ومِنَ العَقَبات العائقةِ عن النهوض بالدعوة إلى الله على وجه التمام:
تصلُّبُ بعضِ الدُّعاةِ المُنْتَسِبين للسلفية على مَواقِفَ وآراءٍ مُجانِبةٍ للصواب
يقضي الشرعُ ببطلانها، ومع ذلك لا يرجعون إلى الحقِّ ولو أَمْدَدْتَهم بألفِ دليلٍ، بل يَتعصَّبون لآرائهم ويَسْتميتون عليها، ويُحرِّكون أنصارَهم المُوالِينَ لهم للدفاع عنها بما أَنْكَرَهُ السلفُ مِنَ الجدل المذموم والخوضِ في المِراءِ والخصومات المُشْتمِلةِ على تأسيساتٍ كاذبةٍ وإيحاءاتٍ وظنونٍ وهميةٍ وقراءاتٍ ما بين السطور ـزَعَمواـ وأخرى بلا سطورٍ، وغالبًا ما تكون مُخالِفةً للحقِّ والواقع، واللهُ المستعانُ.
وآخَرُون مِنْ طلبةِ العلم لم يَلْتَزِموا بقواعدِ العُلَماء، ولم يَتقيَّدُوا بمنهجهم في بيانِ أحوال الرجال؛ لذلك لم يسلكوا سبيلَ النزاهة والأمانة في الحكم، ولا سبيلَ الحيطة والأدب في نَقْدِهم، وهذا ما يجري في مَناطِقَ عِدَّةٍ مِنْ بلادنا؛ فأَشْبَهَ الوقيعةَ بغير حقٍّ في مَقامِ التجريح، وهو أَقْرَبُ إلى التشنيع المدفوع بِدَاءِ الحسد والغَيْرة، أو بِدَاءِ الهوى والبغي، ونحوِ ذلك مِنَ العداوات الدنيوية.
وقد اتَّسَعَ الخَرْقُ في هذا المَجال بما أَسْهَمَ به ـبشكلٍ مُلاحَظٍـ كثيرٌ مِنَ المُشارِكين في المُنْتَدَيَات الإسلامية ـفي عالَمِ الإنترنتـ في تأجيجِ الوضع على الساحة الدعوية بالجدل والخصومات والتحدِّي، وفَتْحِ مجالاتها للنَّيْل مِنْ رجالِ الدعوة إلى الله مِنْ هذه الأمَّةِ، ورَمْيِ عُلَمائها وخِيارِها وصفوتها بالجهل والنقص وسوء الظنِّ، وتقزيمِ رسالتهم الدعوية ومَهَمَّتِهم التربوية؛ الأمرُ الذي أَحْدَثَ ضغائنَ وعداواتٍ وبَغْضاءَ، وخلَّف تقاطعًا وتدابرًا، وفَتَحَ بابَ فتنةٍ وهَلَكةٍ، وأعداءُ الإسلامِ يسعدون في كُلِّ مكانٍ بما آلَتْ إليه الدعوةُ السُّنِّيَّةُ السلفيةُ بسببهم.

وهذه المنتدياتُ ـبمُخْتلَفِ عناصرِها وأشكالِهَاـ تَتحمَّلُ المسئوليةَ المُلْقاةَ على عاتِقِها وأوزارَ حصيلةِ جِنايتِها في تصدُّعِ أركان الصفِّ السلفيِّ وتمزيقِ وحدته، وإعاقةِ الدعوة وتَقَهْقُرِها.
وقد ظَنَّ أهلُ المنتديات أنَّ كثرةَ المَقال والجدال، والكلامِ والخصام، والتوسُّعَ في القِيلِ والقال، ونحو ذلك يدلُّ على الأحَقِّية والأعلمية؛ فهذا ـبلا شكٍّـ جهلٌ مُبينٌ، وقد وضَّح ابنُ القيِّم ـرحمه اللهـ حقيقةَ العلمِ المطلوب بقوله: «فليس العلمُ بكثرة النقل والبحثِ والكلام، ولكِنْ نورٌ يُميَّزُ به صحيحُ الأقوالِ مِنْ سقيمها، وحَقُّها مِنْ باطِلِها، وما هو مِنْ مشكاة النبوَّةِ ممَّا هو مِنْ آراء الرجال»(٢٥)، وزاد ابنُ رجبٍ ـرحمه اللهـ تأكيدًا لهذا المعنى بقوله: «وقَدْ فُتِنَ كثيرٌ مِنَ المُتأخِّرِين بهذا فظنُّوا أنَّ مَنْ كَثُرَ كلامُه وجِدالُه وخِصامُه في مَسائلِ الدِّينِ فهو أَعْلَمُ ممَّنْ ليس كذلك، وهذا جهلٌ محضٌ، وانْظُرْ إلى أكابِرِ الصحابةِ وعُلَمائِهم كأبي بكرٍ وعمر وعليٍّ ومُعاذٍ وابنِ مسعودٍ وزيد بنِ ثابتٍ: كيف كانوا؟ كلامُهم أَقَلُّ مِنْ كلام ابنِ عبَّاسٍ وهُمْ أَعْلَمُ منه، وكذلك كلام التابعين أَكْثَرُ مِنْ كلام الصحابة والصحابةُ أَعْلَمُ منهم، وكذلك تابِعُو التابعين كلامُهم أَكْثَرُ مِنْ كلام التابعين والتابعون أَعْلَمُ منهم؛ فليس العلمُ بكثرة الرواية ولا بكثرة المَقال، ولكنَّه نورٌ يُقْذَفُ في القلب يَفْهَمُ به العبدُ الحقَّ ويُميِّزُ به بينه وبين الباطل، ويُعبِّرُ عن ذلك بعباراتٍ وجيزةٍ مُحصِّلةٍ للمَقاصد»(٢٦)، وقال ـأيضًاـ: «فما سَكَتَ مَنْ سَكَتَ عن كثرة الخصام والجِدال مِنْ سَلَفِ الأمَّةِ جهلًا ولا عجزًا، ولكِنْ سَكَتوا عن علمٍ وخشيةٍ لله، وما تَكلَّمَ مَنْ تَكلَّمَ وتَوسَّعَ مَنْ تَوسَّعَ بَعْدَهم لاختصاصه بعلمٍ دونَهم، ولكِنْ حبًّا للكلام وقِلَّةَ وَرَعٍ»(٢٧).

الشيخ ابو عبد المعز فركوس
من
الكلمة الشهرية: ١٠٤