إعـــــــلان

تقليص
1 من 3 < >

تحميل التطبيق الرسمي لموسوعة الآجري

2 من 3 < >

الإبلاغ عن مشكلة في المنتدى

تساعدنا البلاغات الواردة من الأعضاء على منتدى الآجري في تحديد المشكلات وإصلاحها في حالة توقف شيء ما عن العمل بشكل صحيح.
ونحن نقدّر الوقت الذي تستغرقه لتزويدنا بالمعلومات عبر مراسلتنا على بريد الموقع ajurryadmin@gmail.com
3 من 3 < >

فهرسة جميع الشروح المتوفرة على شبكة الإمام الآجري [مبوبة على حسب الفنون] أدخل يا طالب العلم وانهل من مكتبتك العلمية

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه - وعلى آله ومن ولاه وبعد :

فرغبة منا في تيسير العلم واشاعته بين طلابه سعينا لتوفير جميع المتون وشروحها المهمة لتكوين طلبة العلم ، وقد قطعنا شوطا لابأس به في ذلك ولله الحمد والمنة وحده ، إلا أنه إلى الآن يعاني بعض الأعضاء والزوار من بعض الصعوبات في الوصول للشروح والمتون المرادة لتداخل الشروح أو لقلة الخبرة التقنية .

من أجل هذا وذاك جاء هذا الموضوع ليكون موضوعا مرجعا جامعا مرتبا بإذن الله لكل المواد العلمية الموضوعة حاليا في شبكتنا ومرتبا على حسب أبواب الفنون العلمية (العقيدة، الفقه، الحديث،...)وسنحاول أيضا ترتيبها على مستويات الطلب (المبتدئ ، المتوسط ، المنتهي) سيتم تحديثه تبعا بعد إضافة أي شرح جديد .

من هـــــــــــنا
شاهد أكثر
شاهد أقل

بين يدي رمضان - الشيخ سليمان الرحيلي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بين يدي رمضان - الشيخ سليمان الرحيلي










    محاضرة لفضيلة العلامة الشيخ /


    سليمان بن سليم الله الرحيلي وفقه الله تعالى



    :: للإستماع للمادة وتحميلها من هنا بارك الله فيكم ::




  • #2
    رد: بين يدي رمضان || الشيخ - سليمان الرحيلي ||

    جزى اللهُ الأخ أبا حسن خيرًا على نقلِه، وحفظ اللهُ الشّيخَ الفاضل الأصوليّ الفقيه والمُحقِّق المُدقِّق سُليْمان الرّحيليّ، ونفع بهذه المُحاضرةِ الماتعةِ المُباركةِ؛ فهي ملِيئةٌ بالمسائِل والأحكامِ الشّرعيّة الّتي ينبغي للمُسلِمِ الاعتِناءُ بها في شهرِ الخيْرات والبركات.

    الصّوتيّة في المُرفقات

    التّفريغ

    الحمد لله الملِك العلاّم، القُدُّوس السّلام، ربِّ الشُّهور والأعوامِ، هدانا بفضلِه للإسلام، وأنْعمَ علينا بشهرِ الصِّيام، وأشهدُ أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، يُفاضِلًُ بين الأيّام، ويختصُّ مَن يشاء مِن عباده بالإكرام، جعل ثوابَ الصِّيام تكفيرَ الخطايا والآثام، وجعل مِثلَ ذلك ثوابًا للقيام، وأشهدُ أنّ مُحمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، المَتبُوع الإمام، صلّى اللهُ عليه وسلّم أتمَّ سلامٍ، ما تعبّد مُسلِمٌ وصام، وتهجّد مُتهجِّدٌ وقام، ورضي اللهُ عن آله الطيِّبين الأعلام، وعن صحابتِه الكِرام، ومَن تبِعهُم بإحسانٍ واستقام. أمّا بعد:


    فأيُّها الإخوة في الله إنّ اللهَ عزّ وجلّ يختصُّ بفضلِه مَن يشاء، ويتصرّف في الكَوْنِ بحكمةٍ عظيمةٍ، فيُمِدُّ في عُمرِ مَن يشاء، ويقبِضُ إليه مَن يشاء، فالحمدُ لله الّذي مدَّ في أعمارِنا حتّى اقترَبْنا مِن شهرِ رمضان، وأسألُهُ سُبحانه أنْ يُبلِّغنا شهرَ الخيْرات والإحسان، وأنْ يجعلنا مِن خيرِ النّاس الّذين طالَتْ أعمارُهم؛ فكثُرَتْ حسناتُهم، وصلُحتْ أعمالُهم، وزالَتْ عثراتُهم، ونعوذ بالله مِن أنْ نكون مِن شرِّ النّاس، الّذين طالَتْ أعمارُهم؛ فقلَّتْ حسناتُهم، وكثُرتْ سيِّئاتُهم، وفسَدتْ أعمالُهم، وكثرتْ زلاّتُهُم -عياذً بالله مِن كُلِّ ذلك-.

    فيا مَن أطال اللهُ أعمارَكم إلى هذه الأيام المُباركة كونوا مِن خيْرِ النّاس، وأحْسِنوا أعمالَكم، واحمَدُوا اللهَ على هذه النِّعمةِ العظيمةِ الّتي اختصَّكم اللهُ بها، وقد قطع مِنها أُناسًا مِن إخوانِكم؛ نزَلَ بهم المَوْتُ قبل بُلوغ هذه الأيام.

    أيُّها الإخوة الفُضلاء في العامِ الماضي في مثل هذه الأيّام كان النّاسُ يستمِعون لمثلِ ما نستمِعُ له اليوم؛ فيستعِدُّون بمثلِ ما نستعِدُّ به اليوم؛ فهَلْ أدركتم يا عباد الله معنى هذا الأمرِ العظيمِ؟

    إنّ معنى ذلك يا عباد الله انقضاء عامٍ كاملٍ بين الشّهرَيْن، فتفكّروا في هذا الأمرِ العجيبِ، أيّامٌ مرَّتْ بسُرعة البرقِ، وعندما نتفكّرُ فيها نجِدُ كأنّها ساعةٌ أو أقلّ، لكنّ معناها كبيرٌ جدًا، لقد نقَصتْ مِن آجالِنا، واللهُ أعْلمُ متى يتِمُّ العددُ، فالأجلُ محدودٌ، والعُمْرُ معدودٌ، وعندما نتفقَّدُ ما حولنا نجِدُ العجبَ العُجاب. استقبلْنا مواليد جدد، وودّعنا كثيرًا مِن الأحبّة، فَقَدْنا فيه بعضَ الأقاربِ والجيران.

    فكمْ مِن ابنٍ كان معه في مِثلِ هذا اليوم أبوه؟ واليوم قد جاء وحيدًا وقد دَفَنَ أباه تحت الثرى. وكمْ مِن أبٍ كان معه ابنُه مِن العامِ الماضي؟ وفي هذا العام هو ذكرى قد واراه الثّرى.
    كمْ مَِن جارٍ كان في مثلِ هذا اليوم مع جيرانِه؟ واليوم مُرتهنٌ في قبرِه لم يأخذْ معه إلاّ أعمالَه.
    كمْ مِن شابٍ كُنّا نظُنُّ أنّه لنْ يموت؟ مات فخلَتْ منه البيوت.
    كمْ مِن مريض ظننّا أنّه لنْ يعيش؟ أبقاه اللهُ.

    عِبَرٌ كثيرةٌ وأحداثٌ عظيمةٌ مرّتْ بنا؛ شبابٌ ماتوا وشُيوخٌ عاشوا، أصِحّاءٌ مرِضُوا ومرضى عُوفُوا، أناسٌ كانوا يذهبون ويروحون، واليوم في بُيوتِهم مُقْعَدُون، أو في قُبورِهم مُرْتَهَنُون ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ[الزمر:21]،وصدق الله ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ[فاطر:37].

    عجبٌ حالُ النّاس! أُناسٌ إلى القُبور ذاهِبةٌ، وأُناسٌ عن رمضان غائبة، وأُناسٌ على فِراشِ المرض راقِدةٌ، وأُناسٌ في البُيوت عاجزة، وأُناسٌ في أُمور الدُّنيا دائبة، والكُلُّ مهما كانت حالُه إلى اللهِ صائرٌ.

    فتفكّروا إخواني في هذا الأمر العجيب، وخُذُوا مِنه العِبَرَ قبل أنْ تأتي اللّحظةُ الّتي يقول المُفرِّطُ فيها:﴿يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ[الزمر:56]،وَلاَتَ حين مَنْدم. واعرِضُوا هذه الأُمور على قُلُوبِكم، وتفكّروا فيها، واجْعلُوها عِبرةً تنْزَجِِرُ بها النُّفوس عن المعاصي والمُنكرات، وتُقْبِلوا على الطّاعات والخيْرات، وتتزوَّدوا للآخرة ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى[البقرة:197].

    وينبغي أيُّها الأحبّة ونحنُ في هذه الأيّام أنْ نقِفَ مع أنفُسِنا وقفةَ مُحاسبةٍ صادِقةٍ، فإنّ مَن غفَلَ عن نفسِه انقضتْ أوقاتُه وهو في الرّدى سائِرٌ، فإنّ الدُّنيا مُلْهِيّةٌ، وإنّ مِن أعظمِ المصائب أنْ تمُرَّ الأيّام على الإنسانِ ولا يُحاسِبُ نفسَه؛ فتَثْقُلُ صفحاتُ سيِّئاته، فإنّ مَن حاسب نفسَه في الدُّنيا (......) لِعثراتِها وزلاّتِها، فقوَّمها على الصِّراط المُستقيم؛ فخَفَّ يوم القيامة حسابُه، وحسُن في الآخرة مآبه﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفََّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ[الأعراف: 8-9].
    يقول عمرُ بن الخطّاب رضي اللهُ عنه: "أيُّها النّاس حاسِبُوا أنفُسَكم قبل أنْ تُحاسَبُوا وزِنُوها قبل أنْ تُوزَنُوا، وتأهّبُوا للعرضِ الأكبرِ على اللهِ ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ[الحاقة :18]"[مِن خطبة لعمرٍ بن الخطّاب رضي الله عنه].

    أيُّها الإخوة الفُضلاء قد اقتَرَبْتُم مِن الدُّخولِ في شهرٍ عظيمٍ، حبيبٍ إلى الرّحمنِ الرّحيمِ، حبيبٍ إلى أهلِ الإيمان والصِّراطِ المُستقيم؛ فبُشراكُم بهذا الشّهرِ العظيم، وإنّه لَشهرٌ حقيقٌ بأنْ يُبشَّرَ به، وإنّ البِشارةَ به لمَِن أعظمِ البِِشارات للمُسلِم؛ فحُقَّ للمُسلِمين الّذين يُدرِكُهم شهرُ رمضان أنْ يفرحوا به، وأنْ يبلُغ الفرحُ مِنهم غايتَه، قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[ يونس: 58].

    فأبشِرُوا يا أهلَ الإسلام، أبشِروا بهذا الشّهرِ العظيم، أبشِر أيُّها الطّائعُ لربِّه، المُجتهِدُ في عِبادةِ ربِّه، المُكثِرُ مِن الحسنات، أبشِرْ بشهرٍ تُضاعف فيه الحسنات، أبشِرْ بشهرٍ تُفتّح فيه الجنّات، أبشِرْ بشهرٍ تُرفع فيه الدّرجات.

    وأبشِرْ أيُّها العاصي، يا مَن أكْثَرْتَ مِن الذُّنوب، يا مَن حمَلْتَ المعاصي فوق المعاصي، أبشِرْ بشهرٍ تُعانُ فيه على نفسِك والشّيطان، أبشِرْ بشهرٍ تُصفّدُ فيه الشّياطين ومَرَدَةُ الجان، أبشِرْ بشهرٍ تُغلّقُ فيه النِّيران.

    أبشِروا يا عباد الله بشهرٍ يُناديكم فيه مُنادٍ مِن السّماء أنّ أبواب الخيْرِ قد أُشْرِعَتْ وفُتِّحَتْ؛ فيا باغيَ الخيْر أقبِلْ، وأنّ أبواب الشَّرِّ قد أوصِدتْ وأُغْلِقَتْ، وسوقُ الشَّرِّ في شهر الخيْرِ كاسِدة؛ فيا باغيَ الشَّرِّ أقصِرْ.

    يقولُ النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "إذا كان أوّلُ ليلةٍ مِن شهرِ رمضان، صُفِّدَتْ الشّياطين ومردةُ الجنِّ، وغُلِّقتْ أبوابُ النّارِ، فلم يُفتحْ مِنها بابٌ، وفُتِّحتْ أبوابُ الجنّةِ، فلم يُغلقْ مِنها بابٌ، ويُنادي مُنادٍ: يا باغيَ الخيْرِ أقبِلْ، ويا باغيَ الشّرِّ أقصِرْ، وللهِ عُتقاءُ مِن النّارِ، وذلك كُلَّ ليلةٍ."[عندالتِّرمذيّ مِن حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه (682)، صحيح التّرغيب والتّرهيب(68/2)]، وقال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "إنّ للهِ عند كُلِّ فِطْرٍ عُتقاء وذلك في كُلِّ ليلة"[أخرجه ابن ماجه من حديث جابرٍ بن عبدالله رضي اللهُ عنه (1643)، وحسّنهُ الألبانيُّ من حديث أبي أمامة رضي اللهُ عنه في صحيح الّترغيب والتّرهيب(1001)]؛ فهنيئا لكم عباد الله بهذا الشّهرِ الّذي كُلُّه مَحاسِن: رحمةٌ ومغفِرةٌ وعِتقٌ مِن النّار.

    فاتّقوا اللهَ عباد الله في شهرِكم الكريم، واحرِصوا فيه على الإكثارِ مِن الأعمالِ الصّالحة، وكونوا مِمّن يجعلون هذا الشّهر سببًا لرِفعةِ درجاتِهم مِمّن يُحيِيه بالخيْر ويُحسِنُ ضِيافَتَه. ولا تكونوا مِمّن يجعلون هذا الشّهر سببًا لِتكْثير السيِّئات والإكثارِ مِن فِعلِ المُحرَّمات. وإيّاكم يا عباد الله أنْ تكونوا فيه مِن المُضيِّعين للأوقات؛ نهارُهُ عندهُمْ للنّوم، وإضاعةِ الصّلوات مع الجماعات، وإخراجِها عن الأوقات، وليلُهُ عندهُمْ للسّهراتِ ومُشاهدةِ المُسلسلات، والتّسكُعِ في الأسواقِ والمُتنزَّهات؛ فإنّ هذا يُحْرَمُ خيْرَ رمضان، وواللهِ..لا يُحْرَمُ خيرَه إلاّ مَحْرُوم.

    والّذي يُدرِكُ شهر رمضان فيُفرِّطُ فيه، ولا يستغِلُّ وقتَه بالإكثارِ مِن الحسنات، والتّقرُّبِ إلى ربِّ السّماوات بالصّالِحات، متى يقْرُبُ يا عباد الله؟! واللهِ إنّه لبعيد.

    وفي الحديث عن أبي هُريرة رضي اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صلّى اللهُ عليه وسلّم :"احضرُوا المِنبر"، فحَضَرْنا ، فلمّا ارتقى الدّرجة الأولى قال:"آمين"، فلمّا ارتقى الدّرجة الثّانية قال:"آمين"، فلمّا ارتقى الدّرجة الثّالِثة قال:"آمين"، فلمّا نزل قُلْنا: يا رسول الله سمِعنا مِنك اليوم شيئا ما كُنّا نسمَعُه، قال: "إنّ جبريل عرَضَ لي فقال: "بَعُدَ مَن أدرَك رمضان فلم يُغْفَرْ له" فقُلْتُ:"آمين"، فلمّا رقيتُ الثّانية قال: "بَعُدَ مَن ذُكِرْتَ عنده فلم يُصلِّ عليك"، فلمّا رقيتُ الثّالثة قال: "بَعُدَ مَن أدرك أبوَيْه الكِبَرُ عنده أو أحدَهما فلم يُدخِلاه الجنّة" فقُلتُ: "آمين" [الحديث أخرجه ابن خُزيمة وابن حبّان، وهذا اللّفظ مِن رواية كعب بن عجرة رضي الله عنه، وهو عند الحاكمُ في المُستدرك(4: 152-153) / (7256)].

    واعلموا أيُّها الإخوة في اللهِ أنّ شهرَكم المُبارك الّذي تقْدُمُون عليه قد جعله ربُّكم موسِمًا للخيْرات، وجعل فيه أعمالاً مُباركات، تُضاعفُ فيها الحسَنات، وتُفتّحُ لها الجنّات، وتتنزّل فيها البركات؛ فتنافسوا فيه في الخيْرات، وتسابقوا فيه إلى الجنّات، وإنْ لم تتنافسوا في هذا الشّهرِ الكريم، فمتى تتنافسون؟ وإنْ لم تتسابقوا في هذا الموْسِمِ العظيم؛ فمتى تتسابقون؟

    وأعظمُ هذه الأعمال وأهمُّها الصِّيام، الذّي هو الإمساكُ عن المُفطِّرات بنيّةِ العبادةِ مِن طُلوعِ الفجر الثّاني إلى غُروبِ الشّمس، وهو سِرٌّ بين العبدِ وربِّه، فالعبدُ يصُومُ ويُمسِكُ عن المُفطِّرات أمام النّاس، وفي خَلَواتِه يكون المُسلِمُ جالِسًا في بيتِه، مُغلِقًا عليه بابَه، ليس عنده أحدٌ مِن النّاسِ، يعطشُ والماءُ العذْبُ الباردُ بين يدْيه، لكِنّه لا يمُدُّ له يدًا، لماذا يا عباد الله؟ لأنّه يعبُدُ اللهَ بهذا العمل، يتقرّبُ إلى اللهِ بهذا العمل، وهو يعْلَمُ أنّ اللهَ يراه في كُلِّ مكان؛ فالصّومُ سِرٌّ بين العبدِ وربِّه، وأجرُ الصّوم سِرٌّ مِن اللهِ لا يعلمُ أحدٌ مِقدارَه، وإنّما اختصّ اللهُ به عزّ وجلّ، فهو سُبحانه يجزي به، وما بالُك يا عبدالله بالجزاء مِن أكرَم الأكرَمِين؟ قال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "قال اللهُ عزّ وجلّ: "كُلُّ عملِ ابن آدم له إلاّ الصّوم فإنّه لي"".

    أيُّها الإخوة تأمّلُوا هذه العبارة: يقول اللهُ عزّ وجلّ: "إلاّ الصّوم فإنّه لي"، وأنت تصومُ، استشعِرْ قولَ ربِّك: "إلاّ الصّوم فإنّه لي"، ما أعذبَها مِن عبارة تقع في قلبِ المُسلِمِ "إلاّ الصّوم فإنّه لي"، يقول النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: قال اللهُ عزّ وجلّ:" كُلُّ عملِ ابن آدم له إلاّ الصِّيام فإنّه لي وأنا أجزي به، والصِّيام جُنَّة، وإذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يرفُث ولا يصْخَب، فإنْ سابَّهُ أحدٌ أو قاتله، فليقُلْ: إنِّي إمرِؤٌ صائمٌ. والّذي نفسُ مُحمّدٍ بيدِه لَخُلُوف فمِ الصّائم أطْيَبُ عند الله يوم القيامة مِن ريح المِسك؛ وللصّائِمِ فرحتان يفرحُهُما: إذا أفطر فرِح بفِطرِه، وإذا لقِيَ ربَّه فرِح بصومِه"[مُتّفقٌ عليه مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ب(1904)- م(1151)]، وجاء في روايةٍ أنّ النّبيَّ صلّى اللهُ عليه وسلّم قال: "كُلُّ عملِ ابن آدم يُضاعفُ، الحسنةُ بعشرِ أمثالها إلى سبعُمائة ضِعف، قال اللهُ تعالى: "إلاّ الصّوم، فإنّه لي وأنا أجزي به، يدعُ شهوتَه وطعامَه مِن أجلي، للصّائم فرحتان: فرحةٌ عند فِطرِه، وفرحةٌ عند لِقاء ربِّه، ولَخُلُوف فمِّ الصّائم أطْيَبُ عند الله مِن ريح المِسك"(7492)- م(1151)].

    والصّومُ يا عباد الله يكون حاجِزًا بين الإنسان والوُقوع في النِّيران، قال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "الصِّيامُ جُنّة مِن النّارِ كجُنّةِ أحدِكم مِن القِتال"[رواه النَّسائيّ (2231) مِن حديث عُثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، صحيح ابن ماجه (1639/ ص132]، بلْ إنّ الصِّيام سببٌ لأنْ يكون الإنسانُ بعيدًا عن النّارِ، قال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "ما مِن عبدٍ يصومُ يومًا في سبيلِ الله إلاّ باعَدَ اللهُ بذلك اليوم وجْهَهُ عن النّارِ سبعين خريفًا"[مُتّفق عليه مِن حديث أبي سعيد الخدريّ رضي اللهُ عنه واللفظ عند مُسلِم (1153)] فلا إله إلاّ الله.

    يا عباد مَن صام يومًا في سبيلِ الله يبتغي بذلك وَجْهَ الله؛ أبعد اللهُ وجهَهُ عن النّارِ سبعين سنة. والصّومُ سببٌ لأنْ يدخُل العبدُ المُسلِمُ الجنّةَ مِن بابٍ خاصٍ، لا يدخلُ مِنه إلاّ الصّائمون، يقول النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "إنّ في الجنّةِ بابًا يُقال له الرَّيَّان، يدخلُ مِنه الصّائِمون يوم القيامة لا يدخُلُ مِنه أحدٌ غيرُهم، فإذا دخلوا أُغْلِق فلم يدخُلْ مِنه أحدٌ"[حديث سهل بن سعد رضي اللهُ عنه؛ مُتّفق عليه: ب(1896)- م(1152)].
    والصّومُ يشفعُ لِصاحبِه يوم القيامة، يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنونٌ، إلاّ مَن أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ، يأتي الوالِدُ لابنِه يطْلُبُ مِنه حسنةً واحدةً يدخُلُ بها الجنّةَ فيقول: "إليك عنِّي إليك عنِّي، نَفْسِي نَفْسِي"، ويأتي الابن لأبيهِ الشّفيقِ به في الدُّنيا فيطْلُبُ حسنةً واحدةً يدخُلُ بها الجنّةَ، فيقول: "إليك عنِّي، نَفْسِي نَفْسِي"، فيأتي الصِّيامُ يشفعُ لصاحبِه، يقول النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "الصِّيامُ والقُرآنُ يشفعان للعبدِ يوم القيامة، يقولُ الصِّيامُ: أي ربِّ، منعتُه الطعامَ والشهوات بالنّهارِ فشفِّعني فيه، ويقول القُرآن: منعتُه النَّوْمَ باللّيلِ فشفِّعني فيه، قال: فيُشَفَّعَان."[رواه أحمد 2/174 (6626) وصحّحهُ الألبانيّ في صحيح الجامع (3882)]؛ والصّوم لا يعدِلُه شيء، فقد قال أبو أُمامة رضي اللهُ عنه لرسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "دُلَّني على عملٍ أدخُلُُ به الجنّةَ" فقال: "عليك بالصّوْمِ فإنّهُ لا مِثْلَ له"[أخرجهُ النّسائيّ (2220)،صحيح الترغيب والترهيب (986)].
    ومَن خُتِمَ له بالصّومِ فمات وهو صائمٌ كان موعودًا بأنْ يُدخَلَ الجنّة، قال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "يا حُذيفة مَن خُتِمَ له بصِيامِ يومٍ؛ يُريد به وجهَ اللهِ عزّ وجلّ؛ أدْخَلَهُ اللهُ الجنّةَ"[رواه أحمد والأصبهانيّ في التّرغيب واللّفظ له (104)، صحيح التّرغيب والتّرهيب (985)].

    هذه يا عباد الله بعض فضائل الصِّيام، فكيف بأعظمِ الصِّيام؟ وهو الصِّيام الواجب في نهارِ رمضان الّذي هو رُكنٌ مِن أركانِ الإسلامِ، وأعظم ما يتقرّبُ به العبدُ إلى ربِّه سُبحانه مِن الصِّيامِ، فإنّه ما تقرّبَ عبدٌ إلى ربِّه سُبحانه بأعظمَ مِمّا افتَرَضَهُ عليه.

    واعلموا عباد الله أنّ اللهَ قد كتب الصِّيامَ على أهلِ الكتاب قبلَنا، وقيل كتبه على النّصارى خاصّة على اختِلافٍ بين العلماء في وقتِ الصِّيامِ الّذي كُتِبَ عليهم، فمِن قائلٍ: إنّ اللهَ كتب عليهم صِيام رمضانُ ثُمّ لا زال يزيدون فيه حتّى جعلوه خمسين يومًا، ونقلوه، فجعلوه بين الصّيفِ والشِّتاء، وقيل إنّ صِيامَهم كان صِيامَ ثلاثة أيام مِن كُلِّ شهرٍ، وكانوا لا يشربون ولا يأكُلون بعد النّوم، ولا يأتون النِّساء في كُلِّ أيّامِ الصِّيامِ.

    وكتب اللهُ الصِّيامَ على المُسلِمين كما كتبه على الّذين مِن قبلِهم، وكان النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم في بدايةِ الأمرِ يصوم ثلاثة أيّام ويصوم عاشوراء، ثُمّ عندما كُتِب الصِّيام على المُسلِمين كان الصِّيامُ في بداية مَشروعيّتِه فيه شيء مِن المَشقّة، فكان المُسلِم إذا صلّى العِشاء حَرُم عليه الطّعامُ والشّرابُ والنِّساء، وصاموا إلى القابِلَةِ، فكان الصِّيامُ أيُّها الأحِبَّة مِن العِشاء إلى المغرِبِ مِن القابِلةِ، ولا يُفطِرُ النّاس إلاّ بين المغرِبِ والعشاءِ. فجاء رجُلٌ وصلّى العِشاء ثُمّ جامَعَ امرأته بعد العِشاء؛ فأراد اللهُ عزّ وجلّ أنْ يجعل في ذلك يُسرًا للمُسلِمين ورُخصةً ومَنفعةً؛ فأباح مُجامعة الرّجلِ زوجتَه في ليلِ رمضان إلى الفجرِ، وكان الرّجلُ مِن المُسلِمين إذا صام فنام لم يأكُلْ، ووَاصلَ الصِّيام، فجاء قَيْسٌ بن صِرْمَة الأنصاريّ رضي اللهُ عنه إلى امرأتِه وكان صائمًا فقال: هل عندك مِن شيءٍ؟ -يُريد أنْ يُفطِر-، قالتْ: لا.. لكن لعلّي أطلُبُ إليك شيئا، فذهبتْ، فغلبتْهُ عينُهُ فنام، فلمّا جاءتْ، قالتْ: خيْبَةً لك؛ لأنّه نام قبل أنْ يأكُل، فلم يطعمْ شيئا ووَاصلَ الصِّيام، وكان يعملُ في أرضِهِ في النّهار، فما انتصف النّهار حتى غُشِيَ عليه، فأُخْبِرَ النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم؛ فيسّر اللهُ على المُسلِمين، وأباح لهم الأكلَ والشُربَ مِن غُروبِ الشّمس إلى طُلُوعِ الفجر الثّاني؛ فكان في ذلك رُخصةٌ للمُسلِمين.

    وكان المُسلِمُ في بداية الصِّيام مُخيَّرًا بين أنْ يصوم أو أنْ يُطعِم عن كُلِّ يومٍ مِسكينًا، ثُمّ نَسَخَ اللهُ ذلك فأَوْجَبَ على المُسلِمين -بالشُّروطِ الّتي سنذكُرُها إنْ شاء الله- صيامَ شهرِ رمضان، وقد بيّن اللهُ ذلك في كتابِه فقال سُبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ * أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾[البقرة:184-188]؛ فاستقرّ الأمرُ على وُجوبِ صيامِ شهرِ رمضان على كُلِّ مسلِمٍ عاقلٍ بالِغٍ قادِرٍ على الصِّيام مُقيمٍ غيرَ حائضٍ ولا نُفساء.

    فغيرُ المُسلِم لا يجب عليه الصِّيام ولا يصِحُّ مِنه، وإنّما يجب عليه أنْ يُسْلِمَ ثُمّ يصوم، فإذا لم يُسْلِمْ عُوقِبَ على كُفرِه وعلى عدمِ صِيامِه. والمجنون لا يجب عليه الصِّيام ولا يصِحُّ مِنه. والصّبيُّ الّذي هو دون البلوغ لا يجب عليه الصِّيام، فمَن كان صبيًّا دون البلوغ لا يجب عليه الصّوم، إلاّ أنّه لو صام صحّ مِنه لوُجود آلة الإدراك فيه، وإنْ كان الصّوم ليس واجِبًا على الصّبيِّ إلاّ أنّه يُسْتحَبُّ لِمَن يقدِر على الصِّيامِ مِن الصِّبيان أنْ يصوم. ويُستحبُّ لِوالِديه أنْ يُصوِّماه إنْ كان مُطيقًا لذلك؛ وله في ذلك الأجر، ولِوالِديْه الأجر أيضًا، وقد كان السّلفُ الصّالِحُ رِضوانُ الله عليهم يُصوِّمون صِبيانَهم. وللأسفِ أيُّها الأحِبّة أنّنا نسمع في هذا الزّمان أنّ بعض الصِّبيان الّذين يُطيقون الصِّيام يطلُبون مِن والِدِيهم أنْ يصوموا، لكنّ الوالِديْن يرفُضان بحُجَّةِ أنّه لا يستطيع، أو أنّ عنده مدرسة، أو أنّه لازال صغيرًا مع أنّ له قُدرةً على الصِّيامِ، وفي ذلك انتكاسٌ للمفاهيم؛ فيُستحَبُّ يا عباد الله أنْ يُعوَّدَ الصِّبيان على الصِّيامِ.

    والصّوم واجبٌ على القادِرِ على الصِّيام، أمّا العاجِزُ عن الصِّيام فلا يخْلو ذلك مِن أُمور:

    أحدُها: العجزُ لِكبَرِ سِنِّه، فإذا وَصلَ الإنسان إلى حدِّ أنّه أصبح لا يعلمُ مِن بعدِ علمٍ شيئا، ولا يُميِّز بلْ عاد الصّبيِّ الصّغير فهذا يسقُطُ عنه وُجوبُ الصّوم، ولا يُكفّر عنه؛ لأنّه ليس مِن أهلِ التّكليف، بلْ سقط عنه التّكليفُ بإطلاقٍ. وإنْ كان الكبيرُ لا يزالُ مُميِّزًا، لا يزالُ عاقِلاً، لا يزالُ مُدرِكًا، لكنّه ضعُفَ عن الصّومِ، وأصبح لا يستطيع الصّيامَ لِكِبَرِ سِنِّه فهذا لا يجِبُ عليه الصِّيام لِقولِ اللهِ عزّ وجلّ: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾[البقرة: 286]، ولِقولِه تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾[الحجّ:78] إلى غيرِ ذلك مِن الأدِلّة الكثيرةِ، إلاّ أنّه يجِبُ عليه أنْ يُطعِم عن كُلِّ يومٍ مِسكينًا، لِكُلِّ مِسكينٍ نِصفُ صاعٍ، أيْ ما يُساوي بالمَوازين اليوم كيلو ونِصف، أيْ أنّه إذا أفطَرَ الشّهرَ كُلَّه؛ فإنّه يُخْرِجُ خمسةً وأربعين كيلو، وهو بالخِيارِ إنْ شاء فرّقه حبًّا غيرَ مطبوخ، وإنْ شاء طَبَخَهُ، ودعا المَساكِين فأشْبَعَهم، فقد قال ابن عبّاس رضي اللهُ عنهما: "الشّيخُ الكبير والمرأةُ الكبيرة لا يستطيعان أنْ يصُومَا؛ فليُطعِمَا مكان كُلِّ يوم مِسكينًا"[رواه البُخاريُّ (4505)]، وقال رضي اللهُ عنهما: "الشّيخُ الكبير الّذي لا يستطيع الصِّيام فيُفْطِرُ ويُطْعِمُ عن كُلِّ يومٍ مِسكينًا نِصفَ صاعٍ مِن حِنطةٍ"[رواه الدّارقطنيُّ 2/205) والحاكم (1607) ]، وعندما ضَعُفَ أنسٍ بن مالك رضي اللهُ عنه عن الصوم؛ صنع جَفْنَةً مِن الثَّرِيد ودعا ثلاثين مِسكينًا فأشْبَعَهم"[رواه الدّارقطنيُّ (2/207) بسند صحيح والبيهقيُّ (4/271)]، وقال مُعاذٌ رضي اللهُ عنه: "ثبتَ الإطعامُ للكبيرِ الّذي لا يستطيع الصِّيام"[عند أبي داود (507) وابن خُزيمة (381-384)]، وهذه الآثار عن الصّحابةِ مِمّا لا يُقال بالاجتهاد فلها حُكم الرّفع إلى النّبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم.

    ثانيها: أنْ يكون العجزُ عن الصِّيامِ لِمرضٍ يشُقُّ معه الصّومُ على الإنسانِ، فإنْ كان المَرَضُ يُرجى بُرؤه ويُأمَّلُ شِفاؤه، إلاّ أنّ الصّوم يشُقُّ عل المَريض لكنّه لا يضُرُّه بزيادة مرض أو نحو ذلك؛ فهنا يُستَحَبُّ للمَريضِ أنْ يُفطِرَ ويقضي بعد ذلك؛ لأنّ اللهَ جعل له رُخصة، واللهُ يُحبُّ أنْ تُأتى رُخَصُهُ قال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾[البقرة:185]،
    أمّا إذا أخبر الأطِّباء أنّ الصّومَ يضُرُّ بالمَريضِ، وقال الأطِّباء للإنسانِ إنّك إنْ صُمْتَ ستتضرّرُ فإنّه يجبُّ عليه أنْ يُفطِر؛ لأنّ إلحاق الضّررِّ بالنّفسِ حرامٌ لا يجوز، وقد قال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "لا ضرر ولا ضِرار"[أخرجهُ الدّارقُطْنِيُّ من حديث أبي سعيد الخُدريّ رضي الله عنه(4/288)، وهو في الصحيحة (250)]؛ فيجبُّ على مِثلِ هذا أنْ يأخُذَ بالرُّخصةِ الّتي جعلها اللهُ عزّ وجلّ له.
    وإذا أفطَرَ المَريض الّذي يُرجى شِفاؤه فإنّه ينتظِر حتّى يُشْفى، فإذا شُفِي فإنّه يقضي ما كان قد أفْطَرَهُ، وإنْ كان المرضُ لا يُرجى بُرؤه ولا يُأمّل معه الشِّفاء؛ فإنّ المَريض يُفْطِر ويُطْعِم عن كُلِّ يومٍ مِسكينًا كالكبيرِ.

    ثالِثُها: أنْ يكون العجزُ عن الصِّيامِ لِحَمْلِ المرأةِ أو إرضاعِها، فإنْ خافتْ الحامِلُ أو المُرضِعُ مِن الصِّيامِ على نفسِها فإنّها تُبْطِلُهُ إذا زال الحمْلُ والإرضاعُ بإجماعِ العلماء، قال ابن قُدامة رحمه اللهُ: "..الحاملُ والمُرضِعُ، إذا خافتا على أنْفُسِهما، فلهما الفِطْرُ، وعليهما القَضَاءُ فحسْبُ، لا نعلمُ فيه بين أهلِ العلمِ اختلافًا؛ لأنّهما بمنزِلةِ المريضِ الخائفِ على نفسِه، وإنْ خافتا على ولدَيْهِا أفْطَرَتَا، وعليهِما القَضاءُ وإطْعامُ مِسْكينٍ عن كُلِّ يومٍ"[المُغني (ط5): 393-394]، فعن أنسٍ رضي اللهُ عنه، قال قال رسول اللهُ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "إنّ اللهَ تبارك وتعالى وضع عن المُسافِرِ شَطْرَ الصّلاةِ، وعن الحامِلِ والمُرضِعِ الصّوم"[أخرجهُ التِّرمذيُّ وغيرُه، قال أبو عيسى حديث أنس بن مالك حديث حسن (715)، وجوّد الألبانيُّ إشنادَهُ في المشكاة(2025)]، وقال ابن عبّاس رضي اللهُ عنهما: "الحُبلى والمُرضِعُ إذا خافتَا؛ أفْطَرَتا وأطْعمَتا عن كُلِّ يومٍ مِسكينًا"[ عند أبي داود (2317و2318) والطّبريّ في تفسيرِه(3/425)]، وسُئِل ابن عمر رضي اللهُ عنهما عن المَرأةِ الحامِلِ إذا خافتْ على ولدِها فقال: "تُفْطِر، وتُطْعمُ مكان كُلِّ يومٍ مِسكينًا"[عبدالرّزّاق(4/218) والدّارقطنيُّ(2/207)]، ولكن هل تقضي الحامِلُ أو المُرضِع إذا خافتْ على ولدها فأفْطرتْ وأطْعمتْ؟
    هذا مسكوتٌ عنه في الآثارِ، وقد اختلف فيه العلماء؛ والصّواب أيُّها الأحبّة أنّها يجِبُ عليها أنْ تقضي؛ لأنّ القاعدةَ في الإسلام أنّ كُلَّ مَن أفْطَرَ لعُذرٍ يُرجى زوالُه؛ فإنّه يجبُ عليه قضاء ما أفْطَره كالمُسافِرِ، وكالمَريضِ الّذي يُرجى شِفاؤه.

    والصّومُ واجِبٌ على المُقيمِ، أمّا المُسافِرُ فإنّه يجوز له الفِطْرُ. والمُسافِرُ هو مَن خرج مِن بيْتِهِ قاصِدًَا قطْع مسافةٍ معلومةٍ، لكن ما هي المسافة الّتي يكون بها المُسلِمُ مُسافِرًا؟
    في المَسألةِ خلافٌ بين العلماء، والّذي ظهر في المَسألةِ -واللهُ أعلم- أنّ مَن خرج مِن بيْتِهِ قاصِدًا قطْع مسِيرةً يومٍ وليلةٍ وهي ما يقْرُبُ مِن ثمانين كِيلاً؛ يكون مُسافِرًا، سمّاهُ النّاسُ مُسافِرًا أو لم يُسمّوه؛ لأنّ النّبيَّ صلّى اللهُ عليه وسلّم سمّاه مُسافِرًا، ولا تسْمِيَّةَ لأحدٍ بعد تسْمِيَّة رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم، يقول النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "لا يحِلُّ لامرأةٍ تُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخرِ، تُسافِرَ مسِيرةَ يومٍ وليلةٍ، إلاّ مع ذي مَحْرَمٍ عليها"[أخرجهُ مُسلِمٌ من حديث أبي هريرةٍ رضي اللهُ عنه (1339)]، أمّا إنْ كانتْ المسافةُ دون الثّمانين كيلو، فإنْ خرج إلى سبعين كيلو أو ستّين كيلو؛ فالراجِحُ مِن أقوالِ العلماء أنّ ذلك يرجعُ إلى العُرْفِ‘ فإنْ كان النّاسُ في عادتِهم يرَوْنَهُ سفرًا فهو سفرٌ، وإنْ كان لا يروْنّهُ سفرًا فليس بسفرٍ؛ لأنّ ذلك مسْكوتٌ عنه، والقاعدة عند العلماء أنّ كُلَّ شيءٍ جاء في الشّرعِ مُطلقًا، ولا ضابِطَ له في الشّرعِ، ولا في اللُّغةِ؛ يُرْجعُ فيه إلى العُرْفِ.

    ويجوز للمُسافِرِ أنْ يصوم ويجوز له أنْ يُفْطِر، فقد ثبتَ عن الصّحابةِ رِضوان اللهِ عليهم أنّهم كانوا يُسافِرون مع الرّسولِ صلّى اللهُ عليه وسلّم، وفيهم المُفْطِرُ، وفيهم المُسافِرُ، وفيهم الصّائِمُ؛ ولا يعِيبُ المُفْطِرُ على الصّائِمِ ولا الصّائِمُ على المُفْطِرِ[عن أبي سعيد الخُدريّ وجابر بن عبدالله رضي اللهُ عنهم عند مُسلِمٍ (1117)]، لكن أيُّهما أفضل للمُسافِرِ؟
    الصّحيحُ مِن أقوال أهلِ العلم أنّ المُسلِمَ إذا كان يشُقُّ عليه الصّومُ في السّفرِ، ويسْهُلُ عليه القضاءُ بعد ذلك؛ فالأفضلُ لهُ أنْ يُفْطِر إذا كان مُسافِرًا، وهذا الّذي قال فيه النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "ليس مِن البِرِّ الصّيامُ في السّفرِ"[مُتّفقٌ عليه مِن حديث جابر بن عبدالله رضي اللهُ عنهما، واللّفظ للبُخاريّ: ب(1946) – م (1115)].

    أمّا إذا كان المُسلِمُ يسهُلُ عليه الصِّيامُ في السّفرِ، ويشُقُّ عليه القضاء بعد ذلك، إذا قال: أنا مُسلِمٌ إذا سافرتُ ؛ كان السّفرُ عليّ هيِّنًا، فدابتي هيِّنّةٌ، وأنا مُرتاحٌ، ويسهُلُ عليّ أنْ أصوم، ويشُقُّ عليّ إذا أفْطَرْتُ أنْ أَقْضِيَ بعد ذلك؛ فالأفضلُ له أنْ يصومَ إذا كان مُسافِرًا؛ لأنّ المقصود مِن الرُّخْصةِ هو التَّيْسِير على النّاسِ فأنّى تحقّق التَّيْسِير فهو الأفضل؛ ومتى يُفِطِرُ المُسافِرُ؟
    الصّحيح مِن أقوالِ أهلِ العلم أنّ الإنسان إذا تأهّب للسّفرِ وعزمَ عليه عزْمًا مُؤكّدًا، وجهّزَ راحِلتّه للسّفرِ أنّه يجوزُ له الفِطْرُ ولو كان في بيْتِه، فعن مُحمّدٍ بن كعب قال: "أتيْتُ أنسٍ بن مالك _رضي اللهُ عنه_ في رمضان وهو يُريد سفرًا وقد رُحِّلَتْ له راحِلَتُهُ، ولبِس ثياب السّفر، فدعا بطعامٍ فأكل، فقُلْتُ له: سُنّة؟ قال: سُنّة ثُمّ ركِب[وهو عند التِّرمذيُّ (799) وقال: هذا حديث حسن صحيح].

    وهذه الأحكام ثابِتَةٌ لِلمُسافِرِ سواءٌ كان سفرُه مُستَمرًا أو مُنقطِعًا، وقد يقول قائلٌ: إذا خرجتُ إلى بلدٍ مُسافِرًا، فمتى ينقطِعُ سفرِي؟
    الجواب: أنّه بالنّظرِ في أقوالِ العلماء وفي أدِلَّتِهم، يظهرُ أنّ أقواها أنّ مرجِع ذلك إلى العادةِ، فالإنسانُ مُسافِرٌ ما عُدَّ في العادةِ مُسافِرًا، ولو زاد على أربعةِ أيّام، فمَن ذهب مثلاً إلى مكّةَ يُريد أنْ يقضي العشرَ الأواخِر في مكّة، فإنّه يجوز له أنْ يُفطِر، لكنّ الأفضلَ له إذا زادتْ إقامَتُه على أربعةِ أيّام أنْ يصوم خُروجًا مِن خِلاف العلماء، والعلماء يقولون الخُروج مِن الخِلاف مُستحَبٌّ.

    والصّومُ واجبٌ على غيرِ الحائضِ والنُّفساء، أمّا الحائضِ والنُّفساء فلا يجوز لها الصّوم.

    انتبِهوا يا عباد الله ، علِّموا ذلك للنِّساء، فإنّا نعلم أنّ بعض النِّساء تظُنُّ أنّ الفِطْرَ لها رُخصة، وأنّه يجوز لها أنْ تصوم؛ وهذا خطأٌ، فإنّ صِيامِ الحائض والنُّفساء حرامٌ ومُنكرٌ مِن المُنكرات، فيجِبُ عليها الإفطار ولا يجوز لها الصّوم، يقول النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم عن المرأة: "أليس إذا حاضَتْ لم تُصَلِّ ولم تصُمْ؟"، قُلْن: بلى[مُتّفقٌ عليه مِن حديث أبي سعيد الخُدريّ رضي اللهُ عنه واللّفظُ للبُخاريّ: ب(304)- م(243)].
    ويجبُ على الحائضِ والنُّفساء القضاء بعد ذلك، قالتْ عائشةٌ رضي اللهُ عنه: "كان يُصيبُنا ذلك؛ فنُؤْمرُ بقضاء الصّوم"[رواه مُسلِم (763)].

    إذًا صومُ رمضان واجبٌ على كُلِّ مُسلِمٍ عاقِلٍ بالِغٍ قادِرٍ مُقيمٍ غير حائِضٍ ولا نُفساء؛ فصُوموا عباد الله شهرَكم إيمانًا بالله، وبأنّه رُكنٌ مِن أركانِ الإسلام، واحتِسابًا للأجرِ مِن الله، وقد قال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "مَن صامَ رمضان إيمانًا واحتِسابًا غُفِرَ له ما تقدّم مِن ذنبِه"[متّفقٌ عليه مِن حديثِ أبي هريرة رضي اللهُ عنه: ب(37)- م(1779)].

    وينبغي على العبدِ المُسلِم أنْ يجتهِد في صَوْنِ صِيامه عن كُلِّ ما يُبْطِلُه أو ينْقُصُه أو يخْدُشُه أكثر مِن اجتِهادِ صاحبِ المال في صِيانتِه وحِفظِه، فالصّومُ عند المُسلِمِ جوْهرةٌ نفِيسةٌ أغلى مِن الأموالِ، يصُونُها ويحفَظُها مِن كُلِّ خَدْشٍ.

    فيا عباد الله ينبغي علينا أنْ نبتعِد عن كُلِّ ما يُبطِلُ الصّومَ أو ينْقُصُه، فللصّومِ شُروطٌ لصِحّتِه، لا يصِحُّ إلاّ بها، وله آدابٌ لا يكتَمِلُ إلاّ بتحْصِيلِها، فمِن شُروطِ صِحّة الصِّيام أنْ يكون الصّائمُ مُسلِمًا، فلا يقْبلُ اللهُ الصِّيامَ إلاّ مِن مُسلِمٍ.

    أمّا الكافِرُ فمَهْمَا عمِلَ مِن عمَلٍ؛ فعملُه مرْدُودٌ عليه حابِطٌ باطِلٌ، وقد يقول لي قائِلٌ: إنّنا بحمدِ الله في هذا البلد كُلَّنا مِن المُسلِمين، ولا يُوجَدُ بيننا كافِرٌ؛ وهذا خطأٌ، فبعضٌ مِمّن يعِيشون معنا في دِيارِنا، بلْ قد يكون بعضُهم في بيوتِنا كُفّارٌ ليسوا مِن المُسلِمين، ليسوا على مِلّةِ رسولِ الله صلّى اللهُ عليه وسلّم، إنّهم أناسٌ يقولون: أشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنّ مُحمّدًا رسولُ الله، ومع ذلك هم كُفّار لا تُقْبَلُ مِنهم الأعمال؛ إنّهم يا عباد الله الّذين يتْرُكون الصّلاةَ قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُواالصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾[التّوبة:11]، فاشترط اللهُ عزّ وجلّ للدُّخولِ في دينِ الإسلام التّوبةَ مِن الشِّرْكِ، وإقامَ الصّلاةَ، وإيتاءَ الزّكاة، وخرجَتْ الزّكاة مِن هذا لأدِلّة أُخرى، وبقِيَتْ التّوبةُ مِن الشِّرْكِ، وإقامِِ الصّلاة، وقال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "بين الرّجُلِ وبين الشِّركِ والكُفْرِ تركُ الصّلاةِ"[حديث جابر بن عبدالله رضي اللهُ عنهم في صحيحِ مُسلِم (247)]، فالحدُّ الفاصِلُ والحاجِزُ القاطِعُ بين الإسلام والكُفْرِ تركُ الصّلاة، فمَن ترك الصّلاة فقد تجاوز الإسلامَ ودخل في الكُفْرِ، يقول النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "العهدُ الّذي بيننا وبينهم الصّلاة فمَن تركها فقد كفر"[أخرجه التِّرمذيُّ عن بُرَيْدةِ رضي اللهُ عنه(2621) وقال هذا حديث حسن صحيح غريب]، وجاء عن عبدالله بن شقيق أنّه قال: "كان أصحابُ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم لايروْن شيئا مِن الأعمالِ ترْكُهُ كُفْرٌ غيرَ الصّلاة"[موقوف عند التّرمذي(2622)، وصحّحه الحاكمُ على شرطِهما(1/183)]، وقال عبدالله بن مسعود رضي اللهُ عنه: "مَن ترك الصّلاةَ فلا دين له"، وقال أبو الدّرداء رضي اللهُ عنه: "لا إيمانَ لِمَن لا صلاةَ له"، ولِذا يا عباد الله مَن صام وهو لا يُصلِّي؛ فصَوْمُهُ باطِلٌ حابِطٌ مرْدُودٌ عليه لا يُقْبلُ مِنه، وإنّما الواجِبُ عليه أنْ يُصلِّي ويصوم لِينجو مِن عذابِ الله.

    وقد يقولُ لنا قائلٌ: أنا كُنتُ في أيّام الجهل لا أصلِّي وكُنتُ أصوم، وأنا الآن -بحمدِ الله- مُحافِظٌ على الصّلاةِ ولا أتْرُكُها؛ فهل يجِبُ عليَّ أنْ أقضي صِيام الأيّام الّتي كُنتُ أصومُها ولا أُصلِّي؟
    فنقول: إنّ ربَّنا الكريم الرّحيم رحِمَ عبادَه، فلم يُكلِّفْهم بقضاءِ الأعمالَ الّتي فاتَتْهم في أثناء الكُفْرِ، قال اللهُ تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، وقال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم لِعَمرٍ بن العاص رضي اللهُ عنه: "أما علِمْتَ أنّ الإسلام يهدِمُ ما كان قبلَه"[رواه مُسلِمٌ (321)]، ولِذا فمِثلُ هذا السّائل تكْفِيه التّوبة، ولا يجِبُ عليه قضاء الصِّيام الّذي كان لا يُصلِّي فيه، سواءٌ كان يصوم حال ترْكِ الصّلاة أو كان لا يصُوم، وليس عليه -بحمدِ الله- شيء؛ وليُبْشِرْ ثُمّ ليُبْشِرْ ثُمّ ليُبْشِرْ، فإنّ الإسلامَ نهرٌ عظيم يغْفِرُ كُلَّ ما كان قبلَه مهما كان، وليحمد الله على العافية.

    وهنا يا عباد الله أُنبِّهُ على أمرٍ يتعلّق بالصّلاةِ وهو أنّ بعضَ المُسلِمين يُصلُّون ويصُومون، وصوْمُم صحيح إلاّ أنّهم -للأسف الشّديد- إذا جاء شهرُ الخيْرات والإحسان وكثرة العبادات، إذا جاء شهرُ الاجتِهاد في الطّاعات يُصيبُهم الكسل، فيقَعُون في التّفْريطِ في بعضِ الأُمور الّتي تتعلّقُ بالصّلاةِ، ومِن ذلك تفريقُ بعضُ المُسلِمين الرِّجالِ والنِّساء، مِن الشُّبّان والشّابات في أداء الصّلاة في وقتِها، وهذا مُنْكرٌ عظيمٌ ومعْصِيَةٌ كبيرةٌ يجِبُ على المُسلِمِ أنْ يحرِص على التّخلُّصِ مِنها، فبعضُ النّاس -هدانا اللهُ وإيّاهُم- قد يسهرُ في رمضان حتّى يتسحّر، فإذا تسحّر نام قبل صلاة الفجر، ولا يُصلِّي صلاةَ الفجر إلاّ عند مُنتصَفِ النّهار، وبعضُ النّاس قد يُواصل السّهر إلى النّهار ثُمّ ينام، ولا يستيقظ لصلاةِ الظُّهرِ في وقتِها، وإنّما يُصلِّيها مع العصرِ، وهذه كبيرة مِن كبائرِ الذُّنوب في غيرِ رمضان؛ وهي تعْظُمُ في رمضان، قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾ [النِّساء:103]، وقال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾[الماعون:4-5]، قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: "هم الّذين يُؤخِّرون الصّلاة إلى آخر وقتِها ثُمّ ينقُرونها نَقْرًا".

    فيا عباد الله إذا كان الّذي يتعمّد تأخير الصّلاة إلى آخر وقتِها مُتوَعّدًا بدُخولِ النّار، فكيف بمَن يُؤخِّرُها حتّى يخرُج وقتُها؟ وقال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم لأصحابِه: "هل تدْرُون ماذا يقول ربُّكم تبارك وتعالى؟" قالوا: اللهُ ورسُولُه أعلم. قال يقول: "وعِزّتي وجلالي لا يُصلِّيها أحدٌ لوقتِها إلاّ أدخلتُهُ الجنّة، ومَن صلاّها بغير وقتِها إنْ شِئتُ رحِمْتُهُ وإنْ شِئتْ عذّبْتُهُ."[أخرجه البيهقيُّ في الأسماء والصّفات(279) والطّبرانيّ (10555) من حديث ابن مسعود رضي اللهُ عنه، ضعّفهُ الألبانيُّ في الضّعيفة (1338)].

    فاتّقوا اللهَ عباد الله، لا تُعرِّضوا أنفُسَكم لعذابِ الله في شهر الخيْرات وفي كُُلِّ الأوقات، حافِظوا على أداء الصّلاة في أوقاتِها، واحرِصوا على إيقاظِ أبنائِكم وبناتِكم لأداء الصّلاة في وقتِها، ومِمّا يتعلّق بالصّلاة ما يقعُ مِن بعضِ الرِّجالِ خاصّة، وهو التّفريطُ في أداء الصّلاة مع الجماعةِ، فللأسفِ الشّديد أنّ بعضَ الرِّجال إذا جاء شهرُ رمضان بدلاً مِن أنْ يزيد اهتِمامُه بصلاته؛ ينعكِسُ الأمرُ فيُفرِّطُ في شأنِها، ويتهاونُ في أدائِها مع الجماعةِ ؛ وهذا ذنبٌ عظيمٌ ينبغي على المُسلِمِ أنْ يتخلّصَ مِنه في كُلِّ وقتٍ، وفي هذا الشّهرِ خاصّة، فإنّ أداء الصّلاة مع الجماعة واجِبٌ على الرِّجال، فقد قال تعالى: ﴿وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [البقرة:43]، وجاء رجلٌ أعمى إلى رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّم فقال يا رسول الله: إنّه ليس لي قائِدٌ يقودُني إلى المسجدِ، فسأل رسولَ اللهِ صلّى ُ عليه وسلّم أنْ يُرخِّص له فيُصلِّي في بيتِه، فرخّص له، فلمّا ولّى دعاهُ؛ فقال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "هل تسمع النِّداء بالصّلاةِ؟" فقال: نعم، قال: "فأجِبْ"[رواهُ مُسلِمٌ مِن حديثِ أبي هريرة رضي اللهُ عنه (653)].

    ومِن شُروطِ صِحّة الصّوم أيُّها الأحبّة أنْ يكون الصّائِمُ عاقِلاً، فالمجنون لا يصِحُّ مِنه الصّوم، ومِن شُروطِ صِحّة الصّومِ في الفريضة تبيِّيتُ النِّيّة مِن اللّيلِ لِقولِ النّبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "مَن لم يُبيِّتْ الصِّيام مِن اللّيلِ فلا صِيامَ له"[حديث حفصة رضي اللهُ عنها عند أبي داود(2454) وغيرِه، وصحّحهُ الألبانيُّ مرفوعًا في الإرواء(914)]، فيُشْترَطُ لِصِحّةِ الصِّيامِ في رمضان أنْ تنْويَهُ مِن اللّيلِ، فلو أنّ الإنسان نام في الّليلِ، وعندما استيْقظ لصلاةِ الفجْرِ بعد الأذان علِمَ أنّ شهرَ رمضان قد دخل، فنوى الصِّيام بعد أذان الفجْرِ، فإنّه يجِبُ عليه الإمساك بقيّة اليوم، لكن لا يصِحُّ مِنه صيام ذلك اليوم، ويجِبُ عليه قضاؤه.

    ولو أنّ شخْصًا أراد أنْ ينام قبْلَ أنْ يعلَمَ بدُخولِ شهرِ رمضان فقال إنْ كان غدًا مِن رمضان فإنِّي صائم، وإنْ لم يكُنْ مِن رمضان فإنِّ فاطِرٌ، فإنّه لا يصِحُّ مٍِنه صِيامُ ذلك اليوم؛ لأنّ النِّيّة لا بُدّ فيها مِن الجزمِ، ولا تصِحُّ مع التّردُّدِ.

    فإنْ قال لنا قائِلٌ، إذا نوى الإنسان الصِّيام في أوّل ليلةٍ مِن رمضان، فهل يجِبُ عليه أنْ ينوِي لكُلِّ ليلة؟
    نقول: إنّ الصّحيح مِن أقوالِ العلماء أنّه يُستحبُّ له أنْ ينوِي لكُلِّ ليلةٍ ولا يجِبُ؛ لأنّ الأصلَ أنّ النِّيّةَ موجودة إلاّ إذا قطع الصِّيام، قاطِعٌ كما لو سافرَ المُسلِمُ في رمضان فأفْطَرَ، فإنّه إذا عاد يجِبُ عليه أنْ يبدأ النِّيّةَ. وكذا لو حاضَتْ المرأةُ في رمضان ثُمّ أرادتْ أنْ تصُوم، فإنّه يجِبُ عليها أنْ تنوِي مِن اللّيلِ، هذا ما يتعلّقُ بصِيام الفريضةِ.

    أمّا صومُ النّافِلة كصومِ الاثنين والخميس، فإنّه يصِحُّ لو نواه مِن النّار قَبْلَ أن يأكُل ويشْرَبَ، فقد جاء عن عائشة رضي اللهُ عنها أنّ رسولَ الله صلّى اللهُ عليه وسلّم دخل عليها يومًا، فقال: " هل عندكم مِن شيءٍ؟ فقُلنا: لا، قال: "فإنّي إذنْ صائِمٌ"[رواه مُسلِمٌ (1154)].

    ومِمّا ينبغي أنْ تعلمَه أيُّها المُسلِم، أنّ مَن نوى الإفطار وعزم عليه عزمًا مُؤكَدًا بحيثُ جزم بالفِطْرِ فقد أفْطَرَ ولو لم يأكُلْ أو يشْرَبْ، هذا هو قولُ جُمهور العلماء لِقولِ النّبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "إنّما الأعمالُ بالنِّيّات وإنّما لِكُلِّ إمْرِئ ٍما نوى"[مُتّفقٌ عليه مِن حديث عمر بن الخطّاب رضي اللهُ عنه، واللّفظ للبُخاريّ: ب(1و54) – م (1907)].

    ومِن شُروطِ صِحّة الصّومِ الخاصّة بالمرأةِ انقِطاع دمِّ الحيض أو دمِّ النِّفاس، فإنْ لم ينْقَطِعْ دمُّ الحيض لم يصِحْ صومُ الحائض، ولو انْقَطَعَ بعد الفجْرِ بلحظاتٍ قليلة فإنّه يجِبُ عليها الإمساك بقيّة النّهار، ثُمّ يجِبُ عليها قضاء هذا اليوم بعد ذلك، أمّا إذا انْقَطَعَ دمُّ الحيض عن المرأة قبل الفجْرِ ولو بلحظةٍ واحدةٍ، ونَوَتْ الصِّيام قبل الفجْرِ، فإنّه يصِحُّ صومُها ولو لم تغْتسِلْ إلاّ بعد الفجْرِ.

    ومِن شُروطِ صِحّة الصّوم الإمساك عن المُفطِّرات مِن طُلوع الفجْرِ الثّاني إلى غُروب الشّمس.
    ومِن تِلكم المُفطِّرات الجِماع في نهار رمضان، وهو أشدُّها وأعظمُها، فمَن أتى أهلَه في نهارِ رمضان؛ فإنّ عليه أنْ يتوب وأنْ يقضِي ذلك اليوم مع كفّارةٍ مُغلَّظةٍ عن كُلِّ يوم وهي عِتْقُ رقبةٍ عن كُلِّ يومٍ، فإنْ لم يستطِعْ يصوم شهرَيْن مُتتابِعيْن عن كُلِّ يومٍ، فإنْ لم يستطِعْ يُطعِمُ ستِّين مِسكينًا عن كُلِّ يومٍ، ومَن أفطرَ يومَيْن فعليه كفّارتان وهكذا، وكذلك المرأة إذا كانتْ مُطاوِعةً لِزوجِها في الجِماعِ عليها القضاء والكفّارة، أمّا إذا أكرهها زوجُها بدون رِضاها فعليها القضاء فقط بدون كفّارة.


    ومِن المُفطِّرات إنزال المنيِّ باختِيارِ الصّائم في نهار رمضان كلأنْ كرّر لمسَ زوجتِه أو قبّلها حتّى خرج المنيُّ أو فعل الفعل المُحرّم القبيح وهو الاستمناء ياليدِّ وهو ما يُسمّى بالعادة السِّريّة، فمَن خرج مِنه المنيُّ باختِيارِه فعليه القضاء، أمّا مَن خرج مِنه المنيُّ دون اختِياره، كمَن نام في نهارِ رمضان فاحْتَلَمَ فلا شيء عليه وصومُه صحيح، ومَن أدركه الفجْرُ وهو جُنُبٌ لم يغتسِلْ، فصومُهُ صحيح حتّى ولو اغتَسَلَ بعد الفجرِ، أمّا مَن خرج مِنه المذيُّ وهو السّائلُ الرّقيق الّذي يخرُجُ عند المُداعبة أو التّفكُّر فإنّه لا يُفْطِرُ لأيِّ سببٍ كان.

    ومِن المُفطِّرات إيصالُ الطعام أو الشّراب إلى جوْفِ الإنسان، سواءٌ كان نافِعًا أو غير نافِع، فإذا أوْصَلَ المُسلِمُ الطّعامَ إلى جوفِه عن طريقِ الفمِّ أو الأنفِ فقد أفطر، وكذلك لو أوْصَلَ شيئا إلى جوْفِهِ عن طريقِ الدُّبُرِ كَأَن استعْمَلَ ما يُسمّى بالتّحاميل فإنّه يُفْطِرُ.

    ومِن الأُمور الّتي تُفطِّرُ الصّائمَ استِعمال الإبرِ الّتي تصِلُ إلى جوْفِ الإنسان، وتنتقِلُ إلى الجوْفِ سواءٌ كانتْ مُغذِّيّة أو غير مُغذِّيّة على الصّحيحِ مِن أقوال العلماء على ما ظهر لنا، لِماذا؟
    لأنّ الإبرَ المُغذِّيّة تُشْبِهُ الطّعام النّافِع، والإبرُ الغيرَ مُغذِّيّة تُشْبِهُ الطّعام غيرَ النّافِع، بلْ هي أشدُّ مِنه لِوُجوج نفعٍ للجِسمِ مِنها، ولِوُجود سوائل فيها تُشْبِهُ الماء، أمّا الإبر الّتي لا تصِّل إلى الجوفِ وهي الإبَرُ المَوْضِعيّة كالّتي تُستعْمَلُ لتَخْدِيرِ الأسنان ونحوِها فهذه لا تُفطِّر؛ لأنّها لا تصِلُ إلى جوفِ المُسلِمِ.

    ومِن المُفطِّرات أنْ يتعمّد الصّائِمُ القَيْءَ، كأنّ يُدخِلَ أُصْبَعَهُ في فمِهِ، أو يشُمُّ رائحةً تُهيِّجُهُ مُتعمِّدًا فإنّه إذا قاء فإنّه يُفْطِر، أمّا إذا غلب عليه القّيْءُ مِن غبر أنْ يقصِدهُ، فصومُهُ صحيح ولا شيء إذا لم يتعمَّدْ إرجاع شيء مِنه إلى جوفِهِ، قال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "مَن ذرعهُ القَيْءُ فلَيْس عليه قضاءٌ، ومَن اسْتَقَاءَ عمْدًا فَلْيَقْضِ"[أخرجهُ التِّرمذيُّ وغيرُه مِن حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه (720)، وصحّحهُ الألبانيُّ في الإرواء (930)].
    وإذا كان الإنسانُ شبعانًا فتنفّس أوتجشّأ أو كما يقول العامّة ترع؛ فخرج مِن جوفِهِ شيءٌ مِن الطّعام مع النّفس فلا شيء عليه، وصومُهُ -بحمدِ الله- صحيح، ولكن يجِبُ عليه إذا وصَلَ الطّعامُ مِن جوفِهِ إلى حلْقِهِ أنْ يُخْرِجَهُ مِن فمِهِ، وأنْ لا يبتَلِعَهُ مرَّةً أُخرى، وكذلك النُّخامة الّتي تُشْبِهُ الزُّكام، إذا كانت في الصّدرِ قبل الحَلْقِ فإنّها لا تضُرُّ الصّائم، ولا يجِبُ عليه أنْ يُخرِجها، ونجِدُ بعض إخوانِنا يُخطِئون، فتجِدُ أنّه يُتْعِبُ نفسَهُ، وتجِدُ أنّه يتنحنح ويُتعبُ نفسَه لِيُخرج ما في صدرِهِ مِن النُّخامة؛ لأنّه سمِع أنّ العلماء يقولون إنّ النُّخامةَ تُفطِّر، وهذا فهِم كلامَ العلماء خطأ، فإنّ المقصود بالنُّخامة الّتي تُفطِّر هي الّتي تكون في الفَمِ قبل الحلق، فإنّ هذه يجِبُ على الإنسان أنْ يلفُظَها، ولا يجوز له أنْ يبتَلِعها إلى حلْقِهِ.

    ومِن المُفطِّرات وُصول شيء له جُزيْئِيات إلى الجوْفِ كشُربِ الدُّخّان المُحرَّم -عياذًا بالله مِن ذلك-، وكاسْتِنْشاقِ البَخور مُباشرةً مِن المبخرةِ، فإنّ البَخور له جُزيْئِيات تصِلُ إلى جوْفِ الإنسان، أمّا إذا اشْتَمَّ الإنسان رائحةَ البَخُور ولم يضعْ أنْفَهُ على المبخرة مُباشرة فإنّ ذلك لا يُفطِّره -بحمدِ الله-.

    ومِن الأمور الّتي اختلف العلماء في كوْنِها مُفَطِّرة الحِجامة، والخلاف فيها قويّ وذلك لِتعارُض الأدِلّة، حيثُ جاء عن النّبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم أنّه قال: "أفْطَرَ الحاجِمُ والمَحْجُوم"[أخرجهُ أبو داود(2367) مِن حديث ثوبان رضي اللهُ عنه ، وصحّحهُ الألبانيُّ في الإرواء(931)]، وجاء عنه صلّى اللهُ عليه وسلّم أنّه احتجَمَ وهو صائِمٌ، وقد رجّح بعضُ أهل العلم أنّ الحِجامةَ تُفطِّر، ورجّح حديث الفِطْر على جواز الاحْتِجام مع الصّومِ بأنّ حديث "أفْطَرَ الحاجِمُ والمَحْجُوم" ناقِلٌ عن الأصلِ، والنّاقِلُ عن الأصلِ مُقدَّمٌ على المُبْقِي على الأصلِ، وفي هذا نظرٌ مِن وجهيْن:

    الوجهُ الأوّل: أنْ يُقْلَبَ فيُقال الأصلُ الفِطْر بالحِجامة، وحديثُ أنّ النّبيَّ صلّى اللهُ عليه وسلّم احتجم وهو صائمٌ ناقِلٌ عن الأصلِ، فيُقدّم على حديثِ "أفْطَرَ الحاجِمُ والمَحْجُوم".
    فإنْ قيل ما الدّليل على أنّ الفِطْرَ بالحِجامة هو الأصل، قُلْنا قد صحّ مِن حديث أبي سعيدٍ الخُدريّ رضي الله عنه أنّه قال: "رخّص رسولُ الله صلّى اللهُ عليه وسلّم في القُبْلةِ للصّائِمِ والحِجامةِ"[قال ابن حجر: "رجاله ثقات لكن اختلف في رفعه ووقفه"؛ فرجّح الدّارقطنيُّ رفعه ورجّح التّرمذيُ وقفه، قال ابن خُزيمة في صحيحه(1967) لفظة"الحجامة للصّائِم" مُدرجة في خبر النّبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم]، والتّرخيص لا يكون إلاّ بعد مَنْعٍ؛ فدلّ ذلك على أنّ الأصلَ هو المَنْعُ مِن الحِجامةِ.

    أمّا الوجهُ الثّاني: فنقول سلّمْنا أنّ الأصلَ عدم الفِطْرِ بالحِجامةِ، ثُمّ نُقِلَ عن هذا الأصل بحديث "أفْطَرَ الحاجِمُ والمَحجوم"،لكِنّا نقول: إنّ هذا الحُكم رُفِعَ بعد ذلك بالتّرخيصِ بالحِجامة للصائِمِ، ويشْهدُ لذلك أحاديث جاء فيها أنّ النّبيَّ صلّى اللهُ عليه وسلّم احْتجم وهو صائِم، وأذِن بالحِجامة للصّائِمٌ؛ مِن أجلِ هذا أيُّها الأحِبّة يظهر لي واللهُ أعلم، أنّ الّذي يطْمئِنُّ إليه القلْبُ أنّ الحِجامةَ لا تُفطِّر، لكنّ الخِلاف فيها قويٌّ جدًَا، فالأفضلُ للإنسان أنْ لا يحْتجِم في نهارِ رمضان، ومَن الّذي يُحْرِجُهُ لأنْ يحتجِم في نهارِ رمضان.
    ومِثل الحِجامة عند العلماء إخْراجُ الدّم بالاختِيار إذا كان كثيرًا كالتّبرُّعِ بالدّم، أمّا إذا كان قليلاً فإنّه لا يضُرُّ.
    وكذلك لو خرج الدّمُ بغيرِ اختِيار الإنسان ولو كان كثيرًا؛ فإنّه لا يضُرُّه، وصوْمُهُ صحيحٌ. انتبِهوا أيُّها الأحِبّة لو جُرِح الإنسان فخرج مِنه دمٌ كثيرٌ فإنّه لا يُفطِرُ -بحمدِ الله-؛ لأنّ ذلك ليس باختِيارِه.

    وهذه المُفطِّرات الّتي ذكرناها إنّما تُفطِّرُ الصّائِمَ إذا كان ذاكِرًا غير ناسي، مُختارًا غير مُكْره، عالِمًا غير جاهل، أمّا إذا فعلَها ناسيًا أنّه صائِمٌ فإنّه لا يُفطِر وصوْمُهُ صحيحٌ، قال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "إذا نَسِيَ أحدُكم فأكل أو شرِبَ فلْيُتِمَّ صوْمَه، فإنّما أطْعمهُ اللهُ وسقاهُ"[مُتفّقٌ عليه مِن حديثِ أبي هريرة رضي اللهُ عنهُ: ب(1933)- م(1155)].

    فمثلاً يا عباد الله بعضُ النّاس تعوّد أنّه إذا اشترى الخُبْزَ مِن المَخبزِ يأكُلُ مِنه وهو في الطّريقِ، وهذا قد اعتادهُ كثيرٌ مِن النّاسِ، فقد يأتي المُسلِمُ في نهار رمضان وهو صائِمٌ فيشْتري الخُبزَ مِن المَخبزِ فيسِير به فتغْلِبُهُ العادة وينسى أنّه صائِمٌ، فيقْطَعُ مِن الخُبزِ ويأكل مِنه ناسيًا فصوْمُهُ صحيحٌ، ولا شيء عليه -بحمدِ الله-، وهي رُخصةٌ مِن اللهِ سُبحانه وتعالى.

    وإنْ فَعَلَ الصّائِمُ هذه المُفطِّرات غير مُختار، كأَنْ دخل الغُبارُ إلى جوْفِهِ مِن غيرِ اختِيار، أو تَمَضْمَضَ فانحَدَرَ شيءٌ مِن الماء إلى جوْفِهِ مِن دون قصدٍ مِنه؛ فإنّ صوْمَهُ صحيح، ولا يُفطِرُ -بحمدِ الله-.

    وإنْ فعل الصّائِمُ هذه المُفطِّرات جاهلاً بكونِها مِن المُفطِّرات، كما لو أنّ إنسانًا نشأ في بادِيّةٍ بعيدةٍ، ولم يعلم أنّ الجِماعَ مُفطِّرٌ للصّائِمِ فجامَعَ زوجتَه في نهارِ رمضان؛ فلا شيءَ عليه، وصوْمُهُ صحيح. ولو أنّ شخصًا لا يعلمُ أنّ البُخور يُفطِّرُ فاستنْشَقَ البُخور مِن المَبخرةِ مُباشرة؛ فإنّ صومَهُ صحيح ولا شيءَ عليه وهو معذورٌ، وكذلك إذا كان جاهِلاً بدُخولِ وقتِ الصّومِ بدون تقصيرٍ مِنه، ففعل شيئا مِن المُفطِّرات؛ فإنّه لا شيءَ عليه، فإنّ عدِيَّ بن حاتِم رضي اللهُ عنه عندما نزل قولُ اللهِ عزّ وجلّ: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ[البقرة:187]، أخذ خَيْطيْن أحدَهما أسود والآخرَ أبيض، فوضعهما تحت وِسادتِه ثُمّ لا زال يأكُلُ ويشربُ حتى تبيّن له الخيطُ الأبيض مِن الخيطِ الأسود، فلمّا ذكر ذلك للنّبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم، قال النّبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "إنّ وِسادَك إذًا لعريض"[مُتفّقٌ عليه مِن حديثِ عديٍّ بن حاتمٍ رضي اللهُ عنهُ: ب(4509)- م(1090)]، ولم يأمُرْهُ النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم بالقضاء؛ فدلّ ذلك على أنّ الجاهِلَ بدُخول الوقت مِن غيرِ تفريطٍ مِنه ولا تقصِيرٍ، أنّه يكون مَعذورًا لو أكل أو شرِبَ.

    وينبغي با عباد الله لِمَن رأى إنسانًا يُفطِرُ في رمضان أنْ يُذكِّرَهُ ويُنبِّهَهُ، وليس كما يقولُ العامّةُ أنّ مَن رأى صائِمًا يُفطِرُ لا يُخبِرُهُ؛ لأنّه رُخصةٌ لهُ، فإنّ هذا خطأٌ وهو معذور، لكِنّك عندما تراه لستَ معذورًا؛ فيجِبُ عليك أنْ تُنبِّهّهُ وتقول له: يا مُسلِم نحن في نهارِ رمضان، حتّى تُذكِّرَهُ أنّه صائِمٌ.

    ومِن المُفطِّرات الخاصّة بالنِّساء خُروجُ دمِ الحيضِ والنِّفاس في نهارِ رمضان ولو كان قبل المغرب بلحظةٍ واحدةٍ، لكنّ العِبرة يا عباد الله هي بخُروجِ الدّمِ لا بإحساسِ المرأة بأنّ الدّمَ يتحرّكُ في بطنِها، فلو أنّ امرأةً يا عباد الله أحسّتْ بتحرُّكِ الدّمِ في بطنِها، لكنّه لم يخرُجْ مِنها إلاّ بعد أنْ أذّن المُؤذِّنُ للمغربِ؛ فإنّ صوْمَها صحيح -بحمدِ الله عزّ وجلّ-.

    واعلموا أيُّها الإخوة الأفاضِل أنّه لا يجوز للمُسلِمِ الواجب عليه الصِّيام أنْ يتعمّدَ الإفطار في نهار رمضان بغيرِ عُذر، ومَن تعمّد الإفطار بغيرِ عُذر فقد ارتكبَ كبيرةً مِن كبائرِ الذُّنوب، قال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "بينما أنا نائِمٌ أتاني رجُلان فأخذا بضبعي، فأتيا بي جبلاً وعِرًا، فقالا: اصعدْ، فقُلتُ: إنِّي لا أُطيقُهُ، قالا: إنّا سنُسهِّلُهُ لك، فصعَدْتُ حتّى إذا كُنتُ في سواء الجبلِ، فإذا بأصواتٍ شديدةٍ، قُلتُ: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عُواءُ أهل النّار، ثُمّ انطلق بي فإذا أنا بقومٍ مُعلَّقين بعراقيبِهم، مُشقّقةٌ أشْداقُهم، تسيلُ أشداقُهم دمًا، قُلتُ مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء الّذين يُفطِرون قبل تحِلَّةَ صومِهم"
    [رواه ابن خُزيمة من حديث أبي أمامة الباهليّ رضي اللهُ عنه (1986) والحاكم في مُستدركِه(430:1) وقال: صحيح على شرطِ مُسلِم].

    واعلموا أيُّها الأحبّة في الله أنّ للصِيامِ آدابًا يكمُلُ به الصِّيام ويعْظُمُ أجرُهُ، ومِن تلك الآداب تعجيلُ الفَطور عند الغُروب مُباشرة، فإذا غابت الشّمسُ أفطرَ الصّائِمُ ولو لم تُظْلِمْ الدُّنيا، وقد أشار النّبيُّ صلّى اللهُ عليه سلّم إلى جِهةِ المَشْرِقِ ثُمّ قال: "إذا رأيتُم اللّيلَ أقبلَ مِن ها هنا فقد أفطرَ الصّائِمُ"، وقد كان النّبيُّ صلّى اللهُ عليه سلّم مع الصّحابةِ في مسِيرٍ وكانوا صائِمين، فقال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه سلّم لبِلالٍ عندما غربَتْ الشّمسُ: "انزِلْ فاجدَحْ لنا" أيْ انزِل فأسقِنا الماء، فقال بِلالٌ: يا رسول الله لو أمسَيْتَ؟ قال: "انزِلْ فاجدَحْ لنا"، قال: يا رسولَ الله، إنّ عليك نهارًا؛ بِلالٌ رضي اللهُ عنه يرى الضّوء ويرى أنّ الدُّنيا لم تُظْلِمْ، فيقولُ له النّبيُّ صلّى اللهُ عليه سلّم:"انزِلْ فاجدَحْ لنا"، فنزَلَ فجدحَ لهم، فشَرِبَ النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم"[مُتفّقٌ عليه مِن حديثِ عبدالله بن أبي أوفى رضي اللهُ عنهُ: ب(1955)- م(1101)]؛ وبهذا نعلمُ أيُّها الأحِبّة أنّ العِبْرةَ ليستْ بالظّلامِ وليستْ بالضّوء، وإنّما العِبْرة بمَغِيبِ الشّمسُ؛ وبهذا نعرِفُ خطأَ بعض النّاس الّذين يُشوِّشون على المُسلِمين في هذه الأيّام فيقولون: إنّهم يفطِّروننا قبل المغرب، لِماذا؟ قالوا: لأنّا نرى الدُّنيا مُضيئَةٌ وليستْ مُظلِمةٌ! فإنّ العِبْرةَ ليستْ بالظّلامِ والضّوء، وإنّما العِبْرة بمَغِيبِ الشّمسِ، فإذا غرُبتْ الشّمسُ، فقد أفطَرَ الصائِمُ كما قال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم، وقال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "إذا رأيتَ اللّيلَ قد أقبَلَ مِن ها هُنا فقد أفطَر الصّائِمُ"[مُتّفقٌ عليه مِن حديث عبدالله بن أبي أوفى رضي اللهُ عنه: ب(1958) _ م(1101)]، وقال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "لا يزالُ النّاسُ بخيْرٍ ما عجّلُوا الفِطْرَ"[مُتفّقٌ عليه مِن حديثِ سهل بن سعدٍ رضي اللهُ عنهُ: ب(1975)- م(1098)].

    ومِن آدابِ الصِّيام أنْ يبدأَ الصّائِمُ إفْطارَهُ برُطَبٍ، فإنْ لم يجِدْ فبِتَمْرٍ، فإنْ لم يجِدْ فبِماءٍ قُرَح، قال أنسٌ رضي اللهُ عنه: "كان رسولُ الله صلّى اللهُ عليه وسلّم يُفطِرُ على رُطَباتٍ قبل أنْ يُصلِّي، فإنْ لم يكُنْ رُطَباتٌ فعلى تمراتٍ، فإنْ لم تكُنْ تمرات؛ حسا حسواتٍ مِن ماءٍ"[أخرجهُ أبو داود(2356) وغيرُه، وحسّنهُ الألبانيُّ في الإرواء(922) والشّيخُ الوادعيُّ في الجامع الصّحيح(2/470)].

    ومِن آدابِ الصِّيام أنْ يقول الصّائِمُ عند فِطْرِهِ: "ذهب الظمأُ وابتلّتْ العُرُوق وثبت الأجرُ إنْ شاء الله"[رواه أبو داود (2357) وفي سندِه ضعف(مروان بن سالم المُقفّع)، وحسّن الألبانيُّ إسنادَه في الإرواء (920)]، فإنّ النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم كان يقول ذلك.

    ومِن آدابِ الصِّيام أنْ يحْرِصَ المُسلِمُ على السّحورِ حتّى ولو لم يكُنْ جائِعًا، ولو أنْ يشْرَبَ ماءً فقط فإنّ في السّحور أجرًا كبيرًا وخيرًا كثيرًا، ويُخطِاُ كثيرٌ مِن المُسلِمين اليوم إذْ يقول بعضُهم: "إنّا -بحمدِ الله- اليوم لا نشعُرُ بالجوعِ، ولا نشعُرُ بالعطشِ؛ فلا حاجةَ للسُّحورِ! وهؤلاء يُفوِّتون على أنفُسِهم أجرًا عظيمًا، يقول النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "تسحَّرُوا فإنّ في السَّحُورِ بركةٌ"[مُتفّقٌ عليه مِن حديثِ أنسٍ بن مالك رضي اللهُ عنهُ: ب(1923)- م(2538)]، وقال صلّى اللهُ عليه وسلّم: "السَّحُورُ كُلُّه بركةٌ، فلا تدعوه ولو أنْ يجرع أحدُكم جرعةً مِن ماء، فإنّ اللهَ وملائِكتَه يُصلُّون على المُتسحِّرِين"[رواه أحمد من حديث أبي سعيد الخُدريّ رضي اللهُ عنه، وحسّنهُ الألبانيُّ في صحيح التّرغيب والتّرهيب (1070)].

    ومِن آدابِ الصِّيام تأخيرُ السُّحور إلى قُرْبِ الفجْر، فإنّ النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم كان يُؤخِّرُ السُّحُورَ.

    ومِن آدابِ الصِّيام أنْ يقول الصِّائِمُ إذا خاصَمَهُ آخَرٌ، أو جَهَلَ عليه جاهِلٌ: "إنّي صائِمٌ إنِّي صائِمٌ".

    ومِن آدابِ الصِّيام الواجِبة الّتي يجِبُ على الصِّائِمِ أنْ يفعلَها -ومِن أسَفٍ قد فرّط النّاسُ فيها اليوم- اجتِناب الغِيبة والنّمِيمة وسِباب المُسلِمِين والكلام الفاحِش وجميع المعاصي، قال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "ليس الصِّيامُ مِن الأكلِ والشُرْبِ، وإنّما الصِّيامُ مِن اللّغوِ والرّفثِ، فإنْ سابَّك أحدٌ أو جَهَلَ عليك فقُلْ: "إنِّي صائِمٌ، إنِّي صائِمٌ"[رواه ابن خُزيمة في صحيحهِ من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه (1996)]، وقال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "رُبّ صائِمٍ حظُّهُ مِن صِيامِه الجوع والعطش"[رواه أحمد من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه (8856)]، وقال النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: "مَن لم يدعْ قولَ الزُّور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أنْ يدعَ طعامَهُ وشرابَهُ"[رواه البُخاريُّ من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه (1903)]، قولُ الزُّور أيُّها الأحِبّة هو قولُ المعاصي كالغِيبةِ والكذِبِ ونحوِهما، والعمل بالزُّور هو العمل بالمعاصي -عِياذًا بالله-.

    ومِن الأعمالِ المُباركةِ أيُّها الأحِبّة تفْطِيرُ الصّائِمِين، قال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "مَن فطّر صائِمًا كان له مِثلُ أجرِه غيرَ أنّه لا ينْقُصُ مِن أجرِ الصّائِمِ شيئا"[رواه التِّرمذيُّ من حديث زيدٍ بن خالدٍ الجُهنّيِّ رضي اللهُ عنه (807)، وصحّحهُ الألبانيُّ في صحيح الجامع (6415)]، وإنْ تعْجَب يا عبدالله! وإنْ تعْجَب يا عبدالله! تعْجَب مِن أُناسٍ يبْخَلُون بالأُجُورِ على إخوانِهم المُسلِمِين، فقد بلغنا أنّ بعضَ النّاس إذا دُعِيَ إلى الإفْطارِ عند أخيه المُسلِمِ؛ قال لا أُفْطِرُ عنده، أُعْطِيه أجرِي؟! لا والله لا أُعْطِيه أَجْرِي! وهذا بُخْلٌ عجِيبٌ، يبخلُ الإنسان بشيءٍ لا يضُرُّه إنْ قدّمه؛ فينبغي للمُسلِمِ إذا قال له أخوه المُسلِمُ أفْطِرْ عندي، ولم يكنْ له في ذلك مشقّةٌ عليه، أنْ يُفْطِرَ عند أخيه المُسلِمِ لِيزْداد أجْرًا، ولِيُكسِبَ أجْرًا.

    ومِن الأعمالِ الزَّاكيةِ في موسِمِ الخيْرات الاجتِهاد في قِيامِ ليالي رمضان، وإحياؤها بالصّلاةِ، قال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "مَن قام رمضان إيمانًا واحتِسابًا غُفِرَ له ما تقّدم مِن ذَنْبِهِ"، ويُستحَبُّ صلاة اللّيل في رمضان مع الإمام، فإنّ النّبيَّ صلّى اللهُ عليه وسلّم قال: "مَن قام مع إمامِه حتّى ينْصرِف؛ كُتِبَ له قِيامُ ليلةٍ"[حديث أبي ذرٍّ رضي اللهُ عنه عند أبي داود (1375) وغيرِه].

    والاجتِماعُ للتّراويحِ سُنّةٌ قد سنَّها النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم، ثُمّ ترك الاجتِماعَ لها خَشْيَةَ أنْ تُفْرَضَ على أُمّتِهِ، فقد صلّى رسولُ الله صلّى اللهُ عليه وسلّم ذات ليلةٍ في المسجِدِ؛ فصلّى بصلاتِه أُُناس، ثُمّ صلّى مِن القابِلةِ؛ فكثُرَ النّاسُ، ثُمّ اجتمَعُوا مِن اللّيلة الثّالِثة، أو الرّابعة، فلم يخْرُجْ إليهم رسولُ الله صلّى اللهُ عليه وسلّم، فلمّا أصبح قال: "قد رأيتُ الّذي صنَعْتُم؛ فلم يمنعني مِن الخُرُوجِ إليكم إلاّ أنّي خَشِيتُ أنْ تُفْرضَ عليكم" وذلك في رمضان[مُتفّقٌ عليه مِن حديثِ عائشة رضي اللهُ عنها: ب(1129)- م(761)].
    وقد أحياها الخليفةُ الرّاشِد عمر بن الخطّاب رضي اللهُ عنه، إذْ أنّ المانِعَ منِها قد انْتفى، فجمع النّاسَ على إمامٍ واحدٍ، وقال: "نعمت البِدعة هذه، والّتي ينامون عنها أفضلَ مِن الّتي يقُومُون، يُريد آخِر اللّيل، وكان النّاسُ يقُومُون أوّلَهُ".

    واعلموا أيُّها الإخوة أنّ التّحقيق في صلاةِ التّراويح أنّ مَن أطال الصّلاةَ وحسّنها، فأطالَ قِيامَها ورُكوعَها وسُجودَها، فالأفضلُ له أنْ يُصلِّي إحْدى عشرة ركعة مُوافقة لِسُنّةِ النّبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم في الكَيْفِيّةِ والعددِ. ومَن خفّف الصّلاة؛ فالأفضلُ له أنْ يزِيدَ في الرّكعات، وهذا هو الّذي فهِمَهُ السّلفُ الصّالِح رِضوانُ اللهِ عليهم، وهو الّذي نُقِلَ أنّ عمر بن الخطّاب قد فعَلَهُ، حيثُ جمَعَ النّاسَ في بادئ الأمر على إحدى عشرة ركعة، وكان القارئ يقرأُ بالمِئين حتّى كانوا يعتمِدون على العِصِيِّ مِن طولِ القِيامِ، فلمّا ثقُلَ النّاس وكثُر عددُهم؛ زاد في عددِ الرّكْعاتِ حتّى أوْصَلَها إلى عِشرِين، وخفّف في الصّلاةِ.

    وينبغي على المُسلِمِ أنْ يحْرِص عى قِيامِ ليالي رمضان التِماسًا لِليلةِ القدْرِ الّتي كان النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم يلْتَمِسُها، ويقول فيها: "مَن قام ليلةَ القدْرِ إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدّم مِن ذنْبِهِ"[مُتفّقٌ عليه مِن حديثِ أبي هريرة رضي اللهُ عنهُ: ب(37)- م(759)]، وكان النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم يقولُ عند دُخولِ شهرِ رمضان: "إنّ هذه الشّهرَ قد حضَرَكُم، وفيه ليلةٌ خيرٌ مِن ألفِ شهرٍ، ومَن حُرِمَها فقد حُرِمَ الخيْرَ كُلَّهُ، ولا يُحْرَمُ خَيْرَها إلاّ مَحْرُومٌ"[أخرجهُ ابن ماجه عن أنسٍ بن مالك: (1644)].

    ومِن الأعمالِ المُباركةِ في رمضان الاجتِهادُ في قِراءةِ القُرآن، وقِراءةُ القُرآن فيها أجْرٌ كبيرٌ، وكُلُّ حرْفٌ يقرأُه المُسلِمُ بحسنَةٍ، والحسنةُ بعشْرِ أمثالِها إلى سبْعُمائة ضِعف، إلاّ أنّ الاجتِهاد في قِراءةِ القُرآن في رمضان آكدُ، فإذا كان المُسلِمُ يخْتِمُ القُرآن مرةً في كُلِّ شهرٍ، فإنّه يُستحَبُّ له أنْ يختِمَهُ في شهرِ رمضان مرّاتٍ، وقد كان النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم يُدارِسُهُ جِبريلُ القُرآن في شهرِ رمضان؛ فشهرُ رمضان يا عباد الله هو شهرُ القُرآن.

    ومِن الأعمالِ الزّاكِيةِ في رمضان الإكثارُ مِن الصّدقات، وقد كان النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم أجودَ النّاس، وكان أجْودَ ما يكون في رمضان، وكان حين يلقاهُ جِبريلُ في رمضان أجود بالخيْرِ مِن الرِّيحِ المُرسَلَةِ.

    ومِن الأعمالِ المُباركةِ في رمضان الاجتِهادُ في أداء العُمرةِ، فإنّ أجرَ العُمرة في رمضان أعظمَ مِن غيرِه، يقول النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "عُمرةٌ في رمضان تعْدِلُ حَجَّةً" وفي رِوايةٍ "تعْدِلُ حَجَّةً معي"[مُتفّقٌ عليه مِن حديثِ ابن عبّاس رضي اللهُ عنهما: ب(1863)- م(1256)].

    ومِن الأعمالِ الّتي كان يحْرِصُ عليها النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم في رمضان الاعْتِكافُ في العَشْرِ الأواخِرِ؛ فيُسْتحَبُّ للمُسلِمِ أنْ يعتكِف العشْرَ الأواخِرَ في مسْجِدٍ جامِعٍ تُقامُ فيه الجُمُعة.

    ومِن الأعمالِ الّتي كان يحْرِصُ عليها النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم في رمضان الاعْتِكافُ في العَشْرِ الأواخِرِ؛ فيُسْتحَبُّ للمُسلِمِ أنْ يعتكِف العشْرَ الأواخِر في مسْجِدٍ جامِعٍ تُقامُ فيه الجُمُعة.

    أيُّها الإخوة هذه أهمُّ الأعمال الفاضِلةِ في رمضان؛ فاتّقوا اللهَ عباد الله، اجتهِدوا في هذه الأعمالِ مِن الخيْرات، فإنّ كُلَّ عملٍ يُضاعفُ في رمضان، وأكثِروا مِن الأعمالِ الصّالِحات، واجتهِدوا في ذِكرِ اللهِ عزّ وجلّ، وقوا أنفُسَكم وأهلِيكم نارًا وَقُودُها النّاس والحِجارة، فاحرِصُوا على نُصْحِ أبنائِكم وبناتِكم وأهلِيكم وكُلِّ مَن تعُولون بالاجتِهادِ بالأعمالِ في رمضان، واعزِموا على الخيْرِ في شهرِكم فإنّه ضيْفٌ خفيف المئونة، سريع الارتِحال والزّوال، وسيرْحَلُ بما قدّمنا فيه مِن الأعمالِ، وسيكون شاهِدًا لنا أو علينا، فابْتدِروا أيُّها المُسلِمون أيّامَه بصالِحِ الأعمالِ، وأكثِروا مِن التّقرُّبِ إلى اللهِ عزّ وجلّ بما يرضيه، وتقرّبوا إلى التّوابِ الرّحيمِ بالتّوبةِ والاستِغْفارِ، واغتنِموا رحِمَكم اللهُ شهرَ الرّحمة والرِّضوان شهرَ البركة الشّامِلةِ والإحسان، وبادِروا قبل أنْ يُنادى قد انْقَضى رمضان، واحرِصوا على قِيامِكم، ولا تتسبّبوا في نَقْصِ أُجورِكم بالفِسْقِ والعِصْيانِ والغِيبة والكذِبِ والبُهتانِ.

    أيُّها الأحِبّة قد أكرَمَكم الله عزّ وجلّ بالبقاء إلى هذه الأيّام، وإنّ أحدَنا -واللهِ- لا يدري هل يعيشُ إلى مِثلِ هذه الأيّام مِن العام القادِم أم يسترِدُّ اللهُ الوديعة؟

    فاتّقوا اللهَ عباد الله واحرِصوا على أنْ تكونوا في مِثلِ هذا الشّهرِ المُبارك مِن أهلِ الغنِيمةِ، مِن أهلِ الفوْزِ، مِن أهلِ الأعمالِ الصّالِحةِ، وإيّاكم والتّفْريط، وينبغي يا عباد الله على المُسلِمِ أنْ يستعِدّ لِشهرِ رمضان بتصفِيَةِ قلبِه وتصفِيَةِ أعمالِه مِن الذُّنُوبِ، فإنّ للذُّنوبِ رَيْنًا على القُلُوبِ، وقد يُحرَمُ الإنسان بسبَبِها مِن الصّالِحات، فبادِروا رحِمنِي اللهُ وإيّاكم إلى توبةٍ نصوحٍ صادِقةٍ ، تَصْدُقُون فيها مع اللهِ عزّ وجلّ، تُقلِعون فيها عن الذُّنُوبِ، وتندمون على ما فات، وتعزِمون على عدم العوْدِ إليها، وإذا كان فيها حقٌّ لآدميٍّ أرجَعْتُمُوه إليه، أو استحَلَيْتُمُوه مِنه؛ فإذا الذّنبُ قد انمحى، يقول النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "النّدمُ توبةٌ، والتّائِبُ مِن الذّنبِ كمَنْ لا ذنبَ له"[حسّنهُ الألبانيُّ في صحيح التّرغيب والتّرهيب (3145)، وقال: رواه ابن ماجه (4250) والطبراني (10134) كلاهما من رواية أبي عُبيدة بن عبدالله بن مسعود عن أبيه ولم يسمع منه ورواة الطّبرانيُّ رواة الصّحيح، قال عبدالله البُخاريُّ بعد التّحقيق: قال الشّيخُ الألبانيُّ: "رجال إسناده ثقات، لكنه منقطع بين أبي عبيدة وأبيه"."السلسلة الضعيفة:ح615، وحسّنه في صحيح ابن ماجه3427. ومِمّا سبق يتبين أنّ الحديث مُختلف في إسناده اختلافًا قويًّا ويُرجّح أنّهُ ليس مِن حديثِ أبي عُبيْدة، وإنّما مِن حديثِ زياد بن أبي مريم، أو زياد بن الجراح، وجعْلُهُ مِن حديث أبي عُبيْدة خطاٌ. وأيضًا : الاختلاف في رفعه ووقفه خاصة في لفظ: "التائب من اذنب..."إلخ. ولو صحّ ورجح الوقف لهذه اللّفظة فإنّ لها حكم الرفع، إذْ لا مجال للرأي فيها. ويشهد لها حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه... [السابق عند مُسلِم (121)](ص362/ مرويات أبي عبيدة عن أبيه)].

    فابتدِروا رحِمكم اللهُ وصِيّة الله لكم، وتوبوا إلى الله جميعًا أيُّها المُؤمِنون لعلّكم تُفلِحون.

    أسألُ اللهَ بأسمائِه الحُسنى وصِفاتِه العُلى أنْ يُبارِك لنا في شهرِ شعبان، وأنْ يُبلِّغَنا رمضان، وأنْ يرزُقنا فيه الصِّحةَ والعافيةَ، وأنْ يُعيننا على صِيامِه وقِيامِه، وأنْ يجعلَنا فيه مِن خيْرِ النّاس، وأنْ يُبارِك أعمالَنا فيه، وأنْ يُبارِك لنا فيه.

    اللّهمّ أعِنّا على صِيامِ رمضان وقِيامِه، اللّهمّ أعِنّا على صِيامِ رمضان وقِيامِه، اللّهمّ أعِنّا على صِيامِ رمضان وقِيامِه، اللّهمّ وتقبّلنا فيه يا ربّ العالَمين.

    اللّهمّ إنّا نسألُك بأسمائِك الحُسنى وصِفاتِك العُلى أنْ تغفِرَ لِمَن لم يُدرِكْهُ رمضان مِن المُسلِمِين. اللّهمّ اغفِر لهم وارحمهم، اللّهمّ اغفِر لهم وارحمهم، اللّهمّ اغفِر لهم وارحمهم، اللّهم وبارك لنا في أعمارِنا، وبارِك لنا في أعمارِنا، وبارِك لنا في أولادِنا، وبارِك لنا في أزواجِنا، يا ربَّ العالَمِين، اللّهمّ وارزُقْنا العَفْوَ والعافِيةَ، اللّهمّ إنّا نسألُك العَفْوَ والعافِيةَ، اللّهمّ إنّا نسألُك بأسمائِك الحُسنى وصِفاتِك العُلى كما جَمعتَنا في هذا اليومِ المُبارَكِ، في هذا المجْلِسِ الّذي يُقامُ فيه علم، أنْ تجمعَنا ووالِدينا في الفِردَوْسِ الأعلى أجمعين، اللّهمّ أجعلْنا مِن أهلِ الفِردَوْسِ الأعلى أجمعين، اللّهمّ لا تخرج منّا أحدًا، ولا تمنع منّا والِدًا ولا وَلَدًا، اللّهمّ يا سِتِّير استُرْنا فوْق الأرض، واستُرْنا تحت الأرض، واستُرْنا يوم العَرْض، ولا تفْضَحْنا بذُنوبِنا يوم العَرْض بين يديْك، اللّهم إنّا نسألُك أنْ تُحرِّم أجسادَنا على جهنّم، اللّهمّ حرّّم أجسادَنا على جهنّم، اللّهمّ حرّّم أجسادَنا على جهنّم ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنة وفي الآخِرةِ حسنة وقِنا عذابَ النّار، واللهُ أعلم.
    وصلّى اللهُ على مُحمّدٍ وعلى آلِه وصَحْبِه وسَلَّم تَسْليمًا كثيرًا.


    وجب التّنبيه على أنّه عند التّفريغِ راجعتُ الأحاديث الّتي ذكرها الشّيخُ في مُحاضرتِه مِن بعضِ مصادِرِها المُتوفِّرة؛ وقد أثبتّثها في التّفريغِ بالألفاظ الّتي رجعتُ إليها، وكذا نصّ ابن قُدامة رحمهُ اللهُ.
    الملفات المرفقة

    تعليق


    • #3
      رد: بين يدي رمضان || الشيخ - سليمان الرحيلي ||

      جهد مبارك ... بارك الله فيكم

      تعليق


      • #4
        رد: بين يدي رمضان || الشيخ - سليمان الرحيلي ||

        وفيكم بارك اللهُ أخي بدر
        اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	بين يدي رمضان.jpg 
مشاهدات:	1 
الحجم:	34.1 كيلوبايت 
الهوية:	170426

        تعليق

        يعمل...
        X