قال العلامة الإتيوبي حفظه الله:
(المسألة السادسة):
ا[اعلم]: أن مذهب أهل الحق، أنه لا يُكَفَّر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا يكفر أهل الأهواء والبدع، وأن من جحد ما يُعلم من دين الإسلام ضرورة، حُكم بردته وكفره، إلَّا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ونحوه ممن يخفى عليه، فيُعَرَّف ذلك، فإن استمر حُكم بكفره، وكذا حكم من استحل الزنا، أو الخمر، أو القتل، أو غير ذلك من المحرمات التي يُعلم تحريمها ضرورة، ذكره النووي في "شرحه" (1)
:وقال الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى في الكوكب الساطع
وَلَا نَرَى تَكْفِيرَ أهْلِ الْقِبْلَةِ ... وَلَا الْخُرُوجَ أَيْ عَلَى الأَئِمَّةِ
وقلت في "شرحي" عليه: أشار به إلى ما قاله الشافعيّ، وأبو حنيفة، والأشعريّ: لا نكفّر أحدًا من أهل القبلة بذنب أجرمه، وروى البيهقيّ بسند صحيح أن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما سُئل، هل كنتم تسمّون من الذنوب كفرًا، أو شركًا، أو نفاقًا؟ قال: معاذ الله، لكنّا نقول: مؤمنون مذنبون
وقال الإمام الذهبيّ رحمه الله تعالى في "سير أعلام النبلاء" 15/ 88 - في ترجمة أبي الحسن الأشعريّ رحمه الله تعالى ما نصّه: رأيت للأشعريّ كلمة أعجبتني، وهي ثابتةٌ، رواها البيهقيّ، سمعت أبا حازم العبدريّ، سمعت زاهر بن أحمد السرخسيّ يقول: لَمّا قرب أجل أبي الحسن الأشعريّ في داري ببغداد، دعاني، فأتيته، فقال: اشهَدْ عليّ أني لا أكفّر أحدًا من أهل القبلة؛ لأن الكلّ يُشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات. قال الذهبيّ: وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيميّة في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفّر أحدًا من الأمة، قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُحافظ على الوضوء إلَّا مؤمن" (2). فمن لازم الصلوات بوضوء، فهومسلم. انتهى كلام الذهبيّ رحمه الله تعالى
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله هؤلاء الأئمة من عدم تكفير أهل القبلة بالذنوب هو الحقّ، فينبغي التنبّه له، وعدم التسرّع إلى القول بتكفير أحد منهم إلَّا ببيّنة واضحة، لا يُقبل معها التأويل، هذا على الجملة، وأما من حيث التفصيل، فمن قامت بَيِّنَةٌ واضحة على أنه ارتكب ما يخرجه من الإسلام، فلا يُتَوَقَّفُ في تكفيره، فتنبّه، ولا تكن من الغافلين، والله تعالى أعلم بالصواب
هذه جُمَلٌ من المسائل المتعلقة بالإيمان، قدمتها في صدر الكتاب، تمهيدًا لكونها مما يكثر الاحتياج إليها، ولكثرة تكرارها وتردادها في الأحاديث، فقدمتها في موضع واحد، ليسهل فهمها، ويقرب إدراكها، ويتيسّر الإحالة عليها، إذا مرّ في الأبواب الآتية ما يتعلّق بها. والله أعلم بالصواب، وله الحمد والنعمة، ومنه التوفيق والعصمة
إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} - هود: [88}

_______________________
(1) "شرح النوويّ" 1/ 144 - 150
(2) حديث صحيح. أخرجه أحمد، والدارميّ، والحاكم، وابن حبّان
المصدر : البحر المحيط الثجاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج - 1/57
رابط المقال على الموقع -- هنا