إعـــــــلان

تقليص
1 من 3 < >

تحميل التطبيق الرسمي لموسوعة الآجري

2 من 3 < >

الإبلاغ عن مشكلة في المنتدى

تساعدنا البلاغات الواردة من الأعضاء على منتدى الآجري في تحديد المشكلات وإصلاحها في حالة توقف شيء ما عن العمل بشكل صحيح.
ونحن نقدّر الوقت الذي تستغرقه لتزويدنا بالمعلومات عبر مراسلتنا على بريد الموقع ajurryadmin@gmail.com
3 من 3 < >

فهرسة جميع الشروح المتوفرة على شبكة الإمام الآجري [مبوبة على حسب الفنون] أدخل يا طالب العلم وانهل من مكتبتك العلمية

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه - وعلى آله ومن ولاه وبعد :

فرغبة منا في تيسير العلم واشاعته بين طلابه سعينا لتوفير جميع المتون وشروحها المهمة لتكوين طلبة العلم ، وقد قطعنا شوطا لابأس به في ذلك ولله الحمد والمنة وحده ، إلا أنه إلى الآن يعاني بعض الأعضاء والزوار من بعض الصعوبات في الوصول للشروح والمتون المرادة لتداخل الشروح أو لقلة الخبرة التقنية .

من أجل هذا وذاك جاء هذا الموضوع ليكون موضوعا مرجعا جامعا مرتبا بإذن الله لكل المواد العلمية الموضوعة حاليا في شبكتنا ومرتبا على حسب أبواب الفنون العلمية (العقيدة، الفقه، الحديث،...)وسنحاول أيضا ترتيبها على مستويات الطلب (المبتدئ ، المتوسط ، المنتهي) سيتم تحديثه تبعا بعد إضافة أي شرح جديد .

من هـــــــــــنا
شاهد أكثر
شاهد أقل

شرح الشيخ صالح السحيمي لرسالة الحافظ ابن رجب( الفرق بين النصيحة والتعيير )مفرغا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • شرح الشيخ صالح السحيمي لرسالة الحافظ ابن رجب( الفرق بين النصيحة والتعيير )مفرغا


    بسم الله الرحمن الرحيم

    شَــــــرْحُ
    كِـــتَـــابِ
    ( الْـفَـرْقِ بَـيْـنَ الـنَّـصِـيـحَـةِ والـتَّـعْـيِـيـْرِ )
    لِلْـحَافِـظِ ابْـنِ رَجَـبٍ الْـحَـنْـبَلِيِّ
    - رَحِـمَـهُ اللهُ تَـعَـالَى –
    شَرْحُ فَضِيْلَةِ الشيخِ صَالِحِ بنِ سَعْدٍ السُّـحَـيْـمِـيِّ الحَـرْبِـيِّ
    - حَـفِـظَـهُ اللهُ تَـعَـالَى –
    بسم الله الرحمان الرحيم


    إن الحمد لله ؛ نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا .
    من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
    وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ وصلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله ، وأصحابه أجمعين .
    أيها الإخوة نبدأ - إن شاء الله - هذه الليلة بقراءة ودراسة كتاب الحافظ ابن رجب - الذي هو ( الفرق بين النصيحة والتعيير ) ؛ والحافظ ابن رجب = هو ذلكم الحافظ المعروف صاحب المؤلفات العظيمة : في العقيدة ، وفي التراجم ، وفي التفسير ، وفي غيرها .
    ولد سنة ست وثلاثين وسبعمئة ، وتوفي سنة خمس وتسعين ، وسبعمئة ؛ أي : عن عمر = تسع وخمسون سنة ، وهو عمر متوسط بالنسبة لغيره من العلماء المعمرين ، أو الذين ماتوا أصغر منه .
    ومما أدى إلى اختيار هذا الكتاب هذه الأيام أمران :
    الأمر الأول : أنه رغبة بعض الإخوة من طلاب العلم .
    والأمر الثاني : أننا بحاجة إليه - بحاجة ماسة إليه في هذه الأيام ؛ لأن الناس في باب النصيحة ما بين مُـفـرِط ، ومُـفـرِّط ، ما بين مقصر = لا ينصح ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر مع قدرته على ذلك ، وما بين مُفرِط حوّل النصيحة إلى فضيحة .
    وما بين داعٍ إلى الموازنات في الرد على المبتدعة . وكل هذه الطوائف منحرفة في باب النصح ؛ سواء الذي اتخذ النصح تعييرا للمنصوح ، وصار يقضي غرضه بالتشهير للمنصوح له عن طريق ذكر مساوئه ، أو عكسه الذي لا ينصح ألبتة ، وكذلك الذي يخلط بين طريقة النصح ، وبين الدعوة إلى ما يدعو إليه بعض المنتمين إلى بعض الجماعات والأحزاب القائمة في هذه الأيام من تحوير النصيحة ، أو من تحويرها إلى موازنات بين حسنات المبتدعة ومثالبهم .
    بعبارة أخرى : يرى بعضهم : بأنه قبل أن تنصح المبتدع ، أو قبل أن ترد على المبتدع الذي استنقدت النصائح بشأنه لا تذكر بدعه حتى تذكر حسانته ؛ وهذا طريق مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة - جملة وتفصيلا - . وأيضا يخالفه من اتخذ النصيحة تعييرا - كما سنبينه من خلال دراستنا لهذا الكتاب - ؛ وكذلك من قصر في باب النصيحة .
    خمسُ طوائف أخطأت في حقيقة النصيحة :
    الفرقة الأولى : المعرضون المفرطون الذين لا يأمرون بالمعروف ، ولا ينهون عن منكر - ولو قدروا على ذلك - المتخاذلون .
    الفرقة الثانية : الذي حولوا النصيحة إلى فضيحة ، ولم يفرقوا بين النصيحة والفضيحة ، وأخذوا يقضون أغراضهم عبر ما يدعون أنهم نصيحة ؛ والمقصود هو التشهير ، وهذا كثير مما يجري - الآن - بين الناس - وللأسف ! - ولا سيما أولئك الذين يرون إلقاء المثالب عبر المنابر ؛ وبخاصة التعرض لهفوات العلماء وأخطائهم ، أو التعرض لمثالب الولاة ، أو ما يتوهم وما يتصور أنه مثالب .
    الفرقة الثالثة : طائفة جديدة جدت في هذا العصر تدعو إلى الموازنة في النصيحة في الرد على المبتدعة .
    التوزان مطلوب وأما الموازنة في الرد على المبتدعة - يعني الأصل في المسلم السلامة - ولست ملزما أنني إذا أردت أن أرد على أخطاء مبتدع أنني أبدأ الرد ببيان حسانته .
    الفرقة الرابعة : وهي التي جعلت من بعض الأخطاء ، أو بعض الهفوات - عند بعض أهل العلم - سلما للنيل منهم ، والتنقص من شأنهم ، ونالوا منهم ، وتنقصوهم ، ولم يستفيدوا من علمهم بسبب موقفهم هذا ؛ كما فعلت فرقة الحدادية تجاه الإمام ابن حجر ، والإمام النووي ، والإمام ابن رجب ، وغيرهم من أئمة الهدى والدين ؛ الذين - ربما - وجدت عندهم بعض الأخطاء التي بينها العلماء -لم يسكتوا عنها ، لكن بيانهم لها ليس على سبيل التجريح ، ولا على سبيل وصمهم بالابتداع ، أو نحو ذلك ، ولكن يذكر ويبين الخطأ مع الاحتفاظ بمنزلة العالم الجليل الذي عنده هذه الهفوات ، وعدم تجريحه وعدم الإساءة إليه .
    الفرقة الخامسة : وهي طائفة تهول الأمور ، وتجعل الأمور الصغيرةَ كبيرةً ؛ فإذا وجد - ولو خطأ يسيرا - من إخوانهم طوروه ، وجعلوا له أجنحة ، وأذيالا ، وزادوا ونقصوا ونسوا ، وقولوه ما لم يقل ، ثم أخذوا ينشرون ذلك عبر تلك الشبكة المسماة بالإنترنت - شبكة المعلومات العنكبوتية - التي لو استخدمت في الخير لكان فيها خير كثير ، لكن أصبح جل استخدامها في الشر : إما في باب الإفراط ، وإما في باب التفريط .
    وأهل السنة والجماعة وسط في هذا كله ؛ بين هذه الأمور كلها : بين المفْرِطين والمفرِّطين ، والمضخمين ، والمهرجين ، والمستغلين .
    لعلي أشير إلى مسألة مهمة - هنا - وهو أن بعض ضعاف الإيمان ، أو مرضى القلوب ! إذا بين بعض كبار أهل العلم مسألة من مسائل العلم ؛ ونصحوا لأمتهم – وما زال علماؤنا – وفقهم الله – وما فتئوا ينصحون للأمة – قديما وحديثا – لكن بعض الذين يصطادون في الماء العكر يحورون النصيحة إلى أن المقصود فلان وفلان ممن هو معلوم أنه من أهل السنة والجماعة ، أو أن المقصود أهل البلدة الفلانية ، ونحو ذلك ، كما فعل بعضهم قبل بضع سنوات لما أصدر شيخنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبدالله بن باز – رحمه الله تعالى – بيانا يوجه فيه الدعاة إلى المسلك السوي في الدعوة إلى الله – عز وجل – ووجه لهم نصيحة قيمة في عدم ( الإفراط والتفريط ) نصيحة عظيمة ؛ لا غبار عليها ولا يمكن أن يشك في قصده ونيته – رحمه الله تعالى - بهذه النصيحة وإن مراده الخير ، وهي نصيحة – لمن وفق وعقلها – نصيحة عظيمة جدا ، يعني فيها رسم للمنهج الطيب للدعاة إلى الله – عز وجل – يعني يدعو على بصيرة ، وأن يسلكوا منهج أهل السنة إلى الجماعة في بيان الحق بدليله ، والرد على المخالفين بالطرق الشرعية المعروفة .
    فلما صدر بيان الشيخ – رحمه الله تعالى – قام بعض المحرفين ، وبعض الغلاة ، وبعض زعماء الفرق المعاصرة ؛ وألقوا محاضراتٍ أكثرها ألقيت في ليلة واحدة (!!) ، وفسروا أن بيان الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – يقصد به مجموعة في من الناس في المدينة النبوية .
    فما كان من الشيخ – رحمه الله تعالى – إلا أن أصدر توضيحا لهذا الفهم المنكوس ، والذي أفرزته تلك المحاضرات التي فسرت كلام الشيخ بغير مراده فقال – ما خلاصته – من زعم أنني أقصد بهذا البيان : فلانا وفلانا من إخواننا ، أو أقصد أحدا من أهل السنة والجماعة فهذا كذب ، وإنما من يصطاد في الماء العكر – هذه عبارة الشيخ – رحمه الله – مسجلة بصوته عندي – وإنما من يصطاد في الماء العكر يقول : إن المقصود بالبيان فلانا وفلانا !!
    فرد على أولئك الذين يصطادون في الماء العكر ، وبين أن بيانه إنما هو بيان عام لإخوانه الدعاة إلى الله – عز وجل – في أن يسلكوا الطريق المستقيم – طريق أهل السنة والجماعة في الدعوة إلى الله على بصيرة ، والسير على هدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بعيدا عن الإفراط والتفريط .
    فكان في توضيحه ذلك – رحمه الله – ردا قاطعا ، وبيانا ساطعا ، في الرد على يصطادون في الماء العكر ، والذين يحورون كلام علمائنا في أن المقصود به زيد أو عمرو ، ويشوشون عبر تلك الأجهزة المشبوهة ، ويفسرون كما يريدون ، وتوجيهات علمائنا ومشايخنا واضحة أوضح من الشمس في رابعة النهار ، فمن أراد الحق وجده ، ومن أراد الاستفادة من كلام علمائنا فالأمر جلي واضح ، ومن أراد أن يصطاد في الماء العكر فقد اصطادوا في القرآن الكريم ؛ وحرفوه عن ظاهره ، وحملوه على غير معناه ، ولووا كثيرا من أعناق النصوص من الآيات والأحاديث وحملوها على غير معناها .
    هذه القضية هي التي حملتنا على اختيار هذا الكتاب القيم للحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى فنستعين بالله - عز وجل - .
    بسم الله الرحمان الرحيم
    الحمد لله وحده ؛ والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ؛ وبعد : قال الحافظ ابن رجب – رحمه الله :
    (( المتن ))
    بسم الله الرحمان الرحيم ؛ وبه نستعين .
    الحمد لله رب العالمين ؛ وصلاته وسلامه على إمام المتقين ، وخاتم النبيين ؛ وآله ، وصحبه أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
    أما بعد :
    (( الشرح ))
    هذه مقدمة درج عليها السلف ، وهي مقتبسة من هدي الكتاب والسنة ، بعد التسمية بعد ذكر اسم الله - عز وجل - ، ثم الاستعانة به ؛ لأنه وحده الذي يستعان ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) سورة الفاتحة آية (5) .
    بدأ بحمد الله – عز وجل – والثناء عليه بما هو – له - أهل ، ثم الصلاة والسلام على رسوله – صلى الله عليه وسلم – ثم ثنى بالصلاة والسلام على آله وصحبه الكرام ؛ وكذا من تبعهم بإحسان ، وهذا هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من بعده ، وكذلك علماء الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
    ثم قال ( أما بعد ) وهي كلمة فصل معروفة عند العرب من قديم الزمان .
    (( المتن ))
    فهذه كلمات مختصرة جامعة ، في الفرق بين النصيحة والتعيير
    (( الشرح ))
    فهذه كلمات مختصرة جامعة ، في الفرق بين النصيحة والتعيير ؛ كلمات ؛ لأنه كتاب يوصف بأنه صغير ، ولكنها كلمات قليلة غير أن نفعها عظيم جدا ، قليلة في مبناها ، عظيمة في معناها ، وجعلها في ضوء الكتاب والسنة للفرق بين ( النصيحة والتعيير ) .
    والنصيحة في اللغة مأخذوة من ( نصحت العسل إذا خلصته من شمعه والشوائب التي فيه ) ، وفي الشرع له اصطلاح هي بذل الخير للناس بتنبيههم إلى فعل خير أو اجتناب شر ، يعني توجيه الناس إلى فعل الخير ، أو توجيه إلى التحذير من الشر .
    والتعيير هو التنقص ، عيره : أي تنقصه بنسبه ، أو بصنعته ، أو بشكله ، أو بلونه أو نحو ذلك ، وكل هذا محرم ؛ ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم – لأبي ذر – رضي الله عنه – وهو من هو – فقال : أعيرته بأمه ؟!
    ولما قالت عائشة – رضي الله عنها وأرضاها ، وأبغض من أبغضها وقلاها – لصفية ما قالت ! ، قال لها النبي – صلى الله عليه وسلم - : لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ، الخلاصة أي لكانت - والعياذ بالله – يعني ملأت منها مياه البحار ، مع أنها كلمة تابت منها – رضي الله عنها - ولا تعير عائشة بمثل هذه الكلمة ، فإنها كلمة عابرة حصلت وقتَ غضب ، وقد نصحها النبي – صلى الله عليه وسلم – فقبلت النصح – رضي الله عنها وأرضاها –
    والشاهد أن التعيير - من عير الشخص أي : تنقصه سواء : طعن في حسبه ، أو نسبه - أو قبل ذلك في دينه - أو في بلده ، أو في لونه ، أو في شكله ، أو في خلقه : وكل ذلك محرم ، ولا يجوز الوصف بقصد التعيير والتنقص ، فإذا اقتضى الأمر= الوصف لضرورة شرعية وجب الاقتصار على ما تدعو الضروة إليه : كوصف النبي – صلى الله عليه وسلم – لحال معاوية – رضي الله عنه – وحال أبي جهم – عندما خطبا إحدى نساء المسلمين – رضي الله عنها – عندما يعني عرضت نفسها ، أو استشارت النبي – صلى الله عليه وسلم – في خطبتهما لها ، ثم نصحها بأن تنكح أسامة بن زيد – رضي الله عنه - .
    فالشاهد هو الفرق بين النصيحة والتعيير .
    النصيحة : الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر بضوء الشرع ، بلا إفراط ولا تفريط ، بالطرق المشروعة ، وبحسب ما يقتضيه المقام ، وبحسب حال المنصوح ، وبحسب قوة أو درجة المنصوح منه ، وبحسب إعلانه وإسراره ، وبحسب اقتصار شر الأمر المنصوح منه على صاحبه ، أو تعديه إلى غيره ، يعني تراعى فيها اعتبارات عدة - سيأتي تفصيلها في أثناء كلام الشيخ – رحمه الله تعالى - .
    (( المتن ))
    فإنهما يشتركان في أن كلاً منهما ذِكْرُ الإنسان بما يكره ذِكْرَه ، وقد يشتبه الفرق بينهما عند كثير من الناس ؛ والله الموفق للصواب .
    (( الشرح ))
    يشتركان في أمر واحد ، وهو أن النصيحة قد تكون بذكر ما يكره الإنسان ، وكذا الحال في التعيير ، فعندما يقال : فلان مبتدع ، أو فلان عاصٍ ، يختلف الحال من وضع لآخر ، قد يكون الكلام سائغا في حال ، وقد يكون ممنوعا إعلانه في حال أخرى ، فيجب مراعاة مقتضيات تلك الأحوال . وكما قلت : سيأتي تفضيل هذا .
    يعني يجب على الناصح أن يراعي مقتضيات الأحوال ؛ وإلا تحول إلى تعيير وفضيحة ، وليست نصيحة ! إذا لم تراعَ الطرق الشرعية النبوية الواردة في طريقة النصيحة ، والتفريق بينها وبين التعيير ، حيث إن ثمة قاسما مشتركا بينهما في أنه قد يكون كلا منها ذكر لما يكره الشخص المنصوح ، أو المعير ، ولكن يختلف الأمر باختلاف الأحوال التي سيأتي تفصيلها – إن شاء الله – تبارك وتعالى - .
    (( المتن ))
    وقد يشتبه الفرق بينهما عند كثير من الناس ؛ والله الموفق للصواب .
    (( الشرح ))
    وقد يشتبه الكثير من التعيير ، أو النصح لدى من ليس عندهم فرقان يسيرون به في ضوء الكتاب والسنة ، فقد يتحول النصح إلى تعيير ، وقد يسمي بعضُ الناس النصحَ تعييراً ، يعني بعض الناس قد ينتقل من النصح إلى التعيير ؛ لأنه لا يعرف طريقة النصح الشرعية ، وآخرون إذا نصحوا من أمر وحذِّروا من أمر فهموا أن المقصود منه التعيير !! ؛ والنصح وسط بين هؤلاء وأولئك .
    (( المتن ))
    اعلم أن ذِكر الإنسان بما يكره محرم إذا كان المقصود منه مجرد الذمِّ ، والعيب ، والنقص .
    (( الشرح ))
    أولا : الحكم الأساسي : أن ذكر الإنسان بما يكره محرم ، فإن كان مباشرة ، فهو فضيحة ، وإن كان في غيابه فهي غيبة ، سواء كان ما قلته فيه صحيحا ، أو كان كذبا ؛ لذم النبي – صلى الله عليه وسلم – الغيبة ، وقولِه ( الغيبة ذكرك أخاك بما فيه بما يكره ) .
    لما قيل له : أرأيت إن كان ما قلته فيه صحيحا ؟
    قال : إن كان ما قلته صحيحا فقد اغتبته ، وإن كان غير ذلك فقد بهته .
    والله – عز وجل – شبه من يغتاب أخاه المسلم بمن يأكل لحمه حال موته ! قال الله – عز وجل ( وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ) سورة الحجرات آية (12) .
    فهذا هو الأصل ؛ الأصل أنك لا تذكر الشخص بما يكره ، ولو كان ذلك صحيحا ؛ إذا لم يكن المقصود غرضا صحيحا ، فإذا كان المقصود الإساءةَ إليه ، أو تنقصَه ، أو التشفيَّ منه ، أو تحقيرَه عند الآخرين ، أو النيل منه بأي شكل من أشكال النيل ، أوخفضَه ، أو الإطاحةَ به ، أو ما إلى ذلك دون مسوغ شرعي ؛ فإن هذا محرم ، والأصل فيه أنه ممنوع .
    (( المتن ))
    فأما إن كان فيه مصلحة لعامة المسلمين ، خاصة لبعضهم ، وكان المقصودُ منه تحصيلَ تلك المصلحة فليس بمحرم بل مندوب إليه .
    (( الشرح ))
    أما إذا كان ذكرُك الشخص بما يكره فيه مصلحة عامة للمسلمين ، وكفاية لشر المنصوح منه ، كما لو كان مجرما قد تعدى جرمه إلى الإضرار بالآخرين ، ولم يَعُد ينفع معه النصح = فيجب رفع أمره وذكره والرد عليه بحسب ما يقتضيه المقام ، من أجل اتقاء شره ، ووقاية المسلمين من آذاه ، هذا إذا كان المقصود بذلك هو مجرد النصح ، وبذل النصح للمسلمين . كذلك يشمل المبتدعة الذين اشتهروا بالبدعة ، وأسسوا منهجهم على البدعة ، وصار منهجهم يتعداهم إلى غيرهم ، ويتأثر بهم الآخرون فهنا يجب بيان أمرهم وتوضيح حالهم ؛ حتى لا ينخدع الناس بهم ، وليس هذا من الغيبة في شيء ، وسوف نذكر أنواعها – إن شاء الله – وارجعوا إليه وراجعوه في ( رياض الصالحين ) للإمام النووي – رحمه الله تعالى – وكذلك ذكره ابن الصلاح ، وغيرهما من أئمة العلم ، وسيأتي تفصيل ذلك – إن شاء الله تعالى – المهم أن ننظر في حال ذلك الذي ينصح : ماذا يعني ؟
    وماذا يريد ؟
    وما هي الحال المنصوح منها ؟
    وما قدرها ؟
    وهل يحتاج الأمر إلى :
    التوضيح ؟
    أو التصريح ؟
    أو التلميح ؟
    أو ( ما بال أقوام ) ؟
    أو ( بئس خطيب القوم أنت ) ؟ كما ثبت في المراعاة لتلك الأحوال كلها عن النبي – صلى الله عليه وسلم – .
    (( المتن ))
    (خاصة لبعضهم )
    (( الشرح ))
    يعني الاقتراح المستثنى ، وما كان فيه مصلحة للمسلمين وسنمثل له – إن شاء الله – وما كان فيه دفع للضرر عن المسلمين ، وكذلك ما كان فيه نفع خاص للمنصوح نفسه ، أو لبعض الناس ، وكذلك ما كان يعني ذكره متعينا ؛ لئلا يتضرر به الآخرون ، كل ذلك تجب مراعاته ، والوقوف عنده ، بقدر ما يقتضيه المقام ، وبقدر ما يقتضيه الحال .
    (( المتن ))
    فأما إن كان فيه مصلحة لعامة المسلمين ، خاصة لبعضهم ، وكان المقصودُ منه تحصيل تلك المصلحة فليس بمحرم بل مندوب إليه .
    (( الشرح ))
    يعني إذا كان فيه حصول مصلحة لعامة السلمين ، أو خاصتهم ، أو دفع مضرة عنهم ، فإنه حينئذ يكون مندوبا ، بل قد يكون واجبا متعينا ، فإذا اندفع بالتي هي أحسن كان مندوبا إليه ، وإن اقتضى الأمر أن يصرَّح بوضعه ، ويُحذَّر منه ، ويُنبَّه على خطورته ، فإن ذلك قد يصل إلى درجة الوجوب ، وقد كان السلف يطوف ويقول : فلان مبتدع ، فلان سيء الحفظ ، فلان كذاب ، فلان وضاع ، فلان متهم ، فلان ضعيف ، وإلى آخر ما هو معلوم من خلال " علوم الحديث " كما لا يخفى على أحد .
    المهم أن تراعى مقتضيات الأحوال ؛ فقد يكون محرما ، فقد يكون ذكرك لما يكره الشخص محرما ، وقد يكون مباحا ، وقد يكون مندوبا إليه ، بل قد يكون واجبا ، بحسب ما يقتضيه المقام .
    (( المتن ))
    وقد قرر علماء الحديث هذا في كتبهم في الجرح والتعديل (1) ، وذكروا الفرق بين جرح الرواة ، وبين الغيبة وردُّوا على من سوَّى بينهما من المتعبِّدين ، وغيرهم ممن لا يتسع علمه .
    ولا فرق بين الطعن في رواة حفَّاظ الحديث ، ولا التمييز بين من تقبل روايته منهم ومن لا تقبل ، وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة ، وتأوَّلَ شيئاً منها على غير تأويله ، وتمسك بما لا يتمسك به ؛ ليُحذِّر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه ، وقد أجمع العلماءُ على جواز ذلك أيضاً .
    (( الشرح ))
    قد ذكر الشيخ – رحمه الله - إجمالا - أن أهل العلم - وخاصة من تخصص في علوم الحديث – قديما وحديثا – أجمعوا على أن ذلك جائز ؛ فيبنوا حال رواة الحديث سواء : ما يتعلق بالطعن في الراوي ، أو ما يتعلق بالسقوط من السند .
    والطعن في الراوي يشمل ما يتعلق في تقصيره في جنب الله من : بدعٍ ، أو معاصٍ ، ويشمل : ما يتعلق بضعفه ، أو ضعف حفظه ، أو تساهله ، أو قوته وضعفه .
    كما يشمل ذلك – أيضا – ما يتعلق بدقته وفهمه لمنهج السلف في هذا المقام ، فكانوا يبينون حال الراوي :
    من كونه ضعيفا .
    من كونه وضاعا .
    من كونه كذابا .
    من كونه متهَـما .
    من كونه فاسقا .
    من كونه مبتدعا .
    من كونه سيء الحفظ .
    من كونه ، من كونه .... إلى أن أصبح هذا علما يدرس ، وكتبا مؤلَّفة يدرسها أهل العلم ، ويتناقلونها فيما بينهم ، ونتج عن ذلك ما يسمى بـ (( علوم الحديث )) أو (( مصطلح الحديث )) .
    وردوا على من يهون من شأن هذا العلم ، فإنه علم عظيم يقول عبد الله بن المبارك – رحمه الله تعالى - : الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء .
    ويشمل الإسناد دراسة السند من جميع جوانبه :
    من جهة اتصاله وانقطاعه .
    ومن جهة حال رواته .
    وقد أجمعوا - ولم ينقل خلاف بين أهل العلم في أهمية هذا العلم : من مسائل الجرح والتعديل ، وتفصيل ذلك بحسب ما يقتضيه الحال ، وبحسب ما حال الرواية ، وبينوا حالة الروايات لدى كل شخص من الرواة من :
    القَبول ، أو الرد ، أو الضعف ، أو الصحة ، أو الوضع ، أو الوهم ، أو التدليس ، أو نحو ذلك مما هو معلوم لدى طلاب العلم كافةً ، بل أجمعوا على ذلك ، ومن يقدح في الجرح والتعديل فإنه يقدح في أئمة العلم قاطبة ، ولكن يُرجع في ذلك إلى علماء الأمة ، وليس إلى اجتهاد الصغار ، أو المغمورين .
    وإنما الذي يرجع إليه في ذلك هم علماء الأمة الذين يقضون بالحق وبه يعدلون ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) سورة النساء آية (83) .
    ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) سورة النحل آية (43) وسورة الأنبياء آية (7) .
    فيجب أن يعلم أن هذا العلم باقٍ ، وأنه يستثنى من مسألة الغيبة ، ولا يعتبر غيبة في بيان حال الرواة ، وأمورهم ، ودراسة الأسانيد ، ولولا هذا العلم الذي قيضه الله للأمة لا ختلطت الأحاديث ، ولاختلط الحابل بالنابل ، ولحرِّف الدين كما حرفت الأديان السابقة ، ولا أشكُّ أن تحقيق هذا الأمر إنما هو تحقيق لقوله الله - عز وجل - ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) سورة الحجر آية (9) .
    (( المتن ))
    ولم ينكر ذلك أحد من أهل العلم ، ولا ادعى فيه طعناً على من ردَّ عليه قولَه ، ولا ذمَّاً ، ولا نقصاً ؛ اللهم إلا أن يكون المصنِّف ممن يُفحش في الكلام ، ويُسيءُ الأدب في العبارة = فيُنكَر عليه فحاشته ، وإساءته ، دون أصل ردِّه ، ومخالفته ؛ إقامةً للحجج الشرعية والأدلة المعتبرة .
    (( الشرح ))
    هنا يبين الشيخ – رحمه الله – تعالى أن الأئمة – رحمهم الله تعالى – كانوا – وما زالوا – يبينون هذا الأمر فيما يتعلق ببيان أحوال الراوي ، ويُـرَتَّبُ على ذلك القَـبول ، أو الرد ، أو الضعف ، أو الوضع ، ويبيون : ما فيه من نكارة ، ما فيه من وضع ، ما فيه من ضعف ، ثم يبينونه بأساليب يقتضيها المقام ، ويردون على من يستحق الرد ، بحسب ما يقتضيه المقام ، تارة بصريح العبارة ، وتارة بالتلميح والإشارة ، ويبينون ، ولم يعترض عليهم أحد ، لا من السلف ، ولا من الخلف ، بل هذا منهج أهل السنة والجماعة ، فيردون على من ابتدع ، أو من فسر النصوص بغير مدلاولها ، أو من حرفها عن مواضعها ، وصرفها عن مدلاولها ، ويبينون أحوال المبتدعة ، وأحوال الفسقة ، وأحوال الدخلاء في هذا الدين ، وكل ذلك يراعون فيه مقتضيات الأحوال ؛ ولم يعترض على هذا المنهج إلا بعض المرضى ! الذين لا يفقهون مقاصد الشريعة ، ولا يفقهون كلام الأئمة ، ولم يتضح لهم الأمر ، أو إنهم مرضى القلوب ! ممن مرضت قلوبهم ، تلفت بالشبه – والعياذ بالله – التي تبعدهم عن فهم منهج السلف الصالح في هذا الباب ، وغيره ، ثم إنهم لم ينكر عليهم أحد في بيان أحوال الراوة : سواء ما يتعلق بنقد السند ، ونقد الراوة ، أو نحو ذلك ، ولم يعترض على هذا أحد ، اللهم إلا بعض من لا يفهم .
    وقد بينوا تلك الأحوال . علما بأن السلف - قد - ينهون عن الإفحاش في القول - في الرد على المخالف ، ويأمرون بالاعتدال في الحـكـم عـلـى الأشياء ، وفق هدي الكتاب والسنة ، حتى إنهم ] إذا [ انتقدوا شخصا في بعض ألفاظه النابئة ، والقاسية ، فإنهم لا يردون ما عنده من حق ، يدافع عنه ، أو يبينه ، بل يبينون الحق بدليله ، ويأخذون الحق عمن جاء به ، وربما نقدوه في غلظه ، أو في بعض أساليبه ، كما ينقدون من يتساهل ومن يتنازل إلى درجة ترك الواجبات في هذا الباب .
    وهذا – كما هو معلوم - محل إجماع بين أهل السنة والجماعة ، ولم يعد محل خلاف ألبتة ، ولكن – كما قلت : مرده ومرجعه ، والرجوع فيه يكون إلى علماء الأمة الذين ينفون عن كتاب الله – عز وجل - تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين .
    (( المتن ))
    وسبب ذلك أن علماء الدين كلّهم مجمعون على قصد إظهار الحق الذي بعث الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم - وأنْ يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمته هي العليا ، وكلُّهم معترفون بأن الإحاطة بالعلم كله من غير شذوذ شيء منه ليس هو مرتبة أحد منهم ، ولا ادعاه أحد من المتقدمين ، ولا من المتأخرين ؛ فلهذا كان أئمة السلف - المجمع على علمهم وفضلهم - يقبلون الحق ممن أورده عليهم ، وإن كان صغيراً ، ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق إذا ظهر في غير قولهم .
    كما قال عمر في مهور النساء وردَّت تلك المرأة عليه بقوله تعالى : ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً )سورة النساء آية (20) . فرجع عن قوله وقال : ( أصابتِ امرأةٌ ورجلٌ أخطأ ) (2) وروي عنه أنه قال : ( كل أحد أفقه من عمر ) .
    وكان بعض المشهورين إذا قال في رأيه بشيء يقول : ( هذا رأينا فمن جاءنا برأي أحسنَ منه قبلناه ) .
    (( الشرح ))
    بين المصنف في هذه المسألة أن سبب كونه ينصحون بالطرق الشرعية النصيحةَ البعيدةَ عن التعيير ، والتعييب ، والتنقص ، وأنهم يردون على المبتدعة بدعَهم ، ويبينون الحقَّ بدليله ، ويردون على المخالف بشرط أن يكون المقصودُ هو بيانَ الحق لا التعيير ، فقوله ، وسببُ ذلك يعود إلى هذا المسلك الذي سلكه علماء الأمة ، وأجمعوا عليه ، وهو بيان الحق بدليله ، والرد على المخالف ، على أن يكون القصدُ والنيةُ والهدفُ من الردِّ = هو النصحيةَ له وللمسلمين ، انطلاقا من قول النبي – صلى الله عليه وسلم – : الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة .
    قلنا لمن يا رسول الله ؟
    قال لله ولرسوله ولكتابه وللأئمة المسلمين وعامتهم . كما رواه الإمام مسلم من حديث أبي رقية تميم الداري – رضي الله عنه – .
    فسببُ هذا المسلك أنهم يريدون إعلاء كلمة الله ، ويريدون أن يبينوا الحق صافيا مجردا من كل كدر ، بعيدا عن الإفراط والتفريط ؛ ولذلك ردوا على المخالف :
    ردوا على الجهمية .
    ردوا على الرافضة .
    ردوا على الخوارج .
    ردوا على أهل الكلام من المعتزلة ، ومن نهج نهجهم ، ردوا عليهم بكتب مؤلَّفة واضحة ، ولا تأخذهم في الله لومةُ لائم ، مع الأخذ بالاعتبار حال المردود عليه – كما أسلفنا – .
    ثم بين – رحمه الله – أنهم مع كونهم يعنون بذلك – يردون على المخالف ، ويبنون حال المبتدع والفاسق والعاصي ، ويبيون حال الراوي ؛ لتُـصّـفى الروايات من كل كدرٍ ، مع ذلك لا يدعون لأنفسهم أنهم بلغوا المنتهى في العلم ، بل كلُّـهم يوقنون أن فوق كل ذي علمٍ عليمٌ ؛ لأنهم يترسمون القول الذي يقول ( لا يزال الرجل عالما ما طلب العلم ، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل ) .
    فتجدهم يتهمون آراءهم ، ويتهمون قصورهم ، ويتهمون عقولهم ، فإن جاءهم مستفتٍ كلٌّ منهم يحيل إلى الآخر ، حتى في المسائل التي يختلفون فيها ، وهم لم يختلفوا في الأصول بكل حال ، وإنما ختلافهم كان في بعض المسائل الفقهية ، وكانوا – أيضا – يتهمون آراءهم ؛ لأنهم يعلمون أن المجتهد عُرضة للخطإ والصواب ، وبخاصة في المسائل الاجتهادية ، وكان كل منهم يتهم رأيه بالقصور ؛ لأن الدين ليس بالرأي ، وقد يقول : هذا هو الذي أراه في هذه المسألة ، فإن كان الحق معي ، وإلا فإني أبرأ إلى الله منه إن كان خطأً .
    ومنهم يقول : فإن كان صوابا فمن الله ، وإن كان خطأ فمني – أو فمن نفسي - ومن الشيطان .
    ثم إنهم لهذا السبب يقبلون الحق ممن جاء به ؛ حتى ولو كان من صغار طلاب العلم ، بشرط أن يكون طالبَ علمٍ محققٍ .
    فالصحابة – رضوان الله عليهم – كانوا يرجعون إلى ابن عباس – رضي الله عنهما – في كبار المسائل ، ومع ذلك كانوا لا يتعصبون لرأيه ، فقد خالفوه في المتعة ، وخالفوه في أمور كثيرة .
    وإذا كان الصحابة – رضوان الله عليهم – يرجعون عن آرائهم إذا ظهر أن الحق على خلافها ، فما بالك بنا نحن الصغار في هذه العصور المتأخرة ؟!
    فهذه القصة المنسوبة إلى عمر – على ضعف في روايتها – ولكن معناها صحيح ، أو يعني ليس فيها مخالفة ، يعني إن صحت فإنها تدل على تجرد عمر – رضي الله عنه – فإنه تدل على تجرده ، وكان هو ، وسائر الصحابة ، بعد قضية الحذيبية ، قال : اتهموا الرأي في الدين ، كل منهم يقول : اتهموا الرأي في الدين ، ولا سيما بعد قضية صلح الحذيبية ، وما كان فيه من أمور ، وقف فيها الصحابة موقفا يشبه المعارضة ، حتى شرح اللهُ صدورهم لما أمر به النبي – صلى الله عليه وسلم – فكانت العاقبة للمتقين .
    ولذلك - بعد هذا – كانوا يرجعون ويتهمون آراءهم .
    فهذا القصة – قصة الصداق - إن صحت عن عمر – فهي تدل على تجرده لله – عز وجل – واتهامه لرأيه ، وتواضعه وبعده عن التفاخر والتعالم الذي ابتلي به كثير من الناس في هذا الزمان = فتجده - على صحة القصة – يرجع ويعترف أمام امرأة تقول له : لا يا عمر ! – عندما أراد أن يحدد المهور – فإن الله – عز وجل – يقول ( وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ) سورة النساء آية (20) .
    فقال – على صحة القصة - : أخطأ عمر وأصابت امرأة .
    وسواء صحت ، أم لم تصح فإن لدى الصحابة من الشواهد على مثل هذه الأمور ما لا يمكن حصره .
    ولا أدل على هذا من أن أبا بكر - رضي الله عنه - لما جاؤوا يسألونه عن ( الأب ) في قوله الله – عز وجل - ( وفاكهة وأبا ) لم يجب ! بل قال : أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن أنا قلت في كتاب الله – عز وجل - ما لا أعلم .
    فهذا يتطلب من طلاب العلم – ولا سيما نحن الصغار - أن يتواضعوا وأن يعرفوا لأنفسهم قدرها فرحم الله امرأ عرف قدر نفسه ، وأن يعيدوا الحق إلى نصابه ، وأن يعطوا القوس باريها ، وأن يرجعوا إلى علماء الأمة فيما أشكل عليهم ، أم كل من درس له فترة قصيرة ، أو خرج مع الجماعة الفلانية ثلاثة أيام أو أربعين يوما أو أربعة أشهر ، زعم نفسه عالما من العلماء فأخذ يفتي ، ويتصدى للفتوى ، ويرتقي المنابرَ ، ويضع نفسه موضع العلماء الربانيين الكبار .
    أقول : رحم الله امرأ عرف قدر نفسه .
    الإمـام مـالك - رحمه الله تعالى - يسأل عن أربـعـيـن مسألة فيفتي في اثنتين ، ويعتذر عن الباقي .
    ولمـا قـال لـه السائل : أنت الإمام مالك بن أنس التي تضرب إليه أكباد الإبل ، تقول لا أدري !
    قال له : اذهب إلى كل الأمصار ، وأعلن لهم إن مالكا لا يدري عن شيء في تلك المسائل !!
    هذا مالك الذي قيل فيه : ( لا يفتى ومالك في المدينة ) .
    مشكلتنا - الآن - أنه قد وُجد أناس تزببوا قبل أن يحصرموا وادعوا لأنفسهم درجة ليسوا أهلا لها !
    أحدهم قبل أيام ونحن في مناقشة رسالة علمية ينال من كتاب جمعه بعضُ طلاب العلم ، أو العلماء في المملكة فينتقده ويقول : إنه كتاب لا يصلح وإنه سبة في جبين العقيدة .
    والكتاب الذي قرظوه مشايخ أفاضل فينبغي للمسلم أن يتقي الله - سبحانه وتعالى - عندما ينقد ؛ خصوصا عندما يجعل نفسه في موضع الناقد ؛ عليه أن يعلم أنه محاسب عن كل كلمة تصدر منه ، فلا تنقد حتى تكون من أهل النقد ، وحتى تكون عندك الآلة التي تنقد بها .
    فقد سمعتَ – الآن – عن الصحابة كيف توقفوا في الفتوى ، ويتوقفون في مسائل كثيرة ، وكذلك التابعون ، وكذلك السلف الصالح بعدهم .
    فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم أن التشبه بالكرام فلاح
    عـلـيـنـا أن نقتدي بهم ، والله ! ما المانع أنني إذا سئلت عن مسألة ؛ ما أعرف فيها شيئا أقول : لا أدري .
    أو أحيل إلى مشايخي الذين هم أكبر مني ، لا يلزم أنني أذهب وأشغل نفسي بأمر لا أحكمه ، ولا أفقهه ، ولا أعلمه ، وأقحم نفسي فيه بغير علم .
    ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ) سورة الإسراء آية (36) .
    (( المتن ))
    وكان الشافعي يبالغ في هذا المعنى ، ويوصي أصحابه باتباع الحق وقبول السنة إذا ظهرت لهم على خلاف قولهم ، وأن يضرب بقوله حينئذٍ الحائط ، وكان يقول في كتبه (3) : ( لا بد أن يوجد فيها ما يخالف الكتاب والسنة ؛ لأن الله تعالى يقول : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) سورة النساء آية (82) .
    وأبلغ من هذا أنه قال : ( ما ناظرني أحد فباليت أظهرت الحجة على لسانه أو على لساني ) .
    وهذا يدل على أنه لم يكن له قصد إلا في ظهور الحق ، ولو كان على لسان غيره ممن يناظره أو يخالفه .
    ومن كانت هذه حاله = فإنه لا يكره أن يُردَّ عليه قولُه ، ويتبين له مخالفته للسنة لا في حياته ، ولا في مماته . وهذا هو الظن بغيره من أئمة الإسلام ، الذابين عنه القائمين بنَصْرِه من السلف والخلف ، ولم يكونوا يكرهون مخالفة من خالفهم - أيضاً - بدليل عَرَضَ له ، ولو لم يكن ذلك الدليل قوياً عندهم بحيث يتمسكون به ، ويتركون دليلهم له ؛ ولهذا كان الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - يذكر إسحاق بن راهويه ، ويمدحه ، ويثني عليه ، ويقول : ( وإن كان يخالف في أشياء فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا ) أو كما قال .
    (( الشرح ))
    المصنف – رحمه الله تعالى - سرد – بعد أن ذكر قول عمر ، وذكر أقوالا عن الإمام الشافعي ، وهو قوله المشهور ( ما وجدتم من قولي مخالفا لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فاضربوا به عُرض الحائط ) .
    وصرح بأنه لابد أن يوجد في كتاب أي أحد بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما فيه مخالفة للكتاب والسنة ؛ لأنه أبى الله – عز وجل – أن يكون الكمال إلا له ، وأن تكون العصمة إلا لرسوله – صلى الله عليه وسلم - .
    وأن الكمال في أحكام كتابه وسنة نبيه – عليه الصلاة والسلام - ؛ ولذلك قال مقالته المشهورة : ما وجدتهم من قولي مخالفا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فاضربوا به عرض الحائط ، بل بالغ في ذلك ، وبين أنه لا يوجد أحد يسلم كتابُـه من مخالفة الكتاب والسنة ، وبخاصة في المسائل الاجتهادية ، ومن ادعى الكمال فقد أعظم على الله الفرية ، ثم استدل على هذا بقول الله – عز وجل – ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) سورة النساء آية (82) .
    هذا في عهده ، وهم يتحرون الوقوف عند نصوص الكتاب والسنة ، ويجتهدون في موافقة الحق ، ومع ذلك كله يتهمون أنفسهم بأنهم عرضة للخطأِ والصواب ، وأنهم قد يخطئون ، وقد يصيبون ، ولا يدعون لأنفسهم الكمال ، بل إن الإمام الشافعي بالغ في أكثر من هذا فقال - ما معناه ما سمعتم - من أنه لو أن أحدا خالفه إنه يفرح لكون المخالف أصاب الدليل ، وأخطأ هو ؛ لأنه بهذا :
    أولا : ينال التواضع الجم عند الله – عز وجل – .
    وثانيا : أنه حصل له الخير برجوعه إلى الحق .
    وثالثا : أنه استفاد مسألة علمية لم يكن يعلمها قبلُ .
    ورابعا : أنه فرح لأخيه حيث وفقه الله - تبارك وتعالى - للصواب .
    فلهذه الأمور الأربع كان السلف يفرحون بإصابة إخوانهم ، حتى ولو أخطأوا هم ، ومع ذلك ، فإنهم – طالما أنه لم يظهر لهم الدليل – فإنهم يثبتون على ما ظهر لهم أنه الحق في المسائل الاجتهادية ؛ حتى يظهر الدليل على خلاف ذلك ، فإذا ظهر لهم الدليل على خلاف ذلك ؛ أخذوا به ؛ ولذلك فإن للإمام الشافعي مذهبين يسمونه الجديد ، والقديم ، رجع – بعد أن التقى بعضَ العلماء - عن كثير من أقواله التي قالها ، أو التي ذهب إليها في قوله الأول ، لا لأنه يتلون ، أو يتنقل من مذهب إلى مذهب جزافا – هكذا - بدون علم ، ولكن لأنه ظهر له الحق ، والحق ضالة المؤمن أنى وجده اتبعه ، الحق ضالة المؤمن أنى وجده اتبعه ، وبمثل قول الإمام الشافعي قال الإمام أحمد مع إسحاق بن رَاهُـويَـه – رحم الله الجميع - فقد أثنى عليه - كما سمعتم - بهذا الثناء العَطِر - قال : وإن كنت أخالفه في بعض المسائل ، أو إن كنت أرى أن عنده مخالفة في بعض المسائل ، وهذا أمر لا يسلم منه أحد ، يعني المخالفة في بعض المسائل الفرعية ، فإنه لا يسلم منه أحد ألبتة .
    فهذا يدلنا على منهج السلف الدقيق المحكم المتقن ، ومن أراد المزيد من هذا المعنى الذي يشير إليه الحافظ ابن رجب - هنا – بنقله لهذه النقول ؛ فليرجعْ إلى ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى - .
    (( المتن ))
    وكان كثيراً يُعرضُ عليه كلام إسحاق وغيره من الأئمة ، ومأخذهم في أقوالهم فلا يوافقهم في قولهم ، ولا يُنكِر عليهم أقوالهم ، ولا استدلالهم ، وإن لم يكن هو موافقاً على ذلك كله (4).
    (( الشرح ))
    يستطرد – رحمه الله تعالى - في وضع الإمام أحمد مع الإمام إسحاق بن راهويه ، وأنه تعرض عليه أقوال إسحاق وغيره من أهل العلم الفضلاء من أقران الإمام أحمد وممن بعده ، وممن قبله ، ومع ذلك يصر على ما يظهر له أنه الحق ، فإن رأى الدليل مع واحد منهم رجع إليه وأخذ به ، وإن لم يظهر له ذلك استمر على ما هو عليه ؛ لأن هدفه الحق لا يريد أن يحيد عنه ، والحق واحد لا يتعدد ، هو مع واحد ( إن أصاب المجتهد له أجران ، وإن أخطأ له أجر واحد ) ، بعد استخدام آلة الاجتهاد .
    (( المتن ))
    وقد استحسن الإمام أحمد ما حكي عن حاتم الأصم أنه قيل له : أنت رجل أعجمي لا تفصح ، وما ناظرك أحد إلا قطعته فبأي شيء تغلب خصمك ؟ فقال بثلاث : أفرح إذا أصاب خصمي ، وأحزن إذا أخطأ ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوؤه ، أو معنى هذا فقال أحمد : (ما أعقله من رجل ) .
    (( الشرح ))
    الله أكبر !
    هذه حكاية طريفة وعجيبة جدا ، وحاتم الأصم من علماء الشافعية ، أظنه في علماء القرن الثالث - أظن إذا لم تخني الذاكرة - وهو غير أبي العباس الأصم - أيضا - من علماء الشافعية لكن إذا أطلق الأصم – أحيانا – ولاسيما عند المخالفات في مسائل الشرعية كالخلاف في حكم الإجارة ، والعارية ، والشفعة ، وما إلى ذلك فإن الأصم المقصود هناك هو الأصم المعتزلي أبوبكر تلميذ ابن علية ، ابن علية الابن ، وليس الأب ، الأب إسماعيل بن علية أحد رجال الكتب الستة المعروف المشهور ، وابن علية الابن إبراهيم بن إسماعيل الذي قال فيه الإمام الذهبي ( إن مخالفته لأهل العلم مشهورة وروايته عند أهل العلم مهجورة ) وأما الأصم فقد قال فيه – غير واحد من السلف – إنه عن الحق أصم .
    فحاتم الأصم غير هذا ، هو من علماء الشافعية - على ما أذكر ، ولعلنا نرجع - أويرجع الإخوة – إلى ترجمته .
    الشاهد أن هذه – يعني – الحكاية الطريفة العجيبة التي عجب منها الإمام أحمد . أن حاتما الأصم عجب منه الناس وهو من الأعاجم ، من الأعاجم .
    قالوا : كيف بك – نراك – إذا ناظرت أحدا قطعته ؟
    ما معنى قطعته ؟
    يعني غلبته في الحجة ، مع أنك من الأعاجم ، فمع هذه العجمة أنت تغلبه في الحجة ، فكيف ذلك ؟
    قال : لأنني أعتبر ثلاثةَ أمورٍ ، هذه الأمور :
    أولا : أنني أفرحُ إذا أصاب أخي ؛ العالم الذي أجادله وأناظره - يفرح ؛ لأنه يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، ويحزن لخطئه ، يفرح لإصابته ، ويحزن لخطئه ، ولا ينال منه بلسانه ، يكفُّ لسانَه عن الكلام فيه ، وما أحسنَها من منقبةٍ عظيمةٍ ؛ هذه المنقبة قلَّ من يتفطن إليها ، تفرح لإصابة أخيك ؛ لأنك لا تحسده ؛ لأنه أخوك المؤمن تحب له ما تحب لنفسك ، وتحزن لحزنه ، أوتحزن لخطئه ؛ لأنك تتألم بآلامه . ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشده بعضه بعضا ) ، ولا تلوكه بلسانك ، بعض الناس – والعياذ بالله – ... ربما بعض المنتسبين إلى العلم – الآن - لا يتورع من أن يفرح إذا أخطأ فلان ، ويفرح فرحا شديدا ، ويغضب وتصيبه الغيرة إن أصاب ، وليته – مع هذا كلِّه – يسلم من لسانه ، والرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) ، استدل الإمام أحمد – رحمه الله تعالى - على أن هذا التصرف دليل عظيم على راجحة عقل أبي حاتم الأصم ، دليل على عقله ، يحفظ لسانه ، يفرح لإصابة أخيه ، يحزن لحزنه ؛ لأن اللسان خطير ، خطير جدا ؛ لأن اللسان يحتاج إلى أن يصان ، وأن يُحفظ ، وأن يلجم بلجام .
    ربما استفتحت من مزح مغاليق الحِمَامِ إنما السالم من ألجم فاه بلجام
    وقبل ذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم – : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمُِـتْ ) .
    وكان - صلى الله عليه وسلم – يمزح ، ولكن لا يقول إلا حقا ، فانتبهوا ؛ لأن هذه القضية خطيرة جدا .
    سبحان الله ! أين هذا الطراز من الناس ؟!
    لا نقول : معدوم ! بل يوجد بين مشايخنا ، وعلمائنا ، وطلاب العلم من يكون فيه شيء من هذه الخصال – إن شاء الله تعالى - لكنها عزيزة ، لا شك أنها عزيزة ، يفرح إذا فاز أخوه وأصاب ، يحزن إذا أخطأ ، يصون عرضه من أن يتكلم فيه بلسانه .
    فقال الإمام أحمد : إن هذا دليل على راجحة عقله .
    (( المتن ))
    فحينئذٍ ؛ فرد المقالات الضعيفة ، وتبيين الحق في خلافها بالأدلة الشرعية ليس هو مما يكره العلماء بل مما يحبونه ويمدحون فاعله ويثنون عليه .
    فلا يكون داخلاً في باب الغيبة بالكلية ، فلو فرض أن أحداً يكره إظهار خطئه المخالف للحق فلا عبرة بكراهته لذلك ؛ فإن كراهة إظهار الحق - إذا كان مخالفاً لقول الرجل - ليس من الخصال المحمودة ، بل الواجب على المسلم أن يحب ظهور الحق ، ومعرفة المسلمين له ، سواءٌ كان ذلك في موافقته ، أو مخالفته .
    وهذا من النصيحة لله ، ولكتابه ، ورسوله ، ودينه ، وأئمة المسلمين ، وعامتهم ، وذلك هو الدين كما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - (5).
    (( الشرح ))
    نعم هذا مقطع عظيم !
    يقول : إن بيانَ الحق ، والردَّ على المبتدعة والمخالفين ، وبيانَ خطأِ المخطئ ، لا يعارض فيه أحدٌ من علماء الأمة ، حتى ولو كان المردودُ عليه أحدَهم ، بل يتقبلون ذلك بصدر رحبٍ ، ( فرحم الله امرأ أهدى إليَّ عيوبي ) ولا يتضجرون من ذلك ، ولا يغضبون - لا سيما إن علموا أن الذي ردَّ له هدفٌ سامٍ ، وهو إظهار الحق ، وإبطال الباطل ، فإذا علم بصدق نوايا أخيه ، فإنه يمدحه في هذا ، ويثني عليه ، ويرى أن هذا عمل جليل لابد منه - طالما أنه يعلم أن مراد أخيه هو الحق ، ولو ردَّ عليه ، فرد المقالات الباطلة ، ورد الخطأ على من أخطأ بالشرط الذي ذكرناه بالأمس ، وهو أن لا يكون المقصودُ هو التشفيّ ، والإضرار ، وإظهار العيوب ؛ لأنه – حينئذ – عليك أن تفتش عن نفسك :
    عليك نفسك فتش عن معايبها
    لكن إذا كان المرادُ بالردِّ بيانَ الحق ، وإظهارَ الحقِّ ، وإبطالَ الباطلِ ، وبيانَ السنةِ من البدعةِ ، والحقّ من الباطلِ ، والخير من الشرِّ ، والخبيث من الطيبِ ، وعلمتَ عن أخيك ذلك ، فإن هذا هو الذي يقرُّه ويؤيدُه ويدعو إليه علماءُ الأمة منذ عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وإلى يومنا هذا ، بل إن هذا هو الدين كلُّه ، الذي دعا إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله : الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة .
    قالوا : لمن يا رسول الله ؟
    قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين ، وعامتهم .
    فلذلك يجب على المسلمين عامة ، وطلاب العلم خاصة ، أن يعوا هذه الحقيقة - إذا ردددتُ على مبتدع ما تعترض عليَّ وترى أن هذا من الغيبة والنميمة ، بل إن هذا من الحق الذي يجب بيانُه ؛ لا سيما إذا علمت أنه ليس بيني وبين هذا الرجل المردودِ عليه إلا الحق ، إلا إرادة إظهار الحق وهذا كلُّه – الردُّ إنما يكون بعد أن يتمَّ النصحُ والتوجيهُ والتنبيهُ فيصرُ ذلك الذي أخطا ، أو انتشر خطؤه ، أو انتشرت بدعتُه بين الملأ ، وصار يشكل خطراً على الأمة ، ولم تُجْـدِ النصيحةُ ، ولن يرجع عن قوله بعد الإعذار ، وبعد البيان ، عندها ليس بعد الحق إلا الضلال .
    لابد من البيان ، وهذا أمر قد أجمع عليه علماءُ الأمة وهو ( الدين النصيحة ) الذي قامت عليه السماوات والأرض ، ولا يمكن أن يتبرم منه مسلم ، أو طالب علم بحال من الأحوال .
    (( المتن ))
    وأما المبين لخطأ من أخطأ من العلماء قبله ، إذا تأدب في الخطاب ، وأحسن الرد والجواب ، فلا حرج عليه ، ولا لوم يتوجه عليه ، وإن صدر منه من الاغترار بمقالته ، فلا حرج عليه ، وقد كان بعض السلف إذا بلغه قول ينكره على قائله يقول : ( كذب فلان ) ، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( كذب أبو السنابل ) (6) ؛ لما بلغه أنه أفتى أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً لا تحل بوضع الحمل حتى يمضى عليها أربعة أشهر وعشر .
    وقد بالغ الأئمة الوَرِعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء ، وردوها أبلغ الردِّ كما كان الإمام أحمد ينكر على أبي ثور ، وغيره مقالاتٍ ضعيفةً تفردوا بها ، ويبالغ في ردها عليهم ؛ هذا كله حكم الظاهر .
    وأما في باطن الأمر : فإن كان مقصوده في ذلك مجرد تبيين الحق ، ولئلا يغتر الناس بمقالات من أخطأ في مقالاته ؛ فلا ريب أنه مثاب على قصده ، ودخل بفعله هذا بهذه النية في النصح لله ، ورسوله ، وأئمة المسلمين ، وعامتهم (7) .
    وسواء كان الذي يبين خطأه صغيراً أو كبيراً وله أسوة بمن رد من العلماء مقالات ابن عباس التي شذ بها وأُنكرت عليه من العلماء مثل : المتعة ، والصرف ، والعمرتين ، وغير ذلك .
    ومن ردَّ على سعيد بن المسيِّب قوله في إباحته المطلقة ثلاثاً بمجرد العقد ، وغير ذلك مما يخالف السنة الصريحة ، ورد على الحسن قوله في ترك الإحداد عن المتوفى عنها زوجها ، وعلى عطاء قوله في إباحته إعادة الفروج ، وعلى طاووس قوله في مسائل متعددة شذَّ بها عن العلماء ، وعلى غير هؤلاء ممن أجمع المسلمون على هدايتهم ، ودرايتهم ، ومحبتهم ، والثناء عليهم .
    ولم يـعـدّ أحد منهم مخالفيه في هذه المسائل ، ونحوها طعناً في هؤلاء الأئمة ، ولا عيباً لهم ، وقد امتلأت كتب أئمة المسلمين - من السلف والخلف - بتبيين خطأِ هذه المقالات ، وما أشبهها مثل : كتب الشافعي ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، وأبي ثور ، ومن بعدهم من أئمة الفقه والحديث وغيرهما ممن ادعوا هذه المقالات ، وما كان بمثابتها شيء كثير ، ولو ذكرنا ذلك بحروفه لطال الأمر جداً .
    وأما إن كان مرادُ الرادِّ بذلك إظهارَ عيب من ردَّ عليه ، وتنقصَه ، وتبيينَ جهله ، وقصوره في العلم ، ونحو ذلك = كان محرماً ؛ سواء كان ردُّه لذلك في وجه من ردِّ عليه ، أو في غَيبته ، وسواء كان في حياته ، أو بعد موته ، وهذا داخل فيما ذمَّه الله تعالى في كتابه ، وتوعد عليه في الهمز واللمز ، ودخل - أيضاً - في قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : (يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته ) ( . وهذا - كله - في حق العلماء المقتدى بهم في الدين ؛ فأما أهل البدع والضلالة ، ومن تشبه بالعلماء وليس منهم فيجوز بيان جهلهم ، وإظهار عيوبهم تحذيراً من الاقتداء بهم . وليس كلامنا - الآن - في هذا القبيل ؛ والله أعلم .
    (( الشرح ))
    الله أكبر ! ما أجملَـه من تفصيل !
    أُلخص كلام المصنف – رحمه الله - في أسطر : فأنه – رحمه الله - بين أن الرد حتى على من تقدم من العلماء الأفاضل سائغ ، وهو شأن الأئمة – رحمهم الله تعالى – كما يقول الإمام مالك : كل يؤخذ من قوله ويرد ، إلا صاحب هذا القبر ويشير إلى النبي – صلى الله عليه وسلم - فما من صاحب مقالة إلا وهو راد ، أو مردود عليه ، فالعصمة لكتاب الله - عز وجل - ، ولرسوله - عليه الصلاة والسلام - .
    ولكن هذا الذي يرد على العلماء مقالاتهم ، أو يرد عليهم في بعض ما أخطأوا فيه ، وهذا شان أئمة الهدى والدين ، فقد رد الإمام أحمد على جمع من الأئمة ممن تقدم ، ورد الصحابة والتابعون ، بل ورد بعض المتأخرين على ابن عباس – رضي الله عنهما - في مسألة المتعة ، وفي مسألة العمرتين في سنة واحدة ، وفي مسائل كثيرة ، وسعيد بن المسيب في مسألة المطلقة ثلاثا ، وحكم العقد عليها ، وما إلى ذلك ، مسائل كثيرة ضربها المصنف ؛ لبيان أن السلف ما كانوا يسكتون عن مخالفة ، طالما كان القصد والنية هو الخير وإظهار الحق ، بل اعتقدوا أن هذا من التطبيق لحديث ( الدين النصيحة ) هذا بشرط أن يكون سليم النية ، وأن يكون قصدُه بيانَ الحق ، أما إذا كان قصده أن يعير ، أو أن يتنقص ذلك العالم ، أو أن ينال منه ، أو يحط من شأنه ، أو أن يشوهه عند الآخرين .
    هذا الكلام بشأن العلماء ؛ أو بشأن المبتدعة ؟!
    التفصيل هذا بشأن العلماء .
    إذا كان الذي يرد عليهم ، أو يبين بعض أخطائهم قصده تنقصهم ، فهذا قد ارتكب إثما عظيما ، وجرما خطيرا ، وينطبق عليه قول النبي – صلى الله عليه وسلم – : ( من عاد لي وليا فقد آذنته بالحرب ) فيما يرويه عن ربه – جل وعلا – ، وينطبق عليه قول الله - عز وجل – ( ويل لكل همزة لمزة ) سورة الهمزة آية (1). وينطبق عليه قول الله - عز وجل – ( هماز مشاء بنميم ) سورة القلم آية (11) . إذا كان قصدُه النيلَ من العلماء ، وتنقصَهم ، أو الحطَّ من شأنهم ، كما هو شأن بعض المتعالمين الذين يدَّعُون لأنفسهم أنهم بلغوا ما لم تبلغه الأوائلُ ؛ ولذلك يروى عن الإمـام ابن عساكر – رحمه الله تعالى - أنه كان يقول : لحوم العلماء مسمومة .
    فالخلاصة أن الرد على أخطاء – أو بعض هفوات العلماء يجب أن نتأدب فيها ، وأن لا نسلك مسلك بعض الطوائف التي نادت - في هذا الزمان - من النيل من ابن حجر ، أو النووي ، أو ابن رجب ، أو ابن الجوزي ، أو غيرهم ؛ بسبب ما قد يكون عندهم من أخطاء ، نعم هناك أخطاء قد تكون عقدية ، لكنها قليلة في خضم ما قدموه من خدمة للعقيدة وللسنة النبوية . وهذا لا يجعلنا نسكت عن ما وجدنا من أخطاء نقول : هذا خطأ ، ويرد على صاحبه ، وأما إذا كان الراد يريد أن يغمزهم ويلمزهم ويحط من شأنهم ؛ كما يقول أحد زعماء الجماعات المعاصرة عن أحد علمائنا : والله الشيخ فلان ، والله ما عنده غير التلفون ليس عدنه إلا التلفون ألو ! نعم . ألو ! نعم .
    قاتلك الله يا مسكين ! هو عندما يقول : نعم ؛ أذُنه في السماعة يجيب المسلمين على فتاواهم ، ليس فتاوي زعمائك أصحاب الفضائيات ! الذين يهرفون بما لا يعرفون ! وفي الوقت نفسه تقرأ عليه القضايا ويفتي فيها - التلفون في أذنه ، والقارئ يقرأ عليه وهو يجيب - رحمه الله رحمة واسعة - وقاتل الله من تنقصه ، أو تنقص أحدا من علماء الأمة فإذاً هذي الخلاصة فيما يتعلق بالعلماء .
    أما إذا كان المردود عليه من المبتدعة ؛ فلا كرامة للمبتدع الذي أسس مذهبه على البدعة ، وأنشأ مذهبه على البدعة ؛ فكان السلف يطوفون ويقولون : فلان جهمي ، فلان كذاب ، فلان حروري ، فلان خارجي ، فلان سيئ الحفظ ، فلان كذا ، إلى آخره ؛ فيتكلمون ، وألفت في ذلك المؤلفات الكثيرة ، وكتب السلف مملوءة بالرد عليهم : الرد على الجهمية ، (( رد عثمان بن سعيد على الكافر العنيد فيما افترى على الله من التوحيد )) ، و (( الرد على الجهمية )) لابن منده ، وللإمام أحمد ، ولعبد الله بن الإمام أحمد ، ولعثمان بن سعيد الدارمي ، و(( الرد على من أخلد إلى الأرض )) للسيوطي ؛ وكثير – الرد على المبتدعة مطلوب ، ولكن - أيضا - بدون سب ، أو تسفف ، أو كلام نابئ ؛ لأن المقصود هداية الناس ، حتى المبتدع نرد عليه .
    الإمام الشافعي – رحمه الله – سئل عن أهل الكلام – أبدى رأيين - قال : حكمي فيهم أن يطاف بهم في العشائر ، وأن تسود وجوههم ، ويضربوا بالنعال ، ويقال : هذا جزاء من يعرض عن كتاب الله – عز وجل – ويدعو إلى علم الفلسفة والمنطق .
    ومن جانب آخر قال - ما خلاصته - : إنه يشفق عليهم ن ويهدف إلى هدايتهم ، ولا سيما إذا كانوا ممن اعتراهم الجهل ، والتبست عليهم الأمور بسبب الجهل .
    فالخلاصة : أن نفرق بين الرد على بعض ما قد بدر من بعض العلماء من أخطاء ، أو من هفوات ، أو من تقصير ، فعلينا أن نرد بحذر ، وبخوف ، وباحترام ، وبأدب ، وبحفظ كرامتهم ، والترحم عليهم ، واحترامهم ، وتعظيمهم ، وتبجيلهم ، والدعاء لهم ، والاستغفار لهم ، وعدم تنقصهم أو النيل منهم .
    فيا من يغمز العلماء إني برئ لستُ منك ولستَ مني
    فانتبهوا لهذا !
    أما المبتدع فيرد عليه ويُـبَـيُّـنُ عورُه ، ويكشف للناس ، وارجعوا إلى ما استثناه الإمام النووي – رحمه الله تعالى - في كتابه ( رياض الصالحين ) ، من الغيبة ستة مواضع ، لعلنا نذكرها في درس الغد – إن شاء الله تعالى – ، وكذلك عند سائر أهل العلم كابن الصلاح ، وغيرِه .
    وفق الله الجميع لما يحب ويرضى .
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
    التعديل الأخير تم بواسطة علي إبراهيم; الساعة 02-Jan-2009, 03:37 PM.

  • #2
    (( المتن ))
    ( فصل : فيمن أراد بالنصيحة للعلماء النصح لله ورسوله ومن أراد التنقص والذم وإظهار العيب وكيفية معاملة كل منهما ) !
    ومن عُرف منه أنه أراد بردِّه على العلماء : النصيحة لله ورسوله ؛ فإنه يجب أن يُعامَل بالإكرام ، والاحترام ، والتعظيم كسائر أئمة المسلمين الذين سبق ذكرُهم ، وأمثالُهم ، ومن اتبعهم بإحسان .
    ومن عُـرف أنه أراد برده عليهم : التنقص ، والذم ، وإظهار العيب ؛ فإنه يستحق أن يقابل بالعقوبة ليرتدع هو ونظراؤه عن هذه الرذائل المحرمة .

    (( الشرح ))
    بسم الله الرحمان الرحيم
    الحمد لله رب العالمين ؛ وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجميعن .
    مازلنا مع كتاب ( الفرق بين النصيحة والتعيير ) للحافظ ابن رجب – رحمه الله تعالى - وفي هذا الفصل يتعرض لمسألة مهمة ؛ وهي الفرق بين من يُـقَـدِّمُ النصيحةَ لأهل العلم ، وبين مَن يتنقصُهم ، ويغمِزُهم ، ويلمزُهم ؛ وذلك لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - يقول : الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة .
    قالوا له : لمن يارسول الله ؟
    قال : لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم .
    ويدخل في أئمة المسلمين : علماؤهم ، وولاة أمورهم ، والنصيحة لهم تكون بالطرق المشروعة : بتسديدهم ، والدعاء لهم ، والاجتهاد ، والأخذ عنهم ، والتتلمذ على أيديهم ، والرجوع إليهم ؛ وبخاصة في الأمور المهمة ، والمسائل المدلهمة ؛ لأنهم هم أهل الحل والعقد الذين يبثون فيها بعد دراسة مستفيضة ، وعرض على كتاب الله - تعالى - ، وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وفق هدي السلف الصالح ؛ فالذي تكون نصيحته وفق هذا الأمر = فهذا هو الذي يعتبر من أهل النصيحة الخالصة التي يقصد بها وجه الله - سبحانه وتعالى – وأما إذا كان هدفُه من هذا = النيلَ منهم وتنقصَهم ، وغمزَهم ، ولمزَهم ، وإثارةَ العامة عليهم ، وعدمَ الرجوع إليهم في الملمات ، وعدم إنزالهم منازلهم ، والوقوع في أعراضهم ، ومن المعلوم أن لحومهم مسمومة كما ذكر ذلك ابن عساكر- رحمه الله - وغيرُه ، فيجب أن تكون النصيحةُ لهم على الوجه الذي شرعه الله – تبارك وتعالى – وبينه رسولُه - صلى الله عليه وسلم – وهذا هو الفرق بين النصيحة والتعيير في هذا الباب وغيرِه .

    (( المتن ))
    ويُعرف هذا القصد : تارة بإقرار الرادِّ واعترافه ، وتارة بقرائن تحيط بفعله وقوله ، فمن عُرف منه : العلم ، والدين ، وتوقير أئمة المسلمين ، واحترامُهم ؛ ولم يَذكر الردَّ وتبيين الخطأ إلا على الوجه الذي ذكره غيرُه من أئمة العلماء .
    وأما في التصانيف ، وفي البحث وجب حمل كلامه على الأول ، وأنه إنما يقصد بذلك إظهارَ الدين والنصحَ لله ، ورسوله ، والمؤمنين . ومن حمل كلامه - والحال على ما ذُكر – فهو ممن يَظن بالبرئ ظن السوء ؛ وذلك من الظن الذي حرمه الله ، ورسوله ؛ وهو داخل في قوله سبحانه وتعالى : ( وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ) سورة النساء آية (112) ؛ فإن الظن السوء ممن لا يظهر منه أمارات السوء = مما حرمه الله ورسوله ؛ فقد جمع هذا الظانُّ : بين اكتساب الخطيئة والإثم ، ورمي البرئ بها.
    ويقوي دخوله في هذا الوعيد إذا ظهرت منه – أعني هذا الظان – أمارات السوء مثلُ : كثرةِ البغي والعدوان ، وقلةِ الورع ، وإطلاق اللسان ، وكثرة الغيبة والبهتان والحسد للناس على ما آتاهم الله من فضله والامتنان وشدة الحرص على المزاحمة على الرئاسات قبل الأوان .
    ومن عُرف منه هذه الصفات التي لا يرضى بها أهل العلم والإيمان ؛ فإنه إنما يُحْمَلُ تعرضُه للعلماء وردُّه عليهم على الوجه الثاني ؛ فيستحق حينئذٍ مقابلته بالهوان . ومن لم تظهر منه أمارات بالكلية تدل على شيء ؛ فإنه يجب أن يُحْمَلَ كلامه على أحسن مَـحْـمَـلاتِـهِ ، ولا يجوز حمله على أسوأ حالاته . وقد قال عمر - رضي الله تعالى عنه - : ( لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءًاً وأنت تجد لها في الخير محملاً ) (9) .

    (( الشرح ))
    هذا كلام عظيم ؛ فإن من يرد على أهل العلم فيما يُـرى أنهم قد أخطأوا فيه ، يُـوَّجه على الوجهين السابقين :
    فإن كان هذا الراد الذي يبين بعض ما قد يكون ، ووقع فيه بعض أهل العلم من أخطاء – إذا كان محمولا على بيان الحق ، وتمييز الصحّ من الخطأ بالأسلوب المناسب ، والأدب الرفيع والاحترام وتوقير العلماء ، وإنزالهم منازلهم ، وعُرفَ أن هذا الرادَّ لم يقصد برده التشفِّيَ ، ولا الأذى ، ولا ظنَّ السَّوْء بهؤلاء العلماء ، ولا يلزمهم بما لا يلزمهم ، ولا يحمل كلامهم فوق ما قصدوه ، ولا يقصد إلا بيان الحق في المسألة المعينة التي حصل فيها الخطأ - حتى ولو كان اجتهاديا ، إذا كان هذا هو الحامل لطالب العلم ، أو العالم الذي يرد ، هو هذا المعنى ، فهذا أمر مطلوب ، وما من مؤلف ، أو عالم ، بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا وهو راد ، ومردود عليه ؛ وهذا أمر كان يفعله السلف ؛ فكان يرد بعضهم على بعض مع توخي الحق ، وعدم التحامل ، وربما خطَّأ بعضهم بعضا في حدود الأدب الشرعي ، وفي حدود آداب طلاب العلم ، إذا عُرف أن ذلك الراد ليس في قلبه غل على إخوانه ، ولا يظن بهؤلاء العلماء ظن السَّوْء ، وإنما أراد بيان ما ظهر له أن الدليل على خلاف ما قرروه ، فمثل هذا لا يلام ، ولا يُـثَـرّب عليه ، ولا يُخَطَّـأ ، ولا يُـنْـتَقَد ؛ لأنه أراد الحق ، حتى ولو كان قد أخطأ ، وكان الصواب في خلاف رده ، ما دام الحاملُ له على ذلك هو = إرادةَ الحق بدليله ، ولزوم السنةَ والتمسكَ بها .
    أما إذا كان الحاملُ له على ذلك = الحسدَ ، والحقدَ ، والبغضَ ، والمرضَ ، والتشفي ، والتنقصَ ، والغمزَ ، واللمزَ ، والتعالمَ ، وظنَ السَّوْءِ = فإن ذلك – والعياذ بالله – قد ارتكب مسلكا خاطئا وخطيرا ، وقد جمع بين أربع سوْءَات :
    أولا : تجنى على ذلك العالم بغير حق .
    وثانيا : حمل كلامه ما لم يحتمل .
    وثالثا : إثم عند الله – عز وجل - .
    ورابعا : بَهَتَـه ، وافترى عليه ، وكذب عليه ، وقد ذكر الآية التي استشهد بها – رحمه الله – في هذا الباب ، وهي قول الله – عز وجل – ( وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ) سورة النساء آية (112) .
    يعني كونه كسب هذه الخطيئة ، وكونه آثما ، وكونه يتجنى على العالم بغير ما حق = فهو في هذا قد احتمل بهتانا أي : إفكا ، وكذبا ، وزورا ، ومينا ، يضاف إلى هذا أنه قد عرض نفسه للإثم ، والخطر ، والعقوبة عند الله – عزو جل - .
    بل إنه يستحق – أيضا - العقوبة التعزيرية من قبل ولي الأمر ، إذا كان هدفُه هو إيذاءَ العلماء ، وتنقصَهم ، والردَّ عليهم بغير حق ، والغضَّ من شأنهم من أجل أن يرتقي ، أو أن ينال شهرة ، أو يقال عنه : إنه فلان بن علان الذي تسنم ذلك السنام ، وأنه ذلك الشخص الذي تزبب قبل أن يتحصرم ، أو ادعى لنفسه ما لم يكن أهلا له ، بالإضافة إلى تجنيه ، وافترائه ، وكذبه – والعياذ بالله – .
    فلْـنَحْـذَرْ من هذا الصنف من الناس ، فإنهم كثر – لا كثرهم الله – ، الذين – كما يقول المثل عند الناس – لاهَـمَّ لهم إلا المخالفة ، ولو كان على حساب تنقص أهل العلم ، وإيذائهم ،والنيل من شأنهم ، والتحقير منهم ، ومن باب خالف - كما يقولون - تعرف ، أو خالف تذكر .
    فالله – عز وجل – هو الذي يعلم ما في القلوب ، وهو الذي يعلم ما في النيات ، فنحن لا نقول لكل من رد وبين بعض أخطاء العلماء ، أو طلاب العلم نلزمه بما لا يلزمه – أيضا – ونقول لك : إنك من هذا الصنف أو ذاك ، لكن في الحقيقة العلامات واضحة ، فمن رد وهو من الذين يلتزمون السنة ، ويلتزمون الصدق في أقوالهم ، وأفعالهم ، ويجتهدون في تحري الصدق ، والتعويل على الدليل ، ومع عدم التحامل ، ومع الترحم على أهل العلم ، وإنزالهم منازلهم ، فإن ذلك الأمرَ واضحٌ وضوح الشمس في رابعة النهار ، بخلاف الصنف الثاني الذي هدفه = مجرد الأذى ، والبهتان ، والتنقص ، والظهور ، والشهرة ، فإن ذلك سوف ينكشف – عاجلا أم آجلا – وقد قيل : ما أسر أحدٌ سريرةً إلا أظهرها الله – سبحانه وتعالى – على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه .
    والشاعر يقول :

    ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم
    (( المتن ))
    فصل في الفرق بين النصح بالعيوب للرجوع عنها ، والتوبيخ والتعيير بالذنب
    ومن هذا الباب أن يقال للرجل في وجهه ما يكرهه ؛ فإن كان هذا على وجه النصح = فهو حسن . وقد قال بعض السلف لبعض إخوانه : ( لا تنصحني حتى تقولَ في وجهي ما أكره ) .
    فإذا أخبر الرجل أخاه بعيبه ليجتنبه = كان ذلك حسناً ، ويحق لمن أُخبر بعيب من عيوبه أن يعتذر منها ؛ إن كان له منها عذر ، وإن كان ذلك على وجه التوبيخ بالذنب ؛ فهو قبيح مذموم .
    وقيل لبعض السلف : أتحبُّ أن يخبرك أحد بعيوبك ؟ فقال : ( إن كان يريد أن يوبخني فلا ) .
    فالتوبيخ والتعيير بالذنب مذموم وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تُثَرَّبَ الأمةَ الزانيةَ ؛ مع أمره بجلدها (10) فَـتُـجْـلَـدُ حداً ، ولا تعير بالذنب ولا توبخ به .
    وفي الترمذي (11) ، وغيره - مرفوعاً - : " من عيَّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله " . وحُمل ذلك على الذنب الذي تاب منه صاحبه . قال الفضيل : ( المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويُعيِّر ) .
    فهذا الذي ذكره الفضيل من علامات النصح والتعيير ، هو أن النصح يقترن به الستر والتعيير يقترن به الإعلان .
    وكان يقال : ( من أمر أخاه على رؤوس الملأ فقد عيَّره ) أو هذا المعنى .
    وكان السلف يكرهون الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر على هذا الوجه ، ويحبون أن يكون سراً فيما بين الآمر والمأمور ؛ فإنَّ هذا من علامات النصح ؛ فإن الناصح ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له ، وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها . وأما الإشاعة وإظهار العيوب ؛ فهو مما حرمه الله ورسوله . قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ) الآتين سورة النور آية (19-20) .
    والأحاديث في فضل الستر كثيرةٌ جدَّاً (12) .
    وقال بعض العلماء لمن يأمر بالمعروف : ( اجتهد أن تستر العصاة فإن ظهور عوراتهم وهنٌ في الإسلام وأحقُّ شيء بالستر : العورة ) .
    فلهذا كان إشاعة الفاحشة مقترنة بالتعيير ؛ وهما من خصال الفجار ؛ ولأن الفاجر لا غرض له في زوال المفاسد ، ولا في اجتناب المؤمن للمعايب والنقائص ؛ إنما غرضه في مجردِ إشاعة العيب في أخيه المؤمن ، وهتك عرضه ؛ فهو يعيد ذلك ويبديه ومقصوده تنقص أخيه المؤمن في إظهار عيوبه ومساوئه للناس ؛ لِـيُـدخل عليه بذلك الضرر في الدنيا .
    وأما الناصح فغرضُه بذلك إزالة عيب أخيه المؤمن باجتنابه له ؛ وبذلك وصف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) الآية سورة التوبة آية (12 .
    ووصف بذلك أصحابه فقال : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) سورة الفتح آية (29) .
    ووصف المؤمنين بالتواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة (13) .
    وأما الحامل للفاجر على إشاعة السوء الهتك ؛ فهي القسوة ، والغلظة ، ومحبته إيذاء أخيه المؤمن ، وإدخال الضر عليه ، وهذه صفة الشيطان الذي يُـزَيِّـن لبني آدم : الكفر ، والفسوق ، والعصيان ؛ ليصيروا بذلك من أهل النيران ، كما قال تعالى ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ) سورة فاطر آية (6) .
    وقال بعد أن قص علينا قصته مع نبي الله آدم عليه السلام ومكرَه به حتى توصل إلى إخراجه من الجنة : ( يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا) سورة الأعراف آية (27) .
    فشتان بين من قصدُه النصيحة وبين من قصدُه الفضيحة ، ولا تلتبسُ إحداهُما بالأخرى إلا على من ليس من ذوي العقول الصحيحة .

    (( الشرح ))
    هذا الكلام ما أبدعَـه ، وما أجملَه ، وما أظنه بحاجة إلى شرحٍ ، ولا تعليقٍ ، غير أني أُوضح بشيء من الاختصار ، مع أنني لن أبلغَ ، ولن أُعبرَ بمثل هذه العبارات العظيمة التي بينها الشيخ .
    في الفقرة السابقة تحدث عن طريقة النصح لأهل العلم ، وبخاصة في المسائل التي فيها أخذٌ وردٌ ، وفي هذه المسألة بـيّـن طريقة النصح للمسلم ، سواءً وقع في معصية ، أو وقع في تقصير ، أو حتى ببدعة ، أو أي مخالفة ، فما الطريقُ السليمُ لنصحه ؟
    وما الذي ينبغي أن يسلكَه المسلمُ في هذا النصحِ ؟
    أولا : يجب إخلاص النية في النصح ؛ يجب أن يكون المقصود بهذا النصح = وجه الله – سبحانه وتعالى – يريد المثوبة عند الله – عز وجل - ؛ لأنه مأمور أن ينصح لأخيه المسلم ( وإذا استنصحك فانصحه ) ، وأحيانا تتعين ، ولو لم يَـسْـتَـنْـصِحْـك = إذا رأيتَه يرتكب أمراً من المخالفات فلا يسعك السكوتُ عنه ، أو تركُه يرتكسُ في حبائل الشيطان ، وأنت تتفرج عليه ، لكن يجبُ أن يكون قصدُك وجهَ الله ، الأجرَ ، يجب أن يكون قصدُك إنقاذَ أخيك المسلم من هذا الوحل الذي أوقعَه فيه الشيطانُ ، فيكون هدفُك – فقط – هو إنقاذه لا تعييره ، يكون القصدُ هو النصحَ ، وقد سمعتُم النصوص .
    ويجوز أن تنصحه حتى ولو في وجهه مباشرة ، تتكلم معه مباشرة ، وتقول له : يا أخي ! أنا رأيتُ منك كيتَ وكيتَ وكيتَ ، والمؤمنُ مرآةُ أخيه ، وأنا أحب لك ما أحب لنفسي ؛ فإنه ينبغي أن ترعوي وأن ترجع إلى رشدك ، وأن تقلع عن تقصيرك في جنب الله ، وأن تبادر إلى التوبة ، والحسنات اللاتي تذهبن السيئات ، ولو كان ذلك في وجهه مباشرة ، بأن تتكلم معه مباشرة ، ولكن لا يكون هذا بحضرة الناس ؛ ويكون هذا بالأسلوب اللين ، وبالكلام الطيب ، وبالأخلاق الفاضلة .
    يقول الله – عز وجل – في وصف نبيه - صلى الله عليه وسلم – : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) سورة آل عمران آية (159) .
    ويقول تعالى : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) سورة القلم آية (4) .
    ويقول تبارك وتعالى : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) سورة التوبة (12 .
    فيجب أن يسلك هذا السبيل ؛ لأن المقصود هو النصيحة ، وليس المقصود الفضيحة ، مع الستر فيما يكون قد بدر من أخيك المسلم ؛ حتى ولو كانت معاصيَ ، أو ذنوباً ، أو مخالفاتٍ ، على أن لا يكون الشخص قد افتتن به ، ألا يكون ناشرا لمعصيته ، أو بدعته ، يغتر به الناس ، فإنه – حينئذ – يُـحَـذّرُ منه ، لكن إذا كان ذنبه قاصرا على نفسه فالواجبُ هو نصحه ، وتعليمه ، مع وجوبِ السترِ عليه ( ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ) .
    فإن المقصود هو النصح ، والبيان ، والهداية ( لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حُـمْـرِ الـنَّـعم ) .
    ثم ينبغي أن تكون هذه النصيحة بينك وبينه .
    يحكى أن المأمون تكلم معه رجل فأغلظ له القول .
    فقال له : يافلان ! لقد أرسل الله من هو خير منك ، إلى من هو شر مني .
    فقال له : ( فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) سـورة طـه آية (44) .
    يعني أرْسَلَ موسى وهارونَ ، وهو الذي عبر عنه بقوله ( من هو خير منك ) ، وفرعون الذي هو شر الخليقة .
    فهذا هو الذي ينبغي للمسلم أن يسلكه في باب النصح ، يمسك بيد أخيه ، ويأخذه بينه وبينه ، ويناصِحُه ، وعلى المنصوحِ له أن يتقبل النصيحةَ ، وأن يذعن لما يطلبه منه أخوه الذي نصحه محبةً له في الخير وإشفاقا عليه ، وخوفا عليه من الوقوع في المنكرات والمعاصي .
    أما إذا كان قصدُه نشرَ تلك الذنوب ، ونشرَ تلك العيوب ، والتشفي منه ، وتضخيمَ الأمر ، من أجل أن ينال هو بذلك شهرة ، أو – والعياذ بالله – عظمةً ، تجده ينخر في عظام الأمة مثل نخر السوس في الحبِّ ، يعني لا همَّ لهم إلا نشرَ عيوب الناس ، بقصد التشويه ، وبقصد الأذى ، وبقصد النيل منهم ، أو تحطيمهم ، أو تشويه سمعتهم بين الناس ، فإنها – حينئذ - تكون فضيحة ، وليست نصيحة ، وكل واحد يعرفُ نفسَه وقصدَه في تقدميه النصحَ ، ولا يفهم أحدٌ من هذا - وهذا قد قدّمناه في أول الشرح ، في أول هذا الكتاب – أن بيان حال المبتدعة ، والعصاة الذين يتأثر بهم الناس ، ويقتدون بأفعالهم ، وعندما يصبحون بؤرة فاسد ، ويصبحون أعضاء فاسدة يجب بترُها ، فإن بيان حال أولئك – حينئذ – أمر متعين ، لابد منه ، فلا نخلط بين هذا وذاك ، لا نخلط بين من ينشر الحديث = يتكلم دائما عن زيدٍ وعمرٍ ، ويكشف ما عندهم من ذنوبٍ ومعاصٍ وتقصيرٍ ، ويتحدث بذلك لقصد تشويه السمعة ، ولقصد الأذى ، وبين مَـن إذا عجز عن النصح ، يعني لم يُـسْـتَـجَـبْ له ، ولم يرعوِ ذلك الشرير عن غـيِّـه ، بل أصبح يشكل خطرًا على الأمة ، فإنه – حينئذ – يجب بيانُ حاله للناس ، والنبي – صلى الله عليه وسلم – كما تعلمون – قد يعبر بقوله :
    ( ما بالُ أقوام ) .
    وقد يعبر بقوله ( بئس خطيبُ القومِ أنت ) .
    وقد يعبر بقوله ( كذب أبو السنابل ) .
    ونحو ذلك مما يقتضه المقام ، ومما يجب أن يُـعْـنَـى بها المسلم من السلوك في كل حالة بما يناسبها .
    والله – عز وجل – وصف المؤمنين بأن هدفَهم التراحم فيما بينهم ، كما وصفهم بقوله ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) سورة الفتح آية (29) .
    وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطعفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى له عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) .
    ومهما قلتُ في بيان هذه المسألة فإنه لن نأتي أنا - ولا غيري - بمثل هذه الدرر التي بينها المصنِّفُ في ضوء النصوص الشرعية في ( الفرق بين النصيحة وبين الفضيحة ) فأعيدوا هذا مرة ، ومرة ؛ لعلكم تستفيدون منه ، وبخاصة طلاب العلم .

    (( المتن ))
    في عقوبة من عير أخاه بالذنب .
    وعقوبة من أشاع السوء على أخيه المؤمن ، وتتبع عيوبه وكشف عوراته ، أن يتبع الله عورته ويفضحه ولو في جوف بيته ، كما روي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه ، وقد أخرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي من وجوه متعددة ، وأخرج الترمذي (14) من حديث واثلة بن الأصقع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك .
    وقال : حسن غريب .
    وخرج - أيضا - من حديث معاذ مرفوعا : من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله . وإسناده منقطع .
    وقال الحسن : كان يقال : من عير أخاه بذنب تاب منه ، لم يمت حتى يبتليه الله به .
    ويروى من حديث ابن مسعود بإسناد فيه ضعف : البلاء موكل بالمنطق ، فلو أن رجلا عير رجلا برضاع كلبة ؛ لرضعها (15) .
    وقد روي هذا المعنى عن جماعة من السلف .
    ولما ركب ابنَ سيرين الدَّينُ وحُـبِـسَ به قال : إني أعرف الذنب الذي أصابني هذا ، عيرت رجلا مؤمنا منذ أربعين سنة ، فقلت له : يا مفلس .

    (( الشرح ))
    هذا الفصل له علاقة بما قبله في بيان أن من تكلم في شخص لقصد التعيير ؛ فإن الخطر عليه أن يصاب هو بنفسه مما وقع فيه ذلك المعيَّـر .
    وإن كانت الأحاديث التي أوردها المصنف لا تخلو من مقال ؛ إلا أن النهي وارد عن التعيير بشكل عام .
    فالتعيير وإظهار العيوب ؛ إذا كان القصد هو مجرد إظهار العيوب ؛ فهذا - والعياذ بالله - فضلا عمن فيه من الإثم - فإن فيه إشاعة للفاحشة .
    ( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ) سورة الحجرات آية (12) .
    هذا كله إذا كان المراد هو مجردَ التعييرِ والتنقصِ ، وإذا كان المرادُ هو إظهارَ العيوب ، أو عدم النصيحة . وإنما المراد بذلك هي الفضيحة ، وقد أورد بعضا من أقوال السلف مثل ما ورد عن ابنِ سيرين وغيره من أنهم يدركون أنه ( كما تَدين تدان ) ، وأن المرء - إذا عير أخاه بشيء – ربما يصاب بعقوبة مماثلة ؛ لأنه ما قصد بذكره هذا الأمر إلا التعيير والأذي والنيل من الشخص ، فَـعُـوقِبَ بنقيضِ قصده ، وهذا هو شأنُ من يَـتَـتَـبَّـعُ عوراتِ المسلمين ، فإن مَـنْ َ تَـتَـبَّـعَ عوراتِ المسلمين ، تَـتَـبَّـعَ اللهُ عورتَـه وكشفه في عقر داره ) أو كما قال – صلى الله عليه وسلم – فلْـنَحْذَرْ من هذا الأمرِ ، وكما قلتُ – منذ أن بدأنا في هذا الكتاب – لا يدخل في هذا الباب بيانُ المبتدعة والعصاة الذين أصبحوا يشكلون فتنة على الأمة ، يضلون الأمة ، فإن مَن اتخذه الناسُ قدوةً وجبَ بيانُ حالِه ، وهو مستثنى ، وتستثنى أمور أخرى منها – مثلا - :
    لو جاء شخص – استشارك شخص في خطبة رجلٍ لكريمته ، أو لبنته ، أو قريبته ، فتبين حاله - تحذيرا لا تعييرا - وقد جاءت امراة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – وذكرت أن كلاً من : أبي جهمٍ ومعاويةَ قد خطباها .
    فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : أما أبو جهمٍ فإنه لا يضع العصا عن عاتقه ؛ وسواء قُصِدَ بذلك : كثرة الأسفار ، أو قُصِدَ أنه يكثر من ضرب النساء ، فالموضوع يشمل الأمرين ، وأما معاوية فصعلوك لا مال له . انكحي أسامة .
    فبيان مثل هذه الأمور هذه لا تدخل في الغيبة ، ولا بالنميمة ؛ إذا لم يكن المقصود هو= التشويهَ ، أو التنقصَ ، او التعييرَ ، وكذلك بأنْ لا يدخل في هذا الباب بيان حال الرواة ليعرف الصادق من الكاذب ، والثَّـبْـتِ من غير الثَّـبْـتِ ، والثقة من غير الثقة ، هذا أمر قد تقدم الكلام فيه – فيما مضى – وأمره واضح لكل ذي عينين ، ولكل ذي لب سليم .

    (( المتن ))
    فصل فيمن يظهر النصح ويبطن التعيير والأذى ، وأن ذلك من صفات المنافقين (16)
    ومن أخرج التعيير واظهر السوءَ وإشاعه في قالب النصح وزعم أنه إنما يحمله على ذلك العيوب إما : عاماً ، أو خاصاً ، وكان في الباطن إنما غرضه التعيير والأذى فهو من إخوان المنافقين الذين ذمهم الله في كتابه في مواضع ؛ فإن الله تعالى ذم من أظهر فعلاً أو قولاً حسناً وأراد به التوصل إلى غرض فاسد يقصده في الباطن ، وعدَّ ذلك من خصال النفاق كما في سورة براءة التي هتك فيها المنافقين وفضحهم بأوصافهم الخبيثة : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لا تقم فيه أبدا ) الآيات سورة التوبة آية (107- وما بعدها ) .
    وقال تعالى : ( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) الآية سورة آل عمران آية (18 .
    وهذه الآية نزلت في اليهود - سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره ، وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك عليه وفرحوا بما أتوا من كتمانه وما سألهم عنه . كذلك قال ابن عباس - رضي الله عنهما - وحديثه بذلك مخرّج في الصحيحين (17) .
    عن أبي سعيد الخدري : أن رجالاً من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو تخلَّفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا قدِم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت هذه الآية (1 .
    فهذه الخصال خصال اليهود والمنافقين ، وهو أن يظهر الإنسان في الظاهر قولاً أو فعلاً وهو في الصورة التي أظهره عليها حسن ومقصودُه بذلك التوصل إلى غرض فاسد فيحمَدُه على ما أظهره من ذلك الحسن ويتوصل هو به إلى غرضه الفاسد الذي هو أبطنه ويفرح بحمده على ذلك الذي أظهر أنه حسن ؛ وفي الباطن سيء ، وعلى توصله في الباطن إلى غرضه السيء ؛ فتتم له الفائدة ، وتَـنْـفُذُ له الحيلة ، أو وتُنَفَّذُ له الحيلة بهذا الخداع .
    ومن كانت هذه صفته = فهو داخل في هذه الآية - ولا بد - فهو متوعد بالعذاب الأليم ، ومثال ذلك : أن يريد الإنسان ذمَّ رجل وتنقصه وإظهار عيبه لينفر الناس عنه (19) ؛ إما محبة لإيذائه لعداوته أو مخافته من مزاحمته على مال أو رئاسة أو غير ذلك من الأسباب المذمومة فلا يتوصل إلى ذلك إلا بإظهار الطعن فيه بسبب ديني مثلُ : أن يكون قد ردَّ قولاً ضعيفاً من أقوال عالم مشهور ؛ فيشيع بين من يعظِّم ذلك العالم أن فلاناً يُبغِضُ هذا العالم ويذمُّه ويطعنُ عليه فَـيَـغِـرُّ بذلك (20) كلَّ من يعظِّمه ويوهمهم أن بغض الراد وأذاه من أعمال القَرَبِ ؛ لأنه ذبٌّ عن ذلك العالم ودفع الأذى عنه وذلك قُربة إلى الله – عز وجل - وطاعة فيجمع هذا المظهرُ للنصح بين أمرين قبيحين محرَّمين :
    أحدِهما : أن يَـحْـمِـلَ (21) ردَّ هذا العالم القولَ الآخرَ على البغض والطعن والهوى وقد يكون إنما أراد به النصحَ للمؤمنين وإظهارَ ما لا يَـحِـلُّ له كتمانُه .
    والثاني : أن يظهر الطعن عليه ؛ ليتوصل بذلك إلى هواهُ وغرضه الفاسد في قالب النصح والذب عن علماء الشرع ، بمثل هذه المكيدة كان ظلم بني مروان وأتباعهم يستميلون الناس إليهم وينفِّرون قلوبهم عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - والحسن والحسين وذريتهم - رضي الله عنهم أجمعين - .
    فإنه لما قُتِل عثمان - رضي الله عنه - لم ترَ الأمة أحق من علي - رضي الله عنه – بالأمر فبايعوه فتوصل من توصل إلى التنفير عنه بأن أظهر تعظيم قتل عثمان وقُبحه وهو في نفس الأمر كذلك ، لكن ضُمَّ إلى ذلك أن المؤلِّـبَ على قتله والساعي فيه هو علي - رضي الله عنه - وهذا كذبٌ وبهتٌ .
    وكان علي – رضي الله عنه - يحلف ويغلِّظ الحلف على نفي ذلك ، وهو الصادق البارُّ في يمينه - رضي الله عنه - ؛ فلما أظهروا ذلك تفرقت قلوبُ كثير ممن لا خبرة له بحقائق الأمور عن علي – رضي الله عنه - ، وبادروا إلى قتاله : ديانةً وتقرُّباً . ثم إلى قتال أولاده ، واجتهد أولئك في إظهار ذلك وإشاعته على المنابر في أيام الجُمَع ، وغيرها من المجامع العظيمة ، حتى استقر في قلوب أتباعهم : أن الأمر على ما قالوه ، وأن بني مروان أحق بالأمر من علي وولده ؛ لقربهم من عثمان ، وأخذهم بثأره ؛ فتوصلوا بذلك إلى تأليب قلوب الناس عليهم ، وقتالهم لعلي وولده من بعده ، وثَـبَـتَ - بذلك - لهم الملك واستوثق لهم الأمر .
    وكان بعضهم يقول في الخلوة لمن يثق إليه كلاماً معناه : ( لم يكن أحد من الصحابة أكفأ عن عثمان من علي ) .
    فيقال له : لِمَ يسبُّونه إذاً ؟
    فيقول : ( إن المُـلك لا يقوم إلا بذلك ) .
    ومراده : أنه لولا تنفير قلوب الناس على علي وولده ونسبتُهم إلى ظلم عثمان لما مالت قلوبُ الناس عنهم ؛ لما علموه من صفاتهم الجميلة ، وخصائصهم الجليلة ؛ فكانوا يُـسْـرِعُون إلى متابعتهم ، ومبايعتهم فيزول بذلك مُلْـك بني أمية ، وينصرف الناسُ عن طاعتهم (22) .

    (( الشرح ))
    هذه المسألة تحتاج إلى وقفة ؛ لأن الشيخ – رحمه الله تعالى – هنا – يريد بها أمراً قد لا يدركه كثير من الناس ؛ وذلك أن صورة ما يعنيه المؤلف - هنا - أنه لو جاء شخصٌ وتكلم في مسألة بكلام حسنٍ لقصد الوصول إلى غاية سيئة ؛ فهذا في غاية من الفساد – والعياذ بالله – وفي غاية من الخطورة ، بل لون من ألوان النفاق ، والتقية المحرمة ، وقد وصف الله – عز وجل – المنافقين بذلك وهو أنهم يتكلمون بكلام عظيم وجميل يريدون به التخلص ، ويريدون به حقن دمائهم ، أو يريدون به أن ينالوا ما يناله المؤمنون من مغنمٍ ، أو من خيرٍ ، في الدنيا ، وهم لا يريدون الآخرة ، أعني المنافقين ، فكل من سلك هذا السبيل = فإنه قد وقع في خصلة مما وقع فيه هؤلاء ، ولا يلزم أن يكون منافقا بكل حال ، بل قد يكون الإنسان فيه خصلة من خصال النفاق ، وليس منافقا خالصا ، كما حاء في الحديث الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ) ، والحديث معروف .
    فالمقصود أن الغاية لا تبرر الوسيلة ؛ هذا كل ما يريد أن يصل إليه المصنف – رحمه الله تعالى – الحافظُ ابنُ رجب من ذكر هذه المسألة ، وهو أنه إذا كانت الغاية نبيلة = فلابد أن تكون الوسيلة التي يتوصل إليها بها نبيلة ، ومن استعمل الوسائل النبيلة في الغايات الرذيلة ، فإن هذا عنده صفة ، أو قد اتصف بصفة من صفات المنافقين .
    هذا الذي يريد أن يبينه أو أن يوضحه .
    وتطبيقا على هذا أقول : إن بعض مَن ما يفعله بعضُ أدعياء الدعوة في هذا الزمان من أنهم يستخدمون بعضَ الوسائل التي يظهر حسنُـها من أجل الوصول إلى أهداف تخالف منهج أهل السنة والجماعة ينطبق عليهم هذا الأمر .
    فالذي يدعو الناس إلى مجرد الاجتماع ، والتجمع ، دون تمحيص ، ودون بيان للحق من الباطل ، وإنما لمجرد التجميع ؛ حتى يصلوا إلى بعض الأهداف : كالكراسي ، أو المزاحمة عليها – كما أشار المصنف هنا – أو نحو ذلك ؛ فإن هذا من أسوأ الأعمال التي تُـرْتَـكَـبُ في هذا الزمان .
    يعني كون الإنسان يأتي بكلام ليسقط كلام غيره ، أو ينمق كلاما ليسقط كلام أخيه ، وقد يكون الكلام الذي جاء به حسن ، وفي الظاهر ، لكن هدفه منه الإسقاط .
    مثلا : شخص بين خطأ عالم من العلماء – كما ضرب المصنفُ المثال لهذا – قال : والله العالم الفلاني ، أو الشيخ الفلاني - هذا العمل لا يوافق ، أو هذا العمل لم يكن صوابا ، أو الحق على خلافه ، أو الدليل على خلافه ، مع احترامه للعالم وما إلى ذلك – من القيود التي ذكرناها قبل قليل - ، لكن هذا أراد من ذلك : إما أن يضرب العلماء بعضهم ببعضٍ ، أو أن يشوه سمعة ذلك المسكين الذي تكلم في هذه المسألة ، ولم يقصد تنقص العالم ، وإنما قصد أنَّ الذي يظهر من الحق في هذه المسألة ، هو كذا وكذا ، وهو يعلم أن مخالفته لهذا العالم صعبة ، وأنه إذا اشتهر فلان أنه يخالفه ، أن ذلك قد يسيئ إلى سمعته ، وقد يحطمه ، فإذا كان هدفه هذا = فإنه بذلك مفترٍ ، ومتجنٍ ، ومفرق لكلمة الأمة ، وساعٍ في الأرض بالفساد .
    ترى هذا واقع موجود واقع !
    أرأيتهم فلانا ؟ هو مبتدع .
    لماذا ؟
    لماذا بدعته يا أخي ؟
    قال : والله رأيناه خالف الشيخ فلانا في المسألة الفلانية !
    انتبوا ! لا يفهم أحدٌ كلامي هذا خطأً ، ترى الناس اليوم – والعياذ بالله – يُـحَـمِّـلون كلام الشخص ما لم يقل !!
    يقول : إن فلانا يريد برده على الشيخ الفلاني ، أو بعدم أخذه برأي الشيخ الفلاني ، أنه يريد أن ينال منه !!
    كيف ؟
    هل دخلت في قلبي ؛ عندما تلزمني بهذا الإلزام ؟
    نعم ، لا شك أن الاشتهار بمخالفة أهل العلم ، هذا من أسوأ الأمور هذا أمر خطير ، ( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) سورة النساء آية (115) .
    لكن هذا غير ، غير ما أريده - هنا – وغير ما يريده الحافظ ابنُ رجب في تقرير هذه المسألة .
    يعني من اشتهر بمخالفة أهل العلم ، من باب خالف تعرف – كما تقدم قبل قليل – هذه صورة أخرى ، غير الصورة التي نتحدث عنها - الآن - ؛ ولذلك ذكر الإمام الذهبي – كما ذكرت لكم قبل هذا الوقت – عن ابن علية الابن ، أيهم ؟ ما اسمه ؟
    أحدهم أجاب : إسماعيل .
    الشيخ : لا !
    ليس إسماعيلَ .
    الذي قال عنه ( إن رواته مهجورة ومخالفته لأهل العلم مشهورة ) أيهم : إسماعيل ، أو إبراهيم ؟
    إبراهيم الابن ؛ نعم الأبُ وبئس الابنُ !
    الابن معتزلي !
    والأب من رجال الكتب الستة الثقات المعروفين : إسماعيل بن علية .
    ولذلك إذا وجدتم في كتب الفقه – دائما – وقد خالف - في ذلك – الأصمُّ وابنُ علية .
    هم – لأنهم – حفاظ فيكتفون بكلمة ( ابن علية ) ؛ لأن القدامى يعرفون مَن ابن علية المقصود هنا ، من هو ؟
    إبراهيم الابن ، يفرقون بينه وبين أبيه ( إسماعيل ) ، لكن نحن لما ضَـعُـفَ علمُنا وكذا ، المفروض يُـنَـص ، عندما يأتي شخض ويذكر مسألة ، فيقول : وخالف في هذا إبراهيم بن علية الابن ، الذي قيل عنه كذا كذا .
    فالشاهد : ينبغي أن نفرق بين المسألة الأولى التي بينها المصنف في بداية درسنا اليوم ، وهي التعالم ، أو الرد بقصد التشويه ، وبين الرد الذي يقصد به الحق ، فإذا خالف شخصٌ آخر ، وكان هذا الذي خولف من المشاهير ، أو من العلماء ، وربما أخطأ في هذه المسألة .
    قال : والله ! فلان يخالف - مما يدل على أنه شاذ ومبتدع : مخالفته للعالم الفلاني ، أنا حضرت مسألة في مكان ما ، وتحدث بعض المشايخ في مسألة التراويح ، وقيام الليل ، وهل يجوز أن يزاد فيها على إحدى عشرة أو لا يجوز .
    تكلم المشايخ ، وقالوا : إن الأمر فيه سعة بدليل حديث ( مثنى مثنى ) قام شخص مغرض مريض فقال : أرأيت يا فلان ! - وكان يخاطب أميرا من الأمراء - أرأيت يا سمو الأمير فلان ! أن هؤلاء الذين تكلموا - الآن - أنهم يريدون بذلك مخالفة ما عليه علماء هذه البلاد من صلاة ثلاث وعشرين ركعة ! .
    وهم لم يقولوا ذلك أبدا ! بل إنهم قالوا : الأمر فيه سعة ، فمن أراد التمسك بما دل على النص ، وهو إحدى عشرة ركعة فهو على الخير ، ولعله أولى ، مع الإطالة في القراءة ، ومن زاد فالأمر فيه سعة ؛ بدليل حديث ( صلاة الليل مثنى مثنى ) وهذا الذي قاله المشايخ ، لكن هذا الذي كان يصطاد في الماء العكر - وأنا حضرت هذه القضية في مجلس من المجالس ، حضرتها بنفسي - قام هذا المسكين المتطفل الجاهل ، قام وقصده تشويه سمعة المشايخ الذين تكلموا في هذه القضة ، وأنا - والله ! - حضرتها بنفسي ، وهم - والله ! - لم يمنعوا الزيادة على إحدى عشرة ركعة ، وإن كانوا أشاروا إلى أن الأولى والأفضل هو ذلك ، قالوا : من زاد فالأمر فيه سعة .
    فهو قال : هؤلاء يخالفون أئمة الحرمين ، هؤلاء يخالفون ما عليه هذه البلاد ، فكان رُدَّ عليه في وقتها ، بأن هذا الأمر خطأ ، وأن فهمك هذا غير صحيح ، وأنه من باب الاصطياد في الماء العكر .
    انتبهوا ! ؛ لأن هذه المسألة دقيقة – يا إخوان - وتحتاج – والله ! – إلى وقفة ، نخلص – بعد أن تبين هذا - المسألة التي عرضها الشيخ ، مَـثّـل بها .
    تعلمون ما جرى بين الصحابة - قصد الشيخ بيان عدم استغلال الفرصة لإيذاء الآخرين ، وعدم استغلال الظروف التي تحصل وتشوه فيها الحقائق ، هذا الذي أراده الشيخ ورده .
    لا شك أن الحق مع علي – رضي الله عنه – ولا شك أن مَن قاتل علي فقد سماهم النبي – صلى الله عليه وسلم – الفئة الباغية .
    هذا الأمر لا يختلف عليه اثنان ، ومع هذا الدخول في التفاصيل ، والنيل من الصحابة – رضوان الله عليهم – والحط على بني أمية بهذا التعميم ، لا أراه – أبدا – إلا من دسائس بعض الفرق الضالة .
    هذا بعد أن بينتُ – لكم – مرادَ المصنف – رحمه الله – ، مراد المصنف هنا = الرد على من يصطاد في الماء العكر ، ومن يستغل ما قد يحصل من ظروف في أوساط المسلمين فيبدأ يضرب ، ويشتغل .
    والحقيقة أن قضية ما جرى بين الصحابة إنما هي بدسٍ من عبد الله بن سبأ اليهودي ومن لفّ لـفَّـه ، وربما تأثر - بذلك - بعض الصحابة الذين أخطأوا في هذه المسألة ، وحصل بينهم ما حصل ، وواجبنا نحوهم = هو الترضي عنهم والترحم عليهم ، واعتقاد عدالتهم ، واعتقاد أنهم – جميعا – عدول ، بدون استثناء ، والترضي عنهم – جميعا – واعتقاد أنهم أفضل هذه الأمة ، وأنهم صفوتُها بعد رسولنا – صلى الله عليه وسلم – وأنهم خير القرون في هذه الأمة بعد النبي – صلى الله عليه وسلم - ، السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين أثنى الله عليهم في آيات كثيرة ، ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) سورة التوبة آية (100) .
    ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) سورة الفتح آية (1 .
    وفي الآيات الثلاث التي في سورة الحشر في وصف الصحابة المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم ، كل ذلك يجب أن يُـتأمل ، وأن نكف عما شجر بين الصحابة ، يعني التنصيص على بني أمية بهذا الشكل ، بهذا التعميم – بغض النظر ، الشيخ أراد بيان أمر ينبغي أن نفهمه ، وهو أنه لا يجوز استغلال الظروف لقصد تشويه سمعة الآخرين ، هذا الذي يريده الشيخُ ، يعني أنه لا يجوز لمسلم أن يصطاد في الماء العكر ، وأن يتوصل بكلامٍ يَـتَـحَـجَّـجُ به ، وهو أشبه ما يكون بصفات المنافقين !
    هذا الذي يريد الشيخُ أن يحذرَ منه ، وأما الدخول في التفاصيل فيما جرى بين الصحابة - رضوان الله عليهم – فهذا مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة ، وكما قال عمر بن عبد العزيز – رحمه الله تعالى - : أولئك قوم طهر اللهُ سيونا من دمائهم أو أيدينا من دمائهم ، فلنطهعر ألسنتنا من أعراضهم ) .
    ومن أعظم علامات أهل البدع والأهواء الوقعية في الصحابة - رضوان الله عليهم - فإنهم لا يقع فيهم إلا مبتدع ضال مضل ، وقد شُـوِّه التاريخ وبخاصة من روايات الكلبي ، والواقدي وروايات في ( مروج الذهب ) للمسعودي ، واليعقوبي ، وغيرهما ، التاريخ لم يكن يوما من الأيام حجة في الحكم على الأشياء ؛ لأن كتب التاريخ قد شحن الكثير منها بالغث والسمين ، فيجب إذا قرأناها أن نكون على على حذرٍ مما يبث فيها .
    قد يقول قائل : لماذا أورد المصنفً – إذاً – هذه المسألة ؟
    المصنفُ أورده للتنبيه على أمر مهم ، وهو أن مَن يتكلم في الشخص بقصد تحطيمه ، أو إظهاره بمظهر بغير لائق ، أو من يستغل خطأ ، أو مَـن يستغل كلمة صدرت من شخص من أجل أن يتوصل إلى غاية خبيثة في نفسه ، أقصد في نفس الذي يَـتكلم فيه ، نعم ، فإن ذلك من سمات المنافقين .
    هذا الذي يريده الشيخُ ، وأما المسألة التي مَـثَّل بها فإني أرى عدم الدخول في التفاصيل .
    هو صحيح أنه لما اشتغل عبد الله بن سبأ ، فأهل الشام جاؤوا للمطالبة بدم عثمان ، وعلي – رضي الله عنه – برئ من دم عثمان براءة الذئب من دم يوسف ، ومَـن غرر بأهل الشام ؟
    هم أولئك الذين كانوا يُـدسون بين الصحابة ، حتى إنهم كلما أردوا أن يَـكُـفُّوا عن القتال في صفين ما يشعرون إلا وقد أشرعت الرماح والسيوف ، ولا يدرون من بدأ ذلك ، فالصحابة – كلُّهم – عدول ، يجب الترضي عنهم ، ويجب إعطاؤهم حقوقهم ، وتوليهم ، واعتقاد عدالتهم – جميعا – كما ذكر شيخ الإسلام وغيرُه : أنهم مجتهدون في هذه المسائل ، فهم بين مَـن له أجر ، وبين من له أجران ، فيجب على المسلم أن يكف عما شجر بينهم .
    ونحن نرى بعضَ الكتَّاب المعاصرين يأخذون هذا التعميمَ – دائما – فيقولون : بني أمية ، أو بني العباس ، ويذمون الدولة الأموية والعباسية ، في الدولة الأموية والعباسية – نحن لا نعتقد لأحد العصمة ، لكنْ فيها من الخير ، ومن خدمة الإسلام والسنة ما لا يمكن تصوره ، أو ما لايمكن إحصاؤه ، فعندهم من الخير ، لكن الخطأ موجود ، والعصمة ليس لأحد ، إلا الرسل - عليهم الصلاة والسلام – .
    بل إن بعض الكتَّاب المعاصرين الذين يظن ، أو يحسب بعضُ الناس أنهم دعاة ، وربما وصفهم بأنهم شهداء ! منهم من لعن معاوية – رضي الله عنه – أو نال من عثمان ، واعتقد ظلمه ، أو كفر علياً ومعاويةَ – رضي الله عنهما - ، أو كفر بعض الصحابة ، وسلك – بذلك – مسلك بعض الفرق الضالة المنحرفة عن الصراط المستقيم ، وهذا في غاية الخطورة .
    هذا وجد في كتاب ( الظلال ) ، وفي كتاب ( العدالة الاجتماعة ) ، وفي كتاب ( كتب وشخصيات ) وفي كتب أخرى من كُـتُـب بعض الكُـتَّـاب المعاصرين الذين يهونون من شأن الصحابة ، أو يطعنون في بعضهم ، وهم ليسوا من أهل تلك النِّـحلة المنحرفة ، ولكن – ويا للأسف ! – وقعوا في ذلك بسبب اعتمادهم على كتب التاريخ .

    (( المتن ))
    فصل فيمن أصابه أذى ومكر ، أن عليه أن يصبر ، وأن التمكين سيكون له بعد صبره
    ومن بُلي بشيء من هذا الأذى والمكر فليتق الله ، ويَسْـتَـعِنْ به ، ويصبر ؛ فإن العاقبة للتقوى . كما قال تعالى - بعد أن قصَّ قِصَّة يوسف وما حصل له من أنواع الأذى بالمكر والمخادعة - : ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ) سورة يوسف آية (21) .
    وقال تعالى - حكاية عنه أنه قال لإخوته - : ( أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) سورة يوسف آية (90) .
    وقال تعالى - في قصة موسى عليه السلام وما حصل له ولقومه من أذى فرعون وكيده قال لقومه - : ( اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) سورة الأعراف آية (12) .
    وقد أخبر الله تعالى أن المكر يعود وباله على صاحبه .
    وقال تعالى : ( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) سورة فاطر آية (43) .
    وقال تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا ) سورة الأنعام آية (123) .
    والواقع يشهد بذلك ؛ فإن من سبر أخبار الناس وتواريخ العالم وقف من أخبار من مكر بأخيه فعاد مكرُه عليه ، وكان ذلك سبباً لنجاته وسلامته على العجب العجاب .
    ولو ذكرنا بعض ما وقع من ذلك ؛ لطال الكتاب واتسع الخطاب ، والله الموفق للصواب وعليه قصد السبيل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
    وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً (23) .

    (( الشرح ))
    في هذه الخاتمة ، وبعد أن بين الشيخ في أثناء هذا الكتيب العظيم ( الفرق بين النصيحة والتعيير ) بَـيَّـن أن الإنسان قد يبتلى بالظلم ، وقد يبتلى بأن يُـنسب إليه ما لم يقل ، وقد يبتلى بأن يوصف بما ليس فيه ، وقد يبتلى بأن يُـحَتمَّـل كلامه ما لا يحتمل ، وقد يبتلى بمن يتربص به الدوائر ، فما موقفه والحال هذه ؟
    إن استطاع إن يدفع عن نفسه ؛ فليدفع ما استطاع ، دون تكلفٍ ، وأما إن استمرت البلوى ، فعليه أن يصبر :
    ( والعاقبة للمتقين ) سورة الأعراف آية (12 ، وسورة القَصص آية (83) .
    ( والعاقبة للتقوى ) سورة طه آية (132) .
    ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) سورة الزمر آية (10) .
    وذكر الشيخ – رحمه الله تعالى – كيف كانت العاقبة ليوسف وأخيه ، وكيف كانت العاقبة لموسى وبني إسرائيل ، وكيف كانت العاقبة للمؤمنين في كل وقت وفي كل حين ، وكيف كانت العاقبة لمن يصبر ويحتسب ، ويصبر على الأذى ، فإن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله كما يقول الله – عز وجل – ( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) سورة فاطر آية (43) ؛ فينبغي للمسلم أن يصبر ، وهذه الدنيا دار ابتلاء ، واختبار ، وامتحان : ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) سورة هود آية (7) ، ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) سورة محمد آية (31) .
    فعلى المسلم أن يصبر ويحتسب فيما قد يحصل من ابتلاء في هذه الحياة الدنيا ، والأجر على قدر النصب – كما هو معلوم – .
    واللهَ نسألُ أن يجعلنا وإياكم من الصابرين الشاكرين ، وكما تعلمون عنوان سعاد المسلم أنه : إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر ، وإذا أذنب استغفر .
    ورحم الله الشيخَ الحافظَ ابنَ رجبٍ على هذا الكتاب العظيم الدقيق في بيان ( الفرق النصيحة والتعيير ) .
    واللهَ نسألُ أن يرزقنا وإياكم الهدى والتقى ، والعفاف والغنا ، كما نسأله - تبارك وتعالى – أن يرزقنا وإياكم الاستقامةَ على طاعته ، والعملَ بما يرضيه .
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .

    الحواشي :
    (1) انظر " الكفاية " ( 88 ) للخطيب البغدادي و " الإعلان بالتوبيخ لمن ذمَّ التاريخ " ( 461 ) للسخاوي ، و " شرح صحيح مسلم " ( 16 / 144 ) للنووي ، و " مجموع الرسائل " ( 4 / 110 ) لابن تيمية ، و " رفع الريبة " ( 24 – 27 ) للشوكاني .
    (2) أخرجه أبو يعلى في " مسنده الكبير " من طريق مجالد بن سعيد ، وهو ضعيف جدا ، ورواه البيهقي بإسناد منقطع ، وأخرجه عبدالرزاق ، وفي إسناده أبو العجفاء السلمي ، وهو ضعيف أيضاً ، وانظر " المقاصد الحسنة " ( ص 320 ) .
    قلت ( أشرف ) : وقد أفردها أحد المعاصرين- وهو نزار عرعور - في جزء مستقل أسماه ( القول المعتبر في تحقيق رواية " قول كل أحد أفقه من عمر " ) وطبعت عن دار الراية .
    (3) انظر " الرسالة " ( رقم : 598 و 599 ) له رحمه الله ، و " المقاصد الحسنة " ( ص 15 ) .
    (4) وهذا ليس على إطلاقه ، وانظر رد العلامة ابن القيم على من يقول : لا إنكار في مسائل الخلاف ، ضمن " إعلام الموقعين " ( 3 / 288 ) فإنه مهم .
    (5) ) رواه عنه صلى الله عليه وسلم غير واحد من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ، منهم : تميم الداري ، أخرجه عنه مسلم ( 55 ) وأبو داود ( 4944 ) والنسائي ( 7 / 156 ) وأحمد ( 4 / 102 ) وأبو عوانة ( 1 / 36 – 37 ) والحُميدي ( 837 ) والبغوي ( 3514 ) والطبراني في " الكبير " ( 1260 ) و ( 1261 ) و ( 1262 ) وابن حبان في " روضة العقلاء " ( 194 ) وابن النجار في " ذيل تاريخ بغداد " ( 2 / 193 و 301 ) والشهاب القضاعي في " مسنده " ( 17 ) و ( 18 ) ووكيع في " الزهد " ( 346 ) و ( 621 ) وأبو عبيد في " الأموال " ( 9 ) والبخاري في " التاريخ الصغير " ( 2 / 35 ) .
    (6) أخرجه بهذا اللفظ أحمد ( 1 / 447 ) والبغوي ( 2388 ) ، وقال الهيثمي في " المجمع " ( 5 / 3 : رجاله رجال الصحيح ) وأصل القصة في " صحيح البخاري " ( 9 / 415 ) وفي " صحيح مسلم " ( 1484 ) .
    (7) قال الشيخ : الله أكبر !!
    ( أخرجه أبو يعلى في " مسنده " ( 1675 ) وأبو نعيم في " الدلائل " ( 356 ) عن البراء ، وقال الهيثمي في " المجمع " ( 8 / 93 ) : رواه أبو ليلى ورجاله ثقات ، وأخرجه من حديث أبي برزة بإسناد قوي : أحمد ( 4 / 421 و 424 ) وأبو داود ( 4880 ) ، وفي الباب عن ابن عمر بإسناد حسن عن الترمذي ( 2033 ) والبغوي ( 3526 ) وابن حبان ( 1494 – موارد ) وانظر " الترغيب والترهيب ( 3 / 177 ) للمنذري .
    (9) أخرجه أحمد في " الزهد " كما قال السيوطي في " الدر المنثور " ( 6 / 92 ) .
    (10) ) أخرجه البخاري ( 4 / 350 ) ومسلم ( 1703) عن أبي هريرة ، وانظر " شرح السنة " ( 10 / 298 ) للإمام البغوي .
    (11) برقم ( 2507 ) عن معاذ ، وأخرجه ابن عدي في " الكامل " ( 6 / 2181 ) والخطيب في " تاريخ بغداد " ( 2 / 339 ) وزاد الزَّبيدي نسبته في " إتحاف اسادة المتقين " ( 7 / 504 ) لابن أبي الدنيا في " الصمت " و " الغيبة "والبغوي ، وفي إسناده علتان : الأولى : خالد بن معدان لم يدرك معاذاً ، والثانية محمد بن الحسن ابن يزيد ضعيف جداً ، أورده الذهبي في " الميزان " ( 3 / 515 ) وساق له هذا الحديث ، وأورد هذا الحديث أيضا الصَّغَاني في " الموضوعات " ( 58 ) .
    (12) ) انظر " فتح الباري " ( 5 / 97 ) و " صحيح مسلم " ( 4 / 1996 ) .
    (13) كما في قوله تعالى من سورة البلد : ( ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ) آية : 17 .
    (14) برقم ( 2508 ) وفي إسناده القاسم بن أمية الحذَّاء ، أورده ابن حبان في " المجروحين " ( 2 / 213 ) وقال : شيخ يروي عن حفص بن غياث المناكير الكثيرة ، لايجوز الاحتجاج به إذا انفرد ، قلت : ثم روى له هذا الحديث ، وعقَّب عليه بقوله : هذالاأصل له من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلت : وروى الحديث – أيضا – الطبراني في " الكبير " ( 917 ) و ( 918 ) و ( 919 ) وأبو نعيم في " الحلية " ( 5 / 186 ) وله متابعة عن عمر بن إسماعيل بن مجالد ، عن الترمذي ، وأبي الشيخ في " الأمثال " ( 202 ) والخطيب في " التاريخ " ( 9 / 95 – 96 ) ، لكن لا يُفرح بها ، لأن عمر متروك .
    (15) رواه أبو نعيم في " أخبار أصبهان " ( 1 / 161 ) والخطيب في " تاريخه " ( 13 / 279 ) وأورده ابن الجوزي في " الموضوعات " ( 2 / 83 ) وزاد العجلوني في " كشف الخفاء " ( 2 / 343 ) نسبته للديلمي ، وللحديث طرق أخرى عن علي وحذيفة ، لكنها شديدة الضعف وانظر " اللآليء المصنوعة " ( 2 / 293 – 295 ) للسيوطي ، و " مختصر المقاصد الحسنة " ( 83 ) للزرقاني و " الدر الملتقط " ( 22 ) للصَّغَاني .
    (16) قال الشيخ : أعوذ بالله !
    (17) ) أخرجه البخاري ( 9 / 301 ) ومسلم ( 17 / 123 ) وأحمد ( 1 / 298 ) وابن جرير ( 4 / 207 ) .
    (1 أخرجه البخاري ( 8 / 233 ) ومسلم ( 17 / 123 ) وابن جرير ( 4 / 205 ) وينبغي التنبيه هنا أن الحافظ ابن حجر قد ذكر في " الفتح " ( 9 / 301 ) أنه يمكن الجمع بين السببين الواردين في لاالحديثين بأن الآية نزلت في الفرقتين معا ، وقال الشيخ مقبل بن هادي الوادعي في " الصحيح المسند " ( 35 ) معلقا : ولو رجح حديث أبي سعيد لكان أولى ، لأن حديث ابن عباس مما انتُقد على الشيخين ، كما في " مقدمة الفتح " ( 20 / 132 ) وكما في " الفتح " ( 9 / 302 ) ولا معنى لقصرها على أهل الكتاب .. !! إلخ .
    (19) قال الشيخ : إما لِـيُـنَـفِّـرَ الناسَ ، أو لِـيَـنْـفِرَ الناسُ عنه .
    (20) قال الشيخ : إما فَـيُـغَـرَّ بذلك أو فَـيَـغُـرُّ هو ، ثم أقر الشيخ قراءة القارئ وهي ( فَـيَـغُـرُّ بذلك كلَّ .
    (21) قال الشيخ : يُـحَـمِّل ، أو أن يَـحْـمِـلَ .
    (22) وانظر " العواصم من القواصم " للقاضي ابن العربي المالكي رحمه الله ، ففيه كفاية لطالب الحق إن شاء الله تعالى .
    (23) قال الشيخ : وصلى الله وسلم على رسوله .
    قال ( أشرف ) : أنهيت تفريغ هذا الشرح قبيل - أو مع - أذان ظهر يوم السبت (5/ذو القعدة/1428هجرية) الذي يوافقه من التاريخ الصليبي (14/12/2007) .
    ثم راجعته مرة ثانية ؛ والحمد لله رب العالمين .

    تنبيهات :
    1 – وضعت اسم السورة ورقمها أمام كل آية ؛ سواء في المتن أم الشرح .
    2 – اعتمدت – غالبا – في ضبط المتن على قراءة قارئ الرسالة .
    3 – نقلت بعض كلام الشيخ صالح في الحاشية ؛ لأنه أنسب ؛ وليبقى الكلام في الأعلى مرتبطا بعضه ببعض .
    4 – لم أعلق في الحاشية إلا بتعليق واحد ذكرت اسمي أمامه .
    5 – نقلت تخريجات ، وبعض تعليقات الشيخ علي الحلبي – حفظه الله – على رسالة ( الفرق بين النصيحة والتعيير ) .


    ومـن هـنا لـمـن أراده على مـلـف وورد بارك الله فـيـكـم

    تفريغ أشرف السلفي
    التعديل الأخير تم بواسطة علي إبراهيم; الساعة 02-Jan-2009, 03:35 PM.

    تعليق


    • #3
      شرح بعض جمل من كتاب الفرق بين النصيحة والتعيير ]للشيخ ربيع حفظه الله

      وهذا شرح لبعض جمل من كتاب الفرق بين النصيحة والتعيير للشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله

      نشره الأخ كردي الأثري

      [ شرح بعض جمل من كتاب الفرق بين النصيحة والتعيير ]

      هذا الكتاب : الفرق بين النصيحة والتعيير .

      أنت إذا نقدت شخصاً يجب أن تلتزم الحق والصدق والإخلاص ويكون قصدك بيان الحق والتنبيه على الخطأ الذي ينافي هذا الحق .

      إذا كان هذا قصدك فهذا مقصد شريف وأمر عظيم تشكر عليه من الأمة كلها ولا يجوز لأحد أن يتهمك بسوء ، وإذا كان لك مقاصد سيئة وتبين بالسبر والدراسة إنك صاحب هوى فللناس الحق أن يتكلمون فيك .

      قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : (الحمد لله رب العالمين ، وصلاته وسلامه على إمام المتقين ، وخاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :

      فهذه كلمات مختصرة جامعة في الفرق بين النصيحة والتعيير – فإنهما يشتركان في أن كلاً منهما : ذِكْرُ للإنسان بما يَكره ذِكْرَه ، وقد يشتبه الفرق بينهما عند كثير من الناس والله الموفق للصواب )[8] .

      يعني : النصيحة تذكر إنساناً بشيء يكرهه – أليس كذلك – والتعيير أيضاً تذكر إنساناً بشيء يكرهه فقد يحصل إشتباه بين النصيحة والتعيير .

      التعيير : أن تذكر العيب – أليس كذلك – والنصيحة تذكر العيب أيضاً حتى يحذره الناس إن كان عنده بدعة أو خطأ قصدك وجه الله تبارك وتعالى هذه هي النصيحة .

      وإن ذكرت عيبه لتشفي غليلك منه مالك قصد شرعي أبداً وليس قصدك إلا أن تشفي غليلك ، هذا تعيير وذمٌّ وإثم .

      قال الحافظ ابن رجب – رحمه الله - : (اعلم أنَّ ذِكر الإنسان بما يكره محرم إذا كان المقصود منه مجرد الذمِّ والعيب والنقص . فأما إن كان فيه مصلحة لعامة المسلمين أو خاصة لبعضهم وكان المقصود منه تحصيل تلك المصلحة فليس بمحرم بل مندوب إليه )

      أقول : بل هو واجب لأن الله أوجب البيان وليس مندوباً فقط .

      قال الحافظ ابن رجب– رحمه الله - : ( وقد قرر علماء الحديث هذا في كتبهم في الجرح والتعديل وذكروا الفرق بين جرح الرواة وبين الغيبة ) .

      الغيبة : ذكرك أخاك بما يكره لغرض شخصي ما تقصد وجه الله عز وجل ولكن قصدك الطعن فيه ، أما جرح الرواة فهذا حفاظ على دين الله تبارك وتعالى يعني كيف نميز بين الصحيح والضعيف إذا كان الرواة كلهم لم يتكلم فيهم أحد ، الرافضي والجهمي والكذاب وفاحش الغلط أليس في هذا ضياع الدين ؟ ألا يترتب على هذا ضياع الدين ؟ طيب أنت عندك كتب في الموضوعات وكتب في العلل مجلدات كبيرة ما هو سببها ؟ سببها : الجرح في الرواة والكلام على الأسانيد والكلام على المتون إذا كان فيها مُدْرَجات وفيها مراسيل وفيها كذا .

      وقوله : ( وذكروا الفرق بين جرح الرواة وبين الغيبة ) .

      الغيبة ما تخدم الدين قد تهدم الدين والأغراض التافهة ، بينما الجرح له أغراض سامية للحفاظ على هذا الدين وحمايته وصيانته من أن يختلط فيه الحق بالباطل . لأنا إذا سكتنا عن الرواة عن الكذاب والمتهم والسيء الحفظ والفاحش الغلط وكذا ، ضاع الدين أليس كذلك ؟ لكن بهذا النقد وبهذا التجريح وبهذا التمييز بين هذا وذاك حفظ الله لنا هذا الدين ، وثمار هذا العلم واضحة ولله الحمد .

      وجهل الصوفية الذين كانوا يودون أن يُغطُّوا أفواه الرواة والنقاد ويكموا أفواههم فلو كان استسلم لهم علماء الجرح والتعديل وعلماء النقد لضاع دين الله تبارك وتعالى لكن أبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المبتدعون .

      قال ابن جب – رحمه الله - : ( وردُّوا على من سوَّى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه ) .

      هم المتصوفة الذين كانوا ينكرون على علماء الحديث ويقولون لهم : أنتم تغتابون الناس فقال لهم أهل الحديث : هذه ليست غيبة هذه نصيحة وبيان ، طبعاً من لا يفهم الكتاب والسنة كثير جداً .

      الآن هؤلاء السائرون على طريقة أهل البدع والصوفية في تحريم النقد والهيجان منهم على طريقة هؤلاء وليسوا على طريقة أهل السنة . ووالله نتمنى أن ينتقدونا لتبيين أخطائنا حتى نموت وقد تُبْنا من أخطائنا .

      قوله : ( ولا فرق بين من الطعن في رواة ألفاظ الحديث ولا التمييز بين من تقبل روايته ومن لا تقبل وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة وتأول شيئاً منها على غير تأويله ، وتمسك بما لا يتمسك به ، ليُحذّر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه ، وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضاً ، ولهذا نجد في أنواع كتبهم المصنفة في أنواع العلوم الشرعية من التفسير وشروح الحديث والفقه واختلاف العلماء وغير ذلك ممتلئة من المناظرات ورد أقوال من تضعف أقواله من أئمة السلف والخلف ، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم . ولم يترك ذلك أحد من أهل العلم ولا ادعى فيه طعناً على من ردَّ عليه قوله ، ولا ذماً ولا نقصاً ، اللهم إلا أن يكون المصنف ممن يفحش في الكلام ، ويسئ الأدب في العبارة فينكر عليه فحاشته وإساءته دون أصل ردِّه ومخالفته ، إقامة بالحجج الشرعية ، والأدلة المعتبرة . وسبب ذلك أن علماء الدين كلهم مجمعون على قصد إظهار الحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولأن يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمة الله هي العليا)[9] .

      يريد أن يقول ليس هناك فرق بين الطعن في الرواة وبين من يبين خطؤه في الدين في الفقه في الحديث في التفسير في الأصول في أي مجال ،أو عنده بدعة .

      بعض الناس يقولون : هذا الجرح للرواة فقط للحفاظ على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم !! نقول لهم : وعقائد المسلمين إذا دخل أناس يشوشونها ويضيعونها لا ينتقدون ؟!

      ما ننتقد الجهمية ما ننتقد الروافض وليس لهم علاقة بالرواية ن وهؤلاء جاءوا بعقائد تخالف عقائد الإسلام وتناقض عقائد الإسلام هل نسكت عنهم ؟! صوفية جاءوا بالحلول ووحدة الوجود والرقص والأناشيد والبدع والأذكار المبتدعة الضالة ، وهم ليسوا رواة ولكن يجب أن ننتقدهم .

      وسُئِل القرضاوي عن الأشاعرة هل هم من أهل السنة ؟ فانفجر كالبركان : ( يقولون عن الأشاعرة أنهم ليسوا من أهل السنة ! إلى أين نذهب ؟! الأشاعرة ملأوا الدنيا ! الجامعات في الدنيا كلها أشعرية تقريباً ، الأزهر الذي خدم الإسلام من ألف سنة ، الزيتونة ، القرويين ، ديوبند ، كلهم أشاعرة ) [10].

      لا أدري ما سبب هذا ؟! ولعلهم شباب سلفيون يريدون أن يغسلوا أدمغتهم وما وسع هؤلاء المساكين إلا الاستخذاء والاستسلام أمام هذا الانفجار البركاني ، لا يسعهم إلا الاستسلام ماذا يقولون ؟!

      الأشاعرة الآن اعتقادهم اعتقاد الجهمية في تعطيل صفات الله تبارك وتعالى لهذا ألَّف شيخ الإسلام ابن تيمية في الردود عليهم كتباً كثيرة ومنها تلبيسات الجهمية . من هم هؤلاء الجهمية الذين عناهم ابن تيمية ؟؟! إنما هم الأشاعرة عنده : الرازي وأمثاله . حينما يذكر المناظرة التي جرت بينه وبين الأشاعرة في عهده يقول : قال الجهمية قال الجهمية وفيما قرره عن الأشاعرة أنهم جهمية ذكرهم في فروع الجهمية ذكر المعتزلة من فروع الجهمية وذكر الأشاعرة من فروع الجهمية ثم قال عن الأشاعرة : (من كان منهم على الإبانة التي ألفها أبو الحسن الأشعري في آخر حياته ولم يقل بخلافها فمن قال بما في هذه الإبانة فهو من أهل السنة شريطة ألا ينتسب إلى الأشعري لما في الانتساب من الضرر والتغرير بالناس )[11] إ.هـ.

      فكان أكثر انتقاد السلف للجهمية إنما هو في تعطيلهم علو الله تبارك وتعالى يقولون في هذه القضية إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت ولا ولا .. ، فيردون بذلك مئات النصوص في القرآن والسنة ، أو يقولون : إن الله في كل مكان .

      يقول عبد الله بن المبارك : (إننا نستطيع أن نحكي كلام اليهود والنصارى وغيرهم ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية ) ، نعم مثل هذا الكلام : الله لا فوق ولا تحت أو إن الله في كل مكان مع تعطيل هذه الصفة العظيمة وتحريف النصوص التي وردت بها وما أكثرها في القرآن والسنة .

      فهذه التحفظات والاحتياطات والوصايا كلها إذا تكلمنا في أئمة الهدى نتكلم معهم بأدب وباحترام وبإخلاص لله تبارك وتعالى ولا يجوز أن نحكي كلامهم بقصد الذمِّ والتشهير والطعن فيهم فإن هذا لا يجوز أبداً ، لكن أهل الباطل وأهل البدع تبيِّن مخازيهم ولا تكون هذه الاحتياطات وكذلك الجهلة المتشبهين بأهل العلم وليسول بعلماء لا بد من كشف عوارهم وبيان جهلهم وضلالهم .

      قال الحافظ ابن رجب – رحمه الله – بعد كلام رصين في بيان أخطاء العلماء مع احترامهم : ( وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين ، فأما أهل البدع والضلالة ومن تشبه منهم بالعلماء وليس منهم ، فيجوز بيان جهلهم وإظهار عيوبهم تحذيراً من الاقتداء بهم ، وليس كلامنا الآن في هذا القبيل ، والله أعلم ) .

      ثم قال : ( فصل ، ومن عرف منه أنه أراد بردِّه على العلماء النصيحة لله ورسوله فإنه يجب أن يعامَل بالإكرام والاحترام والتعظيم كسائر أئمة المسلمين الذين سبق ذكرهم وأمثالهم ومن تبعهم بإحسان .

      ومن عرف أنه أراد بردِّه عليهم التنقيص والذم وإظهار العيب فإنه يستحق أن يقابل بالعقوبة ليرتدع هو ونظراؤه عن هذه الرذائل المحرمة )[12] .

      وهذا الأخير هو الذي يفعله الآن خصوم أهل السنة والجماعة خاصة أهل التحزبات المضادة فعلاً لمنهج السلف والمنتصرة لأهل البدع والأهواء .

      أما العلماء وأهل الهدى فإنهم – والله - يفرحون بإظهار الحق إذا انتقد أحدهم في خطأ أخطأه وبُيِّن للناس أن هذا الإمام أخطأ يفرح ولهذا رأينا تلاميذ هؤلاء الأئمة لا يترددون في بيان خطأ أئمتهم ولا يتحرجون من مخالفتهم في أقوالهم التي حصل فيها الخطأ وهم يعتقدون تمام الاعتقاد أن أئمتهم يحبون هذا ولا يرضون أبداً يتعبد الناس بأخطائهم ولا يرضون أبداً أن تنسب أخطاؤهم إلى الله تبارك وتعالى لا يرضون بها أبداً ن لأننا عرفنا صدقهم وإخلاصهم ونصحهم لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم – رضوان الله عليهم – أما أهل الأهواء : فسواء كانوا في حياتهم أو بعد مماتهم هم لا يرضون أن يقال : فلان أخطأ مهما ضل وأمعن في الضلال لا يتحمل النقد لهذا تراهم يعاندون رغم أن أهل السنة وأهل الحق دائماً يبينون لهم أنهم قد أخطأوا وضلوا في قضية كذا وقضية كذا ويقيمون لهم الأدلة فيصرون على باطلهم ويجمعون الناس ويحشدونهم حول هذه الأفكار الضالة المنحرفة ولا يخافون من العواقب الوخيمة التي تترتب على أعمالهم ولا يخافون من حساب الله الشديد لهم حيث يدعون الناس إلى الضلال وينحرفون بهم عن سبيل الهدى لأن قلوبهم انتكست – والعياذ بالله – وغلبت عليهم الأهواء فهم كما وصفهم رسول الله عليه الصلاة والسلام : ( تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلَب بصاحبه )[13] .

      لهذا يسميهم السلف : أهل الأهواء ، ويسمون أهل الحق : أهل السنة والجماعة ، ويسمونهم : أهل العلم ، ويسمونهم : أهل الحديث ويلقبونهم بالألقاب الشريفة بينما هؤلاء يسمونهم : أهل الضلال أهل البدع ، أهل الأهواء ، من الجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة والخوارج والروافض وغيرهم ، يسمونهم : أهل الأهواء يجمعهم الهوى كلهم لأن الذي يقع في الخطأ بجهله وهو عنده هوى لا يتراجع ، لكن أهل الحق وأهل العلم الذين يبلغون رسالات الله سبحانه وتعالى وما يدفعهم إلى بيان العلم ونشره في الناس إلا رجاء ما عند الله تبارك وتعالى من الجزاء العظيم لورثة الأنبياء عليم الصلاة والسلام في نشرهم للعلم بخلافتهم للأنبياء في بيان الحق والدعوة إليه .

      وهم يخافون أشد الخوف من الوقوع في الخطأ فإذا انبرى لهم من يبين أخطاءهم فرحوا بهذا وشجعوه .

      القرآن كان يأتي بما يوافق عمر رضي الله عنه فهل يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!هل يندم؟! هل يتألم ؟! هل يقول : عمر هذا الله أيده وتركني ؟! أستغفر الله العظيم !

      كذلك أبو بكر كذلك سائر الصحابة رضوان الله عليهم كانوا من أخطأ منهم وبُيِّن له خطؤه يفرح بهذا وكذلك أئمة الهدى - كما قلنا هذا غير مرة – فهذا كان تعليقاً على الدرس الذي سبق من هذا الكتاب ونريد الليلة أن نقرأ أشياء من كلام العلماء تبين أن النقد والجرح إذا كان الهدف منه هدفاً إسلامياً صحيحاً فإن هذا أمر مطلوب وقد يكون واجباً لأنه يحمل في ثناياه نفع الأمة والنصح لهم وتثبيتهم على الحق والخير وتجنيبهم من الشر والضلال والهوى فهنا من باب من هذا الكتاب – رياض الصالحين – وقد نقرأ منه بعض الأبواب – إن شاء الله – وأنا أنصحكم بقراءة هذا الكتاب فإنه مفيد – إن شاء الله .

      أخوكم نقلها من كتاب النقد منهج شرعي
      التعديل الأخير تم بواسطة علي إبراهيم; الساعة 03-Jan-2009, 08:52 PM.
      كتبه أخوكم شـرف الدين بن امحمد بن بـوزيان تيـغزة

      يقول الشيخ عبد السلام بن برجس رحمه الله في رسالته - عوائق الطلب -(فـيا من آنس من نفسه علامة النبوغ والذكاء لا تبغ عن العلم بدلا ، ولا تشتغل بسواه أبدا ، فإن أبيت فأجبر الله عزاءك في نفسك،وأعظم أجر المسلمين فـيك،مــا أشد خسارتك،وأعظم مصيبتك)

      تعليق

      يعمل...
      X