بسم الله
المصدر:
ص317 - كتاب مجموع الفتاوى - جواب من قال قال صلى الله عليه وسلم لا يقضي الله المؤمن قضاء إلا كان خيرا له وقد قضى عليه السيئات الموجبة للعقاب ن فكيف يكون ذلك خيرا - المكتبة الشاملة
ما تسأله طائفة من الناس وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال {لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له} وقد قضى عليه بالسيئات الموجبة للعقاب. فكيف يكون ذلك خيرا؟ .
وعنه جوابان:
أحدهما: أن أعمال العباد لم تدخل في الحديث، إنما دخل فيه ما يصيب الإنسان من النعم والمصائب كما في قوله {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} ولهذا قال {إن أصابته سراء شكر. فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر. فكان خيرا له} فجعل القضاء: ما يصيبه من سراء وضراء. هذا ظاهر لفظ الحديث. فلا إشكال عليه. الوجه الثاني: أنه إذا قدر أن الأعمال دخلت في هذا. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن} . فإذا قضى له بأن يحسن فهذا مما يسره. فيشكر الله عليه. وإذا قضى عليه بسيئة: فهي إنما تكون سيئة يستحق العقوبة عليها إذا لم يتب منها. فإن تاب أبدلت بحسنة. فيشكر الله عليها. وإن لم يتب ابتلي بمصائب تكفرها فصبر عليها. فيكون ذلك خيرا له. والرسول صلى الله عليه وسلم قال {لا يقضي الله للمؤمن} والمؤمن هو الذي لا يصر على ذنب بل يتوب منه. فيكون حسنة كما قد جاء في عدة آيات. إن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة بعمله. لا يزال يتوب منه حتى يدخل بتوبته منه الجنة. والذنب يوجب ذل العبد وخضوعه ودعاء الله واستغفاره إياه وشهوده بفقره وحاجته إليه وأنه لا يغفر الذنوب إلا هو. فيحصل للمؤمن - بسبب الذنب - من الحسنات ما لم يكن يحصل بدون ذلك. فيكون هذا القضاء خيرا له. فهو في ذنوبه بين أمرين: إما أن يتوب فيتوب الله عليه فيكون من التوابين الذين يحبهم الله. وإما أن يكفر عنه بمصائب؛ تصيبه ضراء فيصبر عليها. فيكفر عنه السيئات بتلك المصائب وبالصبر عليها ترتفع درجاته. وقد جاء في بعض الأحاديث {يقول الله تعالى أهل ذكري أهل مجالستي. وأهل شكري أهل زيادتي. وأهل طاعتي أهل كرامتي. وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي. إن تابوا فأنا حبيبهم} أي محبهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين {وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم. أبتليهم بالمصائب لأكفر عنهم المعائب} . وفي قوله تعالى {فمن نفسك} من الفوائد: أن العبد لا يركن إلى نفسه ولا يسكن إليها. فإن الشر لا يجيء إلا منها. ولا يشتغل بملام الناس ولا ذمهم إذا أساءوا إليه. فإن ذلك من السيئات التي أصابته. وهي إنما أصابته بذنوبه. فيرجع إلى الذنوب فيستغفر منها. ويستعيذ بالله من شر نفسه وسيئات عمله. ويسأل الله أن يعينه على طاعته. فبذلك يحصل له كل خير ويندفع عنه كل شر. ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه: دعاء الفاتحة {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فإنه إذا هداه هذا الصراط: أعانه على طاعته وترك معصيته. فلم يصبه شر لا في الدنيا ولا في الآخرة. لكن الذنوب هي من لوازم نفس الإنسان. وهو محتاج إلى الهدى في كل لحظة: وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب. ليس كما يقوله طائفة من المفسرين: إنه قد هداه. فلماذا يسأل الهدى؟ . وأن المراد بسؤال الهدى: الثبات أو مزيد الهداية. بل العبد محتاج إلى أن يعلمه ربه ما يفعله من تفاصيل أحواله. وإلى ما يتولد من تفاصيل الأمور في كل يوم. وإلى أن يلهم أن يعمل ذلك. فإنه لا يكفي مجرد علمه إن لم يجعله الله مريدا للعمل بعلمه وإلا كان العلم حجة عليه. ولم يكن مهتديا. والعبد محتاج إلى أن يجعله الله قادرا على العمل بتلك الإرادة الصالحة. فإنه لا يكون مهتديا إلى الصراط المستقيم - صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - إلا بهذه العلوم والإرادات والقدرة على ذلك. ويدخل في ذلك من أنواع الحاجات ما لا يمكن إحصاؤه. ولهذا كان الناس مأمورين بهذا الدعاء في كل صلاة لفرط حاجتهم إليه. فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى هذا الدعاء. وإنما يعرف بعض قدر هذا الدعاء من اعتبر أحوال نفسه ونفوس الإنس والجن والمأمورين بهذا الدعاء. ورأى ما في النفوس من الجهل والظلم الذي يقتضي شقاءها في الدنيا والآخرة. فيعلم أن الله - بفضله ورحمته - جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير المانعة من الشر. ومما يبين ذلك: أن الله تعالى لم يقص علينا في القرآن قصة أحد إلا لنعتبر بها لما في الاعتبار بها من حاجتنا إليه ومصلحتنا. وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثاني بالأول وكانا مشتركين في المقتضي للحكم. فلولا أن في نفوس الناس من جنس ما كان في نفوس المكذبين للرسل - فرعون ومن قبله - لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط. ولكن الأمر كما قال تعالى {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} وكما قال تعالى {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} وقال تعالى {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم} وقال تعالى {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {لتسلكن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟} . وقال {لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها: شبرا بشبر وذراعا بذراع. قيل: يا رسول الله فارس والروم؟ قال: فمن؟} وكلا الحديثين في الصحيحين.{ولما كان في غزوة حنين كان للمشركين شجرة - يقال لها: ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم وينوطونها بها ويستظلون بها متبركين فقال بعض الناس يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال: الله أكبر. قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. إنها السنن. لتركبن سنن من كان قبلكم} . وقد بين القرآن: أن السيئات من النفس وإن كانت بقدر الله...
المصدر:
ص317 - كتاب مجموع الفتاوى - جواب من قال قال صلى الله عليه وسلم لا يقضي الله المؤمن قضاء إلا كان خيرا له وقد قضى عليه السيئات الموجبة للعقاب ن فكيف يكون ذلك خيرا - المكتبة الشاملة
ما تسأله طائفة من الناس وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال {لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له} وقد قضى عليه بالسيئات الموجبة للعقاب. فكيف يكون ذلك خيرا؟ .
وعنه جوابان:
أحدهما: أن أعمال العباد لم تدخل في الحديث، إنما دخل فيه ما يصيب الإنسان من النعم والمصائب كما في قوله {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} ولهذا قال {إن أصابته سراء شكر. فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر. فكان خيرا له} فجعل القضاء: ما يصيبه من سراء وضراء. هذا ظاهر لفظ الحديث. فلا إشكال عليه. الوجه الثاني: أنه إذا قدر أن الأعمال دخلت في هذا. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن} . فإذا قضى له بأن يحسن فهذا مما يسره. فيشكر الله عليه. وإذا قضى عليه بسيئة: فهي إنما تكون سيئة يستحق العقوبة عليها إذا لم يتب منها. فإن تاب أبدلت بحسنة. فيشكر الله عليها. وإن لم يتب ابتلي بمصائب تكفرها فصبر عليها. فيكون ذلك خيرا له. والرسول صلى الله عليه وسلم قال {لا يقضي الله للمؤمن} والمؤمن هو الذي لا يصر على ذنب بل يتوب منه. فيكون حسنة كما قد جاء في عدة آيات. إن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة بعمله. لا يزال يتوب منه حتى يدخل بتوبته منه الجنة. والذنب يوجب ذل العبد وخضوعه ودعاء الله واستغفاره إياه وشهوده بفقره وحاجته إليه وأنه لا يغفر الذنوب إلا هو. فيحصل للمؤمن - بسبب الذنب - من الحسنات ما لم يكن يحصل بدون ذلك. فيكون هذا القضاء خيرا له. فهو في ذنوبه بين أمرين: إما أن يتوب فيتوب الله عليه فيكون من التوابين الذين يحبهم الله. وإما أن يكفر عنه بمصائب؛ تصيبه ضراء فيصبر عليها. فيكفر عنه السيئات بتلك المصائب وبالصبر عليها ترتفع درجاته. وقد جاء في بعض الأحاديث {يقول الله تعالى أهل ذكري أهل مجالستي. وأهل شكري أهل زيادتي. وأهل طاعتي أهل كرامتي. وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي. إن تابوا فأنا حبيبهم} أي محبهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين {وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم. أبتليهم بالمصائب لأكفر عنهم المعائب} . وفي قوله تعالى {فمن نفسك} من الفوائد: أن العبد لا يركن إلى نفسه ولا يسكن إليها. فإن الشر لا يجيء إلا منها. ولا يشتغل بملام الناس ولا ذمهم إذا أساءوا إليه. فإن ذلك من السيئات التي أصابته. وهي إنما أصابته بذنوبه. فيرجع إلى الذنوب فيستغفر منها. ويستعيذ بالله من شر نفسه وسيئات عمله. ويسأل الله أن يعينه على طاعته. فبذلك يحصل له كل خير ويندفع عنه كل شر. ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه: دعاء الفاتحة {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فإنه إذا هداه هذا الصراط: أعانه على طاعته وترك معصيته. فلم يصبه شر لا في الدنيا ولا في الآخرة. لكن الذنوب هي من لوازم نفس الإنسان. وهو محتاج إلى الهدى في كل لحظة: وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب. ليس كما يقوله طائفة من المفسرين: إنه قد هداه. فلماذا يسأل الهدى؟ . وأن المراد بسؤال الهدى: الثبات أو مزيد الهداية. بل العبد محتاج إلى أن يعلمه ربه ما يفعله من تفاصيل أحواله. وإلى ما يتولد من تفاصيل الأمور في كل يوم. وإلى أن يلهم أن يعمل ذلك. فإنه لا يكفي مجرد علمه إن لم يجعله الله مريدا للعمل بعلمه وإلا كان العلم حجة عليه. ولم يكن مهتديا. والعبد محتاج إلى أن يجعله الله قادرا على العمل بتلك الإرادة الصالحة. فإنه لا يكون مهتديا إلى الصراط المستقيم - صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - إلا بهذه العلوم والإرادات والقدرة على ذلك. ويدخل في ذلك من أنواع الحاجات ما لا يمكن إحصاؤه. ولهذا كان الناس مأمورين بهذا الدعاء في كل صلاة لفرط حاجتهم إليه. فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى هذا الدعاء. وإنما يعرف بعض قدر هذا الدعاء من اعتبر أحوال نفسه ونفوس الإنس والجن والمأمورين بهذا الدعاء. ورأى ما في النفوس من الجهل والظلم الذي يقتضي شقاءها في الدنيا والآخرة. فيعلم أن الله - بفضله ورحمته - جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير المانعة من الشر. ومما يبين ذلك: أن الله تعالى لم يقص علينا في القرآن قصة أحد إلا لنعتبر بها لما في الاعتبار بها من حاجتنا إليه ومصلحتنا. وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثاني بالأول وكانا مشتركين في المقتضي للحكم. فلولا أن في نفوس الناس من جنس ما كان في نفوس المكذبين للرسل - فرعون ومن قبله - لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط. ولكن الأمر كما قال تعالى {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} وكما قال تعالى {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} وقال تعالى {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم} وقال تعالى {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {لتسلكن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟} . وقال {لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها: شبرا بشبر وذراعا بذراع. قيل: يا رسول الله فارس والروم؟ قال: فمن؟} وكلا الحديثين في الصحيحين.{ولما كان في غزوة حنين كان للمشركين شجرة - يقال لها: ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم وينوطونها بها ويستظلون بها متبركين فقال بعض الناس يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال: الله أكبر. قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. إنها السنن. لتركبن سنن من كان قبلكم} . وقد بين القرآن: أن السيئات من النفس وإن كانت بقدر الله...
