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأذكار منه ما هُوَ مقيَّد؛ مقيَّد بوقت أو سبب، ومنه ما هُوَ مطلق لَمْ يُضف إلى شَيْء من ذٰلك.
                        وبدأ شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- بالأذكار المقيّدة بالزمن. قال:
                        كالأذكار المؤقَّتة فِيْ أوّل النهار وآخره
                        وهٰذه كثيرة وتسمّى أذكار الصباح والمساء. ويُسنّ للمسلم أن يحرص على حفظها وملازمتها.
                        وهنا أنبه إلى شَيْء يا إخوة.. وهو أنه ليس شرطًا أن يحفظها كلها دَفعة واحدة، أو أن يأتيَ بِهَا كلها دَفعة واحدة، بل يحفظ ما استطاع، يحفظ ذكرًا واحدًا مثلًا من أذكار الصباح وأذكار المساء، ويأتي به، فإذا أتقنه حَفِظَ الذكر الثاني؛ وهكذا.
                        لماذا أنبِّه على هٰذا؟ لأنّ بعض المسلمين يترك أذكار الصباح والمساء كلها؛ لماذا؟ يقول: لَمْ أستطع أن أحفظها، لا يُشترَط أن تحفظها كلها، إئتِ بما تحفظ ثم احفظ وأتِ بما تزيد؛ وهكذا.
                        ومن ذٰلك مثلًا؛ آية الكرسيّ، قراءة آية الكرسيّ، فلو أنّ الإنسان قرأ آية الكرسي عند الصباح وعند المساء فقد جاء بذكر من أذكار الصباح.
                        كذلك أن يقول الإنسان (سبحان الله وبحمده) مائة مرة فِيْ الصباح والمساء؛ فهٰذا ذكر من أذكار الصباح والمساء.
                        ووقتها كما تقدّم فِيْ إجابة أحد الأسئلة: وقت الصباح ووقت المساء.
                        ووقت الصباح مختلف فيه، والصحيح: أنه يبدأ من طلوع الفجر إلى شروق الشمس، ويمتدّ إلى وقت الضحى.
                        ووقت المساء: يبدأ قُبيل العصر إلى غروب الشمس، ويمتد بعد الغروب شيئًا.
                        وأذكار الصباح والمساء منها ما دلّ الدليل على أنه يقال قبل انفتاق النور، أو بعد الإظلام؛ فهٰذه تَكون مخصَّصة فِيْ أوَّل وقت الفجر وفي آخر وقت المساء عند الغروب، ومَا لَمْ يَرِدْ فالإنسان مُخيَّرٌ فيه.
                        وبعضُ أهل العِلم يرَون أنّ الأفضل أن يفرِّقها؛ لتكون وظيفة الوقت. وهٰذا فِيْ الحقيقة طيِّب إن لَمْ يؤدِّ إلى تضييعها، فإن كان يؤدي إلى تضييعها فليسردها المسلم فِيْ وقتٍ واحدٍ.
                        وعند أخذ المضجع
                        إذا أراد الإنسان أن ينام، كقراءة آية الكرسي، وقراءة سورة قل يا أيها الكافرون، وقول: «بسم الله وضعتُ جنبي، اللهم اغفر لي ذنبي، وأخسئ شيطاني، وفكَّ رهاني، واجعلني فِيْ النديِّ الأعلى»، وقول: «باسمك نموت ونحيا» ، وغير ذٰلك مما ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                        وأقول كما قلتُ أوّلًا؛ لا يُشترَط أن يُؤتى بِهَا كلَّها، اِحفَظ واحدًا وحافِظ عَلَيه، ثم زد عَلَيه، ولا تترك القليل من أجل أنك لا تستطيع الكثير.
                        وعند الاستيقاظ من المنام
                        كأن يقول الإنسان: «الحمد لله الَّذِي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور»، وكلُّ هٰذا ثابت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.


                        وأدبار الصلوات
                        أدبار الصلوات: يعني الأذكار عَقِبَ الصلوات؛ كقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام.. إلى آخر الأذكار الَّتِي هي عَقِبَ الصلوات.
                        وهنا أذكر فائدة ذكرها بعض أهل العلم؛ وهي: «أنّ كلَّ دعاءٍ قُيِّد فِيْ السنة بدُبر الصلاة؛ فهو فيها، وكلُّ ذكر قُيِّد فِيْ السنة؛ فهو تاليها». «أنّ كلَّ دعاءٍ قُيِّد فِيْ السنة بدُبر الصلاة؛ فهو فيها» يعني فِيْ نفس الصلاة «وكلُّ ذكر قُيِّد فِيْ السنة؛ فهو تاليها» يعني بعد الفراغ من الصلاة.
                        ومبنى هٰذا: الاستقراء، فإنّا استقرأنا حال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجدنا دعاءه فِيْ الصلاة، ولم يثبت عنه دعاء بعد الصلاة على وجه يصح لا تأويل فيه، ووجدنا ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد الصلاة.
                        والأذكار المقيَّدة؛ مثل ما يقال عند الأكل والشرب والجماع
                        الأذكار المقيَّدة بأحوال؛ مثل ما يقال عند الأكل «بسم الله»، ولم يرد قول (بسم الله الرحمٰن الرحيم) عند الأكل، وإنما أن يقول «بسم الله» فهٰذا ذكر عند الأكل . وعند الفراغ مثلًا يقول: «اللهم أطعمتَ وأسقيتَ وأغنيتَ وأقنيتَ وهديتَ وأحييتَ؛ فلك الحمد على ما أعطيتَ» هٰذا ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسناد حسن. والشرب مثل الأكل؛ أن يقول «بسم الله».
                        واللباس؛ إذا استجدّ ثوبًا أن يقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه ورزقتنيه أسألك خيره وخير ما صنِع له، وأعوذ بك م نشره وشر ما صُنِع له». وإذا تعرّى من ثيابه يقول «بسم الله»؛ فإنّ فِيْ هٰذا سترًا من أعين الجن والشياطين، إذا تعرَّى الإنسان من ثيابه وكان عريانًا فإنه عند التعرِّي يقول «بسم الله» ففي ذٰلك سترٌ له من عيون الجن والشياطين.
                        والجماع؛ يقول «بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنِّب الشيطان ما رزقتنا».
                        ودخول المنزل والمسجد والخلاء والخروج من ذٰلك
                        «ودخول المنزل» إذا دخل الإنسان المنزل فإنه ورد فِيْ ذٰلك أحاديث ضعّفها بعض أهل العلم وحسّنها بعض أهل العلم.
                        وإذا دخل المسجد يُسلِّم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك»، وعند الخروج يقول: «بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك»، قال العلماء: المناسبة: أنّ الإنسان إذا دخل المسجد يَدخل باب عبادة مكان عبادة؛ فناسَب أن يسأل الرحمة، لأنه «لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا انا إلا أن يتغمدني الله برحمته»، فإذا دخل الإنسان المسجد وهو داخل محل العبادة فإنه يسأل الرحمة، وإذا خرج فإنه مقبِل على الرزق فيسأل الله من فضله. وكلُّ هٰذا جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأسانيد صالحة.
                        وعند دخول الخلاء يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث». وعند الخروج من الخلاء يقول: «غفرانك».
                        قال وعند المطر والرعد وغير ذٰلك
                        فعند المطر يقول: اللهم صيِّبًا نافعًا، وعند الرعد يقول: «سبحان الَّذِي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته». إلى غير ذٰلك من الأحوال.
                        وقَدْ صُنِّفت له الكتب المسمّاه بعمل اليوم والليلة
                        كعمل اليوم والليلة للنسائي وابن السنيّ وغير ذٰلك.
                        ثم ملازمة الذكر مطلقًا
                        هٰذا الذكر المطلَق الَّذِي لَمْ يُقيَّد بزمن أو بسبب، وأفضله على الإطلاق: قراءة القرآن.
                        قراءة القرآن هي أفضل الذكر، كلام الله، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يداوم على قراءته، فأفضل ما يذكر به العبد ربه أن يُرتّل كلامه، وأن يقرأ كلامه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-. ثم ما ذكره شيخ الإسلام هنا.
                        وأفضله لا إله إلا الله
                        يعني أفضله بعد قراءة القرآن «قول لا إله إلا الله» من حيث هي ذكر، وذلك لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير ما قلتُ أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شَيْء قدير» رواه الترمذي، وحسّنه الألباني.
                        وهٰذه الخيريَّة لأنّ فِيْ هٰذه الكلمة العظيمة توحيد رب العالمين، ففي هٰذه الكلمة العظيمة إثباتُ العبادةِ لله وحده ونفيُ العبادةِ عما سواه، ولذلك كان لَهَا هٰذا الفضل العظيم.
                        وقَدْ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل الذِّكر: لا إله إلا الله» رواه الترمذي، وابن ماجة، وحسّنه الألباني.
                        وقَدْ تَعرِض أحوال يَكون بقيِّتُ الذِّكر مثل (سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله) أفضل منه
                        الذكر المطلَق أفضله قراءة القرآن، ثم قول لا إله إلا الله، وهٰذا أمرٌ يسير على العبد أن يكرّره وأن يقول لا إله إلا الله على الوجه المشروع لا على وجه بدعيّ.
                        لكنّ القاعدة عند أهل العلم: «أنّ الفاضِل والمفضول قد يَتعاورانِ بسبب اختلاف الأحوال»، ومعنى يَتعاوران: يكون المفضول فاضلًا والفاضِل مفضولًا.
                        يقول بعض أهل العلم: المفضول تَعرِض له أحوالٌ يَكون أفضل؛ بسبب مصلحة ظهرتْ فِيْ ذٰلك؛ إما عائدة إلى الإنسان نفسه أوعائدة إلى غيره.
                        فعندما نقول: أفضل الذكر لا إله إلا الله؛ إذن قول سبحان الله مفضول بالنسبة للا إله إلا الله، لكن قد تَعرِض للإنسان حال يَكون قول سبحان الله أفضل فِيْ حقِّه، كأن يَكون -مثلًا- نزل منخَفَضًا فيكون قول (سبحان الله) هنا أفضل من قول لا إله إلا الله؛ لِمَا عَرَضَ من الحال.
                        فمعنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قد تَعرِض للمكلَّف أحوال يَكون قول سبحان الله والحمد لله والله أكبر أنفع فِيْ ذٰلك الحال وأصلح فِيْ ذٰلك الحال؛ فتكون أفضل.
                        وهٰذه الكلمات فضلهن عظيم، كونهن مفضولات بالنسبة للا إله إلا الله لا يعني أنه لا فضل لهن، بل فضلهن عظيم ومقامهن كريم، وقَدْ قال النبي صلى الله علي وسلم: «لأن أقول: سبحان اله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر؛ أحبَّ إليّ مما طلعت عَلَيه الشمس» رواه مسلم.
                        وهٰذا يُنبّهنا إلى شيء يا إخوة، وقَدْ ذكرناه سابقًا ونكرِّره؛ وهو أنّ الجمع بين الفضائل ما أمكن أحسن، فهنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع بين قول لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله والله أكبر، لكن قد يَعرِض حال يَكون المفضول فاضلًا؛ كما قلنا لو صعد مكانًا مرتفعًا أو نحو ذٰلك.
                        ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ هٰذه جملة عظيمة، وإن كانت مفضولة بالنسبة للا إله إلا الله، وقَدْ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي موسى الأشعري –رضي الله عنه- : «ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله» متفق عَلَيه.
                        ومعنى (لا حول ولا قوة إلا بالله): أنه لا يُتحوَّل من حال إلى حال إلا بعَون الله، ولا قدرة على هٰذا إلا بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، هٰذا قول أكثر العلماء.
                        وقال بعض أهل العلم: معنى (لا حول ولا قوة إلا بالله) يعني لا قدرة على التمسُّك بالطاعة وترك المعصية إلا بعَون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، وهٰذا نوع من الأوّل؛ لا تحوّل من حال إلى حال إلا بإعانة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، ولا قوة وقدرة على ذٰلك إلا بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                        فمثلًا؛ عند خروج الإنسان من بيته هل الأفضل أن يقول لا إله إلا الله أو يقول لا حول ولا قوة إلا بالله؟ الأفضل أن يقول لا حول ولا قوة إلا بالله فِيْ ضمن الذِّكر الَّذِي يقوله إذا خرج من بيته؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا خرج الرَّجل من بيته فقال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال: حَسبُك، هُديتَ وكُفيتَ ووُقيتَ، وتنحّى عنه الشيطان» رواه الترمذي، وصححه الألباني.
                        ومن ذٰلك أيضًا؛ قول لا حول ولا قوة إلا بالله إذا قال المؤذِّن: (حيَّ على الصلاة)، يعني لو كان عندنا رجلان يسمعان المؤذِّن، فقال المؤذِّن (حيَّ على الصلاة) ، فقال أحدهما: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقال الآخر: لا إله إلا الله، كان الأوّل أفضل؛ لأنّ قول لا حول ولا قوة إلا بالله هنا أفضل. وهٰذا من باب تزاحم الذِّكر المقيَّد مع الذكر المطلق، من باب تزاحم الذكر المقيَّد- الَّذِي هو مقيَّد مع الأذان- بالذِّكر المطلَق وهو قول لا إله إلا الله.
                        وقَدْ يَكون ذٰلك باعتبار حال القلب، قد يكون الإنسان فِيْ قلبه محتاجًا لأن يقول لا حول ولا قوة إلا بالله، فيكون قولها أفضل هنا؛ من أجل هٰذه الحاجة، كأن يَكون عَرَضَ له ضَعْفٌ فِيْ دينه، أو نزل به شَيْء أَضْعَفَه، فيقول لا حول ولا قوة إلا بالله يتقوَّى بِهَا؛ فهنا تَكون أفضل.
                        ثم يُعلَم أنّ كلَّ ما تكلم به اللسان وتصوّره القلب مما يُقرِّب إلى الله؛ من تعلُّم عِلم وتعليمه وأمر بمعروف ونهي عن منكر؛ فهُوَ من ذكر الله
                        هٰذا الَّذِي أشرتُ إليه سابقًا؛ أنّ ذكر الله –عَزَّ وَجَلَّ- ليس مقصورًا على الأذكار الَّتِي تقال باللسان مما هُوَ مشهور على أنه ذكر، بل يدخل فِيْ ذٰلك كل ما يتعلّق باللسان مما يُقرِّب إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-؛ من تعلُّم العلم وتعليمه ومن أمر بمعروف ونهي عن منكر فهو من ذكر الله.
                        فأنت إذا علَّمتَ فأنتَ ذاكر لله، وإذا تعلَّمتَ فأنت مستمِع لذكر الله، وإذا أمرتَ بالمعروف فأنت ذاكر لله، وإذا نهيتَ عن منكر فأنت ذاكر لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                        وهٰذا كمال الذِّكر؛ أن يحرص الإنسان أن يقول بلسانه كل ما يُقرِّب إلى الله مما ثبت شرعًا ، سواء فِيْ باب التعلُّم أو في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو فِيْ باب الذِّكر اللسانيّ المعلوم.
                        ولهٰذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلسًا يَتفقّه أو يُفقِّه فيه الفقه الَّذِي سمَّاه الله ورسوله فقهًا؛ فهٰذا أيضًا من أفضل ذكر الله
                        «ولهٰذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض أو جلس مجلسًا يتفقّه» يعني يَتعلّم الفقه، «يُفقِّه فيه الفقه الَّذِي سماه الله ورسوله فقهًا؛ فهٰذا أيضًا من أفضل ذكر الله»؛ لحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فضل العلم خير من فضل العبادة».
                        وقَدْ تقدّم معنا وقلنا إنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضّل العلم من جهة ذاته، وفضّل العالِم فقال: «فضل العلم خير من فضل العبادة»، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فضل العالِم على العابد كفضلي على أدناكم»، وفي الحديث الآخر: «فضل العالِم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب».
                        فأفضل النوافل: ذكر الله -كما تقدّم معنا-، وأفضل الذِّكر عند كثير من العلماء: العلم؛ تعلُّمًا وتعليمًا.
                        وقَدْ جاء عن أبي هريرة وأبي ذرٍّ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أنهما قالا: «بابٌ من العِلم نَتعلّمه أحبُّ إلينا من ألف ركعةٍ تطوُّع».
                        وقال سفيان الثوري: «ما من عمل أفضل من طلب العلم إذا صحَّت النية».
                        وقال وكيع: «لولا أنّ الحديث عندي أفضل من التسبيح ما حدَّثتُ».
                        وقال بِشْرُ بن الحارث: «لا أَعلَم على وجه الأرض عملًا أفضل من طلب العلم والحديث؛ لمن اتقى الله وحسُنت نيته».
                        فطلب العلم هُوَ خير النوافل عند كثير من العلماء.
                        ولذلك مثلًا لو أنّ شخصًا قال لنا: إنه تعارض عندي أن أذكر أذكار الصباح مع درسٍ بعد الفجر؛ فأيهما أقدّم؟ نقول: عند كثير من أهل العلم: تقدِّم الدرس؛ لأنّ طلب العلم أفضل، مع أنه لا ينبغي القول بالتعارض إلا عند عدم إمكان الجمع، فإذا أمكن الجمع فافعلِ الفضائل، لكن عند التزاحم فإنه يُقدَّم عند كثير من أهل العلم طلب العلم.
                        وعلى ذٰلك إذا تدبّرت لَمْ تجد بين الأوّلين فِيْ كلماتهم فِيْ أفضل الأَعْمَال كبير اختلاف
                        لأنّ الاختلاف بين السلف بين أفضل الأَعْمَال:
                        - إمّا أنه من باب الاختلاف باعتبار الأحوال، مثلًا؛ جاء عن بعضهم أنّ أفضل العمل التواضع، هٰذا فِيْ الحقيقة محمول على الحال؛ إذا احتيج إلى التواضع.
                        -أو يَكون هٰذا الاختلاف راجعًا إلى الاتفاق؛ لأنّ الَّذِي قال (العلم) وقال (الذكر) ليس بينهما اختلاف؛ لأنّ العلم مثل الذكر، والذي قال: الأفضل الجهاد؛ مقصوده الجهاد مع الذكر، كما تقدّم تقريره عن ابن القيم –رحمه الله-.
                        فلا يَكون فِيْ الحقيقة هناك اختلاف حقيقيّ فِيْ أكثر كلام السلف.
                        ومَا اشتبه أمره على العبد فعليه بالاستخارة المشروعة، فما ندم من استخار الله تعالى
                        الله أكبر! ما أعظم هٰذه الجملة! الإنسان قد تَشتبه عَلَيه الأمور فِيْ أمور دنياه ومَا يتزاحم من أمور دِينه من جنس واحد.
                        لاحظوا يا إخوة! أنّا نقول: من أمور دنياه، قد يشتبه على الإنسان الأمر هل يتزوج هٰذه المرأة المعيَّنة أو لا يتزوجها؟ هل يتزوّج الآن أو لا يتزوج؛ لتزاحم أمور عنده؟ أو نَحْوَ ذٰلك من أمور الدنيا، هل يشتري هٰذه السيارة أ ولا يشتريها؟ وقَدْ يحصل عنده اشتباه بين أمور دينه عند التزاحم من جنس واحد.
                        طبعًأ ما طُلب من الإنسان عينًا؛ هٰذا لا يقع فيه تزاحم ولا يقع فيه اشتباه، ما يأتي إنسان يقول: أستخير هل أصلي فِيْ البيت أو أصلي فِيْ المسجد؟ من حيث الأصل.
                        لكن قد يُبتلى الإنسان ببلية –نعوذ بالله من البلاء- فيحتاج إلى هٰذا، مثل مثلًا أن يَكون فِيْ بلد يتسلّط فيه الشُّرَط على من يصلي صلاة الفجر فِيْ المسجد -مثلًا على سبيل المثال لو وُجد هٰذا- إذا خرج يصلي فِيْ المسجد يُتسلّط عَلَيه ويمكن أن يؤخَذ ويُسجن أيامًا أو نَحْوَ ذٰلك، وهو متردِّد يقول ممكن أخرج ما أجد أحدًا، ويمكن أخرج وأجد من يؤذيني، فِيْ هٰذه الحال تأتي مسألة الاستخارة ليَعرِف الأصلح؛ لأنه هنا يجوز له أن يصلي فِيْ بيته إذا غلب على ظنه أنه إذا خرج إلى المسجد يؤذى أذى بالغًا؛ كأن يُسجَن أيامًا فلا يصلي هٰذه الأيام كلَّها فِيْ المسجد! يعني إذا كان الإنسان بين أن يخرج لصلاة الفجر فيصلي فِيْ المسجد وبين أن يؤخَذ إذا خرج فلا يصلي الفجر فِيْ المسجد ولا يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء فِيْ المسجد وقَدْ يَكون ذٰلك أيامًا؛ فإنه يجوز له أن يصلي الفجر فِيْ بيته ولا إشكال فيه. لكن إذا تردَّد الإنسان هل يوجد أحد أو ما يوجد أحد؟ يحصل أذى أو ما يحصل أذى؟ يأتي هنا موضوع الاستخارة.
                        كذلك مثلًا؛ إذا أراد الإنسان أن يختار عملًا فاضلًا من الأعمال الفاضلة ولم يَتبيّن له؛ فهنا أيضًا تأتي الاستخارة.
                        ولذلك ذكرها شيخ الإسلام –رحمه الله- هنا لمّا ذكر أفضل الأَعْمَال وأنها تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأزمان، فقد يَشتبه الأمر على الإنسان فيستخير ويطلب خِيَرَة الأمور.
                        أمّا الأفعال الواجبة من حيث هي والأفعال المحرمة من حيث هي؛ فليس فيها استخارة، ما يأتي إنسان يقول: أستخير الله أعفي لحيتي أو ما أعفي لحيتي؟ ليس هنا استخارة؛ لأنّ الخيرة قد بانت بأمر الله –عَزَّ وَجَلَّ- «أعفوا اللحى»، « وفِّروا اللحى»، «أكرموا اللحى»، «ارخوا اللحى» كلُّها أحاديث صحيحة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                        أن يأتي إنسان مثلًا زوجته تقول له احلق، ونبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول له أعفي، يقول: أستخير أطيع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أطيع زوجتي؟! هنا لا تأتي الاستخارة لأنّ الخِيَرَة بيِّنة واضحة، وإنما الاستخارة طلب خير الأمرين عند الاشتباه.
                        فمن اشتبه عَلَيه ما هُوَ أصلح له من أمور دنياه أو من أفضل الأَعْمَال الصالحة الَّتِي هي النوافل؛ فلْيطلُب معرفة الخير له منها بالاستخارة.
                        والاستخارة مشروعة، وقَدْ كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعلِّم أصحابه الاستخارة فِيْ الأمور كلِّها كما يُعلِّمهم السورة من القرآن.
                        يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إذا همّ أحدكم بالأمر» والهم: هُوَ الميل مع تردُّد، فإذا مال الإنسان فِيْ أمر من أمور دنياه مع تردُّد «فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: «اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تَعلم أنّ هٰذا الأمر –ويسمِّيه- خير لي فِيْ ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري –أو قال: فِيْ عاجل أمري وآجله- فاقدره لي، ويسِّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تَعلم أنّ هٰذا الأمر شر لي فِيْ ديني ومعاشي وعاقبة أمري –أو قال: فِيْ عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني واصرفني عنه، واقْدُرْ لي الخير حيث كان، ثم رضِّني به» رواه البخاري فِيْ الصحيح.
                        وظاهر الحديث انّ الدعاء يَكون بعد الصلاة. وبعض أهل العلم قال: دعاء الاستخارة يَكون فِيْ الصلاة، لانّ القاعدة العامة أنّ الدعاء فِيْ الصلاة خير منه بعدها؛ يعني خير منه فِيْ خارجها.
                        لكن هنا النص ظاهر فِيْ الترتيب؛ (ثم) ، فالظاهر -والله أعلم- أنّ دعاء الاستخارة يَكون بعد الفراغ من الصلاة.
                        وقَدْ ذكر أهل العلم أنّ الإنسان إذا استخار تتبيّن له الخيرة بأمور:
                        -منها: أن يَتيسّر الأمر ويَسهل بعد أن كان صعبًا، تزول العوائق وتتيسّر الأمور؛ فهٰذا دليل على أنّ الخير فيه.
                        -ومنها: أن ينشرح الصدر. مثلًا لو كان الإنسان متردِّدًا بين أمرين، واستخار فيهما، فرأى صدره منشرحًا لأحدهما دون الآخر، فإنّ هٰذا علامة على الخير.
                        -وقَدْ يقع للإنسان أن يرى رؤية صالحة يتبيّن له بِهَا الخير، لكنّ هٰذا ليس بلازم، لأنّ بعض الناس يتصل بنا ويقول: يا شيخ أنا استخرتُ مائة مرة ولم أرَ رؤية؟! ليس بلازم أن ترى رؤية، بل قد يَكون ذٰلك –كما قلنا- بتيسُّر الأمر، يعني مثلًا قد تَكون تستخير فِيْ نكاح امرأة أنت متردِّد فِيْ نكاحها لقلة ذات يدك أو نَحْوَ ذٰلك، فإذا بك إذا أصبحتَ يتصل بك رجل ويقول: مهرك عليّ إن تزوجتَ، هٰذه علامة الخير فِيْ الأمر؛ لأنه تيسّر وسهل، فهٰذه علامة الخير فِيْ الأمر؛ لانه تيسّر وسَهُل. وقَدْ يَكون –كما قلنا- بانشراح الصدر، وقَدْ يَكون برؤية يراها الإنسان.
                        وليُكثر من ذٰلك ومن الدعاء
                        يعني ليُكثر من طلب معرفة خير الأمرين بالاستخارة، ولا يملّ ذٰلك، وليس المقصود الوسوسة؛ بحيث يكرِّر الإنسان الاستخارة فِيْ الأمر الواحد مرارًا كثيرة، وإنما المقصود أن يُكثر منها فِيْ أموره، وأن لا يدعها، بل كلّما دعتْ الحاجة إليها استخار، فإنّ هٰذا من دَأَبِ الصالحين، ومَا ندم أبدًا من طلب الخير من ربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                        فإنه مفتاح كل خير
                        نعم، فليُكثر عند الاشتباه من الدعاء؛ فإنه مفتاح كل خير، لا شك يا عباد الله أنه لا خير للعبد إلا بعَون الله، فيدعو العبد ربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- ويسأله العَون والهداية إلى الخير والثبات عَلَيه.
                        والدعاء شأنه عظيم، الدعاء هُوَ العبادة، فقد جعله الله -عَزَّ وَجَلَّ- مكان العبادة، قال الله –عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾، ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾.
                        وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدعاء هُوَ العبادة» رواه الأربعة، وقال ابن حجر: سنده جيّد، وصححه الألباني.
                        وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس شَيْء أكرمَ على الله من الدعاء» رواه الترمذي، وابن ماجة، والحاكم، وصححه الحاكم، والألباني.
                        فالدعاء منزلته عظيمة، ومنزلته عند ربنا –سبحانه- عظيمة، وعند المؤمنين عظيمة، ولذلك يُكثر العبد من الدعاء، ولا يملّ هٰذا، وإذا اشتبه عليك الأمر فاسأل الله متجرِّدًا –إذا كان يوجد اختلاف-؛ اللهم اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، والمؤمن المتجرِّد يسأل الله ذٰلك.
                        مرّة؛ كان هناك رجل يخالف السنة، فحُدِّث فِيْ هٰذا وبُيِّنتْ له الأدلة فأبى، فقيل له قل: اللهم اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، فأبى! وهٰذا –والعياذ بالله- من طاعة الشيطان، لأنّ الشيطان لا يريد للإنسان أن يعرف الخير أبدًا.
                        وإذا كان فِيْ أمور مشتبِهة لَمْ تتبيَّن للإنسان يسأل الله ربه أ ن يُبيِّنها له، وإذا اشتبه عَلَيه أمران أيهما أحسن؛ يسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يُبيِّن له الأحسن والأفضل، وهكذا.
                        ولا يعجل فيقول: قد دعوتُ ولم يُستجَبْ لي
                        الدعاء عبادة؛ فلا ينبغي للعبد أن يملّ العبادة.
                        بل الدعاء –كما قال العلماء- يحتاج إلى صبر، فينبغي على المسلم أن يداوم على الدعاء ولا يملّ؛ لأنّ الدعاء ليس مجرد سُؤال يا إخوة، الدعاء عبادة، فأنت تعبد الله؛ فكيف تملّ عبادة الله؟! عبادة وفيها سُؤال، وقَدْ وُعدتَ الإجابة ما لَمْ تَعجَل، ولله حكمة، قد يَكون الله أراد أن يَرفع منزلتك وأن يزيد حسناتك بالدعاء فتتأخر الإجابة؛ فتُكثر من الدعاء؛ فتجتمع لك الفضيلتان: الأجور الكثيرة وإجابة الدعوة، فلا تعجل.
                        والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «يستجاب لاحدكم ما لَمْ يعجل» كيف يعجل؟ «يقول: دعوتُ فلم يُستجَب لي» والحديث فِيْ الصحيحين.
                        فالإنسان موعودٌ بالإجابة ما لَمْ يَعجل ويقول: دعوتُ فلم أرَ يُستجَب لي. فينبغي للإنسان أن يتنبّه لهٰذا الأمر.
                        وليتحرَّ الأوقات الفاضلة كآخر الليل، وأدبار الصلوات، وعند الأذان، ووقت نزول المطر، ونحو ذٰلك
                        من آداب الدعاء وأسباب الإجابة: الحرص على الدعاء فِيْ اوقاتٍ فاضلة.
                        يا إخوة! الله كريم ويُرجى أن يُجيب دعوة داعيه فِيْ أيِّ وقت؛ لكن هنالك أوقات يَعظُم فيها الرجاء، ويزداد الأمل فِيْ أن يُجابَ الدعاء؛ كآخر الليل؛ لِمَا ورد أنّ ربَّنا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- ينزل كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيَه؟ من يَستغفرني فأغفر له» متفق عَلَيه.
                        وأدبار الصلوات، والمقصود بالدعاء فِيْ أدبار الصوات يا إخوة: آخرها، فِيْ آخر الصلوات، وقَدْ جاء فِيْ الحديث: «أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئل: أيّ الدعاء أسمَعْ؟ قال: «جوف الليل الآخر وأدبار الصلوات المكتوبات» رواه الترمذي وحسّنه، وحسّنه الألباني.
                        والمقصود بدبر الصوات: هُوَ آخرها؛ بدليل فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه كان يدعو فِيْ آخر الصلاة، ويأمر بالدعاء فِيْ آخر الصلاة.

                        يتبع..
                        كتبه أخوكم شـرف الدين بن امحمد بن بـوزيان تيـغزة

                        يقول الشيخ عبد السلام بن برجس رحمه الله في رسالته - عوائق الطلب -(فـيا من آنس من نفسه علامة النبوغ والذكاء لا تبغ عن العلم بدلا ، ولا تشتغل بسواه أبدا ، فإن أبيت فأجبر الله عزاءك في نفسك،وأعظم أجر المسلمين فـيك،مــا أشد خسارتك،وأعظم مصيبتك)

                        تعليق


                        • #13
                          رد: شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شرح فضيلة الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله

                          وكذلك عند الأذان، ووقت نزول المطر؛ يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثنتان لا تردّان، أو قلّما تردان: الدعاء عند النداء، وعند البأس» يعني عند التحام القتال. رواه أبو داود وصححه الألباني.
                          وفي زيادة عند أبي داود «ووقت المطر»؛ لكنّ الألباني ضعّفها.
                          وفي صحيح الجامع ذكر الشيخ الألباني –رحمه الله- لفظ: «ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء ووقت المطر» وقال: حسن. فوقت المطر من الأوقات الَّتِي ترجى فيها الإجابة.
                          هٰذه آدابٌ من آداب الدعاء. وهناك آداب أُخَر لمن أراد أن يجاب دعاؤه.
                          هٰذه الآداب متعلّقة بحال الإنسان. ولعلنا –إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ- نذكرها فِيْ درس الغد بحول الله وقوته. ونقف هنا لنجيب عن أسئلة الإخوة.


                          (
                          بسم اله الرحمٰن الرحيم
                          إنّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله.
                          ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾[ آل عمران:102].
                          ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾[ النساء:1].
                          ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾[ الأحزاب:71،70]. أما بعد:
                          فإنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فِيْ النار.
                          ثم أيها الإخوة؛ إنّ درسنا فِيْ هذه البقعة المباركة فِيْ مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمعلوم أنّ طلب العلم له فضل عظيم وأجر كريم ومقامٌ عالٍ، وإذا كان طلب العلم فِيْ المسجد المبارك مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو أعظم، فنسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يرزقنا فضله وأن يزيدنا أضعافًا مضاعفة من فضله –سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                          درسنا فِيْ شرح الوصية الصغرى، هٰذه الوصية الصغرى حجمًا الكبرى مقامًا، الَّتِي حوت أربعة أمور عظيمة:
                          أوّلها: الوصية بما يصلح الدين والدنيا.
                          وثانيها: بيان أفضل الأَعْمَال بعد الفرائض.
                          وثالثها: بيان أرجح المكاسب.
                          ورابعها: الدلالة على كتاب يُغني فِيْ علم الحديث خصوصًا وفي العلوم الشرعية عمومًا.
                          وقَدْ فرغنا من تقرير الأمر الأوّل وقلنا إنه يقوم على الوصية بالعمل الصالح، وإصلاح الفاسد، ومخالقة الناس بخُلق حَسن؛ الَّتِي جمعها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ قوله لمعاذ: «يا معاذ! اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخُلق حَسن».
                          وفرغنا أيضًا من الأمر الثاني: وهو أفضل الأعمال بعد الفرائض، وقلنا: إنه يعود إلى اختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان، فلا يمكن القول إنّ عملًا واحدًا هُوَ الأفضل على الإطلاق باعتبار الناس، ولكنّ موازين معرفة الأفضل تعود إلى أمورٍ ذكرناها.
                          ثم بيّنا أنّ أفضل الأَعْمَال من حيث ذاتها عند أكثر أهل العلم هُوَ ذكر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                          ووقفنا عند أمر عظيم وهو: أنّ العبد المؤمن إذا اشتبهتْ عَلَيه أمور دنياه أو اشتبه عَلَيه الأفضل من الأعمال مما هُوَ فِيْ درجة واحدة؛ فإنه يستخير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- ويُكثر من الدعاء.
                          وقلنا إنّ ربنا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- كريمٌ يجيب دعوة الداعي إذا دعاه فِيْ أيّ زمانٍ؛ لكنّ الدعاء له آداب من أتى بِهَا فإنه يُرجى أن تَكون إجابة الدعاء أعظم وأقرب، وذكر الشيخ منها: أن يتحرّى الإنسان الأوقات الفاضلة الَّتِي تسمى عند أهل العلم بأوقات الإجابة، وأن يداوم على الدعاء، وألا يملّ الدعاء.
                          ونختم هذا الأمر الثاني بالإشارة إلى بعض آداب الدعاء، الَّتِي من حَرِصَ عليها يُرجى أن تَكون إجابة دعوته أقرب. ومن ذٰلك:
                          -الحرص على دعاء الله فِيْ حال الرخاء، فإنّ من أكثر الدعاء فِيْ حال الرخاء رُجِيَ أن يستجاب له فِيْ حال الشدّة، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكُرَب؛ فليُكثِر الدعاء فِيْ الرخاء» رواه الترمذي، والحاكم وصحّحه، وحسّنه الألباني.
                          -ومن آداب الدعاء يا عبد الله: أن تَحرِصَ على جوامع الكَلِم، جوامع الكلام الَّذِي يَجمَع أهمّ الخير وأن تدَعَ ما سوى ذٰلك، «فإنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَستحِبُّ الجوامع من الدعاء، ويَدَعُ ما سوى ذٰلك» رواه أبو داود ،وابن ماجة، والحاكم، وصحَّحه الألباني.
                          وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمّنا عائشة –رَضِيَ اللهُ عَنْها-: «عليكِ بالكوامل والجوامع»، وفي رواية: «عليكِ بجُمَل الدعاء وجوامعه؛ قولي: اللهم إني أسألك من الخير كلِّه، عاجله وآجله، ما علمتُ منه ومَا لَمْ أَعلم، وأعوذ بك من الشرِّ كلِّه، عاجله وآجله، ومَا علمتُ منه ومَا لَمْ أَعلم، وأسألك الجنة ومَا قَرَّب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار ومَا قَرَّب إليها من قول أو عمل، وأسألك مما سألك به محمدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعوذ بك مما تعوّذ به محمدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومَا قَضيتَ لي من قَضاءٍ فاجعل عاقبتَه رُشْدًا» رواه الحاكم، وصحَّحه الألباني.
                          وانظر يا عبد الله! كيف جاءت الجوامع، وقَدْ ذكرتُ هٰذا الحديث لأبيِّن المراد بالجوامع، فإنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لَهَا –رَضِيَ اللهُ عَنْها-: «قولي: اللهم إني أسألك من الخير كلِّه عاجله وآجله ما عَلِمتُ منه ومَا لَمْ أعلم»، لَمْ يقل قولي اللهم إني أسألك الخير كله؛ لأنّ الخير كلَّه لا يُجمَع لإنسان، ولكن: «أسألك من الخير كلِّه، عاجله» يعني فِيْ أمور دنياي، «وآجله» يعني فِيْ أمور الآخرة، «ما عَلِمتُ منه ومَا لَمْ أعلم». فأحاط هٰذا السؤال بكل خير يليق بالسائل عَلِمَه أو لَمْ يَعلَمْه.
                          «وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله» وهنا لاحظوا أنّ الاستعاذة من الشرِّ كله؛ لأنّ الإنسان يطلب السلامة من الشر كلِّه، ولذا قال: «اللهم إني أعوذ بك من الشرِّ كلِّه عاجله وآجله ما عَلِمتُ منه ومَا لَمْ أعلم».
                          «وأسألك الجنة ومَا قَرَّب إليها من قول أو عمل» جَمَعَ طلب الخير، «وأعوذ بك من النار ومَا قرّب إليها من قول أو عمل، وأسألك مما سألك به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعوذ بك مما تعوّذ منه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومَا قضيتَ لي من قضاء فاجعل عاقبته رُشْدًا».
                          يعني من جوامع الكلم يا عبد الله أنك إذا دعوتَ تقول: «اللهم إني أسألك العافية»، والعافية تعني السلامة من كلِّ شرٍّ عاجل أو آجل، ولذلك أَمَرَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمّه العباس إذا دعا أن يسأل الله العافية.
                          فمِن أدب الدعاء ان تحرص على جوامع الكلم، أمّأ التفصيل هُوَ نوع من الاعتداء كما سيأتي –إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ-.
                          -كذلك من آداب الدعاء: أنّ الإنسان يبدأ الدعاء بالثناء على الله، ويصلي فيه على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله»، فإذا جعلتَ فِيْ دعائك الثناء على الله الثناءَ على الله كتحميد الله؛ فقد جعلتَ فِيْ دعائكَ أفضل الدعاء، وتَكون قد جمعتَ بين نَوعيِ الدعاء.
                          وعن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- أنه قال: «إنّ الدعاء موقوفٌ بين السماء والأرض لا يَصعَد منه شيءٌ حتى تصلي على نبيّك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» رواه الترمذيّ، وحسّنه الألباني.
                          -أيضًا من آداب الدعاء: أن تَعزِمَ وألا تعلِّق بالمشيئة. لا تقل: اللهم اغفر لي إن شئتَ، اللهم ارحم فلانًا إن شئت.
                          وليس من أدب الدعاء إذا دعا لك أحد أن تقول: إن شاء الله، وإنما قل: آمين، فإذا قال أحدهم: جزاك الله خيرًا؛ فقل: آمين، إذا قال: غفر الله لك؛ فقل: آمين، فإنّ من آداب الدعاء أن يُجزَم فيه.
                          يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئتَ، فإنه لا مُستَكرِهَ له، ولْيعزِم المسألة» رواه البخاري وهو عند مسلم بمعناه. وفي رواية: «إذا دعا أحدكم فليَعزِم المسألة ولا يقولنّ: اللهم إن شئتَ فأعطني، فإنه لا مستَكرِه له» والحديث فِيْ الصحيحين.
                          -كذلك من آداب الدعاء: عدم الاعتداء فيه.
                          وشرُّ الاعتداء: أن يعلِّق العبد قلبه بغير الله؛ فيُشرِّك فِيْ قلبه؛ فيَجعل دعاءه لله ولغير الله؛ وهٰذا شركٌ أكبر، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ ﴾.
                          ومن الاعتداء: الابتداعُ فِيْ الدعاء؛ بأن يدعو الإنسان على هيأةٍ مبتدَعة، أو أن يأتي بأمور مبتدَعة فِيْ الدعاء.
                          ومن الاعتداء فِيْ الدعاء ما يقع فيه بعض الأئمة من كونهم يُعجبُهم الكلام فيُفصِّلون، فيأتي أحدهم فيقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من دُوده، وأعوذ بك من كذا ، وكذا، ثم يأتي فِيْ الجنة يقول: وأسألك الجنة ومَا فيها من كذا ومَا فيها من كذا، وأعوذ بك من النار ومَا فيها من السلاسل والأغلال ومَا فيها من كذا ومَا فيها من كذا، كلُّ هٰذا من الاعتداء، وقَدْ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سيكون قومٌ يَعتدُون فِيْ الدعاء» رواه أبو داود، وابن ماجة، وصحَّحه الألباني.
                          وجاء عن ابنٍ لسعد –رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أنه قال: «سمعني أبي وأنا أقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها وكذا وكذا.. » يعني التفصيل فِيْ النعيم «وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا » أي التفصيل فِيْ العذاب، فقال: «يا بنيّ! إني سمعتُ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «سيكون قومٌ يَعتدون فِيْ الدعاء»؛ فإياك أن تَكون منهم، إن أُعطِيتَ الجنة أُعطيتَها ومَا فيها، وإن أُعذْتَ من النار أُعذْتَ منها ومَا فيها» رواه أبو داود، وصحَّحه الألباني.
                          كذلك جاء عن عبد الله بن مغفّل يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض على يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أي بنيّ! سلِ الله الجنة وتعوّذ به من النار، فإني سمعتُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إنه سيكون فِيْ هٰذه الأمّة قومٌ يَعتدون فِيْ الطَّهور والدُّعاء» رواه ابو داود، وصحَّحه الألباني.
                          -أيضًا من آداب الدعاء: عدم التكلُّف فِيْ اختيار كلماته، فبعض الناس إذا دعا يتكلَّف السجع فِيْ الدعاء تكلُّفًا؛ وهٰذا ليس من أدب الدعاء، نعم لا بأس أن تَكون رؤوس الكلمات متوافقة من غير تكلُّفٍ؛ فإنّ هٰذا ورد فِيْ دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                          فما يطيب فِيْ السمع من غير تكلُّف لا بأس به، لكنّ السجع المتكلَّف بحيث يتكلَّف الإنسان أن يأتي بنهايات تتّفق مع بعضها فِيْ الدعاء؛ فهٰذا ليس من آداب الدعاء.
                          وقَدْ قالت امُّنا عائشة –رَضِيَ اللهُ عَنْها-: «واجتنبِ السجعَ فِيْ الدعاء؛ فإنّي عهدتُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يَكرهون ذٰلك» رواه ابن حبّان، وقال الألباني: صحيح لغيره.
                          -أيضًا من آداب الدعاء: أن تكرِّر الدعاء ثلاثًا. فإنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « كان إذا دعا دعا ثلاثًا»؛ كما فِيْ صحيح مسلم. النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا تكلم تكلَّم ثلاثًا وكان إذا دعا دعا ثلاثًا.
                          -كذلك من آداب الدعاء: أن تَحرِصَ يا عبد الله على الحلال، فِيْ مأكلك ومشربك وملبسك، تَحرِصَ على أن تَكون مكتسِبًا للحلال ومنفِقًا للحلال، فإنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر «الرجل أشعث أغبر» يعني أنّ حالتَه متغيِّرة؛ وهٰذا يُرجى أن يُجاب دعاؤه «يُطيل السفر، يمدُّ يديه إلى السماء: يا ربِّ يا ربِّ، ومَطعمه حرام ومَشربه حرام ومَلبسه حرام، فأنّى يُستجاب لذلك!»، يعني هٰذا الرجل وُجِدَت فيه أسباب إجابة الدعاء؛ فهو مسافر أشعث أغبر يَرفع يديه ولكن وُجِدَ فيه المانع؛ وهو أنّ مَطعمه حرام ومَشربه حرام ومَلبسه حرام، فأنّى يُستجاب لذلك؟!
                          -أيضًا من آداب الدعاء: رفع اليدين فِيْ الدعاء؛ للحديث المتقدّم معنا قبل قليل، ولقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنّ ربكم -تبارك وتعالى- حييٌّ كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يَردَّهما صِفرًا» رواه أبو داود، والترمذيّ، وصحَّحه الألباني.
                          وقَدْ قال العلماء: إنّ الدعاء من جهة رفع اليدين ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
                          قسم يَكون رفع اليدين فيه بدعة غير مشروعة؛ وذلك فِيْ كلّ موضعٍ دعا فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يرفع يديه، مثل الدعاء فِيْ الخطبة لغير الاستسقاء، فإنّ رفع اليدين إذ ذاك بدعة، لأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا ولم يَرفع.
                          ومثل الدعاء عند الطواف بالكعبة، فإنّ رفع اليدين حال الطواف بالكعبة بدعة، ومثل رفع اليدين فِيْ المسعى عند الدعاء؛ فإنّ رفع اليدين إذ ذاك بدعة؛ لأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا فِيْ هٰذه المواطن ولم يَرفع.
                          والحال الثانية: يَكون رفع اليدين سنة فوق كونه سببًا من أسباب الإجابة؛ وذلك فِيْ كلِّ موطنٍ دعا فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورفع، مثل الدعاء إذا صعد الإنسان على الصفا وعلى المروة، ومثل الدعاء بعد رمي الجمرة الصغرى والوسطى، ومثل الدعاء حال الاستسقاء فِيْ الخطبة؛ فهنا رَفْعُ اليدين سنة.
                          والحال الثالثة: أن يَكون رفع اليدين مستحبًّا لكون سببًا من أسباب إجابة الدعاء؛ وذلك فِيْ كلِّ موطنٍ لَمْ يُنقَل عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حالٌ فِيْ الدعاء.
                          مثل الدعاء بين الأذان والإقامة؛ بيِّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّ الدعاء بين الأذان والإقامة لا يُردَّ؛ لكن لَمْ يُنقَل لنا أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا؛ فهنا يَكون رفع اليدين مستحبًّا؛ لهٰذا الحديث الَّذِي معنا، والحديث الآخر «يمدُّ يديه إلى السماء»، وهٰذا الحديث «إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا». وهٰذا الشأن فِيْ تقسيم أنواع الدعاء بالنسبة لرفع اليدين.
                          -كذلك من أعظم آداب الدعاء: أن لا تجرِّب الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، بل تتيقّن الإجابة وتُقبِل بقلبك، فإنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ادعوا الله وأنتم موقنون الإجابة، واعلموا أنّ الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاهٍ» رواه الترمذيّ، وحسّنه الألباني.
                          بعض الناس مساكين يقول: ادعُ يا أخي إن لَمْ ينفعك لا يضرُّك! هٰذا لا يصلح فِيْ الدعاء، نحن نجزم أنّ الدعاء إذا فُعِل على الوجه المشروع ينفع، وأنّ الإجابة حاصلة، إمّا بإجابة نفس الدعاء أو بادّخار خير أو بصرف شر.
                          وأيضًا أقبِل بقلبك؛ بعض الناس يدعوا وربما يتكلم ثم يعود للدعاء ثم يتكلم ثم يعود للدعاء من غير إقبال قلب!
                          وهٰذه آفة عندنا فِيْ هٰذا العصر يا إخوة؛ مسألة عدم أقبال القلب، حتى الصلاة أصبحنا نصلي فِيْ غالب الحال وقلوبنا غير مقبلة، كم واحد منا فِيْ الخمس صلوات اليوم الَّتِي مرّت قريبة كبّر مع الإمام ثم غرق إلى أن سلّم الإمام؟ هٰذه آفة عندنا اليوم، الواحد منا يكبّر ليعيش فِيْ الدنيا ويَسبح فِيْ أحلام الخيال حتى يُسلّم، حتى كثُر فينا الوسواس وكثر فينا الخلل فِيْ الصلاة، بل إنّ بعضنا قد لا يُدرك هل صلى الإمام أربعًا أو صلى واحدة! بعضنا أصبح يصلي مع الإمام كأنه آلة بحسب صوت الإمام إذا قال الإمام (الله أكبر)؛ جلس، ولو أخطأ الإمام مرة وقال (الله أكبر) وقام للقيام لكن قال الله أكبر؛ يجلس لأنه لا يشعر بصلاته وإنما أصبح يتبع الصوت!
                          وهٰذا فِيْ الحقيقة خلل عظيم يحتاج منا إلى وقفة يا إخوة، أن نقف مع حالنا مع ربّنا، لماذا أصبحت قلوبنا لا تُقبِل على العبادة كما ينبغي؟ لابد أن نعالجها يا إخوة.
                          كذلك فِيْ الذكر، أصبح كثيرون منا لا يُقبِلون بقلوبهم وهم يذكرون الله، تجد أنّ الواحد منه تسمع منه صفيرًا فقط ؛ أستغفر الله أستغفر الله، يمشي كأنه ما قال شيئًا.
                          فِيْ الدعاء حتى الدعاء ونحن نسأل الله حاجتنا، أصبح الواحد منا يدعو ربما لا يُدرك ما يدعو، فِيْ الطواف كأنّا فقط لإنهاء الوقت وتمضية الوقت! ربما ينقلب الدعاء على الواحد منا على الواحد وهو لا يَشعر! لأنّ القلوب غير مقبلة.
                          وهٰذا الأمر يا إخوة يحتاج إلى علاج ويحتاج إلى مصابرة، والجنة غالية، الجنة لا تنال بأدنى سبب، الجنة تنال بفضل الله ورحمته، وسبب نيل فضل الله ورحمته أن نُقبِل على الله ونجتهد ونصبر ونصابر.
                          ينبغي أن نجالِد أنفسنا ونجاهد أنفسنا، إذا كبّرت (الله أكبر) أُحضِر نفسي، وإذا خرجتْ أعدتُها، واصبر على هٰذا، وأنا في خير عظيم، وهكذا فِيْ الذكر وهكذا فِيْ الدعاء.
                          على كل حال هٰذه بعض آداب الدعاء، الَّتِي من لزمها رُجِيَ أن تَكون الإجابة قريبةً له، وإن كان الأمر -كما ذكرنا سابقًا- أنّ الله قريب من عباده يجيب دعوة الداعي إذا دعاه.
                          ثم نشرع اليوم فِيْ الأمر الثالث؛ وهو بيان أرجح المكاسب. فيقرأ لنا الشيخ ياسين -وفقه الله- من حيث وقفنا.
                          وأمَّا أرجح المكاسب: فالتوكل على الله، والثقة بكفايته، وحسن الظن به
                          قال: «وأرجح المكاسب» ما أرجح المكاسب؟
                          المقصود: أفضلُ المكاسب فِيْ الرزق وخيرُها، هٰذا من وجه.
                          ومن وجه آخر: سبب حصولها.
                          ومن وجه ثالث: سبب بركتها.
                          ومن وجه رابع: سبب القناعة بِهَا.
                          لأنّ الإنسان فِيْ الرزق يا إخوة يحتاج هٰذه الأمور، يحتاج أن يعرف هٰذه الأمور، يحتاج أن يعرف أفضل المكاسب وخيرها، ويحتاج أن يعرف سبب حصولها الشرعي، ويحتاج أن يعرف سبب بركتها، ويحتاج أن يعرف سبب القناعة بِهَا، لأنّ الرزق لن تَسعد به ولن تهنأ به إلا إن حصل من طريق حلال وبارك الله فيه وقنّعك به. ومن حُرِمَ واحدًا من هٰذه الثلاثة فقد حُرِمَ الخير فِيْ الرزق.
                          فالمؤمن الموفّق يحرص على أن يعرف أفضل المكاسب، وسبب حصولها، وأن يعرف سبب بركتها؛ كيف يبارك الله فيها؟ وأن يعرف سبب القناعة بِهَا، وهٰذا هُوَ السؤال الَّذِي سأله أبو القاسم السَّبيتي شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله رحمة واسعة-.
                          ولهذلك ستجد شيخ الإسلام ابن تيمية بَدَأَ الكلام فِيْ أرجح المكاسب عن أمرٍ من لَمْ يدرك ما ذكرناه يستغرب؛ يقول: الكلام عن الكسب وأفضل المكاسب! وشيخ الإسلام هنا يقول: «فالتوكل على الله، والثقة بكفايته، وحسن الظن به» هٰذا سبب الخير فِيْ الرزق؛ أن تتوكل على الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                          والتوكل على الله: يعني تفويض الأمر إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- والاعتماد عَلَيه ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾، فمن توكل على الله وسلّم أمره إلى الله فإنّ الله حافظه فِيْ أموره كلِّها ﴿قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ أي: قل حسبي الله مما سواه، فإليه أَفزَع فِيْ أموري كلها، فالله هُوَ الكافي وبيده الضَّر والنَّفع، لا بيد غيره.
                          فإذا جَمَعَ طالب الرزق بين تقوى الله والتوكل عَلَيه فقد حصّل الخير ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾، الَّذِي يتوكل على الله فيَبذُل الأسباب مفوّضًا أمره إلى الله، معتمِدًا على ربِّه، عالمًا أنّ الأسباب إنما هي من رحمة الله بالعباد، وإلا فالأمر كلُّه بيد الله، إن شاء أمضى الأسباب وإن شاء عطلها -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                          ولذلك ذكر بعض أهل العلم أنّ من حِكَمِ سِحْرِ النبي صلى الله عليه وسلم حيث سُحِرَ فِيْ أمور دنياه أمّا دينه فلم يَنَلْهُ شَيْء، مع كونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان محافِظًا على الأذكار، قالوا: من حِكَم ذٰلك أن يعرف العباد أنّ الأمر كلَّه بيد الله، وأنّ الأسباب إنما جعلها الله رحمة للعباد؛ فتُفعَل ولا يُتعلَّق بِهَا، وإنما يُتوكَّل على الله، ﴿َمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ من كلِّ ضيق فِيْ الدنيا والآخرة، ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ يأتيه الرزق من حيث لا يحتسب، ويبارَك له فيه، ويُقنَّع به.
                          ولذلك طالب الرزق ينبغي أن يجمع: تقوى الله، والتوكل على الله، والثقة بكفايته، أي يفوّض المسلم أمره لله -عَزَّ وَجَلَّ- فيما يُقدِم عَلَيه من طلب الرزق؛ ثقةً بالله واعتمادًا على الله ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْـدَهُ ﴾ الله -عَزَّ وَجَلَّ- كافٍ عبده، وفي قراءة ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عِبَادَهُ﴾، فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- يكفي عباده فِيْ إزالة الشر وإنالة الخير.
                          بعض الناس يقول: أنا سأذهب إلى السوق، أنا واثق بنفسي واثق بقدراتي! بعض الناس يأتي يقول: المشكلة عندي أنه ليس عندي مال وإلا فأنا واثق بقدراتي على الكسب! الموفَّق يثق بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- ويفعل الأسباب ولا يَكون مترددًا فِيْ أموره إذا قدَّم الأسباب الصحيحة.
                          قال: «التوكل على الله، والثقة به، وحُسن الظنّ به»، عند دخول العبد فِيْ أمر يطلب الكسب منه فإنه ينبغي أن يَكون قلبه ممتلئًا بحسن الظن بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- وأنّ الله رزّاق كريم. بعض الناس يدخل فِيْ تجارة ويقول: سأحاول وأنا أعرف حظي، يعني يدخل التجارة وهو مليء بالإحباط وأنه سيخسر، يقول: على كلِّ حال محاولة وإلا فأنا عارف حظي! لا، الموفّق يدخل فيما يدخل فيه من عمل يطلب به الرزق وقلبه ممتلئ حسن ظن بالله.
                          يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي» رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: «إنّ الله يقول: انا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني»، وبين حسن الظن والدعاء ارتباط وثيق.
                          ومن حسن الظن بالله أن تدعو الله، إذن إذا أردتَ يا عبد الله أن تُيسَّر أمورك فِيْ طلب الرزق فعليك أن تتسلّح بتقوى الله والتوكل على الله والثقة بكفاية الله وحسن الظن بالله والإكثار من الدعاء، فهٰذا هُوَ مفتاح التوفيق فِيْ طلب الرزق، وهٰذا ما ينبِّه عَلَيه شيخ الإسلام ابن تيمية.
                          وذلك أنه ينبغي للمهتم بأمر الرزق أن يلجأ فيه إلى الله ويدعوه؛ كما قال سبحانه- فيما يأثر عنه نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلكم جائع إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته؛ فاستكسوني أكسُكم»
                          هٰذا بيان لما تقدّم؛ وهو أنه ينبغي للعبد المسلم أن يُحسِنَ ظنه بالله إذا أراد الرزق، ويتوكل عَلَيه، ويثق بكفايته، ويقدّم التقوى، ويُكثر من الطاعة، سبحان الله! الطاعة يا إخوة سبب للرزق، يُكثر من الطاعة، فإنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنّ الكافر إذا عمل حسنة أُطعِم بِهَا طُعمة فِيْ الدنيا» يُرزَق بِهَا رزقًا فِيْ الدنيا، «وأمَّا المؤمن فإنّ الله يدّخر له حسناته فِيْ الآخرة ويُعقِبه رزقًا فِيْ الدنيا على طاعته» رواه مسلم فِيْ الصحيح.
                          وأمّا المؤمن فإنّ الله يدّخر له حسناته فِيْ الآخرة، يعني ما تذهب فِيْ الدنيا مثل الكافر، «ويُعقبه رزقًا على طاعته»، فمن أسباب الرزق أن يُكثر الإنسان من طاعة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                          وهٰذا الحديث الَّذِي رواه الشيخ رواه مسلم فِيْ الصحيح «كلكم جائع إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته؛ فاستكسوني أكسكم»، وهٰذا الحديث فيه الأمر بسؤال الله العبد حاجته، بمعنى: فليتوكل على الله حتى يَستغني بسؤال الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن سُؤال الخَلق حتى السؤال المباح؛ مِن حُسن التوكل على الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                          وفيما رواه الترمذي عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ: «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى شسع نعله إذا انقطع؛ فإنه إن لَمْ ييسِّره لَمْ يتيسَّر»
                          قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليسأل أحدكم ربَّه حاجته كلها» يعني حتى فِيْ أمور دنياه «حتى شسع نعله إذا انقطع»، الشسع: هُوَ شراك النعل، «فإنه إن لَمْ ييسِّره لَمْ يتيسَّر» صحَّحه بهٰذا اللفظ السُّيوطي، ورواه دون قوله «فإنه إن لَمْ ييسِّره لَمْ يتيسَّر» ابن حبان والترمذيّ، والظاهر –والله أعلم أنه ضعيف الإسناد.
                          أمَّا زيادة «فإن لَمْ ييسِّره لَمْ يتيسَّر» ليست من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وإنما من قول أمِّنا عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها-، وقَدْ روى ذٰلك أبو يعلى عن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها بإسناد جيّد.
                          وقد قال الله تعالى- في كتابه: ﴿ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ﴾
                          العلماء لهم في المراد بالفضل هنا قولان:
                          القول الأول: أنّ الفضل هو الطاعة؛ يعني واسألوا الله الطاعة؛ يعني العَون عليها.
                          والقول الثاني: أنّ المقصود بالفضل هنا: الرزق.
                          وهذا من اختلاف التنوّع؛ فلا مانع من إرادة الأمرين؛ ﴿ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ﴾يعني سلوا الله الطاعة والإعانة عليها وسلوا الله الرزق. فهذا يسمّى عند أهل العلم باختلاف التنوّع.
                          [وقال سبحانه: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾، وهذا وإن كان في الجمعة فمعناه قائم في جميع الصلوات
                          ومعنى ﴿ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾: اطلبوا الرزق الحلال من الله. على أحد الأقوال في تفسير الآية.
                          ولذلك؛ من فقه الإمام البخاري؛ وهو من كبار فقهاء الأمّة، وفقهه يظهر في تراجمه؛ أنه بوّب فقال: «باب الخروج في التجارة؛ وقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾»، ففهِم من هٰذه الآية: الإذن فِيْ الخروج فِيْ التجارة والسفر، وهٰذا من فقه الإمام البخاري، رحمه الله.
                          قال: « وهذا وإن كان في الجمعة فهو قائم في جميع الصلوات» بمعنى أنّ الحكمة فيه موجودة فِيْ جميع الصلوات.
                          ولهٰذا والله أعلم- أَمَرَ النبي صلى الله عَلَيه وعلى آله وسَلَّم الَّذِي يدخل المسجد أن يقول: «اللهم افتح لي أبواب رحمتك»، وإذا خرج أن يقول: «اللهم إني أسألك من فضلك»
                          لأنّ الإنسان إذا دخل المسجد فهو يَدخل للعبادة الَّتِي يُرجى أن تَكون سببًا لرحمة الله فيدخل الإنسان الجنة، لأنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله برحمته»، فإذا دخل الإنسان المسجد فإنه يدخل ليعبد الله رجاء رحمة الله، فناسَب أن يسأل الرحمة، وإذا خرج فإنه يخرج للدنيا وطلب الرزق؛ فناسَب أن يسأل الله من فضله، سُبْحَانَهُ وَتَعَالى.
                          وقَدْ قال الخليل صلى الله عَلَيه وعلى آله وسلم: ﴿ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ﴾، وهٰذا أمر، والأمر يقتضي الإيجاب، والاستعانة بالله واللجأ لله فِيْ أمر الرزق وغيره أمر عظيم
                          وهٰذا أمرٌ واجب؛ أنه يجب على الإنسان أن يستعين بالله فِيْ أموره كلها، وأن يَتبرَّأ من حوله فِيْ الأمور كلها، ولا يجوز طرفة عين أن يعتقد الإنسان أنه قادر على تحصيل خير لنفسه دون عون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، هٰذا معنى قول الشيخ «هٰذا أمر والأمر يقتضي الإيجاب» يعني أنه يجب على العبد أن يستعين بالله فِيْ أموره كلِّها؛ معتقدًا أنّ الخير كله بيد الله، وأنه لا يحصل له خير إلا بإذن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- وأمره.
                          ثم ينبغي له أن يأخذ المال بسخاوة نفس ليبارَك له فيه، ولا يأخذه بإشرافٍ وهلع
                          ينبغي عَلَيه أن يأخذه بسخاوة نفس؛ لأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنّ هٰذا المال خَضِرَةٌ حلوة؛ فمن أخذه بسخاوة نفسٍ بورِك له فيه، ومَن أخذه بإشرافِ نفسٍ لَمْ يُبارَك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع» رواه البخاري، فمن أخذه بطريق حلال وكان سمحًا فِيْ طلبه صادقًا فيه مُبيٍّنًا؛ بورِك له فيه، ومن أخذه بطمعٍ أغواه حتى كتَمَ وغشَّ؛ لَمْ يبارَك له فيه.
                          فسبب البركة فِيْ الرزق: أن يَكون الإنسان صادقًا مُبيِّنًا وأن يَكون سخيَّ النفس.
                          وسبب مَحْقِ البركة فِيْ الرزق: أن يكذب الإنسان، أو لا يُبيِّن، أو يَغُش، أو يَتِّخذ الأسباب المحرَّمة.
                          بل يكون المال عنده بمنزلة الخلاء الَّذِي يُحتاج إليه من غير أن يَكون له فِيْ القلب مكانة، والسعي فيه إذا سعى كإصلاح الخلاء
                          انظروا إلى هٰذه الجملة من شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-، ومقصوده: أنه ينبغي أن يَكون الإنسان مقتصدًا فِيْ طلب الدنيا.
                          وأقلّ درجات الاقتصاد: ألا تُشغله عن الأعمال الصالحةِ الواجبةِ عَلَيه، هٰذه أقلّ درجات الاقتصاد: ألا تشغله عن الأعمال الصالحة الواجبة عَلَيه.
                          نسمع أنّ بعض إخواننا الَّذِينَ يعملون فِيْ التجارة يجمعون الصلوات الخمس أو الأربع؛ الظهر والعصر والمغرب وقت العشاء، ولا سيَّما بعض إخواننا فِيْ أوروبا؛ لأنّ الحركة مستمرة والغفلة تُضيِّع الفُرَص، فبعضهم يجمع أربع صلوات عند وقت العشاء قبل أن ينام، وهٰذا لا شك أنه حرام.
                          أقلّ درجات الاقتصاد: ألا تُشغِل التجارة أو طلب الرزق المرءَ عن الأَعْمَال الصالحة، فيَجعل طلبه الدنيا كدخول الإنسان الخلاء، كدخول الإنسان الحمَّام لقضاء الحاجة، فإنّ الإنسان إذا دخل الحمَّام الَّذِي تُقضى فيه الحاجة لا يبقى فيه فوق حاجته، بل فور أن يَفرَغ من حاجته يَخرج، فكذلك ينبغي أن يَكون شأن الإنسان مع طلب الرِّزق.
                          الإنسان أوّلًا فِيْ بناء هٰذا الحمّام فِيْ بناء بيت الخلاء يعني لا يهتم به ويَجعل فيه أشياء زائدة ويهتم بإصلاحه ولا يبقى فيه فوق الحاجة، فكذلك الإنسان فِيْ طلب الرزق؛ لا ينبغي أن يَتوسّع فيما لا يحتاج إليه، ولا يَبقى فِيْ طلب الرزق فوق الحاجة.
                          وجاء فِيْ بعض كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- أنه قال: «يجعله كالحمار يركبه وقت الحاجة»، يعني الإنسان فِيْ الأصل يركب على البعير ويركب على الحصان والفرس، ويركب على الحمار عند الحاجة، والناس لا تفضّل الركوب على الحمار، وإنما تركبه وقت الحاجة، فإذا انتهت الحاجة نزل الإنسان عنه، فيقول: هكذا ينبغي أن يجعل المسلم طلبه للدنيا؛ مقتصِدًا فِيْ هٰذا الطلب، فيكون بمنزلة من يدخل الخلاء أو يبني الخلاء، وبمنزلة من يركب الحمار.
                          والعامّة عندهم دعوةٌ بمعنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية؛ يقولون: (اللهم اجعل المال فِيْ جيبي ولا تجعله فِيْ قلبي) ولا تجعله فِيْ قلبي يُشغلني عن ديني، ارزقني ما يُغنيني ولا تشغلني به. هكذا شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: لا ينبغي للعبد أن يُشغِله طلب الرزق عن دِينه، وينبغي أن يَكون مُقتصِدًا فِيْ طلب الرزق.
                          وفي الحديث المرفوع الَّذِي رواه الترمذي وغيره: «من أصبح والدنيا أكبر همّه؛ شتَّت الله عَلَيه شَمْله، وفرّق عَلَيه ضَيعتَه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِبَ له، ومن أصبح والآخرة أكبر همّه؛ جَمَعَ الله عَلَيه شَمْلَه، وجعل غناه فِيْ قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة»
                          هٰذا حديث عظيم، ولفظ الترمذيُّ كما فِيْ السنن: «من كانت الآخرة همَّه: جعل الله غناه فِيْ قلبه وجمع له شَمْله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همّه: جعل الله فقره بين عينيه، وفرّق عَلَيه شَمْلَه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له» رواه الترمذيُّ، وصحَّحه الألباني، والوادعيُّ، رحم الله الجميع.
                          «من كانت الآخرة همَّه -«ونيَّته » كما جاء فِيْ بعض الروايات- وطُلبَتَه، وهي المقدَّمة؛ كافأه الله -عَزَّ وَجَلَّ- بأن يجعل غناه فِيْ قلبه، فيكون قنوعًا، مهما جاءه من الرزق يفرح له يقول: الحمد لله قد رُزقتُ خيرًا كثيرًا، ولا يتطلّع إلى ما فِيْ يد غيره، لأنّ من أعظم أسباب شقاء الإنسان أن يتطلّع إلى ما فِيْ يد غيره، عنده سيارة توصله إلى المسجد النبوي سالمًا طيّبًا، فتمرّ بجواره سيارة فيضرب بيده على سيارته يقول: هٰذه السيارات! تذهب السيارة وتبقى الحسرة فِيْ القلب.
                          فمن كانت الآخرة همّه يجعل الله غناه فِيْ قلبه، فمهما حصَّل يَقنَع، ويرى أنه قد أوتيَ خيرًا كثيرًا. «وجُمِعَ له شَمْله» فلا يتشّتت؛ ولذلك بمجرد أن يضعوا له الفراش ينام.
                          «وأتته الدنيا وهي راغمة» ما كُتِبَ للإنسان من الدنيا سيأتيه سواء كان صالحًا أو لَمْ يكن، لكنّ الصالح يسعد بما يأتيه ويسلم بين يدي ربه.
                          «ومن كانت الدنيا همّه» وطُلبَته وغايته والمقدَّمة عنده: جعل الله فقره بين عينيه، عكس من كانت الآخرة همّه، من كانت الآخرة همة جعل الله غناه فِيْ قلبه، أمّا من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، فكلّما نظر لن يرى إلا فقره، وبالتالي لن يَقنَع بما يُرزَق، ولن يهنأ بما يُرزَق، ويكون متطلّعًا إلى ما ليس فِيْ يديه غير مستمتعٍ بما فِيْ يده! وهٰذه غاية الشقاء؛ أن يَكون عند الإنسان شَيء لا يستمتع به، ويطلب شَيْء لا يقدر عَلَيه.
                          «وفرّق عَلَيه شمله» فكَثُرتْ الهموم فِيْ قلبه، ولذلك يأتي يريد أن ينام ما يستطيع النوم.
                          بعض الخلفاء قال لابنه: يا بنيّ! قد كَبِرتْ سنّي وأريد أن أتنازل عن الخلافة لك، فالولد ذكي فَهِمَ أنه يَختبره؛ فقال: متّع الله بك يا أبي، لا خير فِيْ الخلافة إن تركتَها، لا أرضى بِهَا أبدًا. بعد فترة دعاه أبوه قال: ما حملك على قول ما قلتَ؟ -وأبوه ذكي فهم أنّ الولد فهم أنه يختبره-، فقال: رأيتُك إذا هَجَعَ النُّوام أضأتَ السراج وطلبتَ الخادم ليَدهِنَ لك ظهرك وأخذتَ تُديم النظر فِيْ أمر الخلافة حتى يلوح الفجر، فعلمتُ أنّ من يفعل هٰذا لا يترك هٰذا)؛ يعني لمّا رأيت هٰذا الحرص منك عرفتُ أنك لن تتنازل عنها؛ لأنّ قلبك معلَّق بِهَا، الناس تنام وأنت تأمر الخادم فيأتي يدهن ظهرك بالزيت حتى تستعين على أن تبقى وتديم النظر فِيْ أمر الخلافة.
                          بعض الناس تَكون عنده الأموال الكثيرة ولا ينام، يُشقِيه ما عنده. ومن رزقه الله الرزق وقَدْ جعل الآخرة همّه؛ يجمع الله له خيرين: خير الدنيا وخير الآخرة.
                          كلامنا لا يعني أنّ الغنى مذموم على الإطلاق أو أنّ الأغنياء هكذا على الإطلاق؛ ولكنّ الكلام عمّن أفرد الدنيا ولم يُقبِل على الآخرة، وإلا كم من غني يَكفَل من طلاب العلم كثير، ويتصدّق بالكثير، ويبذل فِيْ الدعوة الكثير.
                          أنا أعرف أحد الأغنياء فِيْ غير هٰذه البلد أنفق مرةً واحدةً ما يساوي مائة مليون دولار فِيْ الدعوة فِيْ سبيل الله؛ مرة واحدة، تبرّع بأرض فِيْ العاصمة قيمتها مائة مليون دولار، فِيْ قلب العاصمة، للدعوة فِيْ سبيل الله. يوجد أناس موفّقون فِيْ مثل هٰذا الأمر. لعلنا نقف هنا لنجيب على الأسئلة.


                          (9)
                          بسم الله الرحمٰن الرحيم
                          الحمد لله الملك القدوس السلام، أكرمنا بدين الإسلام، وأكمل لنا الدِّين وأتم علينا الإنعام، وبيّن لنا الحلال والحرام، وحذّرنا من ارتكاب الخطايا والآثام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحقُّ على الدوام، وأشهد أنّ محمدً عبده وسوله؛ المبعوثُ رحمةً للأنام، مَن التزم سنّته اهتدى واستقام، ومن أعرض عن دِينه تخبّط فِيْ دياجير الظلام، ومن أحدث فِيْ أمره ما ليس منه فهو رَدٌّ مع الآثام، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكمل صلاة وأتمّ سلام، ورضي الله عن آله الطيبين الأطهار الأعلام، وصحابته الأخيار الكرام. أما بعد:
                          فمعاشر الفضلاء؛ نجتمع فِيْ درسنا فِيْ مسجد حبيبنا وإمامنا وقدوتنا ونبينا محمد بن عبد الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نرجو بذل كفضل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، ونسأل الله أن يكرمنا بفضله، وأن يُعطيَنا سؤلنا، وأن يزيدنا من كرمه وفضله أضعافًا مضاعفة.
                          أيها الإخوة؛ نحن فِيْ درسنا مع شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله عَزَّ وَجَلَّ-.
                          وقَدْ كان الحديث وصل بنا إلى أمرٍ دنيويٍّ مهم؛ وهو بيان أرجح المكاسب، وقلنا إنّ أرجح المكاسِب: هُوَ المكسَب الحلال المبارَك فيه المقنَّع صاحبه به.
                          فالمؤمن الموفَّق إذا أراد أن ينظر فِيْ المكاسِب فينبغي عَلَيه أن ينظر فيما يَكون حلالًا، وفي سبب بركة الرزق، وفي سبب القناعة به، فإنه لا سعادة ولا خير ولا بركة فِيْ الرزق إلا بهٰذا.
                          وقلنا إنّ هٰذا يَنتظمه: أن يتوكّل العبد على الله فِيْ طلبه للرزق، وأن يثق فِيْ كفاية الله عبادَه، وأن يُحسن الظن بربه، وأن يُكثِر من سُؤال الله فضله، وأن يُكثِر من الطاعة، فإنّ هٰذه الأمور سبب تيسير الرزق وسبب البركة فيه وسبب القناعة به.
                          فمن توكّل على الله وفوّض أمره إليه واثقًا بكفاية الله محسِنًا الظن بالله مكثرًا دعاء الله مكثِرًا من طاعة الله مقتصدًا فِيْ طلبه الرزق؛ فإنه يُيسَّر له الرزق ويبارَك له فيه، الله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾.
                          نفرٌ من صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا فِيْ سريّة ناحية البحر، وكان زادُهم قليلًا، فنَفِدَ زادُهم بعدما اشتركوا فيه، فألقى البحر حوتًا عجيبًا كبيرًا على الساحل، وأخذوا يأكلون منه شهرًا.
                          وينبغي على المسلم أن يَقتصِد فِيْ طلبه الرزق، وأقلّ درجات الاقتصاد: الاقتصاد الواجب، وهو: أن لا يُشغِل طلب الرزق الإنسان عن الواجبات عَلَيه، بل يَكون حريصًا على أداء ما وَجَبَ عَلَيه شرعًا.
                          ومن الاقتصاد: ألا يُشغِل الإنسان نفسه بطلب الرزق فيما لا حاجة له، وهو كمالٌ فِيْ الاقتصاد.
                          وقَدْ سمعنا التمثيل الَّذِي مثّل به شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- ؛ وهو أنه ينبغي أن يكون الإنسان فِيْ طلبه الرزق كمن يدخل الحمّام لقضاء حاجته؛ فإنه إنما يمكث فيه بمقدار الحاجة، ولا يعتني به بما يزيد على صيانته وإصلاحه. أو كما قال فِيْ موضع آخر: يَكون الإنسان فِيْ طلبه الرزق كراكب الحمار إنما يركبه للحاجة.
                          ووقفنا عند تقرير شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- أمرًا ينبغي أن يعتقده كل مسلم: وهو أنّ تيسير أمر الدنيا بما يُحقِّق الصلاح والسعادة إنما يَكون بالتديُّن والرجوع إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                          فيتفضل الشيخ ياسين يقرأ لنا من حيث وقفنا البارحة.
                          وقال بعض السلف: أنت محتاج إلى الدنيا، وأنت إلى نصيبك إلى الآخرة أحوَج، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مرّ بنصيبك من الدنيا، فانتظمه انتظامًا
                          جاء عن معاذ بن جبل –رضي الله عنه- الصحابيّ الجليل –وهو المراد ببعض السلف هنا- أنه قال لرجل: «إني موصيك بأمرين، إن حفظتهما حُفِظْتَ: أنه لا غنى بك عن نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر، فآثِر نصيبك من الآخرة على نصيبك من الدنيا حتى ينتظِمَه لك انتظامًا؛ فتزولُ به معك أينما زِلْتَ» رواه الطبراني، وابن أبي شيبة، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
                          فمعاذ –رضي الله عنه- أوصى هٰذا الرَّجل بهٰذه الوصية العظيمة، فِيْ قوله « إنه لا غنى بك عن نصيبك من الدنيا» فلم يُشرَع فِيْ دين الإسلام ما يُسمّى بالدرْوَشة، الإسلام جاء لعمارة الدنيا والآخرة، وجعل عمارة الدنيا طريقًا لعمارة الآخرة، فلم يأمر الإسلام بإهمال الدنيا بالكلية؛ بأن يتدَرْوَش الإنسان ويَدَعَ طلب الرزق ونصيبه من الدنيا، ولم يجعل للإنسان أن يُطلِق يده فِيْ الدنيا كما يشاء، فالحلال ما حلّ فِيْ الجيب، ويُقدَّم ما فِيْ الدنيا على ما فِيْ الآخرة!
                          فالمسلم لا يُهمِل الدنيا، ولكنه عند نظره للدنيا يبدأ بنظره فِيْ للآخرة، فإن كان أمر الدنيا لا يعارِض إصلاح الأمر فِيْ الآخرة ولا يُفسِد القلب فإنه يُقدِم عَلَيه، وإن كان يعارِض إصلاح أمره فِيْ الآخرة فإنه يُقدّم عمارة الآخرة على عمارة الدنيا، وهكذا كان السلف الصالح –رضوان الله عليهم-.
                          ولذلك قال معاذ –رضي الله عنه- : «وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر، فآثِر نصيبك من الآخرة على نصيبك من الدنيا»، طيِّب لو آثرتَ نصيبك من الآخرة على نصيبك من الدنيا هل تَفسُد دنياك؟
                          الجواب: لا، بل من عمل بما أمره الله به؛ صَلُحَ له أمر دينه وأمر آخرته، ولذلك قال: «حتى ينتظِمَه لك انتظامًا»، بمعنى أنك إذا أقبلتَ على الله فإنّ أمر الدنيا سيَصلُح لك.
                          ولذلك تَعجَب من أناس يَتسبون إلى العلم يَزعمون أنهم يريدون الإصلاح، وأنهم من دعاة الإصلاح، وإذا نظرتَ إلى كلامهم وجدتَ أنهم يَنظرون إلى عمارة الدنيا ولا يُبالُون بعمارة الآخرة، فيزعم بعضهم اليوم أنّ الحكم بالديمقراطية أفضلُ من الحكم بالشرع بدون رضى الشعب، وأنّ التطلُّع إلى قيادة الشعوب إلى حياة كريمة إنما يَكون بإصلاح أمور الدنيا، مع أنّ ما يُدعى إليه من أمور الدنيا لا يُصلِحها، والتجربة والبرهان تدلّ على ذٰلك.
                          ولا يُصلِح حال الدنيا إلا ما جاء فِيْ كتاب الله وفي سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                          فالواجب على المُصلِح أن يَدعوَ إلى إصلاح الدنيا بالعودة إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبالدعوة للتمسُّك بالأصول الشرعية الَّتِي كان عليها سلف الأمّة –رضوان الله عليهم-، ففي ذٰلك إصلاح المسلمين وعزُّ المسلمين وصلاح الدنيا.
                          وإنّ الدعوة ينبغي أن تَكون لأفراد الناس؛ بالحرص على إصلاح البيوت؛ بأن تقام على دين الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، وإذا صَلُح ذٰلك فإنّ الظنّ بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- أن يُصلِح للعباد أمر البلاد.
                          أمّا أن يُترَك الناس على فساد ولا يُدعَون إلى توحيد ولا إلى سنة ولا إلى صلاة ولا إلى بر ولا إلى إصلاح حال؛ ويقال إنّ هناك دعوة للإصلاح× فهٰذا غلطٌ بيِّن.
                          ولذلك؛ ينبغي على المسلمين جميعًا أن يَتنبّهوا إلى هٰذه القضية الكليّة: الخيرُ كلُّه فِيْ الاقبال على مالك الخير ِكلِّه؛ وهو ربنا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                          قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾
                          فالله -عَزَّ وَجَلَّ- خلق الجن والإنس لعبادته، وجعل لهم فِيْ ذٰلك إرادةً واختيارًا، وأخبرهم أنّ حكمة خلقهم إنما هي عبادته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، وأنّ المراد من وجودهم فِيْ الدنيا أن يعبدوا الله، فإذا عبدوا الله رزقهم الله، وأطعمهم الله، وآمنهم من خوف، وهٰذا مفهومٌ من الآيات؛ لأنّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾، لَمْ يُرد الله -عَزَّ وَجَلَّ- منّا أن نرزقه أو نَرزق احدً من عباده؛ بل ولا أن نُنشِئ الرِّزق، فالذي يُنشئ الرزق هُوَ الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، ونحن نطلبه، ثم قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾، إذن يا عبد الله إن عبدتَ الله رزقك الرزاق ذو القوة المتين.
                          وهٰذه القاعدة الإيمانية العظيمة: أنّ الرزق والخير فِيْ الدنيا يتحقق بعبادة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                          فأمّا تَعِينُ مكسَب على مكسَب من صناعة أو تجارة أو بناية أو حراثة أو غير ذٰلك؛ فهٰذا يختلف باختلاف الناس
                          المكاسِب كلُّها الأصل فيها أنها حلال إلا ما دلّ الدليل على تحريمه، الأصل فِيْ البيوع الحلّ، الأصل فِيْ المعاملات الحلّ إلا أن يدلّ الدليل على التحريم، فالأصل أنه يجوز للإنسان أن يبيع ما شاء كيف شاء إلا ما منعه الشارع؛ كبيع الحصاة مثلًا، وبيع الغَرر، والرِّبا.
                          وأفضل المكاسِب أن يكتسب الإنسان بعمل يد؛ يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما أكل أحدٌ طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإنّ نبيَّ الله داود –عَلَيه السلام- كان يأكل من عمل يده» رواه البخاريُّ فِيْ الصحيح. فما أكل أحدٌ طعامًا قط أطيب ولا أحسن من طعامٍ يأكله من عمل يده، وقَدْ كان نبيُّ الله داود –عَلَيه السلام- يعمل بيده ويَكتسِب من عمل يده، وقَدْ ألان الله له الحديد فكان يصنع منه ما شاء للناس ويكتسب من ذٰلك، فأفضل المكاسب ما كان من عمل اليد.
                          وتلحَظ انّ شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- قال: «فأمّا تعين مكسَب على مكسَب من صناعة أو تجارة أو بناية أو بناية أوحراثة» وهٰذه كلها من عمل اليد، فأفضل العمل هُوَ ما كان من عمل اليد.
                          وأمّا تفضيل عمل على عمل من أعمال اليد؛ فهٰذا لَمْ يرد به نصٌّ، ويَختلف باختلاف أحوال الناس، بحسب ما يتقنه الإنسان، وكلٌّ جعل الله له قدرة فِيْ أمر من الأمور، فكما يقول الفقهاء: كلُّ إنسان فقيه نفسه، كل واحد يَعرف ما يُحسنه ويُتقنه من الأعمال الطيبة.
                          فهٰذا يختلف باختلاف الناس، ولا أعلم فِيْ ذلك شيئًا عامًّا، لكن إذا عنَّ للإنسان جهة فليستخر الله -تعالى- فيها الاستخارة المتلقاة من معلِّم الخير صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنّ فيها من البركة ما لا يُحاط به، ثم ما يتيسّر له، فلا يتكلّف غيره؛ إلا أن يَكون منه كراهةً شرعية
                          يقول: «لكن إذا عنَّ للإنسان جهة» يعني من أعمال المكاسِب «فليستخر الله»، وقَدْ قال السلف: ينبغي على لإنسان أن يستخير الله فِيْ أمور دنياه، فإذا أراد أمرًا من أمور الدنيا وعنَّ له فليصلٍّ صلاة الاستخارة -كما تقدّم معنا- وليستخر الله فِيْ ذٰلك الأمر.
                          «ثم ما يتيسّر له» من الأَعْمَال بعد الاستخارة فليُقدِم عَلَيه إلا أن يظهر فيه كراهةٌ شرعيةٌ، ولا ينبغي للإنسان إن تيسّر له شَيْء حلال أن يُعرِض عنه إلا إلى أحسن منه، وإلا فلْيقبَل رزق الله ولا يُعرِض عنه. وهٰذا غاية ما ذكره شيخ الإسلام فِيْ الأمر الثالث.
                          ثم يشرع –رحمه الله- فِيْ الأمر الخامس فيما يتعلّق بالكتب النافعة فِيْ العلوم.
                          وأمّا ما تَعتمِد عَلَيه من الكتب فِيْ العلوم؛ فهٰذا باب واسع، وهو أيضًا يختلف باختلاف نشء الإنسان فِيْ البلاد، فقد يتيسّر له فِيْ بعض البلاد من العلم أو من طريقه ومذهبه فيه ما لا يتيسّر له فِيْ بلد آخر
                          وأمّا ما تعتمد عَلَيه من الكتب فِيْ العلوم الشرعية؛ فهٰذا باب واسع؛ لكثرة ما كتبه علماء الإسلام فِيْ العلوم الشرعية؛ وهو يختلف.
                          وكما يقول العلماء: انتقاء الكتاب مهارة ينبغي العناية بِهَا، لا ينبغي للإنسان أن يقرأ الكتب كيفما اتّفق؛ بل ينبغي أن يختار الكتاب المناسب فِيْ العلم الَّذِي يريد أن يدرسه.
                          وهٰذا له أمورٌ تُحدِّده:
                          منها: ثناء العلماء على الكتاب.
                          ومنها: الثقة فِيْ مؤلّفه.
                          ومنها: خدمة هٰذا الكتاب.
                          ومنها: النفع العائد على الطالب من هٰذا الكتاب.
                          فلابد أن ينظر طالب العلم إلى ثناء العلماء على الكتاب، فإنّ أهل العلم هم أهل الخبرة بالكتب.
                          كذلك لابد أن ينظر إلى سلامة مؤلِّفه؛ مهما كان الفن، فإنه لا يَكتب أحدٌ كتابًا إلا ويَخدِم ما فِيْ قلبه؛ حتى فِيْ النَّحو تجد العقيدة، ولذلك المعتزلة لمّا ألَّفوا فِيْ النحو والبلاغة ملؤوا كتبهم بما يشهد لعقيدة المعتزلة، كتاب الخصائص لابن جِني -وهو من الكتب المعتمدَة فِيْ اللغة- مليء بالأمثلة الَّتِي تؤكِّد عقيدة المعتزلة، ومليء بالعبارات الَّتِي تتّفق مع عقيدة المعتزلة، فإياك أن تقول: هٰذا الكتاب فِيْ فنّ كذا لا علاقة للعقيدة به! العقيدة ملازمة للإنسان، ومَا من مؤلِّف يؤلِّف إلا وهو يخدم عقيدته، فلابد من معرفة هٰذا.
                          والأمر الثالث: خدمة هذا الكتاب، كون العلماء شرحوه، أو يمكن أن ينتقل الإنسان منه إلى كتاب أعلى منه، هٰذا من الأهمية بمكان.
                          والرابع: انتفاع الطالب به، مقدار النفع، وهٰذا الَّذِي أشار إليه شيخ الإسلام فِيْ قضية أنه ما يتيسّر فِيْ البلاد ومَا يتعلق بالمذهب وطريق العلم.
                          فمثلًا؛ إذا أردنا أن نختار متنًا فِيْ الفقه؛ فإنّا إذا نظرنا إلى الثلاثة الأمور المتقدمة نقول يختار طالب العلم مثلًا (زاد المستقنِع) لأنّ العلماء أثنَوا عَلَيه، ولسلامة صاحبه، ولأنه مخدوم، فإنّ الطالب بعد أن يفرغ منه يننقل إلى (الشرح المختصر على زاد المستقنع) للشيخ صالح الفوزان فيفهم الكتاب فهمًا جيِّدًا، ثم ينتقل إلى كنز الفقه (الشرح الممتع) للفقيه الممتع الإمام الشيخ محمد صالح العثيمين؛ بحيث يعرف الترجيح فِيْ المسائل، ثم ينتقل إلى (المغني) لابن قدامة، ويُبحر كما يشاء فِيْ علم الفقه.
                          ولكن ينبغي أيضًا النظر إلى النفع المتعدي القادم، ولذلك إذا كنتَ من بلد ينتشر فيه المذهب الحنفي فالأحسن أن تختار متنًا فِيْ الفقه الحنفيّ؛ لأنك إن أجدتَه وعدتَ إلى البلاد فإنّ الناس يثقون بعلمك؛ لأنك تأتيهم بالكتب الَّتِي عهدوا، وبالمصطلحات الَّتِي عهدوا، وإذا وثق الناس فِيْ أصل علمك فإنك تستطيع أن توصِل إليهم الخير –إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ- فتجعل ذٰلك مفتاحًا لتنشر فقه الدليل والسنة.
                          إذا كنت من بلد ينتشر فيه المذهب المالكي فحَسَنٌ أن تختار متنًا فِيْ المذهب المالكي، وكذلك بالنسبة للمذهب الشافعي.
                          ومن أنفع الأمور أن تقرأ المتن على متمكِّن من الفنّ يستطيع أن يشرح لك الكتاب، ثم تعيد القراءة عَلَيه بنقد الكتاب، ثم بعد ذٰلك تنتقل إلى ما بعده من الكتب. وهكذا فِيْ سائر الفنون والعلوم الشرعية.
                          لكنّ الشأنَ كلَّ الشأنَ هُوَ فيما يوصي به شيخ الإسلام –رحمه الله- حيث يقول:
                          لكنّ جماع الخير أن يستعين بالله -سبحانه- فِيْ تلقّي العِلم الموروث عن النبي صلى الله عَلَيه وعلى آله وسلم، فإنه هُوَ الَّذِي يستحق أن يُسمّى علمًا، ومَا سواه إمّا أن يكون علمًا فلا يَكون نافعًا، وإمّا أن لا يَكون علمًا وإن سُمِّي به، ولئن كان علمًا نافعًا فلابد أن يكون فِيْ ميراث محمّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ ما يغني عنه مما هُوَ مثله وخير منه. ولتكن همّته فهم مقاصد الرسول صلى الله عَلَيه وآله وعلى آله وسلم فِيْ أمره ونهيه وسائر كلامه. فإذا اطمأن قلبه أنّ هٰذا مراد رسوله صلى الله عَلَيه وعلى آله وسلم فلا يَعدِل عنه فيما بينه وبين الله -تعالى- ولا مع الناس إذا أمكنه ذٰلك
                          يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: « لكنّ جماع الخير أن يستعين بالله» أوّل علامات التوفيق: أن يبرأ طالب العلم من حوله وقوته، ويقول معتقدًا: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا ينطلق طالب العلم فِيْ طلبه للعلم معتمِدًا على قدراته –كما يقول أهل الدنيا- أو معتمِدًا على ذكائه، بل ينطلق وهو يعلم أنه ضعيفٌ إلا بإعانة الله، عاجزٌ إلا بحول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، فيستعين بالله، ويُعلِّق قلبه بالله.
                          وكم من إنسان سلك طريق العِلم أو طريق الدعوة معتمِدًا على مهارته فلم يوفَّق، بل قد يصل الأمر إلى أن يتزندق! نعرف من آحاد الناس من كان مقبلًا على العلم الشرعي وألّف على طريقة السلف، فغرّته نفسه وقدراته؛ فانحرف، حتى مات على الزندقة!
                          فطالب العلم ينبغي أن يحذر حذرًا شديدًا من العُجب بنفسه، ومن الغرور بذكائه، بل يُذكِّر نفسه دائمًا بأنه عبدٌ ضعيف وأنه لن يَكون له خير إلا إذا أعانه الله، فيستعين بالله.
                          «لكنّ جماع الخير أن يستعين بالله -سبحانه- فِيْ تلقّي العِلم الموروثِ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» يا مسلمًا يا طالب العِلم اُقْصُر نفسك فِيْ طلب العِلم على طلب العِلم الموروثِ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو مَا دلّ عَلَيه العِلمُ الموروثُ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                          لأنّ العلم النافع نوعان:
                          علمٌ هُوَ الَّذِي جاء فِيْ الكتاب والسنة، وهو المسمّى بالعلم الشرعي.
                          وعلمٌ أرشد إليه الكتاب والسنة، وهٰذا هُوَ العلم الدنيويُّ النافع، الَّذِي لا يعارِض شيئًا من الشرع؛ كعلم الطب والهندسة ونحو ذٰلك.
                          قال: « فإنه هُوَ الَّذِي يستحق أن يُسمّى علمًا» العلم الَّذِي أجمع المسلمون على أنه علم: هُوَ ما جاء فِيْ كتاب الله وفي سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يوجَد أحدٌ يقول هٰذا ليس بعلم، بل هُوَ العلم المقطوع به أنه علم.
                          «ومَا سواه» يعني من الأمور الَّتِي تُنسَب إلى الدِّين أو تتعلّق به «إما أن يكون علمًا فلا يَكون نافعًا»، إمَّا أنه علم وله أصول لكنه لا يَنفع؛ ما دامَ أنه خارج عن الكتاب والسنة؛ مثل ما يسمّى بعلم المنطق، علمُ المنطِق هُوَ علم وله أصول، لكن لا يحتاجه ذكي ولا ينتفع به غبي، فإن كان الإنسان ذكيًا فإنه لا يحتاجُه فِيْ فَهم العِلم، فإنّ الصحابة -رضوان الله عليهم- أعلم الأمّة بالإجماع ما احتاجوا إلى هٰذا المنطق، ولا يَستفيد منه غبيّ؛ لأنه لا يفهمه، ولو دخل فيه سيَغرَق.
                          «وإمَّا أن لا يَكون علمًا وإن سُمِّي به» هُوَ ليس من العلوم مثل ما يسمُّونه الآن بعلم ما وراء الطبيعة أو علم الغيبيات؛ وهو الكِهانة الَّتِي تعتمد على الكذب والدَّجل، الَّتِي تَعتمد على أخذ شَيْء صحيح يُبنى عَلَيه مائة شَيْء كاذب، هٰذه الكهانة فِيْ هٰذا الزمان أسمَوها علمًا، ويأتون بأشخاص يقولون: الدكتور فلان عالِم، وخاصة عند نهاية العام يأتون به؛ ماذا تتوقع للعام القادم؟ ويأتون بأشياء معروفة لَهَا أسباب متكرِّرة، يقول: سيضرب أمريكا إعصار، فِيْ السنة يضربها عشرة وعشرين؛ هٰذا معروف، سيحصل كذا ويحصل كذا، ويكذبون الكذبات ويقولون علم، علم الغيبيات، علم ما وراء الطبيعة! وهٰذا أسوأ من الجهل، ومضادٌّ لدين الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-.
                          «ولئن كان علمًا نافعًا» لئن كان ما سوى العِلم الموروث عن النبي صلى الله عَلَيه وسلم علمًا نافعًا مما يُنسَب إلى الدِّين؛ فإنّ فِيْ ميراثِ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما هُوَ خيرٌ منه، فالاشتغال به اشتغالٌ للمفضول وترْكٌ الفاضل.
                          «ولتكن همّته فَهم مقاصد الرسول» ليكن قصدُك وعزمُك وهمّتُك أن تَعرف مراد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،لأنّ المتّبع حقًّا هُوَ الَّذِي علِمَ الموروث كما أراده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                          ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- أنّ الصحابة كانوا يَنظرون إلى مَقصِد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ الاتّباع، ليس الاتّباعُ أن تَعمَل بالنّص مُغْفِلًا حِكْمتَه، وإنّما الاتّباع أن تَعمل بالنص مُعمِلًا حكمته.
                          فمثلًا جاء فِيْ سنن ابن داود «أنّ ناقة البراء بن عازب –رضي الله عنه- دخلتْ حائط قومٍ فأفسدته، فقضى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنّ على أهل الحائط حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل»، ناقةٌ للبراء بن عازب –رضي الله عنه- دخلتْ بستانًا –الحائط هُوَ البستان- ولم تكن بساتين المدينة مسوَّرة فِيْ زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دخلتْ البستان فأفسدتْه، فرفع أصحاب البستان الأمر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليحكم، بِمَ حكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ حكم «أنّ على أهل الحائط حفظها بالنهار» فمسؤولية الحفظ فِيْ النهار على أهل الحائط، فلو دخلتِ الدابة فِيْ النهار البستان وأفسدته فلا ضمان على صاحبها، لأنّ الحفظ على أهل البساتين، «وحفظ المواشي بالليل على أهلها» فلو أنّ الماشية دخلت البساتين فِيْ الليل فأفسدته فإنّ أصحابها يضمنون.
                          قال العلماء: ما مقصود النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هٰذا الحُكم؟ قالوا: «المقصود رفع الحرج عن الناس بالحكم بما يوافق العادة»، العادة أنّ أهل البساتين متى يعملون فِيْ البساتين؟ يعملون فِيْ النهار؛ فقضى عليهم أنّ عليهم الحفظ بالنهار، لأنه لو لَمْ يقضِ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك لوقع الناس فِيْ حرج؛ يبقى صاحب البستان فِيْ البستان للنهار للحراسة، ويبقى فِيْ الليل للحراثة، فيبقى فِيْ بستانه طوال يومه وليلته؛ وهٰذا حرجٌ شديد! وأيضًا أهل المواشي يمسكون مواشيهم بالليل؛ خوفًا عليها من الذئاب، ويمسكونها فِيْ النهار لأنّ عليهم حفظها! وهٰذا أيضًا فيه مشقة شديدة.
                          طيب لو فرضنا أنّا وجدنا فِيْ بلد من البلدان تغيّر الحال، بلد من البلدان أصابه حرٌّ شديد، فأصبح أصحاب البساتين يعملون في البساتين فِيْ الليل، لا يستطيعون العمل فِيْ النهار، وأصحاب المواشي يُمسكون المواشي فِيْ النهار خوفًا عليها من حرارة الشمس الشديدة، فإنّ المتّبع حقًا يقول: إنّ على أهل الحائط حفظها بالليل، وعلى أهل المواشي حفظها بالنهار، لماذا؟ لأنّ هٰذا مقصود الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وهو أن يُيسِّر على الناس.
                          ولو جاء إنسان قا: لا، أنا أتمسّك بالنص؛ على أهل الحائط ان يحفظوها فِيْ النهار ولو عملوا فِيْ الليل، وعلى أهل المواشي أن يحفظوها بالليل ولو أمسكوها فِيْ النهار! قلنا: أنت مخالف لمراد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                          إذن يا إخوة؛ أريد بهٰذا المثال أن أقول: إنّ طالب العلم ينبغي عَلَيه أن يعرف مراد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويتّبع بناء على فَهم مراده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                          قال: «فإذا اطمأنّ قلبه- أي قلب طالب العلم- أنّ هٰذا هُوَ مراد الرسول فلا يَعدِل بينه فيما بينه وبين الله تعالى ولا مع الناس» يعني يعمل، فإنّ فائدة العلم العمل، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «مررتُ ليلة أُسريَ بي بأقوامٍ تُقرَض شفاههم بمقاريض من نار، فقلتُ: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباءُ أمّتك الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرؤون القرآن ولا يعملون به».
                          فالذي ينبغي لطالب العلم إذا علم الموروث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلم مقصوده منه أن يعمل به، سواء فيما يتعلّق بحقوق الله، أو ما يتعلّق بحقوق الآدميين.
                          وليجتهد أن يعتصم فِيْ كل باب من أبواب العلم بأصلٍ مأثورٍ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ
                          ليكن همُّ طالب العلم أن يَعرف الأصل الوارد عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يَتعلّم، إذا كان يتعلّم الفقه فينبغي أن يتعلّم الأصل فِيْ الباب الَّذِي دلّ عَلَيه الدليل، إذا جاء إلى باب الآنية، ينبغي أن يعرف الأصل فِيْ باب الآنية بحسب ما دلّ عَلَيه الدليل، فيعرف أنّ الدليل دلّ على أنّ الأصل فِيْ الأواني الطهارة فيتمسّك به. فكلّما دَرَسَ نظر إلى هٰذا الأصل، فما وافق الأصل فحَسَن، وإن خالف الأصل فإن دلّ عَلَيه دليلٌ خاص فحَسَن، وإلا ردّه إلى الأصل. وهكذا يكون علمه متينًا قائمًا على قول الله وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                          وإذا اشتبه عَلَيه مما قد اختلف فيه الناس فليَدْعُ بما رواه مسلم فِيْ صحيحه، عن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها- أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ كان يقول إذا قام يصلي من الليل يقول: «اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم
                          طالب العلم إذا تعلّم:
                          إمّا أن تكون المسالة اتفاقية، ومَا أجمَعتْ عَلَيه الأمّة فهو حق.
                          وإمّا أن تَكون خلافية:
                          - فإن كانت المسألة خلافية من حيث الواقع؛ فلينظر هل سبق هٰذا الاختلاف اتفاق؟ فإن سبق هٰذا الاختلاف اتفاق فإنه يتمسّك بما اتفق عَلَيه صدر الأمّة، فإنه الحق المقطوع به.
                          فإذا جئنا إلى العقيدة نجد أنّ السلف قد اتَّفقوا على مسائلها، ووقع الاختلاف بعدهم، فهنا لا اشتباهَ ولا توقّفَ ولا احتمالَ، بل الحقُّ اليقينيُّ: ما كان عَلَيه سلف الأمّة، ما اتَّفق عَلَيه الصدر الأوّل، والباطل المقطوع به: ما خالف هٰذا.
                          -وإن لَمْ يسبق هٰذا الاختلاف اتفاق؛ فلينظر هل هناك قول دلّ عَلَيه الدليل النقليّ دون غيره؟ فإن وَجَدَ قولًا دلّ عَلَيه الدليل النقليّ: فإنه يتمسك به ويَدَعُ ما سوى ذٰلك، وهٰذا معنى قول الفقهاء: «لا اجتهاد مع النص»، وهو قول الإمام الشافعي: «أَجَمَعَ الناس على أنّ من استبانتْ له سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يكن له أن يَدَعَها لقول أحدٍ من الناس كائنًا من كان».
                          -وإن كانت المسالة خلافية ولم يسبقها اتفاق، ولم يظهر دليل يقوِّي أحد الأقوال على غيره قوة ظاهرة، بل اشتبهت الأقوال على طالب العلم؛ فليسأل الله الهداية، ويسأل ربه أن يلهمه الحق فيما اختُلف فيه.
                          ولذلك قال الشيخ: «وإذا اشتبه عَلَيه مما قد اختلف فيه الناس فليَدْعُ بما رواه مسلم فِيْ صحيحه، عن عائشة –رَضِيَ اللهُ عَنْها- : أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول إذا قام يصلي من الليل» وهٰذا من أدعية الاستفتاح الَّتِي كان يستفتح بِهَا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ صلاة الليل «اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم». فيسأل طالب العلم ربه أن يهديه لما اختلف فيه من الحق، وأن يثبّته عَلَيه.
                          فإنّ الله -تعالى- قد قال فيما رواه عنه رسوله صلى الله عَلَيه وآله وسلم: «يا عبادي! كلُّكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني اهدكم»
                          وتقدّم أنّ هٰذا فِيْ صحيح مسلم، «فاستهدوني» اطلبوا هدايتي «أهدكم»، والهداية من الله كانت بالبيان، فالله قد هدانا إلى الحقِّ ببيان الأدلة، ومن استعصم بالدليل فقد تمسّك بسواء السبيل وعرف طريق الهداية، وقَدْ تَشتبِه الأدلة على طالب العلم فيسأل الله أن يهديَه إلى الحقِّ مما اختلف فيه أهل العِلم.
                          ولعلنا نقف هنا، وبقي القليل جدًّا ، غدًا -إن شاء الله- نقرأه، ونترك باقي الوقت غدًا –إن شاء الله- للأسئلة، لأنّ هناك أسئلة كثيرة وردت ولم نُجب عليها.


                          (10)
                          بسم الله الرحمٰن الرحيم
                          إنّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله.
                          ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾[ آل عمران:102].
                          ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾[ النساء:1].
                          ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾[ الأحزاب:71،70]. أما بعد:
                          فإنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فِيْ النار.
                          ثم أيها الفضلاء؛ إنّ الإنسان مدنيٌّ بطبعه يحبُّ الجليس والأنيس، والصاحب ساحِب، والمصاحِب ومقارِب.
                          وجليس الإنسان إمَّا أن يَكون جليسًا صالحًا، وإمَّا أن يَكون جليسًا سيّئًا، ولا ثلاث لهما، وكل واحد منهما لابد أن يؤثّر فِيْ جليسه تأثيرًا ظاهرًا يراه الناس ويُدركه من حوله.
                          يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك إمَّا أن يُحذِيَك، وإمَّا أن تبتاع منه، وإمَّا أن تجد منه ريحًا طيبة. ونافخ الكير إمَّا أن يَحرِق ثيابك، وإمَّا أن تجد منه ريحًا خبيثة».
                          الإنسان إن جالَس لابد أن يجالِس صالحًا او سيئًا، فمَثل الجليس الصالح كحامل المسك، وحامل المسك إن جالسته ستخرج بواحدٍ من أمور ثلاثة:
                          -إمَّا أن يُحذِيَك؛ أي يُهدِيَك طيبًا، وإن أهداك طيبًا فإنك ستتطيّب به، وإذا تطيّبتَ به، فإنّ الناس سيشمُّون رائحة الطيب منك.
                          - وإمّا أن تبتاع منه؛ أي تبتاع منه طيبًا، وإن ابتعتَ طيبًا فإنك ستتطيَّب به، وإن تطيّبتَ به سيشمُّ الناس رائحة الطيب منك.
                          - وإمَّا ان تجد من جلوسك فِيْ مجلسه ريحًا طيّبة من الأطياب، فإذا خرجتَ شمَّ الناس رائحة الطيب منك.
                          وترى يا عبد الله أنّ هٰذا كلّه أثرٌ ظاهر يُدركه الناس.
                          والمقصود: أنّ أثر الجليس الصالح فِيْ الإنسان يَظهر للعيان، ويُدركه الناس.
                          ونافخ الكير:
                          - إمّا أن يحرق ثيابك، يطير شَرار من النار فيَحرِق ثوبك، وإذا حُرِقَ الثوب ومشَيتَ به فإنّ الناس ترى هٰذا.
                          - وإمَّا أن تجد منه ريحًا خبيثة؛ من رائحة النار، فإذا خرجتَ شمّ الناس منك الرائحة الخبيثة، وأقول إنه يُشبه هٰذا فِيْ زماننا شارِب الدخان، فإنّ مجالِس شارب الدخان إمَّا أن يَحترِق ثوبه من هٰذا الدخان، ويرى الناس ذٰلك، وإمَّا أن يَخرُج بريحٍ خبيثة يشمها الناس منه، وقَدْ يُتَّهم أنه يشرب الدخان.
                          فمقصود نبينا صلى الله عَلَيه وسلم أن يُنبِّهك أيها المسلم المبارَك أنك لابد أن تجالِس، وأنّ مجالِسَك لابد أن يَكون صالحًا أو سيئًا، وأنّ مجالِسَك لابد أن يؤثّر فيك، وأنّ هٰذا الأثر لا يَكون مستتِرًا بل يَكون ظاهرًا يدركه الناس.
                          وقَدْ كان الناس قديمًا يُميِّزون الجليس الصالح من الجليس السيّئ، فالجليس الصالح تظهر عَلَيه آثار الديانة، والجليس السيئ يَظهر عَلَيه آثار الفسق، واليوم تشبّهت الناس، وأصبح الجليس السيِّء قد لا يُدرَك بالنظر.
                          والجليس السيِّء يا عبد الله إمّا أن يَكون داعيًا إلى الشهوات، وإمَّا ان يَكون داعيًا إلى الشبهات.
                          - والداعي إلى الشهوات أمرُه بيِّن؛ فإنه يظهر عَلَيه أثر الفسق، فمن علاماته:
                          ظهور أثر الفسق عَلَيه.
                          ومن علاماته:
                          -أنه إذا رأى منك إقبالًا على الآخرة حرص أن يردَّك إلى الدنيا.
                          -وإن رأى منك نشاطًا فِيْ العبادة حرص على أن يُثبّط من عزيمتك، إن رآك مقبلًا على الآخرة قال: لا تكن من المتشدّدين، كن مسلمًا عصرانيًّا، مسلمٌ يعيش عصره، ومقصودهم بمسلم يعيش عصره: أنه مسلم بالإسلام يرتكب المعاصي والآثام! لا تكن متشددًا ستُتَّهم بأنك إرهابي، إن أَعفَيتَ لحيتك إن قصّرتَ ثوبك إن أقبلتَ على عبادتك، حاوَلَ جاهدًا أن يَرُدَّك إلى أن تكون من أولاد الدنيا. وهٰذا أمره ظاهر بيِّن.
                          وأما الجليس السيء الآخر: وهو الذي يدعو إلى الشبهات. وهٰذا محلُّ إشكالٍ عند النظر؛ لأنّ مظهرَه مظهرُ الصالحين فِيْ غالب الحال، ولكنه يَدعو إلى غير سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                          ومن ملامح هٰذا الجليس السيّئ:
                          -أنه يُزهّدك فِيْ والدَيك وكبارك، يريد أن يُبعدك عن والدَيك، وأن يُبعدك عن الكبار؛ لأنّ للكبار حكمةً وإن لَمْ يكن له علم، فالكبير علَّمته السُّنون وتَعلَّم من الدنيا، فإن كنتَ ملتصِقًا به فإنك تتعلَّم من حكمته، ولو لَمْ يكن ذا علم.
                          فالجليس السيئ يَعلم أنّ والدَيك وأنّ كبارك حاجزٌ بينك وبين السقوط فِيْ براثنه، فيبدأ بأن يُزهّدك فِيْ والدَيك وفي بيت أهلك وفي الكبار من حولك، يقول: والداك فاسقان، والداك لا يحبان الدِّين، والداك والداك، حتى يصبح الشاب لا يحب أن يَدخل بيت أهله، وإذا دخل بيت أهله دخل كالأسد، إن سلّم فذاك حَسَن، وإلا فلا يسلّم، ثم يلوذ بغرفته، يرتاح قليلًا ثم يخرج مع من؟ مع الشباب مع الإخوة فِيْ الاستراحة.
                          والله ما عرفنا أصحاب المكر إلا يَسلكون هٰذا الطريق، يريدون أن يُبعِدوا الشاب عن الحكمة حتى لا يَكون ذاك حاجزًا بين افتراسهم له وبين هٰذا الشاب.
                          ولذلك يا عبد الله! إذا رأيتَ مجالِسًا يَحرص أن تزهد فِيْ والدَيك وأن تزهد فِيْ كبارك فاعلم أنّ فِيْ الأمر سوءا.
                          نعم قد يأتيك الناصح فيقول: عند أخطاء عند والدَيك؛ احرص على الصلة بهما والوصية والنصحية، خذ لهما أشرطة، خذ لهما كتبًا، انقل لهما كلام أهل العلم لعلهما أن يرتفعا بمقامها، هٰذا ممكن أن يَكون من الجليس الصالح.
                          لكن أن يأتيك ويُزهّدك فِيْ أهل بيتك يريد أن يَفصلك عن والدَيك وعن الكبار؛ فهٰذه من علامات الجليس السوء.
                          -والأمر الثاني: أن يُزهّدك فِيْ العلماء، الَّذِينَ شهد لهم أهل الأرض بأنهم أهل العلم الَّذِينَ يُرجَع إليهم، ويأخذ فِيْ ذٰلك أحد طريقَين:
                          إن رآك قابِلًا فِيْ الطعن فيهم؛ طعَنَ فيهم أصلًا، وقال: هؤلاء علماء سلاطين، هؤلاء علماء البغلة، هؤلاء أرضعوهم السلاطين حتى أشبَعوهم، هؤلاء هؤلاء هؤلاء؛ حتى تزهد فِيْ العلماء، فإذا زهدتَ فِيْ العلماء سقطتَ إلى من هُوَ على الماء، وإن سمّوه عالمًا، هُوَ على الماء لا سُنَّة عنده ولا خير عنده.
                          وإن رأَوا أنك لا ترضى بالطعن فِيْ العلماء قالواأنت صغير لا تفهم كلام العلماء، أنت لا تَفهم كلام الشيخ صالح الفوزان، أنت لا تَفهم كلام الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، أنت لا تَفهم كلام الشيخ صالح اللحيدان، أنت لا تَفهم كلام الشيخ عبد المحسن العبّاد، أنت لا تَفهم كلام الشيخ صالح السحيمي، هؤلاء كبار أكبر منك، تعلّم عند الصغار، الَّذِينَ لا يُشهَد لهم بالعلم ولا بالصفاء، فإذا تعلَّم عندهم انقطع عن الكبار ما يصل أبدًا.
                          فمن علامة الجليس السيئ فِيْ باب الشبهات أنه يحرص على أن تزهَد فِيْ العلماء الَّذِي اعتُرف لهم بالعلم.
                          -وأما الأمر الثالث: فهو أن يَكون حريصًا على ملء قلبك حقدًا على وليّ أمرك القائم، فيَحرص على أن تُبغِض وليّ امرك الَّذِي قام واستقام له الأمر، يَكذب عَلَيه ويُكبّر أخطاءه ويَحرص على أن يُظْلِمَ قلبك من جهته.
                          -وأما الأمر الرابع: فهو التزهيد فِيْ كتب العلماء والحثُّ على كتب غيرهم ممن لا يُعدّ من العلماء وممن عُرِفت أخطاؤه وكثُر زللـه، فتجده حريصًا على أن يُزهّدك فِيْ الكتب الموثوقة، من كتب السلف المتقدّمين أو كتب أتباعهم من المعاصرين، وتجده حريصًا على أن يدعوك أن تقرأ كتب فلان وفلان إمَّا ممن بيّن العلماء أنّ كتبهم مليئة بالأخطاء الشرعية بأنواعها، وإمَّا مما لا يُعدّ عند أهل العلم من أهل العلم.
                          فإذا وجدتَ جليسًا يُزهّدك فِيْ أهلك وكبارك، ويُزهّدك فِيْ علمائك الكبار، ويَحرص على أن يُظلِم قلبك فِيْ وليّ أمرك، ويَحرص على أن تَزهَد فِيْ الكتب النافعة؛ فاعلم أنه جليس سوء ففرّ منه كما تفرّ من الأسد.
                          واحرص على الجليس الصالح، الذي يَحرص على أن تَكون سبّاقًا إلى الخيرات، الَّذِي يَحرص على أن يَكون قلبك سليمًا مضيئًا مليئًا بالنور والهداية، الذي يَحرص على أن تعرف سنة حبيبك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن تلزمها، الَّذِي يدعوك إلى كلِّ أصلٍ شرعيٍّ ثبت فِيْ كتاب الله وفي سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي إذا رأى منك خللًا بادر إلى نصحك، وبادر إلى البيان لك؛ لتكون من أهل الخير.
                          وهٰذا الأمر دعاني للتنبيه إليه سؤالٌ وردني من أحد الناس، قال: يا شيخ ألحقتُ ابني بمجموعة من شبابٍ فِيْ استراحة، ظننتُ أنهم يَجتمعون على خير، لأنه يظهر عليهم الخير، فأصبح ابني الآن يتكلم بكلام غريب، يقول: ما رأيك فِيْ نظام المملكة؟ ما رأيك فِيْ الملك عبد الله؟ ما رأيك فِيْ الوزراء؟ هل يُحكَّم شرع الله فِيْ بلادنا؟ .. قال: فوجدتُ أشياء ما عهدناها نحن ولا سمعناها من العلماء ولا عرفناها من المشايخ! وبدأ يتغيّر حتى فِيْ صلاته، كان يصلي معي فِيْ المسجد الذي بجوارنا، أصبح لا يصلي فيه، يذهب إلى مسجد بعيد يقول: هٰذا المسجد فيه الشيخ الفلاني، هٰذا من علماء السلاطين.
                          وهٰذا لا شك أنه يقتضي من عباد الله فِيْ كل مكان وليس فِيْ هٰذه البلاد الحذر ممن يصيدون الشباب ويدلّونهم دلالة على غير ما فِيْ كتاب الله وفي سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والخير كلُّ الخير في أن ننتبه لأنفسنا وللشباب.
                          قراتُ كتابًا لأحدهم ملأه بالطعن فِيْ أهل العلم، هيأة كبار العلماء، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ ابن عثيمين، والشيخ أبو بكر جابر الجزائري، والشيخ عبد القادر شيبة الحمد.. ذكر عددًا من أسماء المشايخ الَّذِينَ عُرفوا بالتدريس والعلم، لا زال يطعن، لا زال يطعن، لا زال يطعن، يكذب، والله نعرف أنه يكذب، حتى وصل فِيْ نهاية الكتاب إلى مراده؛ قال: بقي أن يعرف الموحِّد أنّ هؤلاء لا يُرجَع إليهم فِيْ شَيْء!
                          سبحان الله وجدتُ أنه أيُصرِّح أثناء كلامه يقول: كلّما قلنا لهم شيئًا قالوا: ما بال ابن باز وابن عثيمين؟ فوجدوا أنّ هذين الجبلَين وأمثالهما من العلماء يكونون كالسور بينهم وبين سقوط الشباب فِيْ الفكر المنحرف، يقول بنص كلامه: كلّما قلنا للشباب شيئًا قالوا: ما بال ابن باز وابن عثيمين؛ لماذا لَمْ يقولوا بهٰذا القول؟
                          ولذلك ألّف كتابه قصدًا للطعن فيهم لعله أن يُسقطهم ويصل إلى النتيجة الَّتِي يريد؛ وهي ألا يرجع الشباب إليهم ،وإذا لَمْ يرجعوا إلى هؤلاء الجبال هؤلاء العلماء فإلى مَن يرجعون؟ سيرجعون إلى من يحمل الفكر المنحرف، الَّذِي والله لا يقود البلاد إلا إلى التكفير والتفجير والتدمير، ولا يَصلُح العبد به ولا يَصلُح البلد به. فهٰذا أمر ينبغي أن نتبّه له.
                          نحن أيها الإخوة، كنا نستمتع بسماع الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-، هٰذه الوصية الصغرى حجمًا العُظمى مقامًا، الَّتِي كان السبب فيها شيخٌ مبارَك من بلاد المغرب؛ أبي القاسم السّبتي المغربي، حيث سأل شيخ الإسلام –رحمه الله- أربعة أسألة، ما أعظمها!
                          -أن يوصيه بما يصلح له دينه ودنياه.
                          -وأن يبيّن له أفضل الأعمال بعد الفرائض.
                          -وأن يدله على أرجح المكاسب.
                          -وأن يرشده إلى كتاب ينفعه ويغنيه فِيْ علم الحديث وفي غيره من العلوم.
                          فأجابه شيخ الإسلام جوابًا مبنيًّا على قال الله قال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مبنيٌّ على الأصل الَّذِي لو عَقِلَتْه الأمّة وفهمته الأمّة لسلِمنا من كثير من الشرور ومن هٰذا السقوط الَّذِي يعيشه كثير من الناس؛ ألا وهو أنّ الخير كلَّه قد جُمِعَ فِيْ كتاب ربِّنا وفي سنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلسنا بحاجة إلى فكر مستورَد، ولسنا بحاجة إلى آراءَ للرجال، وإنما أمّتنا بحاجة لأن تفهم ما فِيْ كتاب الله ومَا فِيْ سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما فهمها سلف الأمّة -رضوان الله عليهم-، فإنه لن يُصلِح آخر هٰذه الأمّة إلا ما أَصلَح أوّلها.
                          فبدأ بالوصية بما يُصلِح الدِّين والدنيا: وهو أن يَحرِص المسلم على التقرُّب إلى الله بالصالحات، وعلى الرجوع إلى الله عند وقوع الخطأ والزَّلل؛ بالمكفّرات الماحيات للذنب، وعلى أن يخالق الناس بخُلق حَسن، ومَن عاش عاملًا للصالح، مصلِحًا للفاسد، مخالقًا الخَلق بخُلق حَسن؛ عاش سعيدًا فِيْ دنياه، ورُجيَ له المقام الطيب فِيْ أُخراه.
                          وأمّا أفضل الاعمال بعد الفرائض؛ فبيَّن شيخ الإسلام أنها بالنسبة لكل إنسان تختلف، ولا يمكن القول بأنّ الأفضل لكل إنسان كذا، ولكن ذكرنا موازين يَعرف بِهَا المسلم الأفضل من الأعمال.
                          -وأوّلها أشرفها وأكرمها و أبركها: مواظبة محمد بن عبد الله على العمل وحثّه حثًّا مؤكَّدًا عَلَيه، فهٰذا يدلّ على فضيلته، فإنّ محمدًا بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ السابق الَّذِي لَمْ يُسبَق، بل والله لن يُلحَق، بل يُتشبَّه به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                          -وثانيها: أن يَنظر العبد إلى ما يستطيع أن يداوم عَلَيه، فأحبُّ الأعمال إلى الله: ما دام وإن قلّ.
                          -وثالثها: أن يَنظر العبد إلى مناسبة العمل للوقت، فإذا جاءنا شهر محرَّم فمِن أفضل ما نجتهد فيه أن نصوم؛ فإنّ أحبَّ الصوم إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- بعد رمضان صوم شهر الله المحرَّم، فلابد من النظر إلى مناسبته إلى الوقت؛ قلنا: لوقت الفعل، ووقت الفاعل.
                          -والأمر الرابع: النظر إلى أثره فِيْ القلب، فما كان أعظم أثرًا فِيْ قلبك كان أفضل.
                          -والأمر الخامس: النظر إلى القدرة والعجز، فما تقدر عَلَيه فهو الأفضل فِيْ حقك، وأمّا ما تعجز عنه فهو ساقطٌ عنك لو كان واجبًا فكيف وهو نفل؟! فيكون الأفضل ما تستطيعه من الأَعْمَال، وإن كان الجنس فِيْ الأَعْمَال الأفضل منه ذكرُ لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- بعد الفرائض.
                          وأما أرجح المكاسب: فهو المال الحلال المبارَك الَّذِي يُقنَّع صاحبه به، ويكون ذٰلك للعبد بأن يتوكل على الله ويعتقد اعتقادًا جازمًا أنّ الله كافٍ عباده وأن يُحسِنَ ظنَّه بربه ويُكثِر الدعاء أن يرزقه الله من فضله، ويُكثر الطاعة، فإنّ المسلم إذا عمل الطاعة ادّخر الله له حسناته فِيْ الآخرة ورزقه -كرمًا منه وفضلًا- رزقًا فِيْ الدنيا لطاعته. وأفضل الأعمال ما كان من عمل اليد، ثم كلُّ إنسان بحسبه.
                          وأما العلم ومَا يُعتمَد عَلَيه من الكتب، فقد ذكر شيخ الإسلام وصيةً عظيمةً للمسلم، وهي أن يَكون همُّ المسلم: العلم الموروث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يَصدُّه عنه صادٌّ ، ولا يُزهِّده فيه مزهِّد، لأنه يعتقد اعتقادًا جازمًا أنّ الخير كله إنما جاء عن طريق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا علم أنّ هٰذا ما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ علم التَّوحِيد وعلِمَ أنه الَّذِي جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَا جاء غيره، فإنه يتمسّك به، جاءه الناس قالوا: وهّابي، يقول: لا، هٰذا دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جاءه الناس قالوا: غيّرت دينك فِيْ السعودية، هٰذا دين سعودي، يقول: هٰذا الثابت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يتمسّك به يَعَضُّ عَلَيه بالنواجذ؛ لأنه يرى أنه قد حصّل كنزًا، لو أفنى عمره كلَّه فِيْ أن يُحصِّل عُشْرَه لما كان خاسرًا أبدًا، فكيف وقَدْ حصَّله؟!
                          المسلم لأنه يحبُّ محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقًّا وصدقًا لا دعوى؛ يحبُّ العلم الوارد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويَتمسّك به.
                          ثم يَحرص على أن يفهم مراد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما قال أو فعل؛ لأنّ الاقتداء: أن تفعل ما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الوجه الَّذِي فعل من أجل ما فعل، فتحرص على أن تفهم المقصِد والمراد، فإذا علمتَ ذٰلك تمسّكت به، سواء فيما يتعلّق بحق الله أو بحق عباد الله.
                          وأحسِبُ أنّا وقفنا هنا، فيقرأ لنا الشيخ ياسين لنختم الوصية، فإنه لَمْ يبقَ فيها شَيْء يحتاج إلى كثير تعليق.
                          وأمّا وصْف الكتب والمصنِّفين؛ فقد سُمِع منّا فِيْ أثناء المذاكرة ما يسَّره الله-سبحانه-
                          شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- من أعلم الناس بالكتب والمؤلِّفين، إذا قرأتَ كلامه تتعجّب مما يورِده من المصنَّفات والكتب ومَا يذكره عن أحوال مؤلِّفيها؛ وذلك لأنّ الله رزقه سَعةً فِيْ العلم، وقَدْ كان فِيْ دروسه رحمه الله -وكثيرٌ منها جُمِعَ منه أجزاء فِيْ مجموع الفتاوى وفي غيره- تجد أنه يذكر الكتب، ويبيِّن النافع منها والضار، وأحوال المصنِّفين لَهَا، ولذلك قال هنا: « وأمّا وصْف الكتب والمصنِّفين؛ فقد سُمِع منّا فِيْ أثناء المذاكرة» يعني فِيْ أثناء الدروس «ما يسَّره الله سبحانه».
                          ومَا فِيْ الكتب المصنَّفة المبوَّبة كتابٌ أنفع من صحيح محمد بن إسماعيل البخاريّ
                          فهٰذا الكتاب أصحُّ كتاب على وجه الأرض أُلِّف، وهو أنفع كتاب كتبه آداميٌّ وألَّفه، ولا يُعرَف أنفع منه، وذلك لأنّ كاتبه فقيهٌ من فقهاء الأمّة، مُحدِّث متقِنٌّ، حافظٌ للأحاديث، اشترَط فِيْ كتابه أعلى شروطِ الصّحة على الإطلاق، ومَا كَتَبَ حديثًا حتى صلّى ركعتَين، وقَدْ أَجمَعتِ الأمّة على صحّة ما فِيْ هٰذا الكتاب العظيم، وهو كتاب نافعٌ فِيْ كلِّ أبواب العلم، فإنّ البخاريّ –رحمه الله- جعله على كتب العلم، وترجَم له تراجم فقهيّة نافعة.
                          فِيْ العقيدة يجد طالب العلم النفع الكثير، ولذلك مرّةً أحد الإخوة قال: يا شيخ أهلنا فِيْ البلد لا يرضَون أن نقرأ لهم كتب العقائد! قلتُ له: اقرأ لهم صحيح البخاري، كلُّ المسلمين يُسلّمون الراية لصحيح البخاري وليكن همّك أولًا أن تُسمِعهم الأحاديث فيما يتعلّق بالعقيدة والأصول الكليّة، ثم بعد ذٰلك أَسمِعهم شروحًا للعلماء ليست لك، منتقاة؛ تَكون قد علّمتهم العقيدة.
                          ليس تعليم العقيدة خاصًّا بالكتب المؤلَّفة باسم العقيدة، بل كتب السنة الصحيحة الثابتة فيها خيرٌ كثيرٌ وتعليمٌ للعقيدة.
                          فِيْ الفقه؛ من أنفع الكتب لطالب العلم فِيْ الفقه هٰذا الكتاب العظيم كتاب الإمام البخاري. فِيْ السيرة، فِيْ الفضائل، فِيْ الرغائب، فِيْ جميع ما يُحتاج إليه فِيْ العلم؛ يُنتَفع بهٰذا الكتاب.
                          لكنه عملٌ لبشر، ومَا كان لبشريٍّ أن يُحيط بالحقِّ كلِّه إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأبو بكر الصديق –رضي الله عنه- وهو أعلى الأمّة وأعلم الأمّة بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاتته أحاديث كثيرة، وكذا عمر –رضي الله عنه-، وغيرهما من صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهٰذا نبّه شيخ الإسلام –رحمه الله- على هٰذه القضية بقوله:
                          لكن هُوَ وحده لا يقوم بأصول العلم، ولا يقوم بتمام المقصود للمتبحّر فِيْ أبواب العلم، إذ لابد من معرفة أحاديث أُخَر، وكلام أهل العلم فِيْ الأمور الَّتِي يَختصُّ بعلمها بعض العلماء
                          بمعنى أنّ طالب العلم الَّذِي يريد أن يتبحّر فِيْ العلم لا يَقصُر نفسه على شيخ واحد ولو كان البخاريّ، ولو كان بعلم البخاريّ، ولكنه يأخذ من شيخه ما يُتقنه، ويضيف إلى علم شيخه علم الأشياخ الأثبات بطريقة مرتّبة صحيحة.
                          وأحيانًا يحصل تزاحمٌ للدروس؛ تَكون فِيْ وقت واحد، فيحتار طالب العلم، مثلًا قد يكون درس الشيخ عبد المحسن البدر ودرس الشيخ صالح السحيمي فِيْ وقت واحد، وهناك طريقة كان يفعلها طلاب العلم فِيْ هٰذا المسجد أيام كان يُدرِّس فِيْ هٰذا المسجد أعلام كبار؛ الشيخ ابن باز، الشيخ الأمين، الشيخ الألباني، الشيخ عبد الرحمٰن الأفريقي، وعدد كبير من العلماء، وكانت دروسهم تقريبًا فِيْ وقت واحد، فكان بعض طلاب العلم يَقتَسمون الدروس، أربعة خمسة عند الشيخ فلان، ثلاثة كذا عند الشيخ فلان، بعد العشاء يَجتمعون، ما سجلتم من فوائد عند الشيخ ابن باز –رحمه الله رحمة واسعة أعلى درجته فِيْ الجنة-؟ والله اليوم استفدنا كذا وكذا ؛قيَّدوه، ماذا استفدتم من الشيخ الأمين؟ إمام الدنيا فِيْ وقته فِيْ التفسير، الفقيه الأصولي، السلفي حقًّا وصدقً، صاحب أضواء البيان، ماذا استفدتم من فوائده؟ كذا وكذا وكذا؛ قيَّد الجميع، ماذا استفدتم من فوائد فلان وفلان وفلان، على حسب تقسيمهم، فلا يَخرجون من المسجد إلا وقَدْ علَّقوا فوائد الجميع. وهٰذا أحسن من التسجيل لانّ فيه مدارسة بين طلاب العلم.
                          وسبحان الله يا طالب العلم والله والله ما وجدتُ أبرَك للعلم من أن تنفع به غيرك، إن أردتَ أن يُبارَك لك فِيْ العلم وأن يَثبُت وأن تنتفع به فابذله ولا تبخل به، والله تجد بركة عجيبة وتجد ثباتًا عجيبًا.
                          وطريقة المدارسة بين طلاب العلم مثبّتة للعلم، وأحيانًا تغيب عنك المسألة فتتذكرها بكلام أخيك، يقع بينكما بعض المراجعة فِيْ المسألة؛ فتتذكّر المسألة بتلك المراجعة، وهٰذا من أنفع ما يَكون.
                          إذا كان البخل مذمومًا فبخل طالب العلم بالعلم أذمّ، وإن حصّلت فائدة فابذُلها؛ يُبارَك لك فيها وتنتفع بِهَا وتَثبُتُ إن شاء الله، عَزَّ وَجَلَّ.
                          [وقَدْ أَوعَبَت الأمّة فِيْ كل فنٍّ من كل فنون العلم إعابًا، فمن نوّر الله قلبه هداه بما يَبلُغه من ذٰلك، ومن أعماه لَمْ تزده كثرة الكتب إلا حَيرَة وضلالًا؛ كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي لبيد الانصاريّ رضي الله عنه- : «أوليس فِيْ التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى؟ فماذا تُغني عنهم؟!»
                          الله أكبر! «وقَدْ أَوعَبَت الأمّة فِيْ كل فنٍّ من كل فنون العلم إعابًا» أي كتب علماء الإسلام فِيْ فنون العلوم النافعة كتب كثيرة، وهي موجودة ومشتهرة، ولكنّ الشأن كل الشأن: ما أثر هٰذه الكتب على الإنسان؟
                          ليس الشأن أن تعرف الكتب، بل وليس الشأن أن تحفظ الكتب، ولكنّ الشأن: ما أثر هٰذه الكتب عليك؟
                          وهٰذا الأثر لا يَكون خيرًا وبركة إلا بعون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، ولذلك نبّه الشيخ إلى هٰذه القضية العظيمة؛ وهي: أنّ من «نوّر الله قلبه هداه بما يَبلُغه من ذٰلك» ما يَبْلغه من كتب أهل العلم الأثبات يهديه الله به إن نوّر قلبه، ومن أعماه لَمْ تزده كثرة الكتب إلا حَيرَة وضلالًا وغواية.
                          الآن فِيْ وسائل الاتصال الحديثة فِيْ الشبكة العنكبوتية؛ يأتي أشخاص وقَدْ وضعوا خلفهم كتبًا كثيرة، ويأتي يأخذ الواحد منهم كتابًا من الكتب ويقرأ ثم لا تجد همّه إلا أن يَنقُضَ أصول السنة، كل ما يُقرِّره أن يَنقُضَ أصول السنة الَّتِي أجمع عليها أهل السنة، والله ما زادته الكتب إلا حَيرَة وضلالًا.
                          وإنك تجد بعض الدكاترة تجد أنّ العوامّ خيرٌ منهم، فالعاميّ تجده على عقيدة طيبة، وتجد الدكتور مسكين ما زادتهم الدكتوراة إلا جهلًا وضلالًا فاضحًا!
                          كثيرٌ من الناس قرؤوا كتبًا فأصبحوا طُبولًا، الطبل كبيرٌ حجمه، عالٍ صوته، لكن لا شَيْء تحت جلده، لو شَققتَ الجلد ما وجدتَ إلا هواء فارغًا. وبعض من يُنصَّبون اليوم لو شققتَ جلده ما وجدتَ إلا هواء فاسدًا.
                          فالعبرة بهداية الله للعبد، أن يهدي الله عبده وأن ينوّر قلبه.
                          والله زرتُ احد البلدان فركبتُ مع سائق أجرة، وإذا بالرجل سائقُ أجرةٍ عاميّ يتكلَّم بالسنة والتَّوحِيد ما شاء الله تبارك الله! دخلتُ المسجد لأصليَ الجمعة، وإذا بشيخ معمَّم يخطب، والله لو كان لي سلطة لأنزلتُه من على المنبر، لا يجوز أن يتكلم فِيْ الدين.
                          فالعبرة بهداية الله، فلذلك الموفّق من عباد الله من يلجأ إلى الله دائمًا: اللهم اهدني اللهم نوّر قلبي، ويلزم الطرق الصحيحة فِيْ هٰذا الباب.
                          ولذلك يقول الشيخ: «كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي لَبيد» كما سمعنا فِيْ قراءة الشيخ ياسين وفي النُّسخ الَّتِي معنا، وفي بعض النُّسخ «لابن لَبيد» وهٰذا الصواب، أنه ابن لَبيد، وليس أبا لبيد كما فِيْ أكثر النُّسخ، لكن فِيْ بعض النُّسخ «لابن لبيد» وهٰذا هُوَ الموافِق لما ورد فِيْ الحديث.
                          جاء أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «هٰذا أوانٌ يُختَلَس العِلم» يعني اقترب الوقت الَّذِي يُختَلس فيه العلم ويُرفَع فِيْه العلم، قال: «هٰذا أوانٌ يُختَلس العِلم من الناس حتى لا يَقدِروا منه على شَيْء»، والمقصود اقتراب هٰذا الزمان، ولا شك أنه فِيْ آخر الزمان يُرفَع العِلم بموت العلماء، حتى يتّخذ الناس رؤوسًا جُهّالًا فيُفتُون بغير عِلم ولا سُنَّة ولا هدىً؛ فيكونون ضُلَّالًا، ويُضلُّون الناس بهٰذا.
                          قال صلى الله عليه وسلم: « هٰذا أوانٌ يُختَلس العِلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شَيْء»، قال زياد ابن لبيد الأنصاري –رضي الله عنه-: كيف يُختَلس منّا وقَدْ قرأنا القرآن؟ فو الله لنَقرأنّه ولنُقرِئنّه نساءنا وأبناءنا»! ابن لبيد قال: كيف يُختَلس العِلم ونحن –بحمد الله- قرأنا القرآن ووالله لن نُفرِّط؛ سنقرأه ونُقرئه حتى النساء وحتى الأطفال، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثكلتك أمّك يا زياد! إن كنتُ لأعدُّك من فقهاء أهل المدينة -لأنه أنصاري- هٰذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؟! » ما أغنتْ عنهم شيئًا، لمّا لَمْ يحفظها الله فبُدِّلت وغُيِّرت، ولم يحفظ الله عليهم دينهم حرَّفوا وبدّلوا وأصبحوا مشركين. وهٰذا الحديث رواه الترمذي وقال: حسن غريب، وصحَّحه الألباني.
                          والمقصود، أنّ التوراة والانجيل لَمْ تنفعهم، لماذا لَمْ تنفعهم؟ لأمرين:
                          الأمر الأوّل: أنها لَمْ تُحفَظ لهم؛ فحرّفوها.
                          والأمر الثاني: أنهم مع تحريفهم لَهَا لَمْ يَعملوا بِهَا، فما لَمْ يُحرَّف منها لَمْ يعملوا به. ولذلك جاء عند ابن ماجة: «أوليس هٰذه اليهود والنصارى يَقرؤون التوراة والإنجيل ولا يَعملون بشيء مما فيهما؟!».
                          إذن كيف يُختَلس العلم من الأمّة؟ فِيْ ثلاثة أمور:
                          الأمر الأوّل: موت العلماء. فإذا مات العلماء قلّ العلم.
                          الأمر الثاني: الانصراف عما فِيْ الكتاب والسنة وطلب الهداية بغيرهما، وهٰذا -نعوذ بالله- كثر فِيْ زماننا.
                          كثيرٌ ممن يقال عليهم إنهم مستقيمون، لا يَلتمسون الهدى فِيْ آية أ وسنة، وإنما هم أتباعٌ للشيخ، إن اهتدى اهتدَوا وإن ضلَّ ضلُّوا، فأعرَضوا عن سبيل الهداية وهو ما فِيْ الكتاب والسنة، واتّخذوا رجالًا يَتْبعونهم، ولذلك تجد جماعات لا يَسمحون بقراءة الكتب الَّتِي فيها قال الله قال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما كتب فيها أحاديث ضعيفة وموضوعة، وتجد جماعات لا تهتدي بآيات من القرآن أو أحاديث من السنة وإنما أصول الشيخ تُحفَظ.
                          حتى قال لي أحدهم -وهومن كبارهم- قال: صلى بنا أحدهم، فلمّا فرغ؛ قلتُ له: يا أخي لماذا لَمْ تعمل السنة كذا؟ قال: ألم يقل الشيخ نجتمع على ما تّفقنا عَلَيه ويَعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه؟ هٰذا الدليل والحجة! فيقول هٰذا الشيخ الَّذِي يحدّثني: قلتُ له: بلى، ولكن هٰذا لا يخالف كلام الشيخ، سبحان الله! نترك أن نهتدي بكتاب الله وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أصول يضعها رجال لا نعرضها على الكتاب والسنة؟!
                          فهٰذا الأمر الثاني من أسباب اختلاس العلم واندراس العلم: أن نُعرِض عما فِيْ الكتاب والسنة إلى الاهتداء بغير ما ورد فِيْ الكتاب والسنة.
                          وأمّا الأمر الثالث: فهو عدم العمل بالعلم. وهٰذه من آفات الزمان، نُكثِر الحُجج على أنفسنا ولا نعمل، نتعلّم ولا نعمل، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «مررتُ ليلة أُسريَ بي بأقوامٍ تُقرَض شفاههم بمقاريض من نار، فقلتُ: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمّتك الَّذِينَ يقولون ما لا يفعلون، ويقرؤون القرآن ولا يعملون به».
                          إذن كيف يُختَلس العلم منّا؟ كيف يذهب العلم عنا؟ بثلاثة أمور، يجب أن ننتبه لَهَا حتى نحذرها:
                          الأمر الأوّل: موت العلماء، بحيث لا يَخلِف العالمَ عالِم ، وإلا العلماء يموتون من زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكنهم يورّثون العِلم، ويَخلف العالِم عالِمٌ لكن إذا زهدنا فِيْ العلماء ما نتعلّم منهم، يموت العالِم ما يأتي أحدٌ بعده؛ هنا يُختَلس منا العلم.
                          فينبغي أن نحرص على علم علمائنا، إذا جلست مع العالم احرص على أن تأخذ منه الدُّرر، لا تُشغل نفسك بما لا خير فيه، تسأل الشيخ هٰذا السؤال، وتذهب للشيخ الثاني تسأله نفس السؤال، وتذهب للشيخ الثالث تسأله نفس السؤال، بعد سنة تأتي من بلدك من بعيد تزور الشيخ تسأله نفس السؤال! يا أخي علمتَ اعمل، استخرِج الدُّرر من المشايخ والعلماء، حتى إذا مات العالم خَلَفَه عالم، على الأقلّ يَكون عندنا مجموعة يُشكّلون عالمًا من العلماء.
                          والأمر الثاني: الإعراض عن الاهتداء بالقرآن والسنة إلى غيرهما. فيظهر الجهل المركّب، علماء بلا علم، علماء -يُسمَّون علماء- بلا علم، فيدلُّون الناس على الجهل، وينتقدون العلم للأسف، ويُصدِّرون فتاوى فِيْ نقض فتاوى العلماء.
                          والأمر الثالث: بأن لا نعمل بالعلم.
                          إذن لا نزال بخير ما بقي العلم فينا، ويبقى العلم فينا ما أقبلنا على علمائنا، واهتدينا بكتاب ربنا وسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعلَيناهما فوق كل شَيْء، وحكمنا على شَيْء بهما، ومَا عملنا بالعلم. فلنحرص يا فضلاء على هٰذا الأمر العظيم.
                          ونسأل الله العظيم أن يرزقنا الهدى والسداد، ويُلهمنا رُشْدنا، ويَقينا شر أنفسنا، وأن لا يُزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا من لدنه رحمة، إنه هُوَ الوهّاب. والحمد لله رب العالمين، وصلواته على أشرف المرسلين
                          وبهذا نكون قد فرغنا من شرح الوصية الصغرى، شرحًا أرجو الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يَكون شرحًا نافعًا لقائله، نافعًا لسامعه، وأن يَكون سببًا لفَهم كلام هٰذا العالِم الناصح للأمّة، رحمه الله رحمة واسعة. وصلى الله وسلم على نبينا وسلّم.

                          انتهى
                          كتبه أخوكم شـرف الدين بن امحمد بن بـوزيان تيـغزة

                          يقول الشيخ عبد السلام بن برجس رحمه الله في رسالته - عوائق الطلب -(فـيا من آنس من نفسه علامة النبوغ والذكاء لا تبغ عن العلم بدلا ، ولا تشتغل بسواه أبدا ، فإن أبيت فأجبر الله عزاءك في نفسك،وأعظم أجر المسلمين فـيك،مــا أشد خسارتك،وأعظم مصيبتك)

                          تعليق


                          • #14
                            رد: شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شرح فضيلة الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله

                            الملف المرفق هو تفسير شيخ الإسلام لقوله تعالى: {وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم}... وليس الوصية الصغرى... والله أعلم...

                            تعليق


                            • #15
                              رد: شرح الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شرح فضيلة الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله

                              جزاك الله خيرًا أخي أبا محمد على التّنبيه، والخطأ مني ومن المصدر الّذي نقلتُ منه؛ فكان ينبغي النّظر في محتوى الملف قبل النّشر، وتمّ التّعديل.
                              وها هو رابط المصدر لعلّه يتمّ التّنبيه للإخوة المشرفين ليُعدّل في عنوان الملف.