إعـــــــلان

تقليص
1 من 3 < >

تحميل التطبيق الرسمي لموسوعة الآجري

2 من 3 < >

الإبلاغ عن مشكلة في المنتدى

تساعدنا البلاغات الواردة من الأعضاء على منتدى الآجري في تحديد المشكلات وإصلاحها في حالة توقف شيء ما عن العمل بشكل صحيح.
ونحن نقدّر الوقت الذي تستغرقه لتزويدنا بالمعلومات عبر مراسلتنا على بريد الموقع ajurryadmin@gmail.com
3 من 3 < >

فهرسة جميع الشروح المتوفرة على شبكة الإمام الآجري [مبوبة على حسب الفنون] أدخل يا طالب العلم وانهل من مكتبتك العلمية

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه - وعلى آله ومن ولاه وبعد :

فرغبة منا في تيسير العلم واشاعته بين طلابه سعينا لتوفير جميع المتون وشروحها المهمة لتكوين طلبة العلم ، وقد قطعنا شوطا لابأس به في ذلك ولله الحمد والمنة وحده ، إلا أنه إلى الآن يعاني بعض الأعضاء والزوار من بعض الصعوبات في الوصول للشروح والمتون المرادة لتداخل الشروح أو لقلة الخبرة التقنية .

من أجل هذا وذاك جاء هذا الموضوع ليكون موضوعا مرجعا جامعا مرتبا بإذن الله لكل المواد العلمية الموضوعة حاليا في شبكتنا ومرتبا على حسب أبواب الفنون العلمية (العقيدة، الفقه، الحديث،...)وسنحاول أيضا ترتيبها على مستويات الطلب (المبتدئ ، المتوسط ، المنتهي) سيتم تحديثه تبعا بعد إضافة أي شرح جديد .

من هـــــــــــنا
شاهد أكثر
شاهد أقل

تراجم ثلاثة علماء -ابن باز وابن عثيمين وعمر بن محمد فلاتة -رحمهم الله- بقلم العلامة عبد المحسن العباد البدر حفظه

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تراجم ثلاثة علماء -ابن باز وابن عثيمين وعمر بن محمد فلاتة -رحمهم الله- بقلم العلامة عبد المحسن العباد البدر حفظه

    ثلاث محاضرات عن المشايخ للعلامة عبد المحسن العباد البدر حفظه الله نسال الله ان ينفع بها الجميع

    عبد العزيز بن عبد الله بن باز
    محمد بن صالح بن عثيمين
    عمر بن محمد فلاتة
    رحمهم الله


    ألقاها في الجامعة الإسلامية بالمدينة
    عبد المحسن بن حمد العباد البدر


    الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله
    نموذج من الرعيل الأول




    محاضرة ألقاها
    عبد المحسن بن حمد العباد البدر
    في الجامعة الإسلامية




    الحمدُ لله نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلاّ اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبدُه ورسولُه، وخليلُه وخيرتُه من خَلْقِه، أرسلهُ اللهُ تعالى بين يدي السّاعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فدلَّ أمّتَهُ على كلِّ خير، وحذّرها من كلِّ شرّ، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سلكَ سبيلَهُ واهتدى بهديه إلى يوم الدِّين.
    أمّا بعدُ:
    أيُّها الإخوةُ، إنّ حديثي معكم هذه اللّيلة( ) في شخصٍ عرفهُ الخاصُّ والعامُّ، عرفتْهُ الدُّنيا مسلمُها وكافرُها، رجلٌ ـ فيما أحسبُ ـ أكبرُ شخصيّةٍ علميّةٍ في هذا العصر، يذكّرنا بما كان عليه سلفُ هذه الأمّة من العلماء العاملين والهداة المصلحين من غزارة علم، وكرم أخلاق، وسعة اطّلاع، وعموم نفع ونصح للإسلام والمسلمين، وهو بحقّ نموذج من الرّعيل الأوّل.
    وهو سماحةُ الإمام العَلاّمة، المحدِّث الفقيه، شيخ الإسلام، ومفتي الأنام، مجدِّد القرن الخامس عشر، الشّيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، رحمه اللهُ وغفرَ له، ولن آتي بشيءٍ جديدٍ لا يعرفُه النّاسُ، فموضوعُ الحديث معروفٌ لدى الخاصِّ والعامِّ، ولكن أحببتُ أن أُدْلِيَ بدَلْوي مع الدِّلاء، وأن أذكُرَ شيئاً ممّا يتعلّقُ بهذا الرّجُل العظيم، ولكي تكون المعلوماتُ عن هذا الرّجُل العظيم محصورةً فأنا أوجزُها في عشر نقاطٍ وهي:
    أوّلاً: نسبُه، وولادتُه، ونشأتُه.
    ثانياً: شيوخُه وتلاميذُه.
    ثالثاً: أعمالُه التي تولاّها.
    رابعاً: علمُه.
    خامساً: عمومُ نفعِه.
    سادساً: عبادتُه.
    سابعاً: مؤلّفاتُه.
    ثامناً: صلتي الخاصّةُ به.
    تاسعاً: وفاتُه، وعَقِبُهُ، ومَنْ خَلَفَهُ.
    عاشراً: أمنيّاتٌ ومقترحاتٌ.
    هذه هي النِّقاطُ التي سيدورُ حولها الكلامُ عن هذا الرّجل الإمام العظيم رحمه الله.
    أوّلاً: أقولُ ـ كما أسلفتُ ـ:
    هو الإمامُ العلاّمةُ، المحدِّثُ الفقيهُ، شيخُ الإسلام، مفتي الأنام، مجدِّدُ القرن الخامس عشر، الشّيخُ عبدُ العزيز بن عبد الله بن عبد الرّحمن بن محمّد بن عبد الله آل باز.
    وُلد في مدينة الرّياض في اليوم الثّاني عشر من الشّهر الثّاني عشر من عام ثلاثين بعد الثّلاثمائة والألف.
    ونشأَ في أسرةٍ كريمةٍ فيها أهلُ علمٍ وفضلٍ، وكان رحمه الله منذ نشأته ذا همّةٍ عاليةٍ، وحرصٍ على تحصيل العلم، وجِدٍّ فيه، وقد حفظ القرآنَ قبل البلوغ، وكان رحمه اللهُ بصيراً، وحصلَ له مرضٌ في السَّنَة السّادسة عشرة من عُمُرِه، ضعفَ فيها بصرُه، وأخذَ في الضَّعْفِ حتّى انتهى تماماً في سنِّ العشرين، ولكنّ الله عزّ وجلّ عوّضهُ بصيرةً في قلبِه، ونُوراً وإيماناً، فنشأ على علمٍ وفضلٍ، وجِدٍّ واجتهادٍ في تحصيل العلم، حتّى نبغَ في سنٍّ مبكِّرةٍ رحمه الله.
    ثانياً: أمّا شيوخُه الذين أخذَ عنهم العلمَ فمنهم
    الشّيخُ محمّد بن عبد اللّطيف بن عبد الرّحمن بن حسن بن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب رحمةُ الله على الجميع.
    والشّيخُ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرّحمن ابن حسن قاضي الرّياض.
    والشّيخُ سعد بن حَمَد بن عَتيق قاضي الرّياض.
    والشّيخُ حَمَد بن فارس وكيل بيت المال.
    والشّيخُ سعد وَقّاص البخاريُّ أخذ عنه علمَ التّجويد في مكّة المكرّمة في سنة خمسٍ وخمسين وثلاثمائة وألف.
    أمّا شيخُه الذي تتلمذَ عليه كثيراً، والذي لازمه سنينَ طويلةً، واستفادَ من علمِه، فهو سماحةُ الشّيخ محمّد بن إبراهيم بن عبد اللّطيف بن عبد الرّحمن ابن حسن بن الشّيخ الإمام محمّد بن عبد الوهّاب رحمةُ الله على الجميع، فقد دَرَسَ عليه العلومَ الكثيرةَ المتنوّعة، واستفادَ من علمه كثيراً، وكان رحمه اللهُ يُجِلُّ شيخَهُ، ويثني عليه، ويدعُو له كثيراً، رحمةُ الله على الجميع، فهؤلاء هم أبرزُ شيوخه.
    أمّا تلاميذُه:
    فهم كثيرون يصعبُ عدُّهم، وأستطيعُ أن أقولَ: إنّ الغالبيّةَ العظمى من القُضاة وأساتذة الجامعات في الكليّات الشّرعيّة، وكذلك في كثيرٍ من المعاهد والمدارس هم تلاميذُه أو تلاميذُ تلاميذِه، أو تلاميذُ تلاميذِ تلاميذِه، بل إنّ الأفواجَ الخمسةَ الأُولى الذين تخرّجُوا من كليّة الشّريعة في الرّياض، وهم الفوجُ الأوّلُ الذي تخرّج في عام ستّةٍ وسبعين وثلاثمائة وألف، وكذلك الأفواجُ التي تلتهُم، وآخرُها الفوجُ الذي تخرّج سنة ثمانين وثلاثمائة وألف، وهي السَّنَةُ التي تسبقُ انتقالَهُ إلى الجامعة الإسلاميّة حيث كان يدرِّسُ في كليّة الشّريعة، فهذه الأفواجُ الخمسةُ هم تلاميذُه مباشرةً، أخذُوا عنه مباشرةً، وأوّلُ فوجٍ تخرّجَ وأخذَ عنه العلمَ هو الذي تخرّج في عام ستّةٍ وسبعين وثلاثمائة وألف، ومن حين تخرّجُوا وهم إمّا في تدريسٍ وإمّا في قضاءٍ، ومن أخذَ عن هؤلاء المدرّسين هم تلاميذُ تلاميذِه، وكذلك الشّأنُ في الأفواج الأربعة الأخرى. وهكذا فيكون الكثيرُ من القُضاة والمدرِّسين في الجامعات وفي غيرها في العلوم الشّرعيّة هم ـ كما قلتُ ـ إمّا من تلاميذِه، أو تلاميذِ تلاميذِه، أو تلاميذِ تلاميذِ تلاميذِه.
    وقد كان من فضل الله عزّ وجلّ عَلَيَّ أن كنتُ من تلاميذه الذين هم في الفوج الرّابع من الأفواج الخمسة الذين أخذُوا عن الشّيخ رحمه الله وغفرَ له.
    وبعد انتقاله من المدينة إلى الرّياض كان له دروسٌ في جامع الإمام تركي بن عبد الله، وفي أحد المساجد القريبة من منزله، وأخذ عنه العلم فيها كثيرون من أساتذة الجامعات وغيرهم، فهؤلاء أيضاً من تلاميذه الذين أخذُوا عنه العلمَ.
    ثالثاً: الأعمالُ التي تولاّها
    أوّلُ عملٍ أُسند إليه القضاءُ في الخَرْجِ، وكان ذلك في شهر جُمادى الآخرة من عام سبعةٍ وخمسين وثلاثمائة وألفٍ، أي وهو في السّابعة والعشرين من عمره رحمه الله، واستمرّ في القضاء في الخَرْجِ إلى نهاية عام واحدٍ وسبعين وثلاثمائة وألفٍ.
    ثمّ بعد ذلك انتقلَ إلى التّدريس في معهد الرّياض العلميّ، وكذلك في كليّة الشّريعة بعد إنشائها، واستمرّ في هذا العمل إلى نهاية عام ثمانين وثلاثمائة وألفٍ حيث فُتحت الجامعةُ الإسلاميّةُ في أوّل عام واحدٍ وثمانين وثلاثمائة وألف، وكان هو المباشرُ لإنشائها وتأسيسها نائباً لرئيسها سماحة المُفتي الشّيخ محمّد بن إبراهيم رحمه الله.
    واستمرّ في الجامعة من العاشر من شهر ربيع الأوّل من سنة واحدٍ وثمانين وثلاثمائة وألفٍ إلى الرّابع عشر من شهر شوّال من سنة خمسٍ وتسعين وثلاثمائة وألفٍ، أي أنّه مكثَ فيها خمسةَ عشرَ عاماً.
    ثمّ انتقلَ إلى رئاسة إدارة البحوث العلميّة والإفتاء والدّعوة والإرشاد واستمرّ فيها، وفي عام أربعة عشر وأربعمائة بعد الألف عُيِّن مفتياً عامّاً للملكة، ورئيساً لهيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلميّة والإفتاء.
    وبالإضافة إلى ذلك كان يقومُ برئاسة المجلس التّأسيسي لرابطة العالَم الإسلامي، ورئاسة المجلس الأعلى العالمي للمساجد، ويقومُ أيضاً برئاسة المجمع الفقهي التّابع لرابطة العالَم الإسلامي، وأيضاً بعد انتقاله عن الجامعة صارَ عضواً في مجلسها الأعلى، وكان رئيسُها الأعلى خادمُ الحرمين الشّريفين حفظهُ اللهُ، وكان إذا غابَ عن الجَلَسات يُنيبُ سماحةَ الشّيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
    رابعاً: علمُه
    كان رحمه الله عالماً كبيراً كما يعرفُ ذلك الخاصُّ والعامُّ، وكان عالماً ربّانيّاً، وقد نقلَ الحافظُ ابن حجر في فتح الباري عن ابن الأعرابي أنّه قال: لا يُقال للعالِم ربّانيّ حتّى يكون عالِماً عاملاً مُعلِّماً.
    وقد كان كذلك فهو عالِمٌ وعاملٌ ومعلِّمٌ، وداعيةٌ إلى الله عزّ وجلّ على بصيرةٍ رحمه الله.
    وكان إماماً في الدِّين، وقد قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: بالصّبر واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدِّين، قال اللهُ عزّ وجلّ:             .
    وكان رحمه الله عالِماً بالحديث والفقه، له عنايةٌ بالدّليل، وحرصٌ على الرُّجوع إلى الأدلّة والتّمسُّك بها، والحثِّ على سلوك هذا المسلك، فكان معنيّاً بالحديث، ومعرفة صحيحه وضعيفه، ورجاله، ومن يُتكلَّمُ فيه منهم، وكان في فتاواه وفي دروسه يذكرُ ذلك فيقول: الحديثُ الفلانيُّ صحيحٌ، أو ضعيفٌ؛ لأنّ في سنده فلاناً، أو أنّه منقطعٌ، أو أنّه مرسلٌ، أو أنّه كذا، أو أنّه كذا.
    وكان معنيّاً بالفقه رحمه الله، وهو المرجعُ في الفتوى في داخل المملكة وخارجها، وهو مفتي الأنام كما ذكرتُ، يرجعُ النّاسُ إليه في مختلف المسائل.
    وكان يُعنى بذِكْرِ القول أو الحكم مقروناً بدليله، وبيان وجهه، سواءً كان من المنقول أو من المعقول، رحمه اللهُ.
    وكان رحمه اللهُ في تعقّبه على القول الذي يرى أنّه خلافُ الصّواب في غاية الأدب مع أهل العلم، فيقول: هذا القولُ فيه نظرٌ، والصّوابُ هو كذا وكذا، ومن يطّلع على حاشيته على فتح الباري التي تقع في الثّلاثة المجلّدات الأُولى يجد ذلك واضحاً جليّاً، فإنّه عندما يتعقّبُ الحافظَ ابن حجرٍ أو من ينقل عنه في بعض المسائل يبدأُ بقوله: هذا القولُ فيه نظرٌ، والصّوابُ هو كذا وكذا، ويذكرُ الدّليلَ على ذلك، أمّا إذا كان القولُ ساقطاً أو باطلاً ظاهرَ البطلان مجانباً للحقِّ ومخالفاً للدّليل فإنّه يقول: هذا القولُ ظاهرُ البطلان، أو هذا القولُ غيرُ صحيحٍ، أو لا يصحُّ، قولٌ باطلٌ، أو ما إلى ذلك من العبارات.
    وكان رحمه الله قد حصلَ له سؤددٌ في العلم، ومنزلةٌ عاليةٌ، ومكانةٌ رفيعةٌ، يشهدُ بذلك الخاصُّ والعامُّ، ولم يحصل هذا السُّؤدد من فراغٍ وإخلادٍ إلى الرّاحة، وإنّما حصّله بالجِّدِّ والاجتهاد منذ نعومة أظفاره، وهو رجلٌ عاملٌ جادٌّ، ذو همّةٍ عاليةٍ، والشّاعرُ يقول:
    وإذا كانت النّفوسُ كباراً
    تعبتْ في مرادها الأجسادُ
    فلم ينل ما نال ـ بعد توفيق الله ـ إلاّ بالجِّدِّ والاجتهاد، والتّعب والنَّصَب والمشقّة، وبذل الجهد والصحّة و العافية في الاشتغال بالعلم، و نفع النّاس، رحمه الله.
    وقد قال يحيى بن أبي كثيرٍ اليَماميّ كما ذكرهُ عنه الإمامُ مسلمٌ في صحيحه: لا يُستطاعُ العلمُ براحة الجسم.
    ويقول الشّاعرُ:
    لولا المشقّةُ سادَ النّاسُ كلّهمُ
    الجُودُ يُفْقِرُ والإقدامُ قتّالُ
    وقد كان رحمه الله صابراً محتسباً، جادّاً مُجِدّاً في جميع مراحل حياته، إلى أن توفّاهُ اللهُ عزّ وجلّ، وكان عاملاً في محلِّ العمل الرّسميّ، وفي المسجد، وفي الطّريق، وفي البيت، لا يعرفُ وقتاً للرّاحة إلاّ الشّيء اليسير، فبابُه مفتوحٌ رحمه الله لاستقبال النّاس للاستفتاء، وطلب الشّفاعة والمُساعدة والنُّصح، وغير ذلك من الأمور التي يحتاجُ إليها النّاسُ.
    فهو إنّما حصّلَ هذا السُّؤددَ وهذه المنزلةَ العاليةَ الرّفيعةَ بالجِّدِّ والاجتهاد، وبذل النّفس و النّفيس، رحمه الله وغفرَ له.
    خامساً: عمومُ نفعِه
    كان رحمه الله نافعاً للنّاس في علمِه، وفي نُصحِه، وأمرِه بالمعروف ونهيِه عن المنكر، والدّعوةِ إلى الخير، ومُساعدة النّاس بماله وبجاهه، كلُّ ذلك من أوجه عموم نفعه.
    فهو داعيةٌ إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، في محاضراته وكلماته وكتاباته.
    وكان يقوم بتعيين الدُّعاة في خارج المملكة على نفقة بعض المحسنين.
    ومن عموم نفعه كثرةُ فتاويه سواءً عن طريق المقابلة واللِّقاء المباشر، أو عن طريق المهاتفة، أو عن طريق المراسلة، كلُّ ذلك كان يحصلُ من سماحته رحمه اللهُ في نفع النّاس.
    وكان رحمه الله عندما يقف على بعض الأخطاءِ في بعض الصّحف والمجلاّت يُنبِّهُ عليها بكلماتٍ تنشرُ في الصّحف أو في رسائل يكتبُها وتطبعُ مستقلّةً.
    وكانت مجالسُه رحمه الله معمورةً بالعلم والنُّصح والنّفع وإفادة النّاس والإحسان إليهم، وهي مجالسُ تحضرُها الملائكةُ لأنّها معمورةٌ بذِكْرِ الله وبالعلم النّافع وبالنُّصح وبالنّفع للمسلمين، رحمه اللهُ وغفرَ له.
    وكان حريصاً على مساعدة المحتاجين، وتعمير المساجد، في داخل المملكة وخارجها، وفي مكتبه الخاصّ في بيته سجلاّتٌ بأشخاصٍ وبجهاتٍ مختلفةٍ يتلقّون المساعدات، سواءً كانوا من الفقراء أو من الدُّعاة، في داخل المملكة وخارجها.
    وكان رحمه الله ذا لطفٍ وكرمٍ، وحسن ضيافةٍ، فعندما يأتيه الإنسانُ ويكونُ من بلدٍ غير البلد الذي هو فيه يبادرُ إلى دعوته إلى تناول طعام الغداء أو العَشاء، ويسألُ عن حاله وحال أبيه وأمِّه إذا كانا موجودين، أو عن حال بعض أقاربه، وعن البارزين من أهل العلم في بلده، وهذا من كريم أخلاقه وفضله ونبله رحمه اللهُ.
    وكان يرتادُ منزلَه الفقراءُ والمحتاجُون، ومن جاءَ مستفتياً أو طالباً مساعدةً، ويشاركُونه في طعام الغداء أو العَشاء الذي يهيّأ كلّ يوم على قدرٍ يكفي لتلك الأعداد من ضيوفه رحمه اللهُ.
    وفي حجّ عام ألف وأربعمائة وتسعة عشر وهو العام الذي تخلّف فيه عن الحجّ في آخر حياته لمرض نصحه الأطبّاء بعدم السّفر للحجّ من أجله كلّف من يقومُ بفتح بيته في مكّة، ومخيّمه في منى، وصُنْعِ الولائم وتقديمها للنّاس الذين اعتادُوا أن يأتُوا إليه ليستفيدوا من علمه، ويشاركوه في طعامه، وكان يتّصلُ بمن كلّفه بذلك بالهاتف للاطمئنان على ذلك.
    وكان يبذلُ جاهَهُ في الشّفاعة للنّاس وفي مساعدتهم في تحصيل مطالبهم وقضاء حوائجهم.
    ثمّ إنّه كان يتيسّرُ لي أن أزورهُ في وقت الحجِّ في منزله وفي المخيّم في منى، وفي هذه السَّنَة لمّا تخلّف عن الحجِّ سافرتُ إلى مكّة لَمَّا كان فيها قبل ذهابه إلى الطّائف بيومين، وذلك في يوم الخميس الموافق التّاسع والعشرين من شهر ذي الحجّة، ذهبتُ أنا وبعضُ أبنائي خصِّيصاً لزيارته، ولَمَّا جئنا إليه وسلّمنا عليه كعادته يبادرُ إلى السُّؤال عن الحال وعن الوالدين، ويدعُو إلى تناول طعام الغداء، فقلتُ له: إنّا قد جئنا من المدينة خصِّيصاً لزيارتك، ونتناولُ طعامَ الغداء معك ثمّ نرجعُ إلى المدينة، فقال رحمه الله: قال اللهُ عزّ و جلّ: (( وجبتْ محبّتي للمتحابِّين والمُتزاورين فِيَّ )).
    وفي ذلك اللّقاء كان في مجلسه ستّون من أصحاب الحاجات، وقد ذكرَ عددَهُم أحدُ الذين كانوا يتولّون قراءةَ المعاملات عليه، وكان وصولنا إليه في السّاعة العاشرة صباحاً، ومنذ ذلك الوقت إلى أن أذّن لصلاة الظّهر وعنده كاتبان كلُّ واحدٍ منهما عنده عددٌ من المعاملات، يتناوبان القراءة عليه، وإذا حصلَ اتِّصالٌ بالهاتف رفع السّمّاعةَ وأجابَ على استفتاء من يستفي.
    ولَمَّا أُذّن لصلاة الظّهر سأل كم عددُ الذين بقيت معاملتهم؟ قيل: إنّه بقي ثمانيةٌ، فقال: إن شاء اللهُ بعد الصّلاة ننهي معاملاتهم، وبعد الصّلاة رجعَ وأنهى ما بقي وجلسَ إلى أن قُدّم طعامُ الغداء، فقام الجميعُ لتناول طعامَ الغداء، وكان الطّعامُ كثيراً كعادته لأنّ الذين يحضرُون كثيرون، وكان عددُ الصّحون التي تحلّق عليها النّاسُ في ذلك اليوم ستّة صحون كبيرة، رحمه اللهُ وغفرَ له.
    ولم يكتف رحمه الله في بذله النّفعَ للنّاس وحرصه على مساعدتهم فكتبَ كتاباً لأحد المشايخ الكبار وذلك في اليوم الثّامن من الشّهر الثّالث من عام ثمانية عشر وأربعمائة وألف، قال فيه: يسرُّني أن أخبركم بأنّه منذ زمنٍ طويلٍ وأنا قائمٌ بالعمل على مساعدة كثيرٍ من المحتاجين في داخل المملكة وخارجها، وتعمير المساجد في داخل المملكة وخارجها، وتعيين الدُّعاة في خارج المملكة وذلك على نفقه خادم الحرمين الشّريفين ووليّ عهده وعدد من الأمراء وأصحاب الخير والتُّجّار، ثمّ قال بعد ذلك: والدّوامُ لله، و      ، فإذا حدثَ بي حادثُ الموت أرجُو أن تتولّوا هذه الأعمالَ، وأن تحتسبُوا الأجرَ عند الله عزّ وجلّ.
    سادساً: عبادتُه
    كان رحمه الله عاملاً بعلمه، وثمرةُ العلمِ العملُ، فكان كثيرَ الذِّكْرِ لله عزّ وجلّ، وكثيرَ الدُّعاء، وكان ملازماً للحجِّ، وقد حجّ سبعاً وأربعين حجّةً رحمه الله، عرفتُ هذا لمّا زارَ منطقةَ الباحة في عام ألف وأربعمائة في شعبان سُئل، وكان من جواب السُّؤال أن ذكرَ عمرَهُ وأنّه في ذلك الوقت يبلغُ السّبعين من العُمُرِ، وأنّه حجّ ثمانياً وعشرين حَجَّةً، أخبرني بذلك أحدُ الحاضرين، وكان مواصلاً للحجّ حتّى العام الذي قبل العام الذي انصرمَ وهو العامُ الثّامنُ عشر بعد الأربعمائة والألف، فيُضافُ إلى الثّمان والعشرين تسعَ عشرة حَجَّةً، فيكونُ عددُ الحَجّات التي حجّها رحمه الله سبعاً وأربعين حَجَّةً.
    ومِمَّا وقفتُ عليه مِمَّا يدلّ على عظم عنايته بالعبادة والاشتغال بها أنّه في عام سبعةٍ وتسعين وثلاثمائة وألفٍ في آخر شهر ذي القعدة ذهبتُ من المدينة إلى مكّة لحاجةٍ تتعلّقُ بالعمل إذ كنتُ نائبَه في الجامعة الإسلاميّة، وبتُّ عنده تلك اللّيلة في منزله، وكان في بيته مكان مستطيل، فكان يمشي فيه ذاهباً آيباً ويقرأُ القرآنَ، يريدُ أن يتحرّك ويقرأ القرآنَ الكريم.
    وأيضاً أذكرُ أنّه في سنةٍ من السّنوات لمّا كان في الجامعة دخلتُ معه إلى المسجد النّبويّ بعد أذان الظُّهر، وكنتُ بجواره، فصلّى أربعَ ركعاتٍ وأنا صلّيتُ ركعتين، ومعلومٌ أنّه جاءَ أنّ السّننَ الرّاتبةَ عشرٌ وأنّها اثنتا عشرة والأكملُ هو اثنتا عشرة، ولمّا سلّم التفتَ إليَّ وقال: أنتَ ما صلّيتَ إلاّ ركعتين، فقلتُ: نعم، فقال: إنّ الاثنتي عشرة هي الأكملُ والأفضلُ.
    فكان رحمه الله ملازماً لما هو الأكملُ والأفضلُ، وينبِّهُ ويرشدُ ويلفتُ النّظرَ إلى تحصيل الأكمل والأفضل رحمه الله.
    وأذكرُ أيضاً لمّا ذهب إلى القصيم في عام خمسةٍ وثمانين وثلاثمائة وألف ليتزوّج من هناك كنتُ مع المشايخ الذين ذهبُوا معه، ولمّا كنّا في أثناء الطّريق في وادٍ من الأودية فيه شجرٌ، وفي وسط النّهار كسفت الشّمسُ فقام فصلّى بنا صلاةَ الكسوف في ذلك الوادي، رحمه الله.
    سابعاً: مؤلّفاتُه
    مؤلّفاتُ الشّيخ رحمه الله كثيرةٌ، وهي رسائلُ مفيدةٌ وعظيمةٌ، وقد بدىء بجمع هذه الرّسائل وكذا الفتاوى، وطُبع منها حتّى الآن اثنا عشر مجلَّداً، تسعةُ مجلّداتٍ تتعلّق بالعقيدة والدّعوة إلى الله في موضوعات مختلفة، ثمّ المجلّدُ العاشرُ والحادي عشر والثّاني عشر بدىء فيها بالفقه بكتاب الطّهارة وإلى نهاية كتاب الجمعة من كتاب الصّلاة.
    ومن مؤلّفاته:
    ـ الفوائد الجليّة في المباحث الفَرَضِيّة.
    ـ وكتاب التّحقيق والإيضاح لكثيرٍ من مسائل الحجِّ والعمرة والزّيارة على ضوء الكتاب والسُّنّة، وهو كتابٌ عظيمُ النّفع، كثيرُ الفائدة كما يعلمُ ذلك الخاصُّ والعامُّ. وقد طُبع في حياة الملك عبد العزيز رحمه الله، وتوالت طبعاتُه حتّى بلغت الملايين من النّسخ، كما ترجم وطبع في لغات مختلفة.
    ـ ومنها نقدُ القوميّة العربيّة على ضوء الإسلام والواقع:
    وكان ذلك في الزّمن الذي حصلت فيه هذه الفتنةُ، وكثُر الكلامُ فيها في الإذاعات والصّحف، فكان منه رحمه الله أن ألّف كتاباً عظيماً نافعاً في ذلك وطبع طبعته الأُولى عام خمسةٍ وثمانين وثلاثمائة وألف، مع أنّ بعض الشّباب في هذا العصر يتكلّمُون في كبار العلماء ويقولون عنهم: إنّهم لا يفقهون الواقع، وهذا الكتابُ الذي كتبه اسمُه: (( نقدُ القوميّة العربيّة على ضوء الإسلام والواقع ))، وكان ذلك قبل أن يُولد كثيرٌ من هؤلاء الذين يقولون: إنّهم يعرفُون الواقع، ومن اطّلع عليه عرفَ ما فيه من الفقه والفهم على ضوء الكتاب والسُّنّة والواقع.
    ـ ومنها ثلاث رسائل في الصّلاة.
    ـ والتّحذير من البدع: يشتمل على التّحذير من أربع بدعٍ، وهي بدعةُ الاحتفال بالمولد النّبويّ، وليلة النّصف من شعبان، وليلة الإسراء والمعراج، والرّدّ على الوصاية المنامية المزعومة من المدعو أحمد خادم الحجرة النّبويّة.
    ثامناً: صلتي الخاصّةُ به
    عرفتُ الشّيخَ رحمه الله في السَّنَةِ التي قدمَ فيها من الخَرْجِ إلى الرّياض؛ لأنّه قدم في أوّل عام اثنين وسبعين وثلاثمائة وألف، وأنا جئتُ من بلدي الزُّلْفِي بعدما أخذتُ الشّهادةَ الابتدائيةَ في عام واحدٍ وسبعين وثلاثمائة وألف، ودخلتُ في
    معهد الرّياض العلمي، وكان هو بدأ التّدريسَ
    في تلك السَّنَة، ولكنّه لم يكن يُدرِّسُنا بل يدرّس بعض الأفواج الذين قبلنا، وما ظفرتُ بتدريسه
    إلاّ في السَّنَةِ الأخيرةِ في عام تسعةٍ وسبعين وثلاثمائة وألف، حيثُ كان مدرِّساً لطلاّب السَّنَة النِّهائيّة طلاّب السَّنَة الرّابعة من كليّة الشّريعة، وأوّل رؤيتي إيّاه ولقائي به في عام اثنين وسبعين وثلاثمائة وألف، وكان في ذلك الوقت عددٌ من المشايخ الكبار يقومون بإلقاء الدّروس في مسجد الشّيخ محمّد ابن إبراهيم رحمه الله بين المغرب والعِشاء، وهم الشّيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، والشّيخ محمّد الأمين الشّنقيطي رحمه الله، والشّيخ عبد الرّحمن الإفريقي رحمه الله، والشّيخ عبد الرّزّاق عفيفي رحمه الله، وكان المسجدُ يَعُجُّ بطلبة العلم، وأذكر أنّه كان يلقي دروساً في التّفسير في سورة مريم.
    ثمّ كان اتّصالي به كثيراً في الفسح بين الدّروس وفي المسجد وأزورهُ في منزله، ولمّا جاء عام واحد وثمانين وثلاثمائة وألف كنتُ بحمد الله من الذين رُشّحُوا للتّدريس في الجامعة الإسلاميّة في آخر عام تسعةٍ وسبعين وثلاثمائة وألف، حيثُ طلبتُ من الشّيخ محمّد بن إبراهيم رحمه الله أن يجعلني في سِلْكِ التّدريس فقال: إنّه يوافقُ على ذلك ولكنّه يريدُ أن أدرّس في الجامعة الإسلاميّة عند افتتاحها، فقلتُ: أنا على أتمِّ الاستعداد، وفي عام ثمانين وثلاثمائة وألف لم تُفتح الجامعةُ الإسلاميّةُ، وكان يُذكرُ بعضُ الأشخاص الذين سيتولّون رئاستَها، ولَمَّا جاء افتتاحُها عام واحد وثمانين وثلاثمائة وألف، وعلمتُ أنّ الشّيخ عبد العزيز بن باز هو الذي سيتولّى إدارتَها نائباً عن رئيسها الشّيخ محمّد ابن إبراهيم رحمه الله فرحتُ فرحاً شديداً لما لهذا الرّجُل العظيم من منزلةٍ في نفسي، فصحبتُه خمسةَ عشرَ عاماً من أوّل عام واحدٍ وثمانين وثلاثمائة وألف إلى قرب نهاية عام خمسةٍ وتسعين وثلاثمائة وألف وهو منتصفُ شهر شوّال من ذلك العام، حيث كان هو المسؤولُ في الجامعة في عشر سنواتٍ كان نائباً للرّئيس، ولكنّه هو المباشرُ للتّنفيذ، والقائمُ على إدارتها وتنفيذ أعمالها، وبعد ذلك كان رئيساً للجامعة. وكنتُ في تلك المدّة معه في مجلس الجامعة، وكان رحمه الله قد جعلني في مجلس الجامعة منذ إنشائها، وفي عام ثلاثةٍ وتسعين عيّنتُ نائباً للرّئيس بترشيح منه وموافقة من الملك فيصل رحمهما الله؛ فكنتُ ملازماً له في العمل، وأتّصلُ به باستمرارٍ، وكنتُ آتي إليه في المنزل أحيانا قبل الذّهاب إلى الجامعة وأجلسُ معه قليلاً، وكان معه الشّيخُ إبراهيم الحصيّن رحمه اللهُ، وكان يقرأُ عليه المعاملات من بعد صلاة الفجر إلى بعد ارتفاع الشّمس.
    وفي يوم من الأيّام قال لي: رأيتُ البارحةَ رؤيا وهو أنّني رأيتُ كأنّ هناك بَكْرَةٌ جميلةٌ [أي: ناقةٌ] وأنا أقودُها وأنتَ تسُوقُها، وقال: أوّلتُها بالجامعة الإسلاميّة، وقد تحقّق ذلك بحمد الله فكنتُ معه في النّيابة مدّة سنتين ثمّ قمتُ بالعمل بعده رئيساً بالنِّيابة أربعةَ أعوامٍ، وحصلَ للجامعة في ذلك خيرٌ كثيرٌ ولله الحمدُ. فكانت صلتي بالشّيخ رحمه الله وثيقةً، وبعد انتقاله إلى رئاسة البحوث العلميّة استمرّت صلتُه بالجامعة حيث كان عضواً في مجلسها الأعلى كما أسلفتُ، وكان يرأسُ المجالسَ نيابةً عن خادم الحرمين الشّريفين إذا غابَ، لأنّ الرّئيسَ الأعلى للجامعة خادمُ الحرمين الشّريفين، وقد أنابَ سماحةَ الشّيخ في حال غيابه نيابةً مطلقةً.
    تاسعاً: وفاتُه
    توفِّي رحمه اللهُ ـ كما يعلمُ الجميعُ ـ في صبيحة يوم الخميس السّابع والعشرين من شهر المحرّم، قبل أذان الفجر بدقائق، وصُلِّي عليه في المسجد الحرام بعد صلاة الجمعة، ودُفن في مقبرة العَدْلِ في مكّة المكرّمة، وشهدَ جنازتَهُ العددُ الذي لا يحصيه إلاّ اللهُ.
    وذلك لما للشّيخ رحمه اللهُ من المنزلة العظيمة والمحبّة في النّفوس، وأرجُو أن يكون ممّن قال اللهُ عزّ وجلّ فيهم:  •         ، ومن الذين جاء ذِكْرُهُمْ في الحديث: (( إنّ الله إذا أحبَّ العبدَ نادى جبريل وقال: إنّي أحبُّ فلاناً فأحبّهُ، ثمّ يُنادى في أهل السّماوات: إنّ الله يحبُّ فلاناً فأحبُّوه، فيحبُّه أهلُ السّماوات، ثمّ يوضع له القَبولُ في الأرض )).
    ولو كنتُ أقولُ الشِّعْرَ لقلتُ الشِّعْرَ في رثائه ولكنّني لستُ بشاعرٍ، إنّما أتمثّلُ بشعر الشّعراء، وعندما كان يُوارى في قبره رحمه الله تذكّرتُ بيتاً هو مطلعُ قصيدةٍ للشّيخ محمّد بن عبد الله بن عثيمين المتوفّى سنة ثلاثٍ وستّين وثلاثمائة وألف، رثى فيها الشّيخ سعد بن عتيق وهو شيخُ الشّيخ عبد العزيز بن باز رحمةُ اللهِ على الجميع، وقد توفِّي سنة تسعٍ وأربعين وثلاثمائة وألف، وكان عمرُ الشّيخ لمّا توفِّي شيخُه سعد بن عتيق تسعةَ عشر عاماً، وبين وفاتيهما إحدى وسبعون سَنَةٌ، وهذا البيتُ هو قولُه:
    أهكذا البَدْرُ تُخْفي نُورَهُ الحُفَرُ
    ويُفْقَدُ العلمُ لا عَيْنٌ ولا أَثَرُ
    هذا هو مطلعُ القصيدةِ. ولمّا عدتُّ إلى المدينة رجعتُ إلى ديوانه المسمّى بـ: (( العقد الثّمين من شعر الشّيخ محمّد بن عثيمين ))، واطّلعتُ على القصيدة وهي تبلغُ ثلاثةً وأربعين بيتاً، اخترتُ منها بعضَ الأبيات، وهي تنطبقُ على الشّيخ تماماً:
    أهكذا البَدْرُ تُخْفي نـُـورَهُ الحُــفَــرُ
    ويُفْقَــدُ العلـمُ لا عَيْــنٌ ولا أَثَــرُ
    خَبَتْ مصابيـحُ كنّا نستـضىءُ بــها
    وطوّحَتْ للمغيب الأنجُــمُ الزُّهُـرُ
    واستحكمتْ غُرْبَةُ الإسلام وانكسفتْ
    شمسُ العلومِ التي يُهدى بها البَشَرُ
    تُخُرِّمَ الصّــالِحُون المقتـدَى بـِهِــمُ
    وقامَ منهم مقامَ الـمُبـتـدا الخَـبَــرُ
    فلستَ تسمـعُ إلاّ كــانَ ثمّ مـضى
    ويلحَقُ الفارطَ البــاقي كـما غَبَرُوا
    وأذكرُ أنّ الحافظَ ابن حجرٍ رحمه اللهُ ذكرَ في
    (( الإصابة )) في ترجمة قيس بن عاصمٍ المنقري التّميمي من أصحاب رسول الله ، وكان سيّداً في قومه، وقد رثاهُ عبدةُ بن الطّيّب في قصيدةٍ منها قولُه:
    وما كان قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ
    ولكـنّــهُ بنيـانُ قومٍ تهــدّمَــا
    وهو ينطبق على الشّيخ عبد العزيز بن باز رحمه اللهُ.
    فهو لم يكن فقيدَ أسرةٍ، ولا فقيدَ قريةٍ أو مدينةٍ، ولا فقيدَ قطرٍ أو إقليمٍ، وإنّما هو فقيدُ العالَم الإسلاميّ رحمه الله وغفرَ له.
    وقد خلف رحمه اللهُ أربعةً من البنين وستّاً من البنات، وأحدُ البنين وهو أحمد من طلبة العلم، أصلحَ اللهُ بنيه، وبارك فيهم، وغفرَ للشّيخ ولنا جميعاً، ولكنّه خلّفَ الألوفَ من البنين الذين يستفيدون من علمه ويدعون له، وقد قال عليه الصّلاةُ والسّلامُ: (( إذا مات ابنُ آدم انقطعَ عملُه إلاّ من ثلاثٍ، صدقةٍ جارية، أو علم ينتفعُ به، أو ولد صالح يدعُو له ))، فأبناؤُه من نسبه وأبناؤُه في العلم كلُّهم يدعون له، والمسلمُون يدعون له رحمه الله وغفر له.
    وخلفَهُ في عمله في الإفتاء في المملكة ورئاسة هيئة كبار العلماء ورئاسة إدارة البحوث العلميّة والإفتاء نائبُه في الإفتاء الشّيخُ عبد العزيز بن عبد الله بن محمّد آل الشّيخ حفظهُ اللهُ وباركَ فيه، وجعلهُ خيرَ خلفٍ لخير سلفٍ، وهو معروفٌ في جدّه بالاشتغال بالعلم وفي خطبه النّافعة المفيدة في جامع الإمام تركي وفي مسجد نمرة بعرفة.
    وكان القائم بأعمال رئاسة البحوث العلميّة والإفتاء والدّعوة والإرشاد قبل انتقال سماحة الشّيخ عبد العزيز بن باز من الجامعة الإسلاميّة إليها هو الشّيخ إبراهيم بن محمّد ابن إبراهيم آل الشّيخ.
    وإنّا نفرحُ كثيراً إذا رأينا في آل الشّيخ مَنْ هم من أهل العلم.
    وأقول: إنّ من محاسن ولاة الأمر في هذه البلاد عنايتَهم بآل الشّيخ، وحرصَهم على تمكينهم من الأعمال المهمّة، وذلك أنّ أصلَ هذه الولاية التي حصلَ النّفعُ فيها على مدى قرنين من الزّمان أو أكثر إنّما كان بالتقاء إمامين عظيمين هما الإمامُ محمّد بن سعود رحمه الله، والإمامُ الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله، وقيامهما بالدّعوة إلى الله عزّ وجلّ، ونصرة دِين الله.
    عاشراً: أمنيّات ومقترحات
    وأختم هذه الكلمات بأمنيّات ومقترحات هي:
    أوّلاً: أنّ الشّيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كان مرجعاً للعُلماء، إذا جاءت المشكلاتُ رجعُوا إليه في حلِّها ومعرفة حكمها، وقد ذهبَ ورحلَ رحمه الله، والعلمُ الذي في صدره ذهبَ معه، ولكن بقي علمُه الذي في الأوراق والرّسائل والفتاوى، والذي نتمنّاه ونرجُوه ونقترحُه أن يعتني خَلَفُه في إتمام ما بُدىء به من جمع هذه الرّسائل والفتاوى وطبعها ونشرها للاستفادة منها، وقد طبع منها اثنا عشر مجلّداً كما أسلفتُ، وهي تبلغُ المجلّدات الكثيرة، ونسألُ الله عزّ وجلّ أن ييسّر جمعَها وطبعَها وتمكين طلبة العلم من الاستفادة منها.
    ثانياً: وصيّةٌ لي ولطلبة العلم عموماً وهي الجِدُّ والاجتهادُ في طلب العلم وبذل الوُسْع في تحصيله، والعناية بأخذه ونشره وبذله؛ كما كانت حالُ الشّيخ رحمه اللهُ تعلّماً وعملاً وتعليماً ودعوةً ونصحاً.
    ثالثاً: أوصي بعض ذوي الهمم العالية من طلبة العلم بالاتّجاه إلى إعداد رسائل علميّة وأبحاث تتناول إبراز جوانب مختلفة من جهود الشّيخ العلميّة في العقيدة والتّفسير والحديث والفقه والدّعوة إلى الله وغير ذلك.
    رابعاً: من المعلوم أنّ الجامعةَ الإسلاميّةَ بالمدينة المنوّرة عالميّةُ النّفعِ، والشّيخُ عبدُ العزيز بن باز عالميُّ النّفع، وهو الذي باشر تأسيسها، وتولّى غرسها منذ افتتاحها واستمرّ فيها خمسةَ عشرَ
    عاماً، وإنّ اسمَ الجامعة الإسلاميّة اسمٌ جميلٌ، ويزدادُ جمالاً إذا أطلق عليها اسمُ: (( جامعة الشّيخ
    عبد العزيز بن باز الإسلاميّة ))، وقد بذلتُ لذلك أسباباً ـ نفع اللهُ بها.
    هذه بعضُ الأمنيّات والمقترحات التي في ذهني يسّر الله تحقيقها، وأسألُ الله عزّ وجلّ أن يغفر لسماحة الشّيخ، وأن يجزيهُ أحسنَ الجزاء، وأن يبارك في علمه، وأن يثيبهُ على ما قدّم، وعلى ما حصل منه من الصّدقات الجارية، وأن يعظم له الجزاء، وأن يوفّقنا جميعاً لما يرضيه، ولما فيه تحصيل العلم النّافع والعمل به، إنّه سبحانه وتعالى جوادٌ كريمٌ، وصلّى اللهُ وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبيّنا محمّدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    * * *


    الشيخ محمد بن عثيمين
    من العلماء الربَّانيِّين
    قال ابن الأعرابي كما في فتح الباري (1/162):
    (( لا يُقال للعالِم ربَّاني حتى يكون عالِماً معلِّماً عاملاً )).
    وأزيد: وأن يكون ذلك على فهم السلف الصالح وطريقتهم.


    محاضرة ألقاها
    عبد المحسن بن حمد العباد البدر
    في الجامعة الإسلامية بالمدينة




    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، وخليلُه وخيرتُه مِن خَلْقه، أرسله اللهُ تعالى بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فدلَّ أمَّتَه على كلِّ خير، وحذَّرها من كلِّ شرٍّ.
    اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابه ومَن سلك سبيلَه واهتدى بهديه إلى يوم الدِّين.
    أمَّا بعد:
    فإنِّي أتحدَّث إليكم أيُّها الإخوة هذه الليلة( ) عن شيخٍ فاضلٍ من شيوخ المملكة العربيَّة السعودية، وعَلَمٍ من أعلامها بل عن عَلَمٍ من أعلام العالَم الإسلامي، له جهودٌ كبيرةٌ في العنايةِ بالعلمِ ونشرِه وبذلِه، وإفادةِ طلبة العلم، ألا وهو الشيخ العلاَّمة محمد بن صالِح بن عُثيمين رحمه الله وأسكنه فسيح جنَاته.
    فأقول: إنَّ أعظمَ مصيبةِ موتٍ حصلت في الإسلام المصيبةُ بوفاة نبيِّنا محمد ، والمصائبُ العظمى بعد تلك المصيبة إنَّما هي بموت ورثتِه ، وقد قال : (( إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء، وإنَّ الأنبياءَ لَم يُورِّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنَّما ورَّثوا العلمَ، فمَن أخذ به، أخذ بحظٍّ وافر ))، رواه أبو داود (3641) وغيرُه، وسنده حسن.
    والشيخُ ابنُ عُثيمين ـ رحمه الله ـ قد أخذ من العلمِ بحظٍّ وافر، وبَذَل جهوداً عظيمةً في نشرِه، وإفادةِ طلاَّب العلم.
    وكلامي عن هذا الشيخ الفاضل عن: نسبه، وولادته ونشأته، وشيوخه وتلاميذه، وبذلِه للعلم وقيامِه بالدَّعوة، ومؤلفاتِه، ومكانتِه عند الناس، ووفاتِه وعقِبِه، ووصايا ومقترحات.
    أولاً: نسبه
    هو محمد بن صالح بن محمد بن سليمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أحمد بن مُقبل، من الوهَبة، من بنِي تميم، وجدُّه الرابع عثمان أُطلق عليه عُثيمين، واشتهرت هذه الأسرة بالنسبة إليه بهذا الإطلاق (عُثيمين مأخوذ من عثمان).
    أفادنِي بهذا النسب ابنُ عمِّه الدكتور عبد الرحمن ابن سليمان بن عُثيمين.
    وانظر كتاب: (( علماء نجد خلال ستة قرون )) للشيخ عبد الله البسَّام (2/422).
    ثانياً: ولادته ونشأته
    وُلد في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة 1347هـ في مدينة عُنيزة، إحدى مدن القصيم، ونشأ نشأة صالِحة طيِّبة.
    تعلَّم القراءةَ والكتابةَ في الكتَّاب، وتعلَّم القرآنَ على جدِّه لأمِّه عبد الرحمن بن سليمان آل دامغ، فحفظ القرآن وتتلمذ على الشيخ العلاَّمة عبد الرحمن ابن ناصر السَّعدي رحمه الله، ولَمَّا فُتح معهد الرياض العلمي استأذن شيخَه عبد الرحمن بن سعدي في الالتحاق به، فدرس فيه، وكانت مدَّةُ الدراسة في ذلك الوقت بعد الابتدائي وقبل الكلية أربعَ سنوات، ودخل في السنة الثانية، وكان في ذلك الوقت نظام القفز، وهو أنَّ مَن يكون عنده استعدادٌ للتقدُّم في الدراسة، فإنَّه تُتاح له الفرصة في العطلة الصيفية أن يدرسَ مقرَّرات السنة التي بعد سنته التي انتهى منها، وإذا جاء الدور الثاني اختبر في مواد تلك السنة، فينتقل منها إلى السنة الأخرى، وكان ـ رحمة الله عليه ـ دَرَسَ في السنة الثانية، وفي الصيف درس مقرَّرات السنة الثالثة، وانتقل منها إلى السنة الرابعة، وبعد انتهائه منها فُتح المعهد العلمي بعُنيزة سنة 1374هـ، وصار يدرسُ على شيخه الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، ويقوم بالتدريس في معهد عُنيزة العلمي، وكان مع ذلك منتسباً إلى كليَّة الشريعة، يذهب إلى الرياض لأداء الاختبار في نهاية كلِّ سنة دراسية، حتى أنهى الدراسة في الكليَّة.
    وبعد افتتاح كليَّة الشريعة وأصول الدِّين بالقصيم انتقل من التدريس في المعهد إليها، واستمرَّ في التدريس فيها إلى أن توفي رحمه الله.
    ولَمَّا تُوفِّيَ شيخُه عبد الرحمن بن سعدي سنة 1376هـ تولَّى الإمامةَ والخطابةَ والتدريس في المسجد الجامع الكبير بعُنيزة، واستمرَّ على ذلك حتى توفَّاه الله.
    ثالثاً: شيوخه وتلاميذه
    أبرز شيوخه الذين درس عليهم: الشيخ
    عبد الرحمن بن سعدي، درس عليه في المسجد الكبير بعُنيزة، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمهما الله، درس عليهما في معهد الرياض العلمي.
    وأمَّا تلاميذه، فهم كثيرون، أخذوا عنه العلمَ في معهد عنيزة العلمي، وكلية الشريعة وأصول الدِّين بالقصيم، وفي المسجد الجامع الكبير بعُنيزة، فتدريسُه في المسجد الجامع الكبير مدَّتُه خمسٌ وأربعون سنة، وتدريسه في المعهد والكليَّة مدَّتُه سبعٌ وأربعون سنة، فتلاميذه في هذه المُدَّة الطويلة كثيرون جدًّا.
    وكان عددٌ كبير من الطلبة من داخل المملكة وخارجها يرتحِلون إليه لتلقِّي العلمَ عنه لا سيما في الصيف، حيث يكون له فيه دروسٌ كثيرة، في الصباح وبعد العصر وبعد المغرب، ولا ينقطع عن التدريس بعد المغرب في جميع أيَّام السنة.
    وفي المسجد الجامع الكبير بعُنيزة مكتبة أسَّسها الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله، وبعد وفاته واصل الشيخ محمد بن عُثيمين تزويدها بالكتب، ولَمَّا أعاد الملك خالد ـ رحمه الله ـ بناءَ المسجد الجامع الكبير بعُنيزة، بنى بجواره عمارةً جعلها وقفاً على الطلبة الذين يرتحلون إلى عُنيزة للدراسة على الشيخ ابن عُثيمين رحمه الله، ونُقلت المكتبة إلى تلك العمارة، فكانت هذه العمارة فيها سكن الطلاَّب والمكتبة.
    رابعاً: بذلُه العلمَ وقيامُه بالدَّعوة
    علمنا مِمَّا تقدَّم أنَّه بدأ بالتدريس في معهد عُنيزة عام 1374هـ، وأنَّه بدأ بالخطابة والإمامة والتدريس في المسجد الجامع الكبير عام 1376هـ، وأنَّه أخذ العلمَ عنه طلبةٌ كثيرون في معهد عُنيزة العلمي، وفي كليَّة الشريعة وأصول الدِّين بالقصيم، والمسجد الجامع الكبير بعُنيزة، ولَم يقتصر بذلُه للعلمِ وقيامُه بالدَّعوة على بلاده القصيم، بل كان يبذل العلمَ عن طريق التدريس، والمحاضرات في البلاد التي ينتقل إليها داخل المملكة، وكان يذهب إلى مكة في أوقات مختلفة، ويقوم بالتدريس في المسجد الحرام، لا سيما في شهر رمضان، وكان من عادته أن يذهب إليه بعد ما يمضي جزءٌ من رمضان فيُدرِّس في المسجد الحرام، ويلتفُّ حولَه عددٌ كبير من الطلبة الذين يحرصون على تلقِّي دروسِه والأخذ عنه، وكذا إذا حضر إلى المدينة لإلقاء محاضرات أو لغير ذلك، فإنَّه يُدرِّس في المسجد النبوي، ويسرُّ الطلاَّبُ إذا علموا بقدومه إلى المدينة ليَحضُروا دروسَه، ويستفيدوا من علمه، وكنتُ من المدرِّسين في هذا المسجد، فكان الطلاَّبُ يطلبون منِّي أن أوقف الدرسَ ليَحضُروا دروسَه، فكنتُ أوقفُها ليتمكَّنوا من الاستفادةِ منه، وكنتُ أحضُرُ دروسَه معهم في بعض الأحيان.
    ومن مجالات تعليمه ودعوته إلقاؤه المحاضرات في مختلف مدن المملكة، في المساجد والجامعات.
    وقد ألقى محاضرات عديدة في الجامعة الإسلامية بالمدينة، في مسجدها، وفي قاعة المحاضرات، وفي أماكن الصلاة في كليَّاتها ومعاهدها.
    وأذكر أنَّ من محاضراته التي ألقاها في الجامعة الإسلامية، محاضرة واسعة بعنوان: منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة والعمل، وكذا محاضرة بعنوان: آداب طلب العلم.
    وكان يُلقي محاضرات عن طريق الهاتف في أوربا وأمريكا وغيرها.
    ومن مجالات تعليمه ودعوته مشاركته في المؤتمرات في داخل المملكة، وقد عُقد في الجامعة الإسلامية ثلاثة مؤتمرات، مؤتمران في توجيه الدعوة وإعداد الدعاة، ومؤتمر في مكافحة المسكرات والمخدِّرات، وقد حضر هذه المؤتمرات وأفاد فيها في بحوثه ومناقشته.
    ومن مجالات تعليمه ودعوته، مشاركته في توعية الحُجَّاج في مواسم الحج بالفتاوى، وإلقاء الدروس والمحاضرات، وقام بالإشراف على الدعاة لتوعية الحجاج في بعض السنوات لجنةٌ فيهم الشيخ رحمه الله، وكنتُ في هذه اللجنة، وكانت اللجنة تجتمع للنظر في شؤون توعية الحجاج، وكان الشيخ ـ رحمه الله ـ يُفيد اللجنة في رأيه وعلمه، وأذكرُ أنَّه عندما كُتب التقريرُ من اللجنة قيل له: هل ترغب أخذ نسخة من التقرير؟ فقال: لا آخذ نسخة منه، حتى لا أحتاج إلى إحراقها؛ لأنَّه ـ رحمه الله ـ كان مشغولاً بالعلم والاحتفاظ بما يتعلَّق به.
    ومن مجالات دعوته ونفع المسلمين قيامه بالفتاوى على ما يَرِدُ إليه من أسئلة من داخل المملكة وخارجها، سواء بالمراسلة أو المقابلة أو عن طريق الهاتف، وقد خصَّص وقتاً معيَّناً للإفتاء عن طريق الهاتف، وكان يُواظب على الإفتاء في هذا الوقت وهو في بلده عُنيزة، وإذا سافر جعل تسجيلاً على الهاتف يُرشد إلى رقمٍ في البلد الذي ينتقل إليه.
    وأذكر أنَّه لَمَّا كان في لجنة توعية الحُجَّاج في مدينة الطائف لكتابة تقرير عن أعمال التوعية عام 1409هـ، وتخلَّف عن الاجتماع بعض الوقت، ذكر أنَّه تأخَّر للإجابة عن الأسئلة عن طريق الهاتف.
    ومن مجالات تعليمه ودعوته مشاركته الكثيرة المفيدة في الإذاعة، فله برامج ثابتة في الإذاعة، هي: برنامج (( نور على الدرب ))، وبرنامج (( سؤال على الهاتف ))، وبرنامج (( من أحكام القرآن الكريم ))، وله أحاديث في الإذاعة غير ثابتة في موضوعات متنوِّعة.
    وبرنامج (( من أحكام القرآن )) مهمٌّ، عظيمُ الفائدة، يُعنى فيه بالتأمُّل في القرآن، واستخراج ما فيه من حِكَم وأحكام، وهو يدلُّ على مدى تَمكُّنه في الفهم والفقه في الدِّين، وقد وصل إلى قرب نهاية الجزء الثالث من القرآن الكريم، وقد قام الأخ الفاضل عبد الكريم بن صالح المقرن المذيع في إذاعة القرآن الكريم باستخراج ما يتعلَّق بالجزء الأول من القرآن من الأشرطة، وطُبع في مجلد، وهو مفيدٌ لا يستغنِي عنه طلبة العلم، وعسى اللهُ أن يُيَسِّر استخراج وطباعة ما يتعلَّق بالجزأين الباقيين ليَعُمَّ النفع بهما.
    والحاصل أنَّ مجالات تعليمه ودعوته تتلخَّص فيما يلي:
    1 ـ التدريس في معهد عُنيزة العلمي، ثمَّ في كليَّة الدعوة وأصول الدِّين في القصيم، ابتداء من عام 1374هـ.
    2 ـ التدريس في الجامع الكبير في عنيزة، ابتداءً من عام 1376هـ.
    3 ـ الخطابة والإمامة في المسجد الكبير بعنيزة ابتداء من عام 1376هـ.
    4 ـ التدريس في المسجد الحرام والمسجد النبوي.
    5 ـ المحاضرات التي يُلقيها في المساجد والجامعات في مدن المملكة، والمحاضرات التي يُلقيها عبر الهاتف في أوربا وأمريكا وغيرها.
    6 ـ مشاركته في بعض المؤتمرات التي عُقدت في المملكة.
    7 ـ الفتاوى عن طريق المقابلة والمراسلة والهاتف.
    8 ـ مشاركته في توعية الحجاج في مواسم الحج.
    9 ـ برامج وأحاديث في الإذاعة.
    خامساً: مؤلَّفاته
    للشيخ مؤلفاتٌ كثيرة، وغالبها رسائل صغيرة، لكنَّها عظيمةُ النفع، كبيرةُ الفائدة، تنقسم إلى قسمين:
    قسمٌ حرَّره بنفسه، وأخرجه بعد تحريره.
    وقسمٌ لَم يُحرِّره، ولكن استُخرِج من أشرطة دروسه وطُبع.
    ومِمَّا حرَّره:
    ـ القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى.
    ـ عقيدة أهل السنة والجماعة.
    ـ شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرَّشاد.
    ـ أحكام الأضحية والذكاة.
    ـ فتح ربِّ البَريَّة بتلخيص الحموية.
    ومِمَّا استُخرج من الأشرطة وطُبع بعضُه:
    ـ الشرح الممتع على زاد المستقنع.
    وقد بلغت آثاره العلمية التي ذكرها تلميذه الشيخ وليد الحسين في مقاله عن الشيخ المنشور في العدد الثاني من مجلة الحكمة الصادر في 1/9/1414هـ خمسة وخمسين أثراً.
    وله رسائل في أصول الفقه والمصطلح والعقيدة مقرَّرة في المعاهد العلمية التابعة لجامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية.
    سادساً: مكانته عند الناس
    للشيخ ـ رحمه الله ـ مكانةٌ مرموقةٌ ومنزلةٌ رفيعةٌ، فقد رُزق القبول، وأحبَّه الناسُ، وحرصوا على سماع دروسه وفتاواه، واقتناء آثاره العلمية، وأشرطة دورسه ومحاضراته، وهو عالٍمٌ كبيرٌ، وفقيهٌ متمكِّن، وهو محلُّ التوقير والإجلال من الولاة والعلماء وطلبة العلم.
    وكان من تقدير الولاة في هذه البلاد له أنَّهم عندما يزورون القصيم يزورونه في منزله، فقد زاره الملك خالد، والملك فهد، والأمير عبد الله، والأمير سلطان، وهو أهل للتوقير والاحترام.
    وهو مع ذلك من أشدِّ الناس تواضعاً، ومحبَّةً للخير، ونفعاً للناس، وإشفاقاً على الطلبة، وحرصاً على إفادتهم، وتحصيلهم العلم، وجمعهم بين العلم والعمل.
    سابعاً: وفاته وعَقِبه
    أُصيب ـ رحمه الله ـ بمرض عُضال، فسافر إلى أمريكا للعلاج أيَّاماً قليلة، وهي سفرتُه الوحيدة خارج المملكة، فاستغلَّ فرصة وجوده فيها في الدعوة إلى الله، وألقى خطبة الجمعة هناك، وعند رجوعه دخل المستشفى التخصُّصي بالرياض، واشتدَّ به المرض، وبعدما مضى جزءٌ من شهر رمضان رغب أن ينتقل إلى مكة للتدريس في المسجد الحرام على عادته في السنوات الماضية، وهُيِّئت له غرفة خاصَّة في المسجد، فكان يُلقي الدروسَ وهو على فراشه بواسطة مكبِّرات الصوت، فيسمع الناسُ صوتَه المتأثر بالمرض ولا يرون شخصَه.
    ونُقل بعد انتهاء رمضان إلى مستشفى في جدة، وتوفي هناك مساء يوم الأربعاء، الخامس عشر من شهر شوال عام 1421هـ، وصُلِّي عليه في المسجد الحرام عقِب صلاة العصر من يوم الخميس، ودُفن في مقبرة العدل بمكة، وشهد الصلاةَ عليه وتشييع جنازته خلقٌ كثير رحمه الله، وكنتُ مِمَّن شهد الصلاةَ عليه وتشييعه، ورأيتُ كثرة الناس في الصلاة عليه وعند المقبرة.
    وقد تأثَّر الكثيرون لوفاته، وحزنوا عليه لِما له من المكانة العلمية، ولِما فيه من النفع العظيم للإسلام والمسلمين، وقد قال يوم مات ابنُه إبراهيم: (( إنَّ العينَ تدمع، والقلبَ يحزن، ولا نقول إلاَّ ما يُرضي ربَّنا، وإنَّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ))، رواه البخاري (1303)، واللفظ له، ومسلم (2315)، فرحمه الله وغفر له، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
    وكانت وفاته ـ رحمه الله ـ من أعظم المصائب التي حلَّت بالمسلمين في هذا العام، وفي العام الذي قبله 1420هـ أُصيب المسلمون بوفاة شيخ الإسلام الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ في صباح يوم الخميس السابع والعشرين من المحرم سنة 1420هـ، ووفاة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، مساء السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة 1420هـ، ونسأل اللهَ عزَّ وجلَّ أن يغفرَ للجميع، وأن يُوفِّق طلبةَ العلم للاستفادة من علم العلماء المحقِّقين الذين مضوا، ومنهم هؤلاء الثلاثة، والاستفادة من علم العلماء الموجودين، إنَّه سميعٌ مجيب.
    وقد جاء آثار عن السلف تدلُّ على مدى عِظم المصيبة بموت العالِم:
    ـ فعن سَلمان الفارسي قال: (( لا يزال الناسُ بخير ما بقي الأول حتى يتعلَّم الآخِر، فإذا هلك الأوَّلُ قبل أن يتعلَّم الآخِر هلك الناس )) رواه الدارمي في سننه (255).
    ـ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه لَمَّا مات زيد بن ثابت قال: (( هكذا ذهابُ العلم، لقد دُفن اليوم علمٌ كثير )) رواه الحاكم في المستدرك (3/42.
    ـ وعن أبي الدرداء قال: (( تعلَّموا العلمَ قبل أن يُقبض العلمُ، وقبضُه أن يُذهَب بأصحابه... إلى أن قال: فما لي أراكم شباعاً من الطعام، جِياعاً من العلم )) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/602).
    ـ وعن الحسن قال: (( موتُ العالِم ثُلمة في الإسلام لا يسدُّها شيء ما طرد الليل والنهار )) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/595).
    ـ وعن أيُّوب السّختياني قال: (( إنَّه ليَبلُغنِي موتُ الرَّجل من أهل السُّنَّة، فكأنَّما سقط عضوٌ من أعضائي )) رواه أبو نعيم في الحلية (3/9).
    ـ وقال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (ص:74): ((... لَمَّا كان صلاحُ الوجود بالعلماء، ولولاهم كان الناسُ كالبهائم، بل أسوأ حالاً، كان موتُ العالِم مصيبة لا يجبرها إلاَّ خلف غيرِه له، وأيضاً فإنَّ العلماءَ هم الذين يسوسون العبادَ والبلاد والممالك، فموتُهم فسادٌ لنظام العالَم، ولهذا لا يزال اللهُ يغرسُ في هذا الدِّين منهم خالفاً عن سالف يحفظُ بهم دينَه وكتابَه وعبادَه، وتأمَّل إذا كان في الوجود رجلٌ قد فاق العالَم في الغنى والكرم، وحاجتهم إلى ما عنده شديدة، وهو محسنٌ إليهم بكلِّ ممكن ثم مات، وانقطعت عنهم تلك المادة، فموتُ العالِم أعظمُ مصيبة من موت مثل هذا بكثير، ومثل هذا يموت بموته أممٌ وخلائق )).
    وقبل ذلك كلِّه ما قاله الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، في الحديث المتفق على صحَّته عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: (( إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يَقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لَم يُبق عالِماً اتَّخذ الناسُ رؤوساً جُهَّالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأَضلُّوا ))، وهذا لفظ البخاري (100).
    ولا شكَّ أنَّ وجودَ العالِم المحقِّق بين الناس غنيمةٌ عظيمةٌ، يستفيدون من نُصحه، ويستضيئون بنورِ علمِه، فإذا فقدوه شعروا بالفراغ الواسع.
    وفي هذا المعنى قال الشاعر محمد بن عبد الله بن عثيمين المتوفى سنة 1363هـ في رثاء الشيخ سعد ابن حمد بن عتيق المتوفى سنة 1349هـ:
    خَبَتْ مصابيـحُ كنّا نستـضىءُ بــها
    وطوّحَتْ للمغيب الأنجُــمُ الزُّهُـرُ
    واستحكمتْ غُرْبَةُ الإسلام وانكسفتْ
    شمسُ العلومِ التي يُهدى بها البَشَرُ
    عقِبه:
    وأمَّا عقِبه فله خمسة من البنين، وثلاث من البنات.
    وبنوه هم: عبد الله، وعبد الرحمن، وإبراهيم، وعبد العزيز، وعبد الرحيم.
    وأذكر أنَّه جرى حديث معه في تسمية الأولاد، فكان مِمَّا قال: إنَّنِي سَمَّيتُ ثلاثةً من أولادي معبَّدين لأسماء الله التي في البسملة، وهم عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الرحيم.
    أسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يُصلحَ عَقِبَه، وأن يُصلح أبناءَ المسلمين، وأن يُوفِّقنا جميعاً لِما فيه رضاه.
    ثامناً: وصايا ومقترحات
    أهمُّ ما أوصي به طلبةَ العلم بهذه المناسبة أن يحرصوا على الاشتغال بالعلم، والاستفادة من أهله الذين هم على قيد الحياة، فيغتنموا فرصة وجودهم بينهم، ويأخذوا عنهم العلمَ، ويرجعوا إليهم في معرفة ما يشكل، وأن يعتنوا باقتناء الكتب النافعة لعلماء أهل السُّنَّة المحقِّقين من المتقدِّمين والمتأخِّرين، وأُوصيهم بالعناية بالمذاكرة بينهم في العلم، وشغل أوقاتهم بالقراءة في الكتب النافعة، والاشتغال بما يعود عليهم نفعه في الدنيا والآخرة.
    أمَّا بالنسبة لما خلفه الشيخ ـ رحمه الله ـ من آثار، فأقترح أن يقوم بعضُ طلاَّبه الذين على علمٍ بمؤلفاته والأشرطة التي سُجِّلت فيها دروسه ومحاضراته بكتابة فهرس شامل لتلك المؤلفات والأشرطة؛ ليكون طلبةُ العلم على عِلمٍ بها، فيحرصوا على اقتناء ما أمكنهم اقتناؤه منها، ثم العناية بتفريغ ما لَم يُفرَّغ من تلك الأشرطة، والسعي لدى مَن يقوم بطباعتها، ليكون طلبةُ العلم على إحاطة بما خلفه هذا العالِم الكبير من آثار، فيقتنوها ويستفيدوا منها.
    ثمَّ أقول: إنَّ الشيخ ـ رحمه الله ـ من العلماء الذين اجتهدوا وحرصوا على اتِّباع الدَّليل من الكتاب والسُّنَّة، وله عناية في التحقيق في المسائل والاستدلال عليها بالكتاب والسُّنَّة والإجماع والمعقول، حيث يذكر الأدلَّة إجمالاً ثمَّ يفصِّلها، ويُبيِّن وجهَ الاستدلال، وهو مِمَّن رُزق فقهاً في الدِّين، وعناية في فقه الشريعة أصولاً وفروعاً، وهو كغيره يخطئ ويُصيب، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويُردُّ إلاَّ رسول الله .
    وله آراء في مسائل يسيرة، يرى غيرُه أنَّ الصوابَ على خلاف ما قال، وقد يكون هو المصيب، ومن المعلوم أنَّ كلَّ مجتهد للوصول إلى الحقِّ لا يعدم الحصول على أجرٍ أو أجرَين، على أجرين إن أصاب، وأجرٍ واحد إن أخطأ؛ لقوله في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمرو ابن العاص قال: سمعتُ رسول الله يقول: (( إذا حكم الحاكمُ فاجتهدَ ثمَّ أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثمَّ أخطأ فله أجرٌ ))، وهذا لفظ البخاري (7352).
    فقد قسم النَّبِيُّ الحكَّام في هذا الحديث إلى قسمين: مصيب ومخطئٌ، فدلَّ على أنَّ الحقَّ يُصيبه من يُصيبه، ويخطئه مَن يخطئه، وأنَّه ليس كلُّ مجتهدٍ في اختلاف التضادِّ مصيباً حقًّا، وإنَّما كلّ مجتهد مصيبٌ أجراً، مع تفاوتِهم في الأجر كما هو واضح من هذا الحديث.
    والحاصلُ أنَّ الشيخَ ـ رحمه الله ـ عالِمٌ كبيرٌ، وعلمُه غزيرٌ، وصوابُه كثير، ونفعُه عميم، فأوصي بالاهتمام بآثاره والاستفادة منها.
    وختاماً فقد ورد في صحيح مسلم (920) من حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها أنَّ النَّبِيَّ دعا لأبي سلمة عند موتِه فقال: (( اللَّهمَّ اغفر لأبي سلمة، وارفع درجتَه في المهديِّين، واخلفه في عقِبِه في الغابرين، واغفر لنا وله يا ربَّ العالَمين، وافسَح له في قبره، ونوِّر له فيه )).
    وأنا أقول: اللَّهمَّ اغفر للشيخ محمد بن عُثيمين، وارفع درجتَه في المهديِّين، واخلفه في عقِبِه في الغابرين، واغفر لنا وله يا ربَّ العالَمين، وافسَح له في قبره، ونوِّر له فيه.
    وأسألُ اللهَ أن يُوفِّقنا جميعاً لتحصيل العلمِ النافع، والعمل الصالِح، إنَّه سميعٌ.
    وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    * * *


    الشيخ عمر بن محمد فلاته رحمه الله
    وكيف عرفته



    محاضرة ألقاها
    عبد المحسن بن حمد العباد البدر
    في الجامعة الإسلامية




    الحمدُ لله نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلاّ اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبدُه ورسولُه، وخليلُه وخيرتُه من خَلْقِه، أرسلهُ اللهُ بين يدي السّاعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فدلَّ أمّتَهُ على كلِّ خير، وحذّرها من كلِّ شرّ، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سلكَ سبيلَهُ واهتدى بهديه إلى يوم الدِّين.
    أمّا بعدُ:
    فإنّ الحديث معكم أيّها الإخوة في هذا اللّقاء( ) عن الشّيخ عمر محمّد فلاته رحمه اللهُ، ولو كان الحديثُ في بلد آخر غير المدينة في أناس لا يعرفون الشّيخ عمر رحمه الله معرفةً تامّةً أمكن أن يكون فيما أقول لهم فائدة، أمّا والكلامُ عنه رحمه الله في المدينة وفي أناسٍ يعرفونه فإنَّ الفائدة قد لا تكونُ كبيرةً جدّاً.
    وكلامي عن الشّيخ عمر رحمه الله تعالى يتعلّق في أمور:
    أوّلاً: اسمُه، وولادتُه، ونشأتُه.
    ثانياً: عقيدتُه، ودعوتُه، ومنهجُه.
    ثالثاً: تدريسُه في المسجد النّبويّ.
    رابعاً: إدارتُه لدار الحديث في المدينة.
    خامساً: أعمالُه الأخرى في غير الدّار، بالإضافة إلى إشرافه على الدّار.
    سادساً: عددُ حجّاته.
    سابعاً: كيف عرفتُ الشّيخ عمر ومدى الصّلة التي بيني وبينه.
    ثامناً: صفاتُه والتّشابهُ بينه وبين شيخه وشيخي الشّيخ عبد الرّحمن الإفريقيّ رحمه الله تعالى.
    تاسعاً: ذكر أمثلة من دُعابته وطرائفه رحمه الله تعالى.
    عاشراً: وفاتُه وعقبُه.
    فأقول:
    أوّلاً: اسمُه
    هو رفيقي وصديقي وحبيبي الشّيخ عمر بن محمّد بكر الفُلاَّنِيُّ الشّهيرُ بفُلاَّتَه، هكذا أُثبت في نموذج الإجازة التي يمنحها، وأنا أعرف أنّه أحياناً يقول: الفُلاَّني، وأحياناً يقول: فُلاَّته، والفُلاَّني: نسبة إلى قبيلة في إفريقيا.
    أمّا ولادتُه: فكانت في عام 1345هـ، وكان ذلك على مقربة من مكة، وذلك أنّ أبويه هاجرا من إفريقيا، ومكثا في الطّريق ما يقرب من سنة، وعلى مقربة من مكّة ولد الشّيخ عمر رحمه الله، وكان يقول: شاء الله أن يبدأ أبواه في الرّحلة وهما اثنان، وأن تنتهي وهم ثلاثة، أي: بوجود هذا المولود الذي صار ثالثاً لهما.
    أمّا نشأتُه: فقد انتقل مع والديه بعد عام من ولادته إلى المدينة، ونشأ فيها وترعرع وبدأ تعليمه بالكُتّاب عند العريف محمّد بن سالم، ثمّ دخل في دار العلوم الشّرعيّة، ونال شهادتها الابتدائيّة، ثمّ نال الشّهادة الابتدائيّة من مديرية المعارف العمومية وذلك في عام 1363هـ، ثمّ بعد ذلك واصل الدّراسة في ما فوق الابتدائيّة، ودخل دار الحديث وأخذ شهادتها العالية، وكان ذلك في سنة 1367هـ، ولازم الشّيخ عبد الرّحمن بن يوسف الإفريقيّ رحمه الله، واستفاد من علمه، وله مشايخ آخرون استفاد منهم ولكن الفائدة الكبيرة والملازمة المستمرّة إنّما هي للشّيخ عبد الرّحمن بن يوسف الإفريقيّ رحمه الله، ودرّس في دار الحديث، ودرّس أيضاً في غيرها، وبعد وفاة الشّيخ عبد الرّحمن الإفريقيّ رحمه الله الذي كان هو النّاظر على دار الحديث تولّى إدارتها الشّيخ عمر رحمه الله.
    ثانياً: أمّا عقيدتُه ومنهجُه:
    فقد كان رحمه الله على عقيدة السّلف ومنهجهم، ملتزماً بما جاء عن الله وعن رسوله ، حريصاً على معرفة الدّليل، واقتفاء آثار السّلف الصّالح، وكان يكرهُ المناهج المخالفة لطريقة السّلف الصّالح رحمهم الله.
    وأمّا دعوتُه إلى الله: فكان داعيةً ناجحاً، وذلك في فصاحته وبلاغته وأسلوبه الحسن، وفي نصحه وصدقه وإخلاصه رحمه الله، فكان في دعوته مفيداً ونافعاً لمن يسمعه، وكان رحمه الله عندما يتحدّث في بعض الدّروس وفي بعض الكلمات التي يلقيها في الدّعوة إلى الله عزّ وجلّ ـ وقد سمعتُ جملةً منها في الحجّ ـ فإنّه كان يشدّ انتباه الحاضرين إلى كلامه، وذلك لفصاحته وبلاغته وعلمه ومعرفته وجودة إلقائه وتمكّنه من المادّة التي يتكلّم فيها.
    وقد قام رحمه الله بالدّعوة إلى الله عزّ وجلّ عن طريق تدريسه في المسجد النّبويّ، وعن طريق مشاركته في توعية الحجّاج فإنّه منذ أنشأت التّوعية التّابعة لرئاسة البحوث العلميّة والإفتاء والدّعوة والإرشاد في عام 1392هـ إلى أن توفّي وهو في التّوعية، فكان يفيد السّامعين ويفيد الحجّاج وغير الحجّاج رحمه الله، وكذلك ذهب للدّعوة إلى الله عزّ وجلّ منتدباً من الجامعة الإسلاميّة، وأيضاً للتّدريس في الإجازة الصّيفيّة في الدّورات التي تقيمها الجامعة، وكان داعيةً إلى الله عزّ وجلّ في البلاد المختلفة التي ذهب إليها.
    ثالثاً: أمّا تدريسُه في المسجد النّبويّ
    فقد كان بداية ذلك في عام 1370هـ إلى أن توفّي رحمه الله تعالى في أواخر العام الماضي 1419هـ، أي أنّه درّس في المسجد النّبويّ ما يقارب نصف قرن قضاها في التّدريس في هذا المسجد المبارك مسجد الرّسول ، وكان مكانُه قريباً من الرّوضة، وكنتُ عندما بدأت بالتّدريس
    في المسجد النّبويّ حلقتي قريبة من حلقته، وكنّا نسمع صوته الرّخيم الواضح الجهوريّ، وكان صوتُه ـ رحمه الله ـ يرتفع وينخفض، وكنّا نداعبُه عند ذلك في الطّلعات التي تكون في صوته حيث ينزل ثمّ يرتفع ويسمعه من يكون بعيداً منه.
    وعلى هذا فقد مكث هذه المدّة الطّويلة التي لم يكن أحدٌ يماثلُه فيها في هذا الزّمان، والذي يقاربُه فيها الشّيخ أبو بكر الجزائريّ حفظه الله فإنّه بدأ بالتّدريس في المسجد النّبويّ في عام ثلاثة وسبعين وثلاثمائة وألف، ولا يزال في التّدريس بارك الله في جهوده وفي دعوته ونفع به المسلمين.
    رابعاً: إدارتُه لدار الحديث بالمدينة
    بعدما توفّي الشّيخ عبد الرّحمن الإفريقيّ ـ رحمه الله ـ في عام 1377هـ وكان هو النّاظر عليها خلفه الشّيخ عمر في إدارتها والنّظارة عليها، وكانت لها منزلة عنده ومكانة رفيعة، وكان يحدب عليها ويحرص عليها وهي شغله الشّاغل رحمه الله تعالى، واستمرّ فيها مديراً لها ومربّياً وموجّهاً لطلاّبها.
    وفي عام خمسة وثمانين وثلاثمائة وألف انتقل إلى الجامعة الإسلاميّة في الأعمال المختلفة التي سأشير إليها بعد قليل، ولكنّه مع ذلك محتفظ بإدارة هذه الدّار والإشراف عليها مع أعماله التي أنيطت به في الجامعة الإسلاميّة، واستمرّ على ذلك في الجامعة يقوم بالأعمال التي أنيطت به بالإضافة إلى إشرافه على دار الحديث، ولمّا تقاعد رجع إلى الجلوس فيها وإدارتها حتّى توفّاه الله عزّ وجلّ.
    وكان رحمه الله قد اعتنى بهذه الدّار، ولمّا أدخلت المباني القريبة من المسجد النّبويّ في مشروع المسجد النّبويّ، وكانت الدّارُ قريبةً من المسجد، وكانت إمّا داخلة في المسجد أو في السّاحة القريبة منه، وكان قد رُصد لها مبلغ من المال تعويضاً لذلك الوقف للأرض والمنشآت التي عليه، فقيل له: لو أنّك طلبت منهم أن يزيدوا في المقدار الذي خصّص تعويضا لهذه الدّار؟ فقال: لا أفعل لأنّها ـ أي الأرض ـ داخلة في المسجد النّبويّ
    أو في ساحاته ويكون الأجر والثّواب إن شاء
    الله لِمن أسّسها وأوقفها حيث تكون في جملة المسجد أو في ساحات المسجد. ثمّ إنّه بعدما رُصد المبلغ لهذه الدّار اجتهد في البحث عن مكان مناسب وكان أن انتهى إلى شراء تلك الأرض التي بنيت عليها الدّار الآن، وتمّ بناؤُها على وجه حسن وبناء فيه إتقان ومتانة، وتصميمُ هذه الدّار صار له تميّزٌ في هذه المدينة ونال جائزة المدينة في التصميم العمراني.
    خامساً: الأعمال التي أنيطت به
    في عام خمسة وثمانين وثلاثمائة وألف نُقل إلى الجامعة وكُلّف بعمل الأمين العام المساعد، واستمرّ على ذلك، ثمّ عيّن أمينا عاما، ثمّ بعدما صنّف
    هيئة التّدريس وتحوّلوا من الوظائف القديمة إلى الوظائف التي هي في كادر المدرّسين على النّظام الحديث وذلك في عام 1396هـ صنّف على أستاذ مساعد.
    وكان مع قيامه في العمل الإداري يؤدّي دروساً في كليّة الحديث، ثمّ بعد ذلك صار مسؤولاً عن مركز الدّعوة في الجامعة، ثمّ مسؤولاً عن مركز خدمة السّنّة والسّيرة النّبويّة في الجامعة، وهو الذي تمّ على يديه تأسيسُه والبداءةُ به، وتقاعد وهو يقوم بذلك العمل.
    سادساً: عددُ حجّاته
    حجّ فرضه في عام 1365هـ واستمرّ في الحجّ إلى عام 1418هـ لم يتخلّف عن الحجّ إلاّ سنة واحدة وهي سنة 1367 هـ بسبب تمريض مريض كان عنده، وقد بلغت حجّاتُه رحمه اللهُ ثلاثا وخمسين حَجَّةً.
    سابعاً: صفاتُه والتّشابهُ بينه وبين شيخه وشيخي الشّيخ عبد الرّحمن الإفريقيّ رحمه الله تعالى
    كان من صفاته رحمه الله ـ كما هو معلوم لكلّ من عرفه ـ طلاقةُ الوجه وحسنُ الاستقبال، وكان رحمه اللهُ مع قلّة ماله وضعف حاله غنيّ النّفس سخيّ اليد رحمه الله تعالى، وكان حريصاً على نفع المسلمين، ومدّ يد العون لهم ومساعدتهم، وكان رحمه الله تعالى ذا تواضع جمّ يعرفُه من خالطه ومن رافقه في السّفر، وقد رافقتُه كما رافقه غيري وكلٌّ يعرف منه تواضعه وأنّه مع كونه يكبر من يكون معه في السّنّ إلاّ أنّه يبادر إلى أن يسبق إلى الخدمة مع أنّه هو الحقيق بأن يُخدم لفضله ولكبر سنّه رحمه الله تعالى.
    وكان بينه وبين شيخه الشّيخ عبد الرّحمن الإفريقيّ شبه واضح بيّن، وأنا درستُ على الشّيخ عبد الرّحمن الإفريقيّ في الرّياض في عام 1372هـ وعام 1373هـ درستُ عليه في الحديث والمصطلح، وكان مدرّسا ناصحا وعالما كبيرا، وموجّها ومرشدا وقدوة في الخير رحمه الله تعالى. والتّشابهُ بينه
    وبين الشّيخ عمر رحمه الله قويٌّ فإنّ الصّفات التي ذكرتُها عن الشّيخ عمر موجودة في شيخه الشّيخ عبد الرّحمن الإفريقيّ وكلٌّ منهما له محبّة في النّفوس وقبول عند النّاس. وللشّيخ عمر رحمه الله محاضرة واسعة عن الشّيخ عبد الرّحمن الإفريقيّ ألقاها في قاعة المحاضرات بالجامعة الإسلاميّة في 13/ 4/ 1398هـ، وهي مطبوعةٌ في المجلّد الخامس ضمن محاضرات الجامعة الإسلاميّة المطبوعة في ستّة مجلّدات للأعوام: من 1394 إلى 1399هـ، كلُّ مجلّد منها يشتملُ على خمس عشرة محاضرة، وهي موجودة في مكتبات الجامعة.
    ثامناً:
    أمّا كيف عرفتُ الشّيخ عمر محمّد فلاّته ومدى الصّلة التي بيني وبينه فأوّل ما عرفتُه عندما قدمتُ إلى المدينة عند افتتاح الجامعة الإسلاميّة في عام 1381هـ كنتُ أسمع ويتردّد على سمعي الشّيخ عمر مدير دار الحديث، فذهبتُ إليه ودخلتُ مع باب الدّار الذي هو إلى جهة الجنوب، وبعدما يدخل الإنسانُ مع هذا الباب يجد أمامه ساحة واسعة وعلى يساره غرفة هي مكان مدير الدّار وإذا الشّيخ عمر رحمه الله تعالى في زاوية من زوايا هذه الغرفة على مكتبه، فسلّمتُ عليه ورأيتُ من أوّل وهلةٍ منه السّماحة واللّطف والبُشر والدّعاء ومحبّة الخير للنّاس.
    فكان هذا أوّل لقاء حصل لي معه وأوّل تعرّف عليه في تلك الجلسة التي دخل حبُّه في قلبي، وبعد ذلك توطّدت العلاقة بيني وبينه ولاسيّما بعدما انتقل إلى الجامعة الإسلاميّة، فكنتُ لا يمرّ يومٌ غالبا إلاّ وألتقي به وأجلس معه وأستأنس به كثيراً رحمه الله تعالى، ثمّ في عام 1389هـ وكذلك في العام الذي يليه ذهبتُ أنا وإيّاه للتّعاقد مع مدرّسين للجامعة الإسلاميّة إلى الأردن وسوريا ولبنان ومصر، وبلغت تلك المدّة التي اصطحبنا فيها ما يقرب من شهرين في كلّ من هاذين العامين، وقد رأيتُ أخلاقه الكريمة وتواضعه الجمّ.
    وأذكر أنّه كنّا في فندق من الفنادق، وكنّا نسكن في غرفة وفي داخلها حمّام، وكان في الحمّام يقضي حاجته رحمه الله، فدخل شخص فقال: أين رئيس اللّجنة؟ فقلتُ له: اجلس يأتي الآن، وكان يسمع وهو في داخل الحمّام، ولَمَّا خرج قال: هذا رئيس اللّجنة يشير إليّ: لستُ أنا رئيس اللّجنة، فقلتُ: لا أبداً لستُ رئيسَ اللّجنة أنت رئيسُها، فصار الأمرُ يدور بيني وبينه كلٌّ يقول للآخر: أنا لستُ الرّئيس وإنّما الرّئيسُ أنتَ، فتعجّب هذا الشّخصُ الذي دخل وكان يسأل عن رئيس اللّجنة، وهذا من لطافته وتواضعه وسماحته رحمه الله تعالى.
    ثمّ كانت العلاقة بيني وبينه وطيدةً جدّا بحيث لا ينقطع أحدُنا عن الآخر، وكان يزورني وأزوره، ويتّصل بي وأتّصل به، إذا تأخّر أحدُنا عن الآخر فترة وجيزة اتّصل بالهاتف يسألُ عنّي واتّصلتُ
    به أيضا أسألُ عنه، وكانت المودّة بيننا قائمة،
    وكان ذلك كلّه في الله ومن أجل الله، ليس
    هناك رابطة تربطني به إلاّ الحبّ في الله والموالاة
    في الله عزّ وجلّ، وأرجو أن أكون وإيّاه من السّبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلَّ إلاّ ظلُّه
    الذين ورد ذِكْرُهُمْ في الحديث الصّحيح وفيهم:
    (( ورجلان تحابّا في الله اجتمعا على ذلك وتفرّقا عليه )).
    وكان رحمه اللهُ مأذوناً لعقد الأنكحة، وهذا من المجال الذي ينفع فيه النّاس ويحسن فيه إلى النّاس رحمه الله تعالى، وكان باذلاً نفسه لهذه المهمّة وذلك في وقت مبكّر.
    تاسعاً:
    أمّا الأمثلةُ من دعابته وطرائفه فأذكر من لطائفه حول موضوع عقد الأنكحة أنّه جاء إلى موظّف في إدارة في حاجة من الحاجات، وكأنَّ ذلك الموظّفُ تلكّأ وما قام بتيسير أمر الشّيخ عمر، وكان قد عقد لوالد هذا الموظّف على أمّه، فكان منه أن قال: هذا ابنُ فلان؟ هذا الذي عقدتُّ لأبيه على أمّه، أنا الذي أخطأتُ لمّا عقدتُّ لأبيه على أمّه!! فضحك النّاسُ وقام الموظّفُ حالاً بإنهاء حاجته، فهذا من لطافته وظرافته رحمه الله تعالى.
    ومن طرائفه أنّا كنّا في سفر إلى مصر وكان في الأزهر طلبة كثيرون جاءوا من الأرياف، وكانوا يتّخذون من أروقة الأزهر سكنا لهم، وللمسجد إمام وكان يدعو للطّلاّب فيقول: اللّهمّ نجّح الطّلاّب، ووفّقهم للحكمة والصّواب. ومن دعابة الشّيخ عمر أنّه كان يُؤَمِّنُ ويقول: نحن من الطّلاّب أي: طلاّب المدرّسين لأنّنا جئنا في طلبهم والتّعاقد معهم.
    ومن طرائفه أنّه كان معنا في السّفر نقود هي دولارات أمريكيّة، وكنّا نسمعُ إذاعة لندن، وعندما يأتي في آخر الأخبار بيان أسعار العملة فيذكر انخفاض سعر الدّولار فيظهر التّأثّر مداعبةً لأنّ النّقود التي معنا دولارات.
    ومن طرائفه أنّني كنتُ معه في مجلس وفيه أحدُ المشايخ وقد حجّ فرضه بعد ولادتي بسنة، وكنتُ أعرفُ ذلك فسألتُه قائلاً: متى حججتَ فرضَك؟ فقال له الشّيخ عمر: انتبه لا يجرّ لك لسانك، يعني بذلك التّوصّل إلى مقدار عمر ذلك الشّيخ.
    ومن الطّرائف العجيبة أنّني أداعب الشّيخ عمر حول سنّه وأنّه كبير، ولا يظهر عليه أثر الكِبَر، وفي سنة من السّنوات كنّا في الحجّ، ودخلنا مخيّم التّوعية في عرفات، وإذا فيه رجل قد ابيضّ منه كلُّ شيء حتّى حاجباه، فقلتُ للشّيخ عمر: هذا من أمثالك أي: كبار السّنّ، وبعد أن جلسنا قال ذلك الرّجل يخاطبني: أنا تلميذ لك درّستني في مدرسة ليلية ابتدائية في الرّياض ـ وكان ذلك في سنة 1374 هـ تقريباً ـ، وكنتُ في زمن دراستي في الرّياض أدرّس مساء متبرّعاً في تلك المدرسة التي غالبُ طلاّبها موظّفون، فوجد ذلك الشّيخ عمر رحمه الله مناسبة ليقلب الموضوع عليّ، فكان يكرّر مخاطباً ذلك الرّجل: أنت تلميذ الشّيخ عبد المحسن؟
    عاشراً: وفاته
    لقد توفّي رحمه الله في صبيحة يوم الأربعاء الموافق التّاسع والعشرين من شهر ذي القعدة من عام 1419هـ، وهو آخر يوم في ذلك الشّهر
    إذ ثبت دخول ذي الحجّة ليلة الخميس، وكان
    ـ رحمه الله ـ يرقد في مستشفى في الرّياض، وكنتُ عزمتُ على أن أزوره في الرّياض ولكنّه قيل: إنّ الأطبّاء سيأذنون له بالخروج آخر الأسبوع، وعاد إلى المدينة في صبيحة اليوم الثّامن والعشرين، وشاء الله عزّ وجلّ أن تقبض روحه وهو في المدينة من الغد؛ وصل السّاعة الثّامنة والنّصف من يوم الثّلاثاء يوم الثّامن والعشرين وفي الثّامنة والنّصف من يوم الأربعاء التّاسع والعشرين توفّي رحمه الله. وصلّي عليه في المسجد النّبويّ بعد صلاة العصر، ودفن في البقيع، وشهد جنازته خلق كثير من الحجّاج و غيرهم رحمه الله وغفر له.
    وقد خلف بعده سبعة من البنين واثنتين من البنات أصلحهم الله جميعا وبارك فيهم.
    وفي الختام أسأل الله عزّ وجلّ أن يغفر للشّيخ عمر وأن يعلي درجته، وأن لا يفتننا بعده، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبيّنا محمّد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


    * * *


    عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ نموذج من الرعيل الأول
    مقدمة 5
    نسبُه، وولادتُه، ونشأتُه 8
    شيوخُه وتلاميذُه 9
    أعمالُه التي تولاّها 12
    علمُه 15
    عمومُ نفعِه 19
    عبادتُه 25
    مؤلّفاتُه 28
    صلتي الخاصّةُ به 30
    وفاتُه، وعَقِبُهُ، ومَنْ خَلَفَهُ 35
    أمنيّاتٌ ومقترحاتٌ 41

    الشيخ محمد بن عثيمين من العلماء الربَّانيِّين
    مقدمة 47
    نسبه 49
    ولادته ونشأته 50
    شيوخه وتلاميذه 52
    بذله للعلم وقيامه بالدَّعوة 54
    مؤلفاته 61
    مكانته عند الناس 62
    وفاتِه 63
    وعقِبه 70
    وصايا ومقترحات 70

    الشيخ عمر بن محمد فلاته رحمه الله وكيف عرفته
    مقدمة 77
    اسمُه، وولادتُه، ونشأتُه 79
    عقيدتُه، ودعوتُه، ومنهجُه 81
    تدريسُه في المسجد النّبويّ 83
    إدارتُه لدار الحديث في المدينة 84
    الأعمال التي أُنيطت به 87
    عددُ حجّاته 88
    صفاتُه والتّشابهُ بينه وبين شيخه وشيخي الشّيخ
    عبد الرّحمن الإفريقيّ رحمه الله تعالى 88
    كيف عرفتُ الشّيخ عمر ومدى الصّلة التي بيني وبينه 90
    ذكر أمثلة من دُعابته وطرائفه رحمه الله تعالى 94
    وفاتُه وعقبُه 96

  • #2
    جَزَاكَ اللهُ خَيْراً لو تضع لنا رابط المحاضرات بالصوت

    تعليق

    يعمل...
    X