إعـــــــلان

تقليص
1 من 3 < >

تحميل التطبيق الرسمي لموسوعة الآجري

2 من 3 < >

الإبلاغ عن مشكلة في المنتدى

تساعدنا البلاغات الواردة من الأعضاء على منتدى الآجري في تحديد المشكلات وإصلاحها في حالة توقف شيء ما عن العمل بشكل صحيح.
ونحن نقدّر الوقت الذي تستغرقه لتزويدنا بالمعلومات عبر مراسلتنا على بريد الموقع ajurryadmin@gmail.com
3 من 3 < >

فهرسة جميع الشروح المتوفرة على شبكة الإمام الآجري [مبوبة على حسب الفنون] أدخل يا طالب العلم وانهل من مكتبتك العلمية

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه - وعلى آله ومن ولاه وبعد :

فرغبة منا في تيسير العلم واشاعته بين طلابه سعينا لتوفير جميع المتون وشروحها المهمة لتكوين طلبة العلم ، وقد قطعنا شوطا لابأس به في ذلك ولله الحمد والمنة وحده ، إلا أنه إلى الآن يعاني بعض الأعضاء والزوار من بعض الصعوبات في الوصول للشروح والمتون المرادة لتداخل الشروح أو لقلة الخبرة التقنية .

من أجل هذا وذاك جاء هذا الموضوع ليكون موضوعا مرجعا جامعا مرتبا بإذن الله لكل المواد العلمية الموضوعة حاليا في شبكتنا ومرتبا على حسب أبواب الفنون العلمية (العقيدة، الفقه، الحديث،...)وسنحاول أيضا ترتيبها على مستويات الطلب (المبتدئ ، المتوسط ، المنتهي) سيتم تحديثه تبعا بعد إضافة أي شرح جديد .

من هـــــــــــنا
شاهد أكثر
شاهد أقل

الكلمات الشهرية للشيخ ابي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله -كلمة هذا الشهر تكامُل مهامِّ الإمام الداعية في مسجده-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • [متجدد] الكلمات الشهرية للشيخ ابي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله -كلمة هذا الشهر تكامُل مهامِّ الإمام الداعية في مسجده-




    تكامُل مهامِّ الإمام الداعية في مسجده


    الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
    فإنَّ مهامَّ الإمام الداعية المرشد التي يؤدِّيها في دعوته إلى الله تعالى على منبره أو في مسجده تتجانس في أبعادها وبواعثها ومراميها وتتوافق ولا تختلف، فلا تعارُضَ بين الإمامة وتوابعها أو ما يُلقيه الإمام في المناسبات الشرعية كالجُمَع والأعياد والاستسقاء ونحوها من شعائر الدين، وما يقوم به بالبيان والنصح من خلال خطبته بكلماتٍ وعظيةٍ وتوجيهيةٍ وتذكيريةٍ، أو بين ما يعلِّمه في دروسه وحِلَقه ومحاضراته العلمية أو ما يبثُّه من فتاوى شرعيةٍ متعلِّقةٍ بحياة المسلم الدينية والروحية، وسائر النشاطات العلمية وأعمال الحِسْبة التي يتولَّى الإمام مهمَّتها داخل المسجد؛ لأنها -وغيرها من الصلاة والذكر- معدودةٌ من العمارة الإيمانية المشمولة بقوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ [النور: 36]، فهذه المهامُّ تأتلف ولا تختلف، وتتكامل ولا تتناقض، ومن وجوه هذا التكامل:
    - أن يحرص الإمام في دروسه العلمية وحِلَقه التكوينية على تعليم العامَّة ضرورياتِ دينهم، وأن يعمل على محاربة الجهل المنتشر في أوساطهم، ويشجِّع القدراتِ الاستيعابيةَ والمواهب الذهنية على الاستزادة من العلوم الشرعية، والتعمُّق في الفقه في الدين، تحصيلاً لعلوم المقاصد: من عقيدةٍ وفقهٍ، وعلوم المصادر: من تفسيرٍ للكتاب وشروحٍ للسنَّة، وعلوم الوسائل: من أصول الفقه وقواعده وعلوم اللغة ونحوها من العلوم النافعة.
    - أن يوجِّه الإمام الخطيب الناسَ في خُطَبه ومواعظه إلى التمسُّك بالكتاب والسنَّة والْتزام نهج السلف الصالح في فهمهما، واقتفاء آثار الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ، والاقتداء بسيرتهم والاهتداء بهديهم بلا إفراطٍ ولا تفريطٍ، كما يدعوهم إلى تحقيق العبودية لله وحده، وإعلاء السنن ولزومها واتِّباعها ونشرها، وإظهار شعائر الدين وفضائله، وتحذيرهم من الشرك والبدع والتبرُّؤ منها، ويحثُّهم على إلغاء مظاهر الجاهلية التي تفشَّت وسادت بعد القرون المفضَّلة، كما يربِّي الناسَ على اجتناب الرذائل وكبت الفواحش وتنبيه الناس على خطورة مآلها، وذلك بتنشيط الخُطَب التوجيهية والوعظية، وتفعيل العلوم النافعة وتنوير الناس بقضايا دينهم، كلُّ ذلك لإظهار الحجَّة وإقامتها على الناس تحقيقًا لخبر المصطفى صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»(1).
    - أن يحرص على تثبيت الأمن والاستقرار في الأمَّة، وتوحيدها على توحيد المرسِل وجمع شملها على متابعة الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ووعيها بالضروريات الخمس التي جاءت بها الشريعة السمحة، ويذكِّر بوجوب حفظها ورعاية أحكامها والتناصح بين الراعي والرعيَّة، وتنبيهها على آفة الخروج على الأئمَّة ومنازعتهم في ولايتهم ما لم يرَوْا كفرًا بواحًا عندهم عليه من الله برهان، وما يترتَّب عنه من آثارٍ سيِّئة العواقب على البلاد والعباد، فيوجِّه الإمام الناسَ إلى كلِّ ما يحتاجونه لمعرفة المواقف الشرعية وما تُوزَن به الدعوات المرفوعة أيَّام الفتنة، ومعالجتها بالميزان الشرعي اعتمادًا على الوحي المعصوم وبعيدًا عن مناهج أهل الفرقة والأهواء وأهل الخرافة والتخرُّصات.
    - والإمام -إن كان أهلاً للفتوى وقادرًا على التصدِّي لها- فإنه يعقد في مسجده جلساتٍ للفتوى يجيب عن أسئلة المستفتين الفقهية وعن قضاياهم الدينية، ويفكُّ عنهم ما أشكل من مسائل العقيدة والفقه وغيرها من العلوم الشرعية، فإن علم من نفسه ضعفًا فله أن ينسِّق مع أهل العلم والفتوى، كما له أن يوجِّه إليهم فيما تجاوَزَ حدود قدرته العلمية.
    - وشخصية الإمام -باعتباره سيِّد المسجد– تأبى كلَّ عملٍ غير مَرْضيٍّ أو منافٍ لرسالة المسجد: من البيع فيه وإنشاد الضالَّة، وله أن يقوِّم صلاةَ المسيئين ويعدِّل الصفوفَ على وجهٍ متراصٍّ وغير مقطوعٍ إلاَّ عند الاكتظاظ والاضطرار، ويحثُّ على حضور الجماعة وعدم التأخُّر عنها، ويتفقَّد الغائبين من أهل المسجد من المرضى والمقعدين وغيرهما ويزورهم من باب التراحم، ونحو ذلك من أعمال البرِّ والحسبة.
    - ومن وجوه أعمال البرِّ: تحقيق المؤاخاة، وتجسيد التآلف وجمعُ القلوب ولَمُّ شملها على الإخلاص والمتابعة، وهي من أهمِّ مهامِّ الإمام المؤهَّل بما يتمتَّع به من قوَّةِ بيانٍ وحجَّةٍ، ورجاحةِ عقلٍ وحُسْنِ توجيهٍ وتدبيرٍ، فيعمل على إلغاء مظاهر الجاهلية وإبطالها بامتصاص النزاعات والخلافات والعصبيات ودحض الفرقة والشتات والإعراض عن العلم والدين، ويبث فيهم روح المؤاخاة والتعاون المبنيِّ على البرِّ والتقوى والتكافل والتعاطف تحقيقًا للوصف النبويِّ المتمثِّل في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم : «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»(2).
    هذا، -وبغضِّ النظر عن نوعية انتماء الجهة الوصيَّة على الإمام- فله السلطة التقديرية في اختيار ما يفيد به العامَّة أو طلبة العلم من أمور دينهم، وقضايا منهجهم العامِّ والتربوي بما يحقِّق التوفيقَ بين مطالب الناس وحاجاتهم مع لزوم العدل والإنصاف ودون إعراضٍ عن بيان الحقِّ ولا إبعاد الناس عن معرفته.
    نسأل اللهَ أن يقوِّيَ أئمَّتنا على إقامة الحجَّة ونشر العلم والسنن ومحاربة الجهل والبدع وأن يعينهم على إبطال مظاهر الجاهلية، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحقِّ والهدى وما فيه عزُّهم وخيرهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة.
    والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
    الجزائر في: 26 من المحرَّم 1433ه
    المـوافق ل: 21 ديسمبر 2011م


    1- أخرجه مسلم بهذا اللفظ في «الإمارة» (1920) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وبألفاظٍ أُخَرَ من حديث غيره، وأخرجه البخاري في «الاعتصام بالكتاب والسنَّة» باب قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تزال طائفةٌ من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ» يقاتلون وهم أهل العلم (7311) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
    2- أخرجه مسلم في «البرِّ والصلة والآداب» (2586) من حديث النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهما.

    المصدر موقع الشيخ




    تذكيرٌ للداعية


    الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
    فالدعوة إلى الله تعالى دعوة علمٍ ويقينٍ وإصلاحٍ وخيرٍ، وهي وظيفة الرسل والأنبياء جميعًا، ودعوتهم قائمةٌ على عبادة الله وحده والتبرُّؤ من عبادة ما سواه، والقيام بعبادة الله بجميع أنواعها على وجهٍ مُرْضٍ مهما أمكن، والزجر عن كلِّ ما نهى الله عنه، سالكين سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء النصيحة للمدعوِّين على وجهها الكامل، وترتقي مكانة الداعي إلى الله بحسب مقدار عمله وقدرته، ذلك لأنَّ دعوته تبعٌ لدعوة الأنبياء والمرسلين، يعمل على تعليم الجاهلين ووعظ الغافلين والمعرضين، ومجادلة المبطلين والمناوئين والشانئين بالتي هي أحسن، والحثِّ على مكارم الأخلاق، والإحسان -في دعوته- إلى عموم الخلق، والترغيب في الطريق الموصل إلى الله تعالى، وربط المدعوين بكتاب ربِّهم وسنَّة نبيِّهم، والترغيب في اقتباس العلم والهدى منهما، فدعوتُه -إذًا- مشروطةٌ بالعلم النافع -وهو بطبيعته قابلٌ للتجزئة والتبعيض-، إذ لا يخفى أنَّ العلم بصحَّة ما يدعو إليه الداعي شرطٌ لصحَّة الدعوة، لذلك يعمل الداعية على تفادي الوقوع في فساد العلم بعدم تحقيق موافقة علمه ومطابقته لمراد الله تعالى، كما يعمل على تجنُّب الوقوع في فساد الإرادة، وذلك بتجريدها من شوائب الهوى وإرادة الخلق، وهما آفتان تفسدان علمه وعمله، قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «وأمَّا العلم فآفته عدم مطابقته لمراد الله الديني الذي يحبُّه الله ويرضاه وذلك يكون من فساد العلم تارةً، ومن فساد الإرادة تارةً؛ ففساده من جهة العلم أن يعتقد أنَّ هذا مشروعٌ ومحبوبٌ لله وليس كذلك، أو يعتقد أنه يقرِّبه إلى الله وإن لم يكن مشروعًا، فيظنُّ أنه يتقرَّب إلى الله بهذا العمل وإن لم يعلم أنه مشروعٌ.
    وأمَّا فساده من جهة القصد فأن لا يقصد به وجهَ الله والدار الآخرة بل يقصد به الدنيا والخَلْق. وهاتان الآفتان في العلم والعمل لا سبيل إلى السلامة منهما إلاَّ بمعرفة ما جاء به الرسول في باب العلم والمعرفة، وإرادة وجه الله والدار الآخرة في باب القصد والإرادة، فمتى خلا من هذه المعرفة وهذه الإرادة فسد علمُه وعمله»(1)، وإذا كانت الدعوة إلى الله ملازمة ومتضمنة للعلم فليست مقيَّدةً بفئةٍ معيَّنةٍ، وإنما هي لكلِّ من يمتلك المواصفاتِ الشرعيةَ للدعوة، فهو أهلٌ لها، ولا هي مقيَّدةٌ بوقتٍ محدَّدٍ أو قاصرةٌ على خُطَبٍ تُلقى، أو على دروسٍ أو حلقاتٍ تُملى، وقد تكون على فتراتٍ متقطِّعةٍ من الزمن، وإنما الدعوة إلى الله تؤدَّى في جميع الأحوال بما تسمح بالقيام بها قدرات الداعية وظروفه في كلِّ الأوقات، سواءً تعلَّقت الأوقات بالمواسم أو العوارض أو النوازل أو المصائب أو ما يناسب ذلك الحالَ أو غيره ممَّا تشْمَله الدعوة إلى الخير كلِّه والترهيب من الشرِّ كلِّه، ويتجلَّى هذا المعنى فيما أخبر الله به تعالى عن نوحٍ عليه السلام حيث قال: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا. وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا. ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا. ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح: 5-9]، ويوسف عليه السلام لم يشغله السجن وضيقه عن واجب الدعوة إلى الله تعالى، فقد دعا السجينين إلى الله تعالى قبل أن يجيبهما عن رؤيا رآها كلُّ واحدٍ منهما، قال تعالى مخبرًا عنه: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 39-40]، وكذلك كان نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم يدعو قومه ليلاً ونهارًا، وسرًّا وجهارًا، لم يشغله شيءٌ عن الدعوة إلى الله تعالى.
    وعلى الداعي إلى الله أن يؤدِّيَ واجبَه في البلاغ والتبيين من غير أن ينتظر استجابةَ الناس له، وإنما يستمرُّ في دعوته كما يداوم على أداء سائر العبادات الداخلة في تكليفه، وله أن يسأل الأجر والمثوبة من الله دون أن يجعل بغيتَه الجزاءَ والشكور من عباد الله، ولا أن يتَّخذ دعوته مطيَّةً لتحصيل الأعواض المالية والمنافع المادِّية والمعنوية كالثناء والشهرة والجاه والمناصب ونحو ذلك مما يصبو إليها أهل الدنيا والطمع فيما عند الناس، فإنَّ هذا لا يجري على هدي الأنبياء والمرسلين من الإخلاص لله والاستعانة به والطمع فيما عنده، فقال الله تعالى مخبرًا عنهم: ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 72]، وقال تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [يس: 20-21]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ [الفرقان: 56-57]، فالأجر من الله عظيمٌ وباقٍ، وقد قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لعليٍّ رضي الله عنه: «فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ»(2)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم -أيضا-: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»(3)، والمعلوم الذي تجري عليه سنن الله في خلقه أنَّ من لم يجرِّد قصْدَه عن الهوى وإرادة الخَلْق دون الخالق وجعل الدنيا همَّه؛ فإنَّ الله يَكِلُه إلى نفسه، ويُبلى بعبودية المخلوق ومحبَّته وخدمته.
    هذا، وأخيرًا فإنَّ أحسن الكلام وأفضل طريقٍ -في ميزان الله تعالى- هو الدعوة إلى الله تعالى بتحبيب الإسلام وإظهار محاسنه، والنهي عمَّا يُضادُّه من الكفر والشرك، وتوجيه عموم الناس إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم: تعليمًا وتربيةً ووعظًا وإرشادًا وتوجيهًا يسلكه الداعي في مهمَّته الدعوية، متحلِّيًا بالعلم النافع والعمل الصالح على وجه الطاعة والانقياد، وبالمواصفات الأخلاقية الكريمة والحكمة والموعظة الحسنة، فإنَّ العلم النافع والعمل الصالح هما دعوة الحقِّ والسبيل الوحيد للسعادة والفلاح، وقد جمع الله تعالى بين معرفة الحقِّ والعمل به في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: 2]، وعُنِيَ بذكرهما في قوله تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ﴾ [الرعد: 14]، فدعوة الحقِّ -إذًا- هي إخلاص العمل لله تعالى وحده لا شريك له المتضمِّن معرفة الله تعالى ومعرفة شرعه ودينه(4)، وتمام هذه الرتبة للصدِّيقين الذين عملوا على إصلاح أنفُسهم وتكميلها، ووسَّعوا دائرة الإصلاح والتكميل إلى غيرهم، خاصَّةً عند إنكار الجاحدين ومحاربة المبطلين والمعاندين وشيوع التمرُّد على الله تعالى، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فُصِّلت: 33]، «ولا يتمُّ الإيمان إلاَّ بتلقِّي المعرفة من مشكاة النبوَّة وتجريد الإرادة عن شوائب الهوى وإرادة الخَلْق، فيكون علمُه مقتبسًا من مشكاة الوحي وإرادته لله والدار الآخرة، فهذا أصحُّ الناس علمًا وعملاً، وهو من الأئمَّة الذين يهدون بأمر الله، ومن خلفاء رسوله في أمَّته»(5)، تلك هي الوراثة التامَّة من الأنبياء والرسل تتفاضل مراتبها، وقد ترتفع إلى أعلى علِّيِّين بحسب الأعمال الحسنة المقدَّمة إخلاصًا وصدقًا، قال الله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 132].
    نسأل اللهَ التوفيقَ والسداد، للمزيد من العمل الجادِّ، وعلى الله قصدُ السبيل والاتِّكالُ في الحال والمآل.
    والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
    الجزائر في: 24 من ذي الحجة 1432ه
    المـوافق ل: 20 نوفمبر 2011م


    1- «الفوائد» لابن القيم (85).
    2- متَّفقٌ عليه: أخرجه البخاري في «الجهاد والسير» باب دعاء النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الناس إلى الإسلام والنبوَّة، وأن لا يتَّخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله (2942)، ومسلم في «فضائل الصحابة» (2406) من حديث سهل بن سعدٍ الساعدي رضي الله عنهما.
    3- أخرجه مسلم في «العلم» (2674) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
    4- انظر: «مجموع الفوائد» للسعدي (180).
    5- «الفوائد» لابن القيم (85).

    المصدر موقع الشيخ


    في مسؤولية ناظر الوقف بين التغيير الجائز والمحرَّم

    الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
    فقد حثَّ الشرع على الوقف وندب إليه، وجعله قربةً يَلْحق المؤمنَ من ثوابها في حياته، وتجري بها حسناتُه بعد موته، لأنها من كسبه وسعيه، وقد صحَّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ»(1)، والحديث لا يعارض قولَه تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾ [النجم: 39] لأنَّ ولده، وما يخلِّفه من علمٍ، وما يتركه من صدقةٍ جاريةٍ كلُّها من سعيه.
    وهذه الأعمال الصالحة غيرُ محصورةٍ في الحديث، بل هي تمثيلٌ لخصالٍ حسنةٍ وأبوابِ برٍّ وإحسانٍ تزيد عن ذلك، وقد جاء في الحديث ما يفيد هذا المعنى في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ المُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لاِبْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ»(2)، ولا تزال أمَّتُنا تقف من أموالها إلى يومنا هذا.
    والواقف جائزُ التصرُّف إن وقف مِلْكه الثابتَ المعيَّن على جهة برٍّ كالمساجد أو المدارس القرآنية والمصاحف أو كتبِ العلم النافع؛ فإنه يجب العمل بشرطه إلا إذا تضمَّن ما يخالف الشرعَ لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا»(3)، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ...»، الحديث(4).
    والوقف إن كان مسجدًا فالنظارة للحاكم أو من يقوم مقامَه نيابةً عنه، ولا يجوز له التصرُّف في الوقف بالبيع والهبة والإرث وغيرها من أنواع التناقل لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في شأن الوقف لعمر: «إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا»، فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ»(5)، كلُّ ذلك ما لم تتعطَّل منافع الوقف بالكلِّيَّة: كالمسجد الذي خَرِبَ محلُّه فإنه يجوز إبدالُه لمصلحةٍ راجحةٍ، ويباع ويُصرف ثمنُه في مثله أيْ: في مسجدٍ آخَرَ أصْلَحَ لأهل البلد منه، وكذلك إذا زاد ريعه عن قدر حاجته، فإنَّ الزائد يُصرف إلى مسجدٍ غيره، وذلك لأنَّ صرْفَه إلى مثله انتفاعٌ به في جنس ما وُقف له، وفي تقرير هذا المعنى أجاب ابن تيمية -رحمه الله-: عن الوقف إذا فَضَلَ ريعُه واستغنى بأنه «يُصرف في نظير تلك الجهة، كالمسجد إذا فَضَل عن مصالحه صُرف في مسجدٍ آخَرَ؛ لأنَّ الواقف غرضُه في الجنس والجنسُ واحدٌ، فلو قُدِّر أنَّ المسجد الأوَّل خَرِبَ ولم ينتفع به أحدٌ صُرف ريعُه في مسجدٍ آخَرَ، فكذلك إذا فَضَل عن مصلحته شيءٌ؛ فإنَّ هذا الفاضل لا سبيلَ إلى صرفه إليه ولا إلى تعطيله، فصرفُه في جنس المقصود أَوْلى وهو أقربُ الطرق إلى مقصود الواقف»(6)، كما تجوز الصدقة بالفاضل من غلَّة وقف المسجد على المساكين-أيضًا-، بل يجب إن عَلِم أنَّ وقْفَه لا يبقى دائمًا، لأنَّ ترْكَ فائض ريع الوقف من غير انتفاعٍ تضييعٌ وفسادٌ(7)، وقد نهى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن إضاعة المال(.
    هذا، والأوقاف الخيرية اؤتُمن عليها ناظرُ الوقف، فعليه أن يتَّقيَ اللهَ فيها، ويحافظَ عليها، ويُحسن ولايتَه على ما تولاَّه أمانةً بكلِّ ما وَسِعَه، تحقيقًا لمقصود الواقف من التقرُّب إلى الله بالبرِّ ومختلف الطاعات، لذلك يَحْرُم على ناظر الوقف تغييرُ أو تبديلُ جزءٍ منها أو تحويلُ أو صرفُ منافعها إلى جهاتٍ منافيةٍ لشعائر التقوى، فلا يجوز تغييرُه إلى معابد الكفَّار أو بناء المشاهد والأضرحة عليها أو دفنِ الموتى في المساجد أو في أفنيتها أو ساحاتها، أو صرفُ غلَّة الأوقاف على سدنة الأضرحة والقباب أو في إسراجها وتنويرها وسترها وتبخيرها، كما يَحْرُم اقتطاع جزءٍ منها لاتِّخاذ التماثيل والأنصبة التذكارية وغير التذكارية أو رفعِ الصور عليها أو على الجزء المقتطع، أو تخصيصها للملاهي والمعاصي ونحو ذلك مما هو منافٍ للتوحيد أو لكماله أو مضادٌّ للبرِّ والتقوى، فإنَّ ذلك من التغيير المحرَّم، والتعاونُ عليه معدودٌ من الإثم والعدوان المنهيِّ عنه في قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
    والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
    الجزائر في: 20 شوال 1432 ه
    الموافق ل: 18 سبتمبر 2011 م


    1- أخرجه الترمذي في «الأحكام» بابٌ في الوقف (1376)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع» (793) وفي «الإرواء» (1580).
    2- أخرجه ابن ماجه في «المقدمة» باب ثواب معلم الناس الخير (242)، وابن خزيمة في «صحيحه» (2490)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع» (2231).
    3- أخرجه الترمذي في «الأحكام» باب ما ذُكر عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الصلح بين الناس (1352) من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جدِّه رضي الله عنه، وصحَّحه الألباني في «الإرواء» (1303).
    4- أخرجه بهذا اللفظ النسائي في «الطلاق» باب: خيار الأمة تعتق وزوجها مملوك (3451)، وابن ماجه في «العتق» باب المكاتب (2521)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وأخرجه البخاري في «البيوع» باب إذا اشترط شروطًا في البيع لا تَحِلُّ (216، ومسلم في «الطلاق» (1504) بلفظ: «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ».
    5- أخرجه البخاري في «الوصايا» باب الوقف كيف يكتب؟ (2772) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال الترمذي عند إخراجه للحديث في «الأحكام» باب في الوقف (1375): «هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وغيرهم، لا نعلم بين المتقدِّمين منهم في ذلك اختلافًا في إجازة وقف الأرضين وغير ذلك».
    6- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (31/ 206).
    7- انظر: «المستدرك على مجموع الفتاوى» لابن قاسم (4/ 10.
    8- أخرجه البخاري في «الزكاة» باب قول الله تعالى: ﴿لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ [البقرة: 273] وكم الغنى؟ (1477) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

    المصدر موقع الشيخ

  • #2
    رد: الكلمات الشهرية للشيخ ابي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله -كلمة هذا الشهر تكامُل مهامِّ الإمام الداعية في مسجده-

    الشبهات المثارة في وجه الداعية إلى الله
    (دوافعها وأسباب ترويجها)

    الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
    فالعلم المتلقَّى من الوحيين هو مادَّة الدعوة وأساسها، فالداعي إلى الله تعالى الذي أمدَّه الله بالعلم النافع والعمل الصالح، المتبصِّر بحال المدعوين وفيما يدعو إليه يسعى -جاهدًا- إلى إيصال شرع الله تعالى إلى عباد الله بما تستوجبه أساليب الدعوة وطرق التبليغ، وفي المعترك الدعوي ينبغي على الداعي إلى الله أن يفكِّر -مليًّا- في عواقب دعوته، ومحيط المدعوِّين، ومآل مواقفه، وانعكاسات آثارها على الساحة الدعوية من جرَّاء شبهات المبطلين وأكاذيب المفترين المثارة في وجه الدعوة وضدَّه أو ضدَّ غيره من الدعاة إلى الله، إذ المعلوم أنَّ للحقِّ أعداءً كما أخبر الله عزَّ وجلَّ بقوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ [الفرقان: 31].
    والداعي إلى الله بالمعايير الشرعية الصحيحة كلَّما اتَّسعت دائرة تأثيره كثرت بلاياه، وعظمت مِحَنُه ومصائبه، بسبب ألوان الأذى: من كدر الاختلاقاتِ وضبابية الشبهات التي تحجب رؤية الحقِّ في حقِّ ضعاف البصر والبصيرة، والتي من ورائها قومٌ يتولَّوْن كِبْر المقاومة الأثيمة للدعوة إلى الله تعالى، ويعلنون معاداتهم للدعاة، وهم -في الغالب- يتمتَّعون بقيادة المجتمع وسيادته، ويريدون العلوَّ على الناس والفسادَ في الأرض، وكذا جملة تَبَعِهم ممَّن آثروا الأسفل الأدنى على الأشرف الأعلى، وأخلدوا إلى الأرض واتَّبعوا أهواءهم، سواءً ممَّن لهم رئاسةٌ وجاهٌ وأموالٌ يريدون بها التسلُّط على الناس، أو لهم دينٌ يريدون به العلوَّ على الناس.
    وأصحاب هذه المواصفات ينعتهم القرآن الكريم بها، ويطلق عليهم تسمية: «الملأ» بيانًا لواقعهم لا لأنهم يستحقُّون السيادة والشرف والرئاسة، وقد كان أصحاب النعوت السابقة يقودون -من قبلُ- حملةَ الكذب والافتراء والتضليل على أنبياء الله الكرام، وقد جاء التعبير القرآني يبيِّن -بوضوحٍ- ما مضت عليه سنَّة الله في عباده، فقال تعالى عنهم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ. وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [سبأ: 34-35]، وقال تعالى: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ. مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ﴾ [ص: 4-7]، وغيرها من الآيات -وهي كثيرةٌ- تجلِّي توارُثَ هذه الشنشنة بين أهل الباطل منذ القديم.
    هذا، ودوافع عداوة أهل الباطل للدعاة إلى الله تكمن معظمها في:
    - آفة الكبر الذي يُعمي صاحبَه عن رؤية الحقِّ بله الانتفاع بالهدى، وإن أبصر الحقَّ فإنه يمنعه الكبر من الاعتراف به والانقياد له، إذ المتكبِّر يعتبر نفسه فوق أقدار الناس، الأمر الذي يجعل كبره يحجب عنه الرؤية لقدر نفسه، لذلك يتعالى عن الانضمام إلى الناس أو أن يكون معهم أو تابعًا لأحدٍ منهم، ناهيك إذا ما اقترن الحسد بالكبر، فإنه يزيده ظلمًا وطغيانًا عن الحقِّ وصدودًا عن الهدى، وتقوى عداوته للدعوة إلى الله ومحاربتُه لأهلها، وقد جاء التمثيل بفرعون وقومه يعكس هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [النمل: 14]، وقال تعالى عن ملإ قوم نوح: ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ [هود: 27].
    - آفة الجهل، والجاهل يحقد على الداعي إلى الله، ويعتقد أنه مفسدٌ في الأرض، ويظنُّ من نفسه أنه موكولٌ إليه الدفاع عن دين الناس وحقوقهم، ويعمل على إبعادهم ومحاربتهم خشيةَ تحويلهم الناس -في زعمه واعتقاده- عن ملَّة آبائهم إلى دينٍ جديدٍ لم يسبق لهم أن سمعوا به.
    - آفة حبِّ الرئاسة والزعامة وطلبهما على الناس للتسلُّط عليهم، بغضِّ النظر عن كون أهل محبَّة الرئاسة ممَّن لهم سلطةٌ ومَنَعَةٌ أو ممَّن لهم علمٌ ودينٌ، الذين لم تتمَّ لهم أغراضهم إلاَّ بمخالفة الحقِّ ودفْعِه، خاصَّةً إذا قامت شبهاتٌ تتَّفق مع شهواتهم، ويثور الهوى فيعارضون كلَّ دعوةٍ إلى الله مهما اتَّسمت بالإخلاص والصدق، خشيةَ أن تسلبهم سلطانَهم ومكانتهم ومناصبهم، فيجمعون الأباطيل والأكاذيب لتسويغ عداوتهم، تلك هي آفتهم: آثروا الدنيا وابتغَوُا الرئاساتِ والشهوات، فيخفى الصواب وينطمس وجه الحقِّ بما كسبت أيديهم.
    تلك هي أهمُّ الدوافع وهي أسباب بعدهم عن الحقِّ وعدم انتفاعهم بالهدى، فالدعوة الإصلاحية تهدِّد مكانتهم ومركزهم فيحاربون الدعاة إلى الله بالخصومة وأنواع الصدود التي تأخذ في مجملها التشكيكَ والارتياب في ذات الداعية وفي صدق دعوته وفي مصداقية أتباعه من المدعوِّين، وإحداث شبهاتٍ في مسار الدعوة، وغالبًا ما تكون مرتبطةً بعاداتٍ موروثةٍ أو مصالحَ دنيويةٍ أو حميةٍ جاهليةٍ، والقصد من إثارة الشبهات هو تنفير الناس عن حقيقة الدعوة في موضوعها وجوهرها وصدُّ الناس عن سبيلها.
    ففيما يتعلَّق بشخصية الداعي إلى الله يرمي المبطلون سهامَ الطعن في سيرته وسلوكه وأمانته أو أخلاقه أو في علمه بل حتى في سلامة عقله، فقد يوصف بالسفه والضلالة والجهل.
    ومن أساليب المبطلين -أيضًا- إثارة الشبهات على شخصية الداعية بأنه غير معروف المكانة في المجتمع ولا من ذوي المناصب الأدبية ولا من ذوي الشهادات العالية والمعارف القوية، أو ينتمي إلى التيَّار الموالي للأعداء، أو له شذوذٌ في الفتاوى والأقوال، أو هو رجلٌ عاديٌّ لا يتميَّز بسمعةٍ مرموقةٍ بل هو مغمورٌ ضعيفٌ لا هو في العير ولا في النفير.
    وأمَّا أتباعه فهم فقراءُ جهَّالٌ، قِصَارُ نظرٍ ورأيٍ، ويتَّبعون من لا يفقه واقعَ الناس، ودعوته خارجة عن مألوفهم وعاداتهم الموروثة ونحو ذلك، تقصُّدًا لتنفير الناس منه وسلبِ تأثير دعوته فيهم وإضعاف ثقة الناس به وتزيين الباطل لهم، وإظهار الحرص لهم على مصالحهم وعاداتهم ودين آبائهم، فيدفعونهم إلى مخاصمة الحقِّ وأهله من أجل الشبهات المزيَّنة لهم، وهذه شنشنةٌ قديمةٌ لا تتغيَّر في موضوعها ولا تتبدَّل في جوهرها، وإنما الذي يتغيَّر فيها الأسلوب والكيفية، وقد جاء الخطاب الإلهيُّ لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم مؤكِّدًا لهذا المعنى في قوله تعالى: ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [فُصِّلت: 43].
    وقد تعرَّض القرآن الكريم لأساليب المبطلين في الطعون وإثارة الشبهات في حقِّ أنبياء الله الكرام، فيرمونهم في أشخاصهم وعقولهم وأمانتهم كما يطعنون فيهم بالإفساد في الأرض وطلب العلوِّ والرئاسة، فمن نماذج ذلك قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ [الذاريات: 52-53]، وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ. قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 127-128]، وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا. وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 4-6].
    هذا، ولترويج الباطل أسبابٌ متعدِّدةٌ تضمَّنت أساليبَ ماكرةً وطرقًا ملتويةً يستعملها المبطلون، وقد أفصح عنها ابن القيِّم رحمه الله، ونظرًا لمناسبتها لهذا الموضوع وأهمِّيتها في كشف الوجوه المروِّجة للباطل وبيان أحوال أهلها، فقد رأيتُ -من المفيد- نقْلَ نصِّ ابن القيِّم -رحمه الله- بكامله حيث قال:
    «السبب الأوَّل: أن يأتيَ به صاحبه مموَّهًا مزخرف الألفاظ ملفَّق المعاني مكسوًّا حلَّةَ الفصاحة والعبارة الرشيقة، فتسرع العقول الضعيفة إلى قبوله واستحسانه وتبادر إلى اعتقاده وتقليده، ويكون حاله في ذلك حالَ من يعرض سلعةً مموَّهةً مغشوشةً على من لا بصيرةَ له بباطنها وحقيقتها فيحسِّنها في عينه ويحبِّبها إلى نفسه، وهذا الذي يعتمده كلُّ من أراد ترويجَ باطلٍ، فإنه لا يتمُّ له ذلك إلاَّ بتمويهه وزخرفته وإلقائه إلى جاهلٍ بحقيقته.
    قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: 112].
    فذكر سبحانه أنهم يستعينون على مخالفة أمر الأنبياء بما يزخرفه بعضهم لبعضٍ من القول فيغترُّ به الأغمار(1) وضعفاء العقول، فذكر السبب الفاعل والقابل ثمَّ ذكر سبحانه انفعال هذه النفوس الجاهلة به بصغوها وميلها إليه ورضاها به لِما كُسي من الزخرف الذي يغرُّ السامعَ، فلمَّا أصغت إليه ورضِيَتْه اقترفت ما تدعو إليه من الباطل قولاً وعملاً، فتأمَّلْ هذه الآياتِ وما تحتها من هذا المعنى العظيم القدرِ الذي فيه بيانُ أصول الباطل والتنبيهُ على مواقع الحذر منها وعدم الاغترار بها، وإذا تأمَّلْتَ مقالاتِ أهل الباطل رأيتهم قد كَسَوْها من العباراتِ وتخيَّروا لها من الألفاظ الرائقة ما يسرع إلى قبوله كلُّ من ليس له بصيرةٌ نافذةٌ، وأكثر الخلق كذلك، حتى إنَّ الفجَّار ليُسَمُّون أعظم أنواع الفجور بأسماءٍ لا ينبو عنها السمع ويميل إليها الطبع فيُسمُّون أمَّ الخبائث أمَّ الأفراح، ويسمُّون اللقمة الملعونة لقيمة الذكر والفكر التي تثير العزمَ الساكن إلى أشرف الأماكن، ويسمُّون مجالسَ الفجور والفسوق مجالسَ الطيبة، حتى إنَّ بعضهم لمَّا عُذل عن شيءٍ من ذلك قال لعاذله: تركُ المعاصي والتخوُّف منها إساءة ظنٍّ برحمة الله وجرأةٌ على سعة عفوه ومغفرته، فانظر ماذا تفعل هذه الكلمة في قلبٍ ممتلئٍ بالشهوات ضعيف العلم والبصيرة.
    السبب الثاني: أن يُخرج المعنى الذي يريد إبطالَه بالتأويل في صورةٍ مستهجنةٍ تنفر عنها القلوب وتنبو عنها الأسماع، فيتخيَّر له من الألفاظ أكرهَها وأبعدها وصولاً إلى القلوب وأشدَّها نفرةً عنها فيتوهَّم السامع أنَّ معناها هو الذي دلَّت عليه تلك الألفاظ: فيسمِّي التديُّن ثقالةً، وعدمَ الانبساط إلى السفهاء والفسَّاق والبطَّالين سوءَ خُلُقٍ، والأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر والغضبَ لله والحميةَ لدينه فتنةً وشرًّا وفضولاً، فكذلك أهل البدع والضلال من جميع الطوائف هذا معظم ما ينفِّرون به عن الحقِّ ويدْعُون به إلى الباطل، فيسمُّون إثباتَ صفات الكمال لله تجسيمًا وتشبيهًا وتمثيلاً ويسمُّون إثباتَ الوجه واليدين له تركيبًا، ويسمُّون إثباتَ استوائه على عرشه وعلوَّه على خلقه فوق سمواته تحيُّزًا وتجسيمًا، ويسمُّون العرش حيِّزًا وجِهَةً، ويسمُّون الصفاتِ أعراضًا والأفعالَ حوادثَ والوجهَ واليدين أبعاضًا والحِكَمَ والغاياتِ التي يفعل لأجلها أغراضًا، فلمَّا وضعوا لهذه المعاني الصحيحة الثابتة تلك الألفاظَ المستنكرة الشنيعة تمَّ لهم من نفيها وتعطيلها ما أرادوه فقالوا للأغمار والأغفال: اعلموا أنَّ ربَّكم منزَّهٌ عن الأعراض والأغراض والأبعاض والجهات والتركيب والتجسيم والتشبيه، فلم يشكَّ أحدٌ لله في قلبه وقارٌ وعظمةٌ في تنزيه الربِّ تعالى عن ذلك، وقد اصطلحوا على تسمية سمعه وبصره وعلمه وقدرته وإرادته وحياته أعراضًا، وعلى تسمية وجهه الكريم ويديه المبسوطتين أبعاضًا، وعلى تسمية استوائه على عرشه وعلوِّه على خلقه وأنه فوق عباده تحيُّزًا، وعلى تسمية نزوله إلى سماء الدنيا وتكلُّمه بقدرته ومشيئته إذا شاء وغضبِه بعد رضاه ورضاه بعد غضبه حوادثَ، وعلى تسمية الغاية التي يفعل ويتكلَّم لأجلها غرضًا، واستقر ذلك في قلوب المتلقِّين عنهم، فلمَّا صرَّحوا لهم بنفي ذلك بقي السامع متحيِّرًا أعظمَ حيرةٍ بين نفي هذه الحقائق التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له جميع رسله وسلفُ الأمَّة بعدهم وبين إثباتها وقد قام معه شاهدُ نفيِها بما تلقَّاه عنهم، فمن الناس من فرَّ إلى التخييل، ومنهم من فرَّ إلى التعطيل، ومنهم من فرَّ إلى التجهيل، ومنهم من فرَّ إلى التمثيل، ومنهم من فرَّ إلى الله ورسوله وكشفَ زيفَ هذه الألفاظ وبيَّن زخرفها وزَغَلَها وأنها ألفاظٌ مموَّهةٌ بمنزلة طعامٍ طيِّب الرائحة في إناءٍ حسن اللون والشكل، ولكنَّ الطعام مسمومٌ، فقالوا ما قاله إمام أهل السنَّة باتِّفاق أهل السنَّة أحمدُ بن حنبلٍ: لا نزيل عن الله صفةً من صفاته لأجل شناعة المشنِّعين.
    ولمَّا أراد المتأوِّلون المعطِّلون تمام هذا الغرض اخترعوا لأهل السنَّة الألقابَ القبيحة فسمَّوْهم حشويةً ونوابتَ ونواصبَ ومجبرةً ومجسِّمةً ومشبِّهةً ونحو ذلك، فتولَّد من تسميتهم لصفات الربِّ تعالى وأفعاله ووجهه ويديه وحكمته بتلك الأسماء، وتلقيبِ من أثبتها له بهذه الألقاب لعنةُ أهل الإثبات والسنَّة وتبديعُهم وتضليلهم وتكفيرهم وعقوبتهم ولَقُوا منهم ما لقي الأنبياء وأتباعهم من أعدائهم، وهذا الأمر لا يزال في الأرض إلى أن يَرِثَها الله ومن عليها.
    السبب الثالث: أن يَعْزُوَ المتأوِّل تأويلَه وبدعته إلى جليل القدر نبيه الذكر من العقلاء أو من آل البيت النبوي أو من حلَّ له في الأمَّة ثناءٌ جميلٌ ولسان صدقٍ ليحلِّيَه بذلك في قلوب الأغمار والجهال، فإنَّ من شأن الناس تعظيمَ كلامِ مَن يعظم قدرُه في نفوسهم وأن يتلقَّوْه بالقبول والميل إليه، وكلَّما كان ذلك القائل أعظمَ في نفوسهم كان قبولهم لكلامه أتمَّ حتى إنهم ليقدِّمونه على كلام الله ورسوله ويقولون: هو أعلم بالله ورسوله منَّا، وبهذه الطريق توصَّل الرافضة والباطنية والإسماعيلية والنصيرية إلى تنفيق باطلهم وتأويلاتهم حتى أضافوها إلى أهل بيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا علموا أنَّ المسلمين متَّفقون على محبَّتهم وتعظيمهم وموالاتهم وإجلالهم فانتمَوْا إليهم وأظهروا من محبَّتهم وموالاتهم واللهج بذكرهم وذكر مناقبهم ما خيَّل إلى السامع أنهم أولياؤهم وأَوْلى الناس بهم ثمَّ نفَّقوا باطلهم وإفكهم بنسبته إليهم، فلا إله إلاَّ الله كم من زندقةٍ وإلحادٍ وبدعةٍ وضلالةٍ قد نفقت في الوجود بنسبتها إليهم وهُمْ براءٌ منها براءةَ الأنبياء من التجهُّم والتعطيل، وبراءةَ المسيح من عبادة الصليب والتثليث، وبراءةَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من البدع والضلالات.
    وإذا تأمَّلتَ هذا السبب رأيتَه هو الغالبَ على أكثر النفوس، وليس معهم سوى إحسانِ الظنِّ بالقائل بلا برهانٍ من الله ولا حجَّةٍ قادتهم إلى ذلك، وهذا ميراثٌ بالتعصيب من الذين عارضوا دينَ الرسل بما كان عليه الآباء والأسلاف، فإنهم لحسن ظنِّهم بهم وتعظيمهم لهم آثروا ما كانوا عليه على ما جاءتهم به الرسل، وكانوا أعظمَ في صدورهم من أن يخالفوهم ويشهدوا عليهم بالكفر والضلال وأنهم كانوا على الباطل، وهذا شأن كلِّ مقلِّدٍ لمن يعظِّمه فيما خالف فيه الحقَّ إلى يوم القيامة.
    السبب الرابع: أن يكون ذلك التأويل قد قبله ورضِيَه مبرِّزٌ في صناعةٍ من الصناعات أو علمٍ من العلوم الدقيقة أو الجليلة، فيعلو له بما برَّز به ذكرٌ في الناس ويشتهر له به صِيتٌ، فإذا سمع الغمر الجاهل بقبوله لذلك التأويل وتلك البدعة واختياره له أحسنَ الظن به وارتضاه مذهبًا لنفسه ورضِيَ من قِبَلِه إمامًا له، وقال: إنه لم يكن ليختارَ مع جودة قريحته وذكائه وصحَّة ذهنه ومهارته بصناعته وتبريزه فيها على بني جنسه إلاَّ الأصوبَ والأفضل من الاعتقادات والأرشدَ والأمثل من التأويلات، وأين يقع اختياري من اختياره فرضيتُ لنفسي ما رضيه لنفسه فإنَّ عقله وذهنه وقريحته إنما تدلُّه على الصواب كما دلَّته على ما خفيَ عن غيره من صناعته وعلمه. وهذه الآفة قد هلك بها أممٌ لا يحصيهم إلاَّ الله، رأوا الفلاسفةَ قد برَّزوا في العلوم الرياضية والطبِّية واستنبطوا بعقولهم وجودة قرائحهم وصحَّة أفكارهم ما عجز أكثر الناس عن تعلُّمه فضلاً عن استنباطه، فقالوا للعلوم الإلهية والمعارف الربَّانية أسوةً بذلك: فحالهم فيها مع الناس كحالهم في هذه العلوم سواءً، فلا إله إلاَّ الله، كم أهلكت هذه البليَّة من أمَّةٍ، وكم ضربت من دارٍ وكم أزالت من نعمةٍ وجلبت من نقمةٍ، وجرَّأت كثيرًا من النفوس على تكذيب الرسل واستجهالهم، وما عرف أصحاب هذه الشبهة أنَّ الله سبحانه قد يعطي أجهلَ الناس به وبأسمائه وصفاته وشرعه من الحذق في العلوم الرياضية والصنايع العجيبة ما تعجز عنه عقول أعلم الناس به ومعارفهم، وقد قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِدُنْيَاكُمْ»، وصدق صلوات الله وسلامه عليه، فإنَّ العلوم الرياضية والهندسية وعلم الأرتماطيقي والموسيقى والجغرافيا وإيرن -وهو علم جرِّ الأثقال ووزن المياه وحفر الأنهار وعمارة الحصون-، وعلم الفلاحة وعلم الحميَّات وأجناسها ومعرفة الأبوال وألوانها وصفائها وكدرها وما يدلُّ عليه، وعلم الشعر وبحوره وعلله وزحافه وعلم الفنيطة ونحو ذلك من العلوم هم أعلم بها وأحذق فيها.
    وأمَّا العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتفاصيل ذلك فإلى الرسل قال الله تعالى: ﴿وَعْدَ اللهِ لاَ يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: 6-7]، قال بعض السلف: يبلغ من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقر الدرهم بظفره فيعلم وزنه ولا علم له بشيءٍ من دينه، وقال تعالى في علوم هؤلاء واغترارهم بها: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [غافر: 83]، وقد فاوت الله سبحانه بين عباده فيما تناله عقولهم وأذهانهم أعظمَ تفاوتٍ، والعقل يعطي صاحبَه فائدته في النوع الذي يلزمه به ويشغله به ويقصره عليه ما لا يعطيه في غيره وإن كان غيره أسهلَ منه بكثيرٍ، كما يعطيه همَّته وقريحته في الصناعة التي هو معنيٌّ بها ومقصور العناية عليها ما لا يعطيه في صناعةٍ غيرها، وكثيرًا ما تجد الرجلَ قد برَّز في اللطيف من أبواب العلم والنظر وتخلَّف في الجليل منهما، وأصاب الأغمض الأدقَّ منها وأخطأ الأجلَّ الأوضح، هذا أمرٌ واقعٌ تحت العيان، فكيف وعلوم الأنبياء ومعارفهم من وراء طور العقل، والعقل -وإن لم يستقلَّ بإدراكها- فإنه لا يحيلها، بل إذا أُوردتْ عليه أقرَّ بصحَّتها وبادر إلى قبولها وأذعن بالانقياد إليها وعلم أنَّ نسبة العلوم التي نالها الناس بأفكارهم إليها دون نسبة علوم الصبيان ومعارفهم إلى علوم هؤلاء بما لا يُدْرَك.
    السبب الخامس: الإغراب على النفوس بما لم تكن عارفةً به من المعاني الغريبة التي إذا ظفر الذهن بإدراكها ناله لذَّةٌ من جنس لذَّة الظفر بالصيد الوحشيِّ الذي لم يكن يطمع فيه، وهذا شأن النفوس فإنها مُوكلةٌ بكلِّ غريبٍ تستحسنه وتؤثره وتنافس فيه حتى إذا كثر ورخُصَ وناله المُثري والمقلُّ زَهِدَتْ فيه مع كونه أنفعَ لها وخيرًا لها ولكن لرخصه وكثرة الشركاء فيه، وتطلب ما تتميَّز به عن غيرها للذَّة التفرُّد والاختصاص، ثمَّ اختاروا لتلك المعاني الغريبة ألفاظًا أغرب منها وألقَوْها في مسامع الناس وقالوا: إنَّ المعارف العقلية والعلوم اليقينية تحتها، فتحرَّكت النفوس لطلب فهم تلك الألفاظ الغريبة وإدراك تلك المعاني، واتَّفق أن صادفت قلوبًا خاليةً من حقائق الإيمان وما بعث الله به رسوله، فتمكَّنت منها فعزَّ على أطبَّاء الأديان استنقاذُها منها وقد تحكَّمت فيها كما قيل:
    تَاللهِ مَا أَسَرَ الهَوَى مِنْ وَامِقٍ ... إِلاَّ وَعَزَّ عَلَى الوَرَى اسْتِنْقَاذُهُ
    ولمكان الاستغراب وقبول النفس لكلِّ غريبٍ لهج الناس بالأخبار الغريبة وعجائب المخلوقات والألغاز والأحاجي والصور الغريبة، وإن كانت المألوفة أعجبَ منها وأحسن وأتمَّ خلقةً.
    السبب السادس: تقديم مقدِّماتٍ قبل التأويل تكون كالأطناب والأوتاد لفسطاطه، فمنها ذمُّ أصحاب الظواهر وعيبهم والإزراء بهم وأنهم قومٌ جُهَّالٌ لا عقول لهم، وإنما هم أصحاب ظواهرَ سمعيةٍ، وينقلون من مثالبهم وبَلَهِهم ما بعضه صدقٌ وأكثره كذبٌ كما يحكى أنَّ بعضهم سئل عن قوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5] هل هو حقيقةٌ أو مجازٌ؟ قال: لا حقيقةٌ ولا مجازٌ، فقال له: جزاك الله عن ظاهريتك خيرًا، وأمثال هذا، ويحكون عنهم إنكارَ أدلَّة العقول والبحث والنظر وجدال أهل الباطل، والنفوسُ طالبةٌ للنظر والبحث والتعقُّل. ومنها قولهم: إنَّ الخطاب بالمجاز والاستعارة أعذبُ وأوفق وألطف وقد قال بعض أئمَّة النحاة: أكثر اللغة مجازٌ، فإذا كان أكثر اللغة مجازًا سَهُلَ على النفوس أنواعُ التأويلات فقُلْ ما شئت وأوِّلْ ما شئتَ وأنْزِلْ عن الحقيقة ولا يضرُّك أيُّ مجازٍ ركَّبْتَه.
    ومنها قولهم: إنَّ أدلَّة القرآن والسنَّة أدلَّةٌ لفظيةٌ وهي لا تفيد علمًا ولا يقينًا والعلم إنما يستفاد من أدلَّة المعقول وقواعد المنطق.
    ومنها قولهم: إذا تعارض العقل والنقل قُدِّم العقل على النقل، فهذه المقدِّمات ونحوها هي أساس التأويل، فإذا انضمَّت هذه الأسباب بعضُها إلى بعضٍ وتقاربت فيا محنةَ القرآن والسنَّة وقد سلكا في قلوبٍ قد تمكَّنَتْ منها هذه الأسباب، فهنالك التأويل والتحريف والتبديل والإضمار والإجمال»(2).
    وأخيرًا، فالواجب على الداعي إلى الله الابتعاد عن أماكن الشبهات ومواضع التُّهَمِ ومحالِّ الافتراءات، فيعمل على ترك بعض المباحات أو ما فيه فائدةٌ لدفع ضررِ شبهةٍ باطلةٍ، ففي دفعها نفعٌ أكثر من جلبها، فلا يسأل ما يخصُّ نفسه وحظوظه المباحة ولا تقديسَ نفسه والانتصارَ لها، كما يترك المداهنة والتملُّق والتزلُّف ونحو ذلك ممَّا يتشبَّث به أهل الباطل في إثارة الشبهات ليصدُّوا الناسَ عن الدعوة والدعاة، وعلى الداعي إلى الله أن يفنِّد الأباطيلَ ويُظهر زيفَ الأكاذيب، ويبطل بالحجَّة والبرهان شُبَهَ المبطلين في قالبٍ من الحكمة والتأنِّي والتبصُّر والرفق دون استفزازٍ أو ركونٍ، خشيةَ أن يحمله تصرُّفه على الانتصار لنفسه والغضب لها.
    علمًا أن الشبهة إذا عشعشت في الأذهان وشاعت بين الناس تركت أثرًا ظاهرًا في النفوس لا سيَّما الضعيفة والمتربِّصة والجاهلة، يصعب القضاء عليها وإزالتها بعد تمكُّنها، لذلك كان «الدَّفْعُ أَسْهَلَ مِنَ الرَّفْعِ».
    وعلى الداعي إلى الله أن يتسلَّى بقصص الأنبياء إذا ما اغتمَّ ويتَّعظ بمواقفهم في إزالة طعونات المبطلين وشبهات المفسدين مع تجريدهم الكامل لله تعالى واحتساب ما يلقَوْنه من الأذى عند الله تعالى.
    هذا، وليس معنى دفعِ ضررِ الافتراءات وإبعاد الشبهات أن يتركَ الداعي إلى الله الدعوةَ إلى الله بسببها أو يُهمل منهجَها وأسلوبها، بل هو مطالَبٌ بأن لا يقطعَ ما يخصُّ صميمَ الدعوة وما يتَّصل بها لأنه من الدعوة الواجب القيامُ به أحسنَ قيامٍ بدعوةٍ شاملةٍ لجميع الناس إلى عبادة الله وحده لا شريكَ له وبيانِ لوازمها الإيمانية، لا فرْقَ في دعوته بين شريف ووضيعٍ، ولا بين قويٍّ وضعيفٍ، أو غنيٍّ وفقيرٍ، وإنما على الداعي إلى الله أن يَدَعَ ما يتعلَّق بخصوص نفسه وحظوظه الدنيوية المباحة ونحوها؛ لئلاَّ يترك فرصةً للمبطلين للتعلُّق بها فيتَّخذوها تكأةً لإثارة الشبهات على وجهِ صدِّ دعوة الحقِّ وإضعاف الداعي إلى الله ومن معه في الميدان الدعوي.
    واللهَ تعالى نسأل -وهو خير مسؤولٍ- أن يُرِيَنا الحقَّ حقًّا ويرزقنا اتِّباعه، والباطلَ باطلاً ويرزقَنا اجتنابَه، وأن يوفِّقنا للحقِّ والهدى اعتقادًا وعملاً ودعوةً، ويجعلَنا من الذين قال الله فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس: 9-10].
    والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.


    الجزائر في: 07 شعبان 1432ه
    المـوافق ل: 08 جويلية 2011م


    1- الأغمار: جمع غُمْر، بالضمِّ، وهو الجاهل الغِرُّ الذي لم يجرِّب الأمور. انظر: «لسان العرب» لابن منظور (5/ 32).
    2- «الصواعق المرسلة» (2/ 436-451).

    تعليق

    يعمل...
    X